قراءة في كتاب

قراءة في كتاب الفكر الشرقي القديم وبدايات التأمل الفلسفي للدكتور جمال المرزوقي

1- تقديم: هناك سيل من الكتب قذفت بها المطابع إلى السوق، بعضها ولد ميتاً من دون أي انتباه، وبعضها قُرئ كالطعام البائت، وبعضها الآخر عاش قليلا من الوقت ثم اختفى، وبعضها أثار المعارك وظل عالقاً في مفاصل الثقافة جيلاً بعد جيل، وبعضها لا يزال يلاحقنا حتى اليوم. وبعضها مر بسلام إلى القارئ، وبعضها أدخل صاحبها التاريخ بجدارة.

من الكتب التي دخلت التاريخ من أوسع الأبواب كتاب "الفكر الشرقي القديم وبدايات التأمل الفلسفي" للدكتور جمال المرزوقي، والذي يقول في مقدمته:"يشير كثير من كتاب الغرب إلى الحضارة الإغريقية كما لو كانت حدثا فريدا تتضاءل إلى جانبه ما قدمته كل حضارات الشرق القديم، فبينما كانت مدنيات الشرق السابقة على مدنية الإغريق – في رأي هذا البعض من الكتاب – ذات كفاية بالغة في الأمور العملية، فإنها كانت جدباء من الناحية العقلية، لقد مارس ملايين الناس الحياة وخبروها قبل الإغريق فماذا فعلوا بها؟ لقد ماتت خبرة كل جيل بانتهائه.. إن الإغريق هم الذين ابتكروا الأدب وأوصلوه إلى حد الكمال، إن شعر الملاحم والتاريخ والفلسفة بكل فروعها والاقتصاد والرياضيات وكثير من العلوم الطبيعية كلها تبدا بالإغريق . وقد مال أشياع هذا الرأي تدريجيا باتجاه فكرة "المعجزة اليونانية" و"أصالة الفكر اليوناني" و"الشعاع الخاطف"، في بحر من الظلمات، حتى أصبحت النظرية عند بعضهم تعني القول بأن اليونانيين غير مدينين في علومهم وفنونهم وفلسفتهم، بل وأديانهم لشئ شرقي، وإن كان هناك أثر ما في الفنون والفلك، فإن القفزة التي قدمها اليونانيون في هذا المجال تلغي هذا الأثر وتلاشيه، وينتهي أصحاب الصورة المتطرفة لهذا الرأي، إلى جعل علوم وفكر اليونان الطبيعيين نتاج العقل اليوناني الخالص (1).

ونظرا لأهمية موضوع الفكر الشرقي القديم قضاياها، فقد جاء الدكتور جمال المرزوقي بكتابه هذا ليوضح لنا منهجه ونظرته إلي أهمية لأهمية الفكر الشرقي القديم مبينا في دراسته أنه في الوقت الذي كان فيه دعاة المعجزة العلمية اليونانية يصولون ويجولون لإثبات أن نشأة العلم يونانية خالصة، وأن اليونانيين قد توصلوا إلى اكتشاف ميادين العلم من فراغ كامل، كانت هناك طائفة من المؤرخين والفلاسفة أمناء مع أنفسهم ومع الحقيقة ومع التاريخ، فقالوا بما أملته عليهم ضمائرهم الحية وروحهم العلمية الموضوعية؛ ومن ثم قرروا أن الكلام عن معجزة يونانية ليس من العلم في شئ؛ فالقول بأن اليونانيين قد أبدعوا فجأة ودون سوابق أو مؤثرات خارجية حضارة عبقرية في مختلف الميادين ومنها العلم هو قول يتنافى مع المبادئ العلمية التي تؤكد اتصال الحضارات وتأثيرها بعضها ببعض، بحيث تؤثر الحضارة السابقة في الحضارة اللاحقة وتتأثر هذه بتلك تأثراً تتعدد أبعاده تارة وتختلف مجالاته وتتفاوت درجاته تارة أخرى .

فمن المستحيل مثلاً تجاهل شهادات اليونانيين القدماء أنفسهم، فقد شهد أفلاطون بفضل الحضارة المصرية القديمة، وأكد أن اليونانيين إنما هم أطفال بالقياس إلى تلك الحضارة القديمة العظيمة، وذلك في الحوار الذى أورده في محاورة " طيماوس" بين سولون وأحد الكهنة المصريين الذى قال للمشرع الأثينى " إن اليونانيين لا زالوا أطفال فى مضمار الحضارة " (2). وهناك روايات تاريخية تحكي عن اتصال فلاسفة اليونانيين وعلمائهم ومنهم " أفلاطون " ذاته بالمصريين القدماء وسفرهم إلى مصر وإقامتهم فيها طويلاً لتلقي العلم (3).

فلم تكن نشأة الفكر الفلسفي في نظر المرزوقي يونانية خالصة ولم يبدأ اليونانيون باكتشاف ميادين العلم من فراغ كامل، بل إن الأرض كانت ممهدة لهم من بلاد الشرق التي كانت تجمعهم بها صلات تجارية وحربية وثقافية، والتي كانت أقرب البلاد جغرافيا إليهم (4).

على أن هذا لا يعني على الإطلاق أن المؤلف ممن ينكر فضل اليونانيين في ظهور العلم. والحق أن الاعتقاد بضرورة أصل واحد من للمعرفة، ربما كان عادة أوربية سيئة ينبغي التخلص منها، فإصرارنا على تأكيد الدور أسهمت به حضارات الشرق القديم لا يعني أننا ممن ينكرون على اليونانيين أصالتهم العلمية، ولا نشك لحظة في أنهم يمثلون مرحلة علمية ناضجة.

ولكن المؤلف لا بوافق على ادعاء أن تلك الأصالة وهذا التمايز، قد أتيا من فراغ؛ فقد كانت عظمة اليونانيين أنهم استطاعوا أن ينقلوا بشغف كل ما وقعت عليه أعينهم وعقولهم من التراث السابق عليهم، وأن يهضموه هضماً يتلاءم مع بيئتهم الخاصة، وأن يحولوا هذه المؤثرات الوافدة إلى شئ شبيه بتراثهم هم، وأن ينتقدوا هذا وذاك شيئاً فشيئاً، حتى استطاعوا في النهاية أن يتجاوزوا المرحلة الشرقية في العلم، وأن يبدأوا مرحلة جديدة متميزة (5).

ولهذا السبب فقد جاء كتاب جمال المرزوقي عنوان " الفكر الشرقي القديم وبدايات التأمل الفلسفي " للدكتور جمال المرزوقي، ويقع الكتاب في  408 صفحة من الحجم الكبير، عن (دار الآفاق العربية)، القاهرة- في طبعته الأولي في عام 2000، ويشتمل على عشرة فصول، ويُختَم الكتاب بـ"بملاحق ومراجع".

وفي رأيي أن هناك نمطان من الأساتذة الجامعيين،نمط تقليدي تتوقف مهارته عند تقليد الآخرين والنقل عنهم وضبط الهوامش، والحرص علي أن يكون النقل أميناً، وكلما كان من مصادر ومراجع أجنبية كان أفضل، وكلما قل فيما يقولون فإن ذلك هو الصواب عينه، ونمط مبدع يسخر قراءته لإبداء الرأي أو للتدليل علي صواب الاجتهاد العقلي الشخصي، وبالطبع فإن النمط الثاني هو الأقرب إلي النمط الفلسفي الحق، فالتفلسف ينتج الإبداع ولا يتوقف عند النقل وإثراء الهوامش .

ولا شك في أن الدكتور "جمال الرزوقي" من هؤلاء الذين ينتمون إلي النمط الثاني، فهو صاحب موقف نقدي واضح من كل ما يقرأ ولا يكتب إلا في حول أو في قضايا معاصرة  بغرض بلورة موقف مبدع ومستقل عن كل المواقف ومختلف عن كل الآراء المطروحة حول نفس الموضوع سواء قيل من قبل.

علاوة علي أن "جمال المرزوقي" (مع حفظ الألقاب) يعد واحداً من أساتذة الفلسفة الذين يعملون في صمت وتواضع ودون ضجيج، أو تعالٍ لخدمة تخصصهم الدقيق فهو من كبار أساتذة الفلسفة الإسلامية المصريين في العالم العربي الذين نجحوا في خلق لغة خاصة به للتعبير عن دقائق أفكارهم، ومنعرجات مسائلهم، ومساقات حلولهم بعبارات شفافة رقاقة، لا تشويش فيها، إلا ما كان من بعض التشقيقات الاصلاحية التي يصعب علي المرء مجاراتها ببادئ الرأي ؛ وهو والله بحق من أساتذة الفلسفة الإسلامية الذين نذروا حياتهم للبحث عن الحكمة متذرعاً بمبادئ الحق والخير والجمال، وهو إنساناً في تفلسفه، وفيلسوفاً في إنسانيته، وبين الإنسان والفيلسوف تتجلي المشاغبة الفلسفية لهذا الرجل المتعدد الأوجه سواء كمترجم، أو معجمي، أو محقق، أو ناقد، أو سياسي، أو أكاديمي، أو أديب .. الخ؛ فهو غزير الإنتاج، موسوعي المعرفة، لديه دأب علي البحث والتنقيب، وشهوة لا تقاوم لتعلم كل ما هو جديد ومبتكر، وهو رجل منضبط في فكره ومفرداته، ويتمتع بروح دعابة، وخفة دم، ونظرة ساخرة للحياة والكون. وهو في كل هذا يستهدي بشرع قيمي منسق، تتدفق في عروقه حيوية الصحة والسلامة السوية، وينطلق من عقل صاف مدرب علي توليد الأفكار الناضجة الناقدة الملتهبة حماسة وفتوة.

2- أهمية الكتاب:

يعد جمال المرزوقي من أهم من كشفوا لنا في كتابه المائل بين يدينا عن قضية إنسانية شائكة للغاية وخلافية إلى أقصى حد، ألا وهى قضية " الفكر الشرقي القديم "، وقد أصبحت مثل هذه الدراسة ضرورية وملحة، بسبب الخلط والفوضى الفكرية والأخلاقية التي تحيط بهذه القضية. فمعظم المؤرخين والعلماء والفلاسفة الغربيين يحاولون تعتيم هذه القضية، من خلال الغرس في الأذهان، أن اليوناني هو مبدع الفكر والعلم والأخلاق والاجتماع والسياسة والفن والرياضيات والفلك والطب والمنطق والفلسفة… وغيرها. وكأن الحضارة اليونانية خلق عبقري أصيل جاء على غير منوال، لم تسبقها حضارات أخرى، ولم تتصل بها مصر القديمة ولا كنعان ولا بابل ولا أشور ولا فارس ولا الهند ولا الصين… بل هي في زعمهم ـ أوربية النشأة والتطور.

أصحاب هذا الرأي في نظر المرزوقي هم دعاة " المعجزة العلمية اليونانية " الذين يسعون بكل ما أوتوا من قوة إلى أن يمجدوا الحضارة اليونانية - حضارة أجدادهم، فتحدثوا طويلاً عن ذلك الإنجاز الهائل الذى حققه اليونانيون فجأة دون أى مقدمات تذكر، ودون أن يكونوا مدينين لأى شعب أو حضارة سابقة عليهم.

وهؤلاء هم أكثر الناس إيماناً بأن أقدم الحضارات كانت مزدهرة وناضجة كل النضج بالقياس إلى عصرها، ومن ثم فقد كان من الضروري أن ترتكز في نهضتها على أساس من العلم.

إلا أن هذا العلم فى نظر دعاة المعجزة العلمية اليونانية كما يري المرزوقي كان يعتمد على الخبرة والتجربة المتوارثة؛ وأن تلك الحضارات كانت تكتفى بالبحث عن الفائدة العملية أو التصرف الناجح دون سعى إلى حب الاستطلاع الهادف إلى معرفة أسباب الظواهر، كما أن تلك الحضارات لم تملك نفس القدر من البراعة في التحليل العقلي " النظري" لهذه المعارف، أما الحضارة التي توصلت إلى هذه المعرفة النظرية، والتي توافرت للإنسان فيها القدرة التحليلية التي تتيح له كشف المبدأ العام من وراء كل تطبيق عملي فهي الحضارة اليونانية.

فمثلاً قالوا أن المصريين القدماء قد استخدموا الرياضيات في مسح الأرض وشق الترع وغيرها من أغراض عملية، استعانوا بها وبالميكانيكا على إقامة الأهرامات التي مازالت تتحدى الزمن، أقاموها لحفظ الجثث المحنطة، اعتقادا منهم في خلود النفس وحساب اليوم الآخر، وتوسلوا بعلم الكيمياء في تحنيط الجثث واستخراج العطور والألوان، وغير هذا من أغراض دينية. ولكن اليونان هم الذين أنشأوا هذه العلوم في صورتها النظرية الخالصة، وتجاوزوا فى الرياضيات مرحلة الأمثلة الفردية المحسوسة إلى مرحلة التعاريف والبراهين، فتوصلوا إلى القوانين والنظريات التي تستند إلى البرهان العقلي (5).

وكذلك كان الحال في علم الميكانيكا، كان اليونان فيما يقول دعاة المعجزة العلمية اليونانية – أول من عالج دراساته بروح علمية؛ إذ كان لأرسطو الفضل في إنشاء هذا العلم النظري، وإن جانبه التوفيق في صيغة عبارته ؛ وأكمل الاسكندريون من أمثال " أرشميدس" (ت212ق.م) ممن قننوا المعلومات الميكانيكية لأول مرة في تاريخ العلم (6).

وكان البابليون والكلدانيون قد سبقوا إلى مشاهدة الكواكب ورصدها، فأنشأوا بهذا علم الفلك العملي، ولكنهم كانوا مسوقين بأغراض تنجيمية أو عملية (كمعرفة فصول الزراعة ومواسم التجارة ونحوها) (7).

أما اليونانيون فهم الذين أقاموا علم الفلك النظري في رصد الكواكب لمعرفة " القوانين " ووضع " النظريات " التي تفسر سيرها وتعلل ظهورها واختفائها. ويرجع الفضل الأكبر في هذا إلى " بطليموس" الإسكندري (في القرن الثاني) بكتابه" المجسطى" الذى ظل المرجع الرئيسي حتى مطلع العصر الحديث (8).

ومثل هذا يقال في العلوم التي أدت إليها في الشرق بواعث دينية أو أغراض عملية؛ عالجها اليونان بروح علمية، حتى نشأت علوماً نظرية تستند إلى البرهان العقلي وتقوم على" تقنين " المعلومات بغير باعث ديني أو عملي (9).

ولم يكتف دعاة " المعجزة العلمية اليونانية " بذلك؛ بل خرج منهم فريق يرى أن التنقيب في أطلال الماضي للتوصل إلى حضارات مزدهرة قبل اليونان ليس سوى مضيعة للوقت إزاء الطابع الملح للمشاكل القائمة، وهو موقف عفا عليه الزمن، وعلينا أن نقطع صلتنا بكل هذا الماضي المشوش والهمجي واللحاق بالعالم الحديث الذى تندفع تقنياته بسرعة الالكترونات، والعالم في طريقه إلى التوحد. وعلينا أن نكون في طليعة التقدم، وسيحل العلم في القريب العاجل كافة المشاكل الكبرى، بحيث تصبح تلك المشاكل المحلية والثانوية غير ذات موضوع. ولا مجال لأن تكون هناك لغات تعبر عن ثقافة ما سوى غير ثقافة أوربا التي أثبتت أصلاً قدرتها على ذلك، مما يعنى أنها قادرة على نقل الفكر العلمي الحديث، وأنها عالمية فعلاً (10).

وخلاصة القول إنّ هذا الكتاب سدَّ فراغاً ملحوظاً في المكتبة العربية، وهو مرجع أساسي لا تستغني عنه مكتباتنا العامة والجامعية، وذلك لكونه نجح في هذا الكتاب بأن يخلق لغة خاصة به للتعبير عن دقائق أفكاره، ومنعرجات مسائله، ومساقاته حلوله بعبارات شفافة رقاقة، لا تشويش فيها، إلا ما كان من بعض التشقيقات الاصلاحية التي يصعب علي المرء مجاراتها ببادئ الرأي.

نعم لقد استطاع الدكتور المرزوقي في هذا الكتاب الذي بين أيدينا بأن يكتبه بلغة فلسفية متصالحة مع ذاتها ومع واقعها التاريخي ؛ لغة منسجمة رقراقة قوية مبتكرة بعيدة عن الانغلاق، ولكنها لا تفرط في مقتضيات الصناعة الفلسفية، تخلت كتابته عن الطابع الدعوي، وسلكت مسلك الاستنباط السلس والجدل السيال .

4- أقسام الكتاب:

قبل أن أتطرق للحديث عن أقسام الكتاب، أود أن أسأل الدكتور جمال المرزوقي:  لماذا اختار لكتابه عنوان "" الفكر الشرقي القديم وبدايات التأمل "، ولم يختار له اسم "إشكالية الفكر الشرقي القديم "، أو " الفكر الشرقي القديم بين التبعية والأصالة" أو ” الفلسفة الشرقية- مذاهب ونظريات"، أو " الأصول الشرقية للفلسفة اليونانية" ... الخ؟.

وهنا يجيبنا الدكتور المرزوقي فيقول بأنه:" ونتيجة لما تقدم، نستطيع أن نقول: إن فلاسفة اليونان ليسوا أول من بدأ الفلسفة والعلم والتجريد أو التنظير، فإنه ليس هناك وقت ولا مكان يمكن أن يقال إنه فيمها أو معهما بدأ العلم والتفكير والتعميم، فلم يعد مقبولا الرأي القائل بأصالة الفكر اليوناني، وبأن من سبقهم لم يصلوا إلا إلى طور العمل العملي فقط، ويقوي من عدم القبول هذا، ما قدمته حضارات الشرق القديمة من انجازات في مجال العلم والمجالات الأخرى، قبل اليونان بوقت طويل .. إن البحث الموضوعي الهادئ، يؤدي إلى الاعتراف بوجود قفزة أو تبدل كيفي في مسار الحضارة البشرية، حصل مع مجئ الحضارة اليونانية، إلا أنه تبدل حدث من تجمع كيفي هو حصيلة ما كسبته البشرية من تقدم قبل اليونان، وهذا الكتاب "" الفكر الشرقي القديم وبدايات التأمل الفلسفي" محاولة نؤكد بها على تلك النتيجة التي انتهينا إليها " (11).

وهذا فالكتاب ليس رواية من نسيج الخيال، ولا سرد لأحداث تاريخية عن الفكر الشرقي القديم من خلال الكشف عن بدايات التفلسف، بقدر ما هي مكاشفات نقدية من قبل المؤلف في الجوانب الخفية في الفكر الشرقي القديم، وكذلك يعد الكتاب مراجعة لمئات المصادر والمراجع.

ولهذا كتاب" الفكر الشرقي القديم وبدايات التأمل الفلسفي " عصارة  تفكير الدكتور المرزوقي في الفكر الشرقي وبدايات التفلسف، ولذلك لم أهدر الفرصة وحاولت أن أغتنمها لقراءة هذا الكتاب الرائع، وذلك لما فيه خير للإنسانية في الاستفادة من بعضها بعضا. فكانت هذه القراءة التي نتناولها في أربعة أقسام: مدار القسم الأول على التقديم المادي للكتاب من خلال ثنائية البنية، والقسمين: الثاني والثالث ينصبان على أهم القضايا التي بسطها الكتاب للدرس والتأمل والحوار من خلال البنية الثنائية التحليلية والبنية الثنائية التركيبية، وفي القسم الرابع، وهو عبارة عن الانتقادات التي وجهتها للمؤلف من خلال رؤيتي الخاصة.

وفي الجانب التأسيسي النظري من هذا الكتاب تناول الكاتب منظومة من الرؤى والتصوّرات الفكرية حول  علم المصطلح، حيث يقول بأن:" من الجهل تماما أن يحذف المرء دور وأثر أية خدمة يقدمها الإنسان مهما كانت، أو بدت ضئيلة، في مجالات العلوم، واستكشاف الطبيعة والحرف، والاختراعات، وشتي المجالات الأخرى، كما أنه من المبالغة وعدم الصواب تفخيم هذا الدور أو ذاك، إلى حد نسيان الأدوار التي مهدت له، أو الذي تلته، كما فعل أنصار المعجزة اليونانية" (12).

وهنا المؤلف أراد أن يطبع كتابه بخصائص جعلته يرقي إلي مستوي علمي رفيع، ومكنته من الوصول وبذلك يمكن قراءة أهداف المؤلف في هدفين أساسيين، أو جعلهما في دافعين:

الدافع الأول: نظري معرفي، يقوم علي ضم الفروع والجزئيات بعضها إلي بعض، والتماس الروابط بينها، وصياغتها في صفة نظرية، وهو ما لا يعلم المؤلف أن أحدا قام به من قبل، لا في شئ محرر، ولا في كتاب مصنف، بل لم ير أحدا حام حوله طائر فكره، أو جعله غاية بحثه ونظره، فرسخ في ذهنه أن هذا أمر مستحسن إظهاره، وإبراز تعم فائدته، وبيان خفيت معالمه، وهذا الدافع قد نصفه بالهدف الأول لتأليف الكتاب، أو الدافع الظاهري أيضا.

الدافع الثاني: واقعي دعوي، يقوم كما يقول المؤلف:" إن البحث الموضعي الهادئ يكشف لنا على أن العقل الشرقي لا يقل عمقا، واصالة عن العقل الغربي، وجميع ما يحويه التكفير الإغريقي، يبدو أمامنا على حقيقته إذا عرض تحت ضوء العلاقات بين الشرق والغرب وبالتالي فالذين ينكرون إمكان قيام فكر نظري في الشرق وتأثير اليونان به، يعوذهم التفكير الكافي للحضارات الشرقية القديمة" (13).

ولهذا انطلق المؤلف ليقسم كتابه إلى عشرة فصول: فجاء الفصل الأول من الكتاب ليناقش فكرة " الأصالة الشرقية بين الإنكار والتأييد"، وانتهي المرزوقي إلى أن مدارس الفكر الأوربي العنصرية التي زعمت تفوق الجنس الأري الأبيض، لا تستند غلى حقيقة من التاريخ، وإنما تقيم دعواها على فلسفة عنصرية عدائية دعائية، فالعقل الشرقي في نظر المرزوقي لا يقل عمقا وأصالة عن العقل الغربي، وأن جميع ما يحويه التفكير الإغريقي، يبدو أمامنا على حقيقته، إذا عرض تحت ضوء العلاقات بين الشرق والغرب، ولن يقع في خطر الجهالة إذا ما عمدنا إلى جمع معلومات عن حالة التكفير النظري في أهم الحضارات المحيطة بالأفق الإغريقي وهي حضارات الشرق القديمة (14).

وتأتي الفصول من الثاني إلى العاشر، تفصيلا لـ" حالة التفكير النظري" – هذه في حضارات الشرق القديم، فيعرض الفصل الثاني لـلعقيدة المصرية القديمة، مبينا المؤلف أشكالها، وكيف أنها مظهر مرئي مقدسة مجردة، ومتناولا المؤلف موضوعين على قدر كبير من الأهمية عن حالة التفكير النظري عند المصري القديم، وهما " نشأة العالم "، و " قدر الإنسان ومصيره"، وكان لِكَهنة أون السبقُ في عملية التفسير الكوني، بعد أن عقَدوا الصِّلةَ بين إلههم آتوم، وبين الشمس رع، فأضفَوْا عليه صفةً كونية ليصبح "آتوم رع"، إلا أن ما يجب ملاحظتُه أن الدين الأوني قد مرَّ بتطورات فكرية كثيرة، ولم يُسجِّله المصريون كتابة إلا بعد تأليفه بقرون طويلة،  ومع أن منف التي كان يُعبَد فيها إله آخر هو بتاح، قد سبقت أون إلى التفوق السياسي، فأصبحت عاصمةَ البلاد إبَّان حُكم الأُسَر الأولى في الدولة القديمة، فإن أون تُعَد المدينةَ المقدَّسةَ الأولى، ذاتَ الشهرة الفكرية التي لا تُضارَع، وما من شك أن أصحاب رع كانوا يُبشِّرون بدينهم منذ مطلع التاريخ المصري»، حتى استطاعوا في الأسرة الخامسة "أن يَصِلوا العرش، وأصبح مذهبُهم دينًا رسميًّا للدولة، فُرِض على الشعب فرضًا»؛ لذلك كان أثر أون في الحياة الدينية المصرية أكبرَ من أثر منف، فأصبحَت قلبَ مصر الروحيَّ، وساد إلهُها، واجتذب آلهة منف إلى بوتقته ومداره، "وظل رع يُعتبَر إلهًا يحكم ويَسود كإلهٍ للدولة في مُختلِف العصور، إلا إذا استَثْنَينا فتراتٍ قصيرة (15).

ويتناول الفصل الثالث المؤلف في الفصل الثالث " اخناتون" موضحا كيف أنه يعد أول ثوري في العالم يسعي لصياغة توحيد عالمي، ويكف ثار على التقاليد اللاهوتية منتصرا لعقيدة التوحيد، وصار بذلك أول مغرد في التاريخ يترع التوحيد، وأوّلَ من وضعَ ديناً حديثاً "ديانة التوحيد" وهو أن يُوحّدُ الطقوسَ نحو جهةٍ واحدةٍ فقد أسَّسَ في فترةِ حكمِه عبادةً تعتمد على تقديسِ الإله (آتون)، والذي كانَ يُصوَّرُ على أنّه قرصُ الشمسِ فقد ظهرَت في بعضِ الآثارِ القديمةِ نقوشٌ تُصوّرُ الإله آتون على أنّه قرصُ شمسٍ في السماءِ يمدّ أشعّةً منه نحو الأسفلِ لتصلَ إلى العائلةَ الملكيّةَ، وقد كرّسَ أخناتون جهودَه على العبادةِ الجديدةِ، فبنى العديد من المعابدِ الجديدةِ المُخصَّصةِ لعبادةِ الإلهِ (آتون)، مثل المعابدِ في الكرنك وتلّ العمارنةِ، كما قُدِّمت أعدادٌ كبيرةٌ من طاولاتِ القرابينِ للاحتفال  بالإله آتون، ولم يكتفِ بتقديسِ إلهه الجديدِ، بل وبخ ودنس الآثارِ التي تحملُ صورةَ، أو اسمَ الإلهِ السابقِ (آمون) (16).

ثم يأتي الفصل الرابع بعد ذلك ليكشف لنا المؤلف عن أن المصري القديم صاحب أقدم " تجويد اجتماعي" في العالم، فيبين معالم هذا التجديد، متناولا بعض التجارب الحياتية التي سجلها وتركها لنا حكماء مصر القديمة، والتي تعكس وعيا اجتماعيا وأخلاقيا رائعا، ولهذا  فقد تميز المجتمع المصري على مر عصور طويلة بسمات كانت أقرب إلى الثبات، ولذلك يعتبرها العلماء سمات أصيلة، فالمصري اتسم بكونه ذكياً، متديناً، طيباً، ومتسامحاً، وكان هذا يشكل الخريطة الأساسية للشخصية المصرية في وعى المصريين ووعى غيرهم. ويعود هذا الثبات النسبي لهذه السمات إلى ارتباطها بعوامل جغرافية ومناخية مستقرة نسبياً.بيد أن تحولات نوعية حدثت في بعض السمات، فمثلاً استخدم البعض ذكاءه، وفقاً لكتابات عديدة، في "الفهلوة"، وتعددت صور التدين التي كان بعضها أصيلاً وبعضها الآخر غير ذلك، وظهرت بعض الميول العنيفة أو العدوانية (الظاهرة أو الخفية)، وتأثر الجانب الفني في الشخصية تحت ضغط العشوائيات كما زادت حدة السخرية وأصبحت لاذعة وقاسية (17).

أما الفصل الخامس، فيحلل معالم " الحس السياسي عند المصري القديم "، وكيف أن الصلة بين الحاكم والمحكوم ينبغي أن يكون أساسها العدل والمساواة بين الجميع، كما يظهرنا المرزوقي في هذا الفصل على ما نشأ في مصر القديمة من وعي اجتماعي بعدم السكوت على الظلم، وضورة أن يعود الحق لأصحابه، وعناية المسؤولين بالنظر في مظالم مرؤوسيهم وأنصافهم، ولهذا فقد حَفَل التاريخ المصري القديم بالعمل السياسي، الذي تنوع بين رسم يسخر من الحُكام أو الأوضاع السياسية، أو تنظيم احتجاجات وثورات مسلحة أسقطت أنظمة حكم وأحدثت اضطرابات كبيرة في البلاد، وامتاز الخط الفني الشعبي المصري منذ القِدم بالحس الساخر، فرسم المصريون ملوكهم على هيئة الحيوانات في صور تحمل رموزًا سياسية ساخرة، من بينها تشبيههم بالفئران وتصوير القضاة كحمير، وفي عصور أخرى، نظم المصريون احتجاجات ضد الحكام في أوضاع اقتصادية صعبة عانوا منها، ووصل الأمر إلى ثورة مسلحة ضد ملك ظالم استمر حكمه قرابة مئة عام، هو بيبي الثاني، الذي دخلت البلاد بعده في فوضى استمرت طويلًا  (18).

ويجمل الفصل السادس " الأفكار الفلسفية " في حضارة مصر القديمة، علميا وفنيا ودينيا وفلسفيا، وقد انتقلت حضارة مصر الفرعونية من خلال اليونان والرومان إلى أوروبا والغرب، ثم تأثرت بحضارة العرب، وهكذا نجد أن ما وصلت إليه الحضارة الإنسانية الآن، من تقدم ما هو إلا نتيجة تراكم للمعرفة الإنسانية في مراحلها المختلفة، وكان لمصر دورها الكبير في هذا المجال، ولذلك فإن الحضارة الغربية اليوم هي نتيجة لتراكم حضارة مصر والعرب وغيرها من حضارات البشرية، كما أن انتماء مصر إلى دول حوض البحر الأبيض المتوسط لا يقتصر فقط على الحقبة اليونانية الرومانية، حيث التفاعلات مستمرة بحكم الموقع، ولذلك يعترف اليونانيون في عصورهم الراقية بأنهم تلاميذ المصريين في الحضارة، وهناك تشابه في المناخ وأنماط الحياة بين الإسكندرية وبورسعيد في مصر وما يقابلها على الجانب الشمالي من البحر المتوسط مثل؛ أثينا في اليونان ونِيقوسيا في قبرص ونابولي في إيطاليا (19).

ويؤكد الفصل السابع أن بدايات فلسفية في الطبيعة والأخلاق ظهرت في وادي الرافدين، وكان لها دورها المؤثر في تكوين الفكر العالمي، حيث نجد أن  الوثائق السومرية- الآشورية- البابلية، بعامة، تميزت بطابعها الديني. فالنصوص الطبية كانت تنظر للأمراض باعتبارها عقابا إلهيا نتيجة الذنوب التي اقترفها المريض، لذلك فليس هناك دواء لا يتضمن استخدام الصلاة والطقوس الدينية. كذلك فيما يخص النصوص الفلكية بحكم اعتقاد القوم أن النجوم تمارس نفوذاً حقيقياً على الإنسان. وتحمل النصوص التجارية قدراً واضحاً من الصبغة الدينية، فالعقود تبدأ فاتحتها باسم الآلهة وتختم في نهايتها بالقسم باسم الآلهة، كما أن قرارات القضاء ترتبط بالآلهة وتبتهل إليها. ويتضح الطابع الديني أيضاً في الأدب بمجالاته المتنوعة والتي تنسب كل حدث إلى إرادة الآلهة (20).

ويتناول الفصل الثامن " الفلسفة الهندية " موضحا سماتها، وبداياتها، كما تبدو في التأملات المسجلة في نصوص" الفيدا" و" الأوبنيشاد" والتي تحفل بالفكر التأملي والتصوري فيما يتعلق بطبيعة النفس والواقع، ولهذا تزخر الهند بتراث غني ومتنوع من الفكر الفلسفي يمتدُّ لنحو ألفَيْن وخمسمائة عام. وحتى وقت قريب كان الاعتقاد الشائع أن الهندَ «صوفيَّةٌ» والغربَ «عقلانيٌّ»، وما زال كثيرون يتبنَّوْن تلك النظرةَ (21).

ويعالج الفصل التاسع منهج " البوذية" في كيفية تجاوز المعاناة وتحقيق الاستنارة كما يلقي الضوء على " جوتا ماسدهارتا – بوذا " الذي يعد من أوائل المفكرين الذين أعلوا من شأن العقل وأكدوا سلطان الإنسان على أفعاله وأن يبده وحده توجيه مصيره، ولهذا تعدّ البوذية من كبرى الديانات الرئيسية عالميا، إذ تحتل المرتبة الرابعة من حيث عدد الأتباع، وهي تحظى بانتشار متزايد في الغرب لتوافُقها مع العلمانية، لكن قصة نشوئها وأساطيرها محفوفة بالغموض، ومبادئها في اللاعنف لا تصمد كثيرا أمام إغراءات السياسة، وقد نشأت البوذية في شمالي الهند على يد شاب يدعى سِدهارتا غوتاما، والذي ولُد في منتصف القرن السادس قبل الميلاد، ولأسرة أرستقراطية هندوسية، فكان والده زعيما لقبيلة شاكيا التي تستوطن سفوح جبال الهيمالايا داخل حدود نيبال اليوم (22).

أما الفصل العاشر فيحلل "بدايات " الفلسفة الصينية بين كونفوشيوس ولاوتسو، مبين كيف أن الكونفوشية فلسفة إنسان اجتماعية، وكيف أن التاوية قد أكدت على الأسس الميتافيزيقية للطبيعة، على أن التاوية الفلسفية تلقَّت زخَمًا جديدًا مدَّ في عمرها إلى يومنا هذا؛ فبعد دخول البوذية إلى الصين في أواسط الألف الأول الميلادي، تشكَّلت تاوية فلسفية جديدة متسربلة برداءٍ بوذي، هي بوذية اﻟ «تشان» التي جمعت بين العناصر التاوية والعناصر البوذية في تركيبٍ واحد (والاسم يُكتب باللغات الأوروبية: Chi’an)، وأبقت على تعاليم لاو تسو حية. وما زالت هذه التاوية منتشرةً في اليابان وبعض أقطار الشرق الأقصى تحت اسم بوذية الزن Zen، التي تلقى اليوم اهتمامًا واسعًا على النطاق العالمي، وتنتشر مدارسها في أوروبا وأميريكا الشمالية (23).

وفي نهاية حديثنا عن قراءة كتاب" الفكر الشرقي القديم وبدايات التأمل الفلسفي "، لا أملك إلا أن أقول تحية طيبة لأستاذنا الفاضل الدكتور جمال المرزوقي، ذلك المفكر الموسوعي الناجح الذي عرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

وتحيةً أخري لرجلٍ لم تستهوه السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط .

.........................

الهوامش

1- جمال المرزوقي: الفكر الشرقي القديم وبدايات التأمل الفلسفي، دار الآفاق العربية، الفاهرة، 2000، ص 5.

2- أنظر

Plato: Timaios، in The Dialoguse of Plato، Vol.111.،4th ed، Oxford،at The Clarendon Press، London، 1953، 22B،22A.

3-د. فؤاد زكريا: التفكير العلمي،، دار مصر للطباعة، القاهرة،1992 ص 123.

4-- نفس المرجع، ص127.

5- جمال المرزوقي: المصدر السابق، ص 28-29.

6- المصدر السابق، ص 28-29.

7-د. محمود محمد علي: الأصول الشرقية للعلم اليوناني، دار عين، القاهرة، 1997، ص 4.

8-نفس المرجع، ص 5.

9- نفس المرجع، ص 7.

10- نفس المرجع، ص 8.

11- جمال المرزوقي: المصدر السابق، ص 9.

12-  المصدر السابق، ص 8.

13- المصدر السابق، ص 10.

14- المصدر السابق، ص 13-58.

15- المصدر السابق، ص 67-69.

16- المصدر السابق، ص 79-97.

17- المصدر السابق، ص 103-138.

18- المصدر السابق، ص 141-153.

19- المصدر السابق، ص 161-179.

20- المصدر السابق، ص 183-195.

21- المصدر السابق، ص 209-217.

22- المصدر السابق، ص 229-238.

23- المصدر السابق، ص 241-253.

في المثقف اليوم