قراءة في كتاب

قراءة في كتاب د. مأمون أمين زكي

"إزدهار العراق تحت الحكم الملكي 1921 ـ 1958"

ما إن وقعت عيني عليه، حتى إقتنيته فوراً. إذ يعدُ القارىء بكشفٍ عريض "تَعَرّضَ للتشويه" من قِبَلِ فئاتٍ متعددة متباينة. وكتابٌ كهذا لا يمكن التفريط به أبداً، خصوصاً من جانب الباحث والقارىء الجاد.

مُؤَلِّفُ الكتاب من مواليد محافظة بغداد، وحاصلٌ على البكالوريوس من جامعة بغداد في عام 1962م، ثم الماجستير في علم الإجتماع من جامعة هوارد في واشنطن 1975م، أما الدكتوراه فقد حصل عليها من جامعة كالجري في كندا 1981م (1)

هدف الكتاب:

هدفان أساسيان حَدّدهما الباحث لعمله هذا:

الهدف الأول: تسليط الأضواء على الخصائص المميزة للعهد الملكي في العراق والتي طالما تعرضت للتحريف وللهجمات الظالمة.

الهدف الثاني: تحذير الأجيال العراقية الجديدة من الإنجرار وراء الشعارات البرّاقة الفارغة (2)

المادة:

وضع الباحث كتابه في: مقدمة وعشرُ فصول وخاتمة. تناول في الفصل الأول ولادة الدولة العراقية، وفي الفصل الثاني عهد الملك غازي 1933 ـ 1939، وفي الثالث السياسي العراقي الملكي الأبرز نوري السعيد، وفي الرابع معاهدة بورتسموث بين العراق وبريطانيا، وفي الخامس الأمير ـ الوصي عبد الإله، وفي السادس إزدهار الإقتصاد العراقي في الخمسينيات، وفي السابع عوامل إنفتاح ونمو الطبقة الوسطى في العراق، وفي الثامن عبد الإله ونوري السعيد وحلف بغداد، وفي التاسع ضعف النظام الديمقراطي في العراق وأسبابه، وفي العاشر المؤسسات التي تهاوت بعد إنقلاب 14 تموز 1958.

قبل أن نبدأ في هذا العمل النقدي، لا بُدّ من تثبيت حقيقة مهمة جداً:

فنحن في نقدنا هذا لم نقصد تجريد الملكية العراقية من "إنجازاتها"، ولا نريد مهاجمة هذا العهد أيديولوجياً أبداً، فهو عهّدٌ قد طُويت صفحته من التاريخ، وليس أمامنا إلاّ دراسته دراسةً واعية من أجل الإستفادة من دروس الماضي. وأرجو أن لا يضعنا القارىء أيديولوجياً في صف الجمهوريين، فالعهد الجمهوري لم يكن سرمدياً، وبشاعته واضحة، إذ لا نزال نعيش سلبياته القاتلة (3)

ما الدافع لهذا العمل النقدي؟ يقول الباحث: (أرجو مخلصاً ممن يجدُ خطأً في معلوماتي أو تحليلاتي أن يُناقشني بأسلوبٍ مُتَمَدّنٍ يؤدي الى دحض آرائي بالمنطق السليم، لعلنا نتوصل الى الحقيقة وبدون اللجوء الى الإتهامات العشوائية ك"عميل الإستعمار" أو "الرجعي والإنهزامي" .. الخ من المصطلحات الغوغائية الفارغة التي كانت أحد الأسباب الأساسية التي خلخلت عراقنا الحبيب وأدت الى تدهور جميع أركانه الإجتماعية والسياسية والإقتصادية) (4)

وعليه فقد كان رجاء الباحث هو الدافع الأساسي لنا للكتابة هنا، ولا حاجة للتأكيد على أننا سنتبع الأسلوب المتمدن، فما أبعد الإتهامات العشوائية الفارغة التي تحدث عنها الباحث عن المنظومة المنهجية التي نتبناها ونشتغل عليها بإستمرار.

النقد:

أولاً: أول نقطة ضعف منهجية عند الدكتور زكي هي عنوان الكتاب! نعم العنوان، فالأخير لم يكن علمياً (5) فالباحث قد حسم القضية مسبقاً! فالعراق كان مزدهراً في العهد الملكي! وقد قُبِرَ هذا الإزدهار نتيجة سقوطه وقيام الجمهورية! وعليه فالبحث لم يكن علمياً بقدر ما كان سجالياً أيديولوجياً.

وفعلاً، فقد حُسِمت المسألة مُسبَقَاً عند الباحث، فالعهد الملكي كان مزدهراً: قيادة جماعية ـ إنتخابات ـ شخصيات وطنية ـ إعمار وتعليم .. الخ، ولولا الإنقلاب العسكري لأستطاع العراق أن يقطف هذه الثمار الناضجة التي إقتربت من الإعجاز في السنوات الست الأخيرة من عمره (6)

لكن ما يُسَجّلُ للباحث هنا ـ والأمانة العلمية تُحَتّم علينا ذلك ـ هو إبتعاده عن الشخصنة، فهو ينتقد إنقلاب تموز لكنه لا يُزايد على "وطنية" ضُباطه (7)، ولم يُنكر الباحث تواضع الزعيم عبد الكريم قاسم وشجاعته وإختلاف دكتاتوريته عن دكتاتورية الجبابرة في مواضع مختلفة (8)

ثانياً: هنالك حقيقة مهمة جداً في تاريخ الملكية العراقية، ألا وهي ضرورة التفريق بين عهد مؤسسها القدير فيصل الأول، وبين عهد إبنه غازي، ثم عهد حفيده فيصل الثاني الذي كان عهد الوصي عبد الإله بإمتياز، فقد كان فيصل قاصراً كما هو معلوم. فالعهد الفيصلي التأسيسي ـ رغم أنه لا يخلو من الإشكاليات بكل تأكيد ـ كان عهد بناء وتأسيس. فقد خرج فيصل ـ بدعمٍ بريطاني طبعاً ـ بالعراق من غياهب القروسطية الى العصر الحديث، وقد إتهمه خصومه من المدرسة القديمة والمثقفين الجدد أنه كان يمالىء الإنكليز، وقد نسي هؤلاء أن العراق لم يكن شيئاً مذكوراً لا في تاريخ العالم ولا بين الأمم، وأن فيصلاً بمساعدة المخلصين من العراقيين وغيرهم، قد إستطاع لأول مرة أن يضع أسس قيام حكومة عراقية يديرها العراقيون بأنفسهم (9)

نعم، تَنَبّه الباحث لفترة غازي من ناحية أنه كان فتىً يافعاً قليل الخبرة قياساً لوالده المتمرس، ولكنه في النهاية لا يُدينُ هذه الفترة المضطربة التي جعلت الملكية تحتضر مبكراً. فقد برزت ظاهرة الإستقواء بالعشائر في فترة غازي، فالأخير في نظر ساسة الملكية صغير ـ زعطوط ـ لا يفهم شيئاً في السياسة، فعمد هؤلاء الزعماء الى العشائر في الصراع الدائر بينهم. أما الملك غازي فقد كان وسط هذه الأمواج المتلاطمة لا يأمن حتى على نفسه (10)

ثم هنالك حقيقة أخرى في غاية الأهمية والخطورة، ألا وهي ظاهرة "تدخل الجيش في السياسة". إذ يُدين الباحث ما قام به العسكر وبالتعاون مع المعارضة السياسية في تموز 1958. لكن، هل درس الباحث هذه الظاهرة جيداً؟ هل كانت من صُنع ضباط تموز 1958؟ لكن للتاريخ رأي آخر! نعم، فقد وُلِدت هذه الظاهرة من رحم الملكية العراقية! فقد قام الجنرال بكر صدقي بأول إنقلاب عسكري في العراق والمنطقة في عام 1936 ضد حكومة ياسين الهاشمي وبدعمٍ خفي ـ على الأرجح ـ من الملك غازي! فالأخير كان علاقته سيئة مع رئيس الوزراء ياسين الهاشمي (11)، ثم توالت تدخلات الجيش في السياسة وظهور "المربع الذهبي" بحسب المؤرخ لونكريك، أي العقداء الأربعة وهُم: صلاح الدين الصباغ ـ فهمي سعيد ـ كامل شبيب ـ محمود سلمان.

وتوجد حادثة خطرة جداً في هذا السياق، فبعد مقتل صدقي ورجوع نوري السعيد، وجدنا الأخير يتقوّى بالجيش! بل كان مرشح العقداء الأربعة لرئاسة الحكومة! يقول الأستاذ سليم طه التكريتي في نصٍ بالغ الأهمية والخطورة:

(كان نوري السعيد منذ أن توفي فيصل هو أول من وضع أُسس تَدَخّل الجيش في السياسة. وقد دفعه نجاح إنقلاب بكر صدقي في سنة 1936 الى ركوب هذا المركب الصعب الذي ألحق بالبلاد الخراب والدمار لعدة أجيال سابقة. فقد إصطفى نوري السعيد هؤلاء العقداء الأربعة ومن والاهم من ضباط الجيش لتنفيذ مؤامراته وتطلعاته الخاصة. فلطالما فرضوه على غازي عدة مرات لكي يؤلف الوزارة) (12)

حقيقة لطالما أهملها الباحثون "الملكيون"، إذ نرى عويلهم يشتد على تدخل الجيش في السياسة بعد تموز 1958، ثم يَصبّون اللعنات على قاسم وعارف وباقي الضباط، لكنهم يتجاهلون أن الملكية العراقية مُمَثَلَةً بساستها الكبار، هي من أسست لهذه السابقة الخطيرة.

ثالثاً: لا يُقيم الدكتور زكي للمعارضة السياسية في العراق الملكي أي وزن، فهي في نظره صاحبة شعارات خاوية. ثم يحترس أشد الإحتراس عندما يتحدث عن "الوثبة" و "إنتفاضة" 1952(13) هذه الإنتفاضة التي خُصِّصَ لها مبحثاً منفرداً (14) والمثير في هذا البحث ـ والطريف في نفس الوقت ـ أن الحكومة العسكرية التي شَكّلها الجنرال نور الدين محمود بأمر من الوصي عبد الإله، والتي كانت حكومة أحكام عُرفية، قد عَدّها البريطانيون بمثابة "إنقلاب" دَبّره الوصي ونَفّذه نور الدين محمود وسانده بعض الساسة القدامى وفي مقدمتهم نوري السعيد!!

إنقلاب دبره الوصي بمساندة نوري السعيد!! فأين عُشّاقُ الملكية من هذه الحقيقة الصاعقة؟!

رابعاً: يمتدح الباحث  ساسة الملكية الكبار، عبد الإله ونوري السعيد إنموذجاً. ويصل في حالة عبد الإله لحالة وكأنه يتغزل به! (هذه الحقائق المُوَثّقة عن الأمير عبد الإله، رجل الدولة من الطراز الأول والدبلوماسي المخضرم الذي أعطى العالم نموذجاً راقياً وصورة متألقة للجيل الجديد من رجالات العرب في تلك الفترة، وقد دحض الأمير بقامته الفارعة الرشيقة ووسامته البادية وأناقته المتكاملة وشخصيته الأرستقراطية الرزينة، دحض الصورة النمطية الشائعة التي كان أعداء العرب والمسلمين وخصوصاً الصهاينة ومؤيديهم قد ركّزوها في أذهان العالم، حيث صَوّروا العرب كونهم بدو رُحّل قذرين متخلّفين، أميين لا حضارة لهم ولا يفقهون معنى الحياة العصرية) (15)

تأخذني الحيرة في التعقيب على هذا النص المأموني! فعبد الإله الذي يتحدث عنه هو رجل آخر لم نألفه في كتب التاريخ! عبد الإله الذي نعرفه هو الحاقد على خصومه، التوّاق للقضاء عليهم، وإعدام العقداء الأربعة ويونس السبعاوي لدليل دامغ هنا. إذ تُرَجّحُ الباحثة الأمريكية فيبي مار أن اللوم يجب أن يُلقى على عاتق المسؤولين العراقيين هنا، خصوصاً الوصي (16)، وبشأن حادثة يونس السبعاوي، فقد رفض الوصي مقابلة والدة السبعاوي العجوز المفجوعة، وبقي شبح السبعاوي يطارده (17) بل حتى الدكتور زكي نفسه قد أقر بأنه قد أصَرّ على تنفيذ أحكام الإعدام بالعقداء الأربعة بعد أن إقترح بعض الوزراء وإبن عمه الأمير عبد الله حاكم الأردن تخفيف الأحكام من أجل تعزيز مكانته وتحسين صورته أمام الشعب العراقي! (18)

ويصف الباحث العلاقة بين عبد الإله والملك غازي بأنها كانت علاقة حُب عميق وصداقة وثيقة (19) فهل كانت كذلك؟ كلا، لم تكن كذلك، يقول مُرافِق الملك غازي العقيد سامي عبد القادر المفتي: (جاء الملك غازي في أحد الأيام وكان عصبياً جداً ومنفعلاً وقال لي: إذا جاء عبد الإله فلا تسمح له بدخول القصر وتطرده وأخذ يشتم به وقال: إنه يريد أن يقتلني. فقلت له: حاضر سيدي) (20)

يُريد أن يقتلني!! وهذه إشارة لضلوع عبد الإله ونوري السعيد بالإشتراك مع زوجة غازي، وهي أخت عبد الإله، في مقتل غازي كما تشير بعض الدلائل.

أما نوري السعيد، فهو الرجل الذي أحرق فترتي شبابه وكهولته في سبيل خدمة العراق، وهو المجاهد الكبير في سبيل العراق والعرب عامة (21)

ينقل المؤرخ المعروف الدكتور كمال مظهر أحمد نصاً بالغ الأهمية، فهو ـ برأيه ـ أول تقويم صحيح وخطير لشخصية نوري السعيد. ينقل هذا النص من جريدة ناطقة بإسم ثورة العشرين، وهي جريدة "الفرات"، وهو نصٌ طويل لا مجال لنقله هنا، لكن فكرته الرئيسية:

ربما يحضر إليكم من الشام الجنرال نوري السعيد ليقوم بالمهمة التي أناطتها به السلطة البريطانية، ألا وهي توطيد أركان الإحتلال وتثبيت أقدامه في العراق بمفاوضة العراقيين ودرس أفكارهم وخواطرهم وتعليلهم بالأماني والمواعيد الكاذبة، وربما ستتخذ السلطة المحتلة جميع الوسائل المادية والمعنوية التي من شأنها أن تجعل لكلامه شأناً، ولشخصه قبولاً أينما حل، فتُكثر من ذكر إسمه مقروناً بالجهر والثناء عليه، وتتظاهر بإحترامه وتبجيله. لا تُبالوا ولا تقيموا له وزناً ولو إدّعى الكلام بإسم الملك حسين والملكين فيصل وعبد الله أو بإسم المؤتمر العراقي أو أية جمعية أخرى، فإنه غير مفوّضٍ وغير مرخصٍ (22)

وبتعليلٍ جِدُ دقيق من الدكتور مظهر أحمد حول أهمية هذه الوثيقة:

(وتزداد أهمية هذه الوثيقة أكثر إذا تذكرنا أن نوري السعيد كان يُعد يومذاك أحد الوطنيين العاملين في سبيل القضية العربية. وأنه كان واحداً من أنصار الأمير فيصل المقربين الذي لم يقف أحد بعد على دقائق صِلاته السرية مع الإنكليز وعلى إيمانه المطلق بأنه "إذا كان نهر دجلة يجري، فما ذلك إلا بفضل الإنكليز") (23)

وطبعاً لم تبخل علينا المصادر بهذه الحقيقة، فموالاة نوري السعيد لبريطانيا وللغرب واضحة جداً (إن مسايرة الغرب وموالاته هي السياسة التي درج عليها نوري السعيد من أول حياته حتى آخر مماته) (24)

(وكانت وفاته خسارة كبيرة لإسرائيل) (25)

أما عن سياسته مع معارضيه، فقد كان صاحب القبضة الحديدية (وقد زرع نظام نوري السلطوي بين 1954 و 1958 بذور الديكتاتورية العسكرية المستقبلية) (26) ولم يبخل علينا الدكتور زكي نفسه في وصف سياسة نوري السعيد الميكافيلية (أما الصفة الثانية التي عُرِفَ بها فهي عدم تردده في اللجوء، شأنه بذلك شأن أي سياسي كبير وناجح، الى أساليب غاية في الميكافيلية .. فكان يُوَجّه الى خصومه ومناوئيه ضربات عنيفة) (27)

الأنسب أن يكون النص المأموني تاماً: نوري السعيد هو الرجل الذي أحرق فترة شبابه وكهولته وأحرق خصومه ومعارضيه في سبيل خدمة العراق!!

خامساً: "حُكم القيادة الجماعية" من أهم ما إمتاز به النظام الملكي برأي الباحث (28) أما النظام الجمهوري، فقد إمتاز بحُكم الرجل الواحد أي الدكتاتور.

وأنا أقرأ هذا الإشكال المأموني، وجدتُ أن العراق الحالي ـ عراق ما بعد 2003 ـ يصلحُ أن يكون إنموذجاً ل"القيادة الجماعية"، فقد إختفى القائد الضرورة، وظهرت على السطح مجموعة تَسَلّمت زمام الحكم في هذا البلد.

عندما تسأل أي عراقي الآن ـ الأغلب على الأرجح ـ ستجده ناقماً على هذه القيادة الجماعية، بل منهم من يَتَرَحّمُ على فترة حُكم الرجل الواحد!! فأين أنت يا دكتور زكي من هذه الحالة؟ فالقيادة الجماعية لا تعني دائماً أن أوضاع البلد كانت مستقرة، ولا تعني قيادة الرجل الواحد دائماً أن أوضاع البلد كانت مزرية!

ويُجري الباحث مقارنات غير موفقة بين العصور السابقة على الملكية وبين الأخيرة (أما في العراق الحديث، وتحت حكم فيصل والنخبة الكلاسيكية فلم يؤسس مركزاً أو دائرة لشيخ الإسلام أو لأي سلطة دينية مشابهة وتمارس دوراً في إدارة الدولة .. كان لسلاطين آل عثمان جناح في بلاطهم أو قصورهم مخصص للحريم أو ما يُدعى نساء السلطان الذي يضم زوجاته ومحظياته .. بالمقارنة لم يمتلك الملك فيصل حريماً ولا جناحاً للحريم والخصيان، ولم يتزوج سوى بزوجة واحدة) (29)

كان الأولى بالدكتور زكي ـ وهو باحث يحمل عدة شهادات من جامعات غربية ـ الترفّع عن هذه المقارنات البعيدة عن الموضوعية، فلا يرجع ذلك لطبيعة الملكية العراقية قدر رجوعه لطبيعة العصر الذي نحن فيه، فالسلاطين الذين يتحدث عنهم الباحث كانوا في جوٍ قروسطي خالص، أما الملكية العراقية فقد أدخلت العراق لعصر الحداثة، فكيف ستستقيم حداثتها مع تصرفات قروسطية طاغية؟! ولن يُعدمنا التاريخ الدليل على أن بعض الخلفاء والسلاطين قد إكتفوا بزوجة واحدة أيضاً! أو لم يكونوا مغرمين بالحريم والخصيان!

ومسألة الديمقراطية في النظام الملكي والإنتخابات معروفة عن كُل مُطَلِع، ولم يتركنا الدكتور زكي هنا وكفانا معونة المصادر. فقد أورد تعريف السياسي الإنكليزي هارولد لاسكي لمفهوم الشرعية، وبضوء هذا التعريف توَصّل زكي الى ما يلي:

(كان النظام البرلماني والهيئة التشريعية في العراق تفتقر الى حد ما للشرعية، وقد بقي النظام الملكي يعاني من إنفصام مع أكثرية الشعب، والبرلمان يعاني من عدم مصداقية وثقة الجماهير والطبقة المثقفة طوال الفترة التي تلت وفاة الملك فيصل الأول في عام 1933 وحتى سقوط النظام الملكي) (30)

بل لعل أعظم ضرر مُنيت به المملكة نتيجة الإحتلال البريطاني في 1941 هو فقدان الثقة بالحياة النيابية، وإنصراف لفيف من الزعماء والسياسيين لجمع المال بأي صورة كانت، ومشاركة التجار والزُرّاع والشركات في الإثراء على حساب الشعب (31)

أما نوري السعيد ـ رجل الملكية الأول بلا منازع ـ فرأيه في الإنتخابات عجيب وغريب فعلاً، وقد نقله الدكتور زكي نفسه، يقول السعيد: (لا يمكن لأي نائب مهما كانت مكانته الإجتماعية وإحترامه عالياً بين الناس أن يفوز بالإنتخابات بدون مساندة الدولة، ولا يُمكن أن يُنتخَب أي نائب ما لم ترضَ عنه الدولة) (32)

هذه هي الديمقراطية التي عاشها الشعب العراقي في ظِل الملكية وساستها الكبار!!

سادساً: يتحدث الكاتب كثيراً عن الدستور العراقي، وقد إنتقى بنوداً منه (33) ليؤكّد على ما يمتاز به وما ضمنه من حقوق للشعب. لكن هل إلتفت الباحث لأمرٍ لا يحتاج لعناء كبير لإكتشافه؟ فما يُكتَبُ في الدساتير شيء، وما يُترجَمُ على الواقع شيءٌ آخر! وإلاّ فالدساتير الجمهورية لا تخلو من حقوق ضَمنّتها في موادها!

وتَطَرّق الباحث لأمرٍ خطير جداً، ألا وهو الإستمرار في سياسة التمييز الطائفي التي سارت عليها الحكومة العثمانية ومن سبقها. إذ يستعرض أعضاء حكومة ياسين الهاشمي في اليوم الذي أُعلِنَ فيه الدستور العراقي 21 / 5 / 1925، ليقول في نصٍ خطير:

(ومن بين الأقليات في المجلس الوزاري كان ساسون حسقيل وزير المالية "يهودي" وعبد الحسين الكاظمي "شيعي"، الذي إعتُبِرَ من ضمن الأقليات بالرغم من أن عدد الشيعة في العراق لا يقل عن عدد السنة) (34)

العهد الملكي الذي يَتَرَحّم الدكتور الفاضل عليه، إعتبر الشيعة من الأقليات مع إنهم الأكثرية على الأرض!!

سابعاً: خصّص الباحث الفصل السادس من كتابه لإزدهار الإقتصاد العراقي ومشاريع الإعمار والتعليم في خمسينيات القرن الماضي. ونحن بدورنا لا نُنكر ذلك، فقد كانت سنوات الملكية الأخيرة سنوات إعمارٍ، إذ شُيّدَت سدود وجداول وطرق ومستشفيات، لكن هذه الإنجازات قد جاءت متأخرة جداً لإنقاذ صورة النظام (35) وقد فقد الجيل الجديد الأمل في التعاون مع الجيل القديم، هذا الجيل الذي كان يتألف في معظمه من العناصر الوطنية التي جلبت الإستقلال وتخلصت من السيطرة الأجنبية، تحوّل بعد الحرب العالمية الثانية الى فئة همّها المحافظة على المصالح الشخصية، فأُغلِق الباب في وجه الجيل الجديد الذي كان يتَطَلّعُ الى الإشتراك في تمثيل دوره على مسرح الشؤون العامة (36)

بينما نجد الباحث لا يكف عن التأكيد على أن سلبيات هذا العهد كانت على وشك الزوال (37) وأن الطبقة القديمة على وشك الرحيل، والمجال سيكون مفتوحاً للجيل الجديد ليحل محله! (38)

فهل من الممكن أن نُوقِفَ العوامل والشروط الواقعية عن العمل ونجلس لننتظر رحيل نوري السعيد وأقرانه الى العالم الآخر، لكي يصعد الجيل الجديد الى سدّة الحكم؟! ثم لو إفترضنا جدلاً صِحّة هذا الإحتمال، فكيف سيعمل هذا الجيل وسط ظروف لم تستجب مع الملكية ولفظتها الى الأبد!!

***

بقلم: معاذ محمد رمضان

....................

الحواشي:

1ـ مأمون أمين زكي: إزدهار العراق تحت الحكم الملكي 1921 ـ 1958 / دراسة تاريخية إجتماعية مقارنة، دار الحكمة لندن، الطبعة الثانية 2013 ص505

2ـ المصدر السابق ص15

3ـ لا يخفى ذلك على المتتبع لكتاباتي، إذ كُنتُ حريصاً على هذه الحقيقة دائماً

4ـ المصدر السابق ص17

5ـ ندينُ بهذه النقطة المهمة للأستاذة الكبيرة الدكتورة لاهاي عبد الحسين

6ـ المصدر السابق ص24

7ـ المصدر السابق ص341

8ـ المصدر السابق ص400 و 401 و 402

9ـ إعتمدنا هنا على التحليل القَيّم للأستاذ سليم طه التكريتي في:

ستيفن همسلي لونكريك: العراق الحديث من سنة 1900 الى 1950 / تاريخي سياسي إجتماعي إقتصادي، الجزء الثاني، ترجمة وتعليق: سليم طه التكريتي، طبعة دار الرافدين الأولى 2019 بيروت لبنان ص55 الحاشية الأولى، تعليق الأستاذ التكريتي

10ـ محمد حسين الزبيدي: الملك غازي ومرافقوه، دار الحرية للطباعة بغداد 1989، توزيع دار اللام ص129 و 130 و 131

11ـ يقول الدكتور سامي عبد الحافظ القيسي: (لاتزال مسألة موافقة الملك غازي على الإنقلاب أو علمه به قبل وقوعه، محل شك) يُراجَع:

سامي عبد الحافظ القيسي: دراسات وثائقية في تاريخ العراق المعاصر، بغداد 2009 ص113، ونحن بدورنا لم نغفل ذلك، وعليه فقد رَجّحنا فقط

12ـ لونكريك: المصدر السابق ص94 الحاشية الأولى، تعليق المترجم الأستاذ التكريتي

13ـ زكي: المصدر السابق ص16 و 17 و 18 و 19

14ـ محمد حمدي الجعفري: إنقلاب الوصي في العراق عام 1952، مكتبة خالد في بغداد، الطبعة الثانية 2001

15ـ زكي: المصدر السابق ص248 و 249

16ـ فيبي مار: تاريخ العراق المعاصر 1921 ـ 2003، دار أوراق ودار المجلة، الطبعة الأولى 2020 بترجمة: مصطفى نعمان أحمد ص95

17ـ خيري العمري: يونس السبعاوي / سيرة سياسي عُصامي، الجمهورية العراقية ـ منشورات وزارة الثقافة والإعلام دار الرشيد، الطبعة الثانية 1980 ص144 الى 148

18ـ زكي: المصدر السابق ص227

19ـ المصدر السابق ص222

20ـ الزبيدي: المصدر السابق ص283 ونقلنا النص كما هو

21ـ زكي: المصدر السابق ص155 و 170

22ـ كمال مظهر أحمد: صفحات من تاريخ العراق المعاصر / دراسات تحليلية، منشورات مكتبة البدليسي في بغداد، الطبعة الأولى 1987 ص49 و 50

23ـ المصدر السابق ص76

24ـ مذكرات عبد المجيد محمود / الوزير في العهد الملكي في العراق، أعدّها وعَلّقَ عليها وقَدّم لها: د. عماد عبد السلام رؤوف، دار الحكمة لندن، الطبعة الأولى 2006 ص408

25ـ فالديمار غالمان ـ سفير الولايات المتحدة في العراق: عراق نوري السعيد، بترجمة: عبد اللطيف نوري، دار سطور في بغداد، الطبعة الأولى 2019 ص325

26ـ فيبي مار: المصدر السابق ص135

27ـ زكي: المصدر السابق ص159

28ـ المصدر السابق ص36

29ـ المصدر السابق ص38

30ـ المصدر السابق ص349

31ـ عبد الرزاق الحسني: تاريخ العراق السياسي الحديث، الجزء الثالث، دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد، الطبعة السابعة 1989 ص3

32ـ زكي: المصدر السابق ص349 و 350

33ـ المصدر السابق ص44 وما بعدها

34ـ المصدر السابق ص51

35ـ فيبي مار: المصدر السابق ص129

36ـ مجيد خدوري: العراق الجمهوري، إنتشارات الشريف الرضي في إيران ـ قُم، الطبعة الأولى 1418 ص10

37ـ زكي: المصدر السابق ص30

38ـ المصدر السابق ص27

 

في المثقف اليوم