قراءة في كتاب

القراءة الفلسفية للقرآن الكريم .. إبن رشد أنموذجاً

وصلتني البارحة نسخة من كتاب "القراءة الفلسفية للقرآن الكريم .. إبن رشد  أنموذجاً" وهي أطروحة دكتوراه نال عنها الطالب العراقي المثابر رواد محمد محمود شهادة الدكتوراه من كلية الإلهيات بجامعة اسطنبول تحت إشراف الأستاذ الدكتور شوكت كوتان .

الأطروحة صدرت مؤخراً بكتاب أنيق في عَمان عن دار أمواج للنشر والتوزيع. وكان من دواعي سروري أن كتبت له هذه المقدمة الموجزة :

يُشعرك من يتصدى للكتابة عن إبن رشد، بروح التحدي والمثابرة، ذلك أن هذا الفيلسوف "المُفترى عليه " بحسب وصف المفكر العربي الدكتور محمود قاسم، قد نال من اهتمام الباحثين والمؤرخين وأساتذة الفلسفة وطلابها عرباً وأجانب من المسلمين وغير المسلمين، ما يسد الطريق أمام الباحثين الجدد، ويدعوهم في الوقت نفسه للبحث عن جوانب لم تشبع بعد بحثاً ودراسة وعناية تتعلق بالفكر الرشدي الذي ترك أثره على مجمل الفكر الفلسفي العربي والأوروبي في العصرين الوسيط والحديث، ليس لكون ابن رشد هو الشارح الأكبر للمعلم الأول أرسطو فحسب، إنما أيضاً بما أضافه في شروحاته وكتبه وآرائه الفقهية والفلسفية من آراء وتصويبات وشروحات أغنت الفلسفة الإسلامية في المشرق والمغرب، وشذبتها مما علق بها من اتجاهات غير عقلانية، وجعلت برهانها العقلي موافقاً لبيان الوحي لا متعارضاً معه، ومنسجماً مع الحجج البيانية لإثبات القضايا الكبرى في العقيدة الإسلامية، غير أن ابن رشد قد تعرض إلى سوء فهم وهجمات قاسية من اللاهوتيين الأوروبيين وفي مقدمتهم توما الأكويني، وهذه هو محور أحدث ما صدر من كتب في أوروبا عن هذا الفيلسوف الأندلسي، ونقصد به كتاب " ابنُ رُشدٍ المُقلق" للفيلسوف الفرنسي المعاصر جان باتيست برونيه – مواليد 1972 - وهو أستاذ في جامعة السوربون متخصص في الفلسفتين العربية واللاتينية ولاسيما ابن رشد وإرثه اللاتيني، وقد صدر هذا الكتاب لأول مرة باللغة الفرنسية في عام 2015 وترجمه لاحقاً إلى العربية جورج زيناتي مع مقدمة بقلم الحسين سحبان تحت عنوان " الغربُ وشَبَح ابن رشدٍ المُقلق" أشار فيها إلى السؤال المزدوج الذي يوجّهُ تفكير برونيه في كتابه هذا : " لماذا لم تمت الرشدية على الرغم من كل ما قوبلت به أطروحة ابن رشد من عداءٍ ومحاربةٍ لا هوادة فيها، بل ظلت صامدة تعاود الظهور حيناً بعد حينٍ في تاريخ الفكر الغربي منذ العصر الوسيط ؟ ولماذا يمتزج في تاريخها داخل هذا الفكر الانبهارُ بالرفض ؟ ". يتحدث كتاب برونيه كما يقول مؤلفه عن ابن رشد الذي اصبح بفعل ترجمة كتبه وتوزيعها واستعمالها: "من أهم ينابيع الثقافتين اليهودية واللاتينية في القرون الوسطى. غير أن السكولائية جعلت عمله فضيحة. فما حدث ودام عدة قرون في أوروبا هو أن ابن رشد أصبح الأب المعتوه لنظرية منحطَّ ومعادية للدين تتعلق بالإنسان "، وقد لجأ برونيه في كتابه هذا إلى  المفهوم النفسي الفرويدي " الغرابة المُقلِقة " ليتحدث عن الأمر الذي دفع توما الأكويني واللاهوتيين الأوربيين إلى اتخاذ هذا الموقف المعادي لفيلسوف قرطبة. وهذا ما يعود بنا إلى الكاتب العربي الكبير عباس محمود العقاد الذي أصدر قبل سبعين عاماً كتاباً عن ابن رشد اعتبر فيه أن من " أعجوبة الأعاجيب في نشأة ابن رشد أنه نشأ في دولة الموحدين وأنه تلقى التشجيع من أحد خلفائهم على الاشتغال بشرح أرسطو وتفسير موضوعات الفلسفة على العموم، وكان موضع العجب أن يأتي هذا التشجيع من أناس اشتهروا بالتزمت والمحافظة الشديدة على العلوم السلفية ".

وفي هذا السياق، يمكن النظر إلى جهود الباحث رواد محمد محمود في كتابه "القراءة الفلسفية في تفسير القرآن عند إبن رشد" - وهو في الأصل أطروحة دكتوراه في التفسير قُدمت إلى كلية الإلهيات في جامعة إسطنبول- حاول فيها أن يدلو بدلوه في علم بعيد نسبياً عن اهتمام الباحثين الذين بحثوا عادة في ميادين متعددة من فلسفة وفقه وطب قاضي قرطبة من دون أن يتنبهوا كثيراً إليه، وأعني تفسير القرآن عند إبن رشد، وقراءة هذا التفسير قراءة فلسفية، لإثبات حقيقة أن لا تعارض بين الحقائق الايمانية والبيانية والعقائدية، وبين البراهين والأقيسة والحجج الفلسفية والأدلة العقلية، مثلما أراد إبن رشد ذلك، وعمل عليه في مصنفاته الفلسفية التي وضعها من أجل تبيان هذه الحقيقة، مخالفاً قراءات الفقهاء والمتكلمين من قبله ومنهم أبو حامد الغزالي، وكذلك الفلاسفة من أمثال الكندي والفارابي وابن سينا في جهودهم ومحاولاتهم للتوفيق بين النقل والعقل، وبين الدين والفلسفة، والشريعة والحكمة، مما عرضه لحملة من الفقهاء والمتكلمين أدت إلى الإفتراء عليه والتسبب في نكبته المعروفة. وقد تمكن الباحث من بلورة أفكار جديدة في موضوع تفسير القرآن عند إبن رشد، قدمته مفسراً إلى جانب كونه فيلسوفاً وفقيهاً، من خلال فحص دقيق لكتابيه " فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال" و" الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة" من الناحية النظرية في الكتاب الأول، والتطبيقية في الكتاب الثاني، وبذلك فإنه يقدم المنظومة المعرفية للتفسير عند أبي الوليد مع بقية مؤلفاته، وفي المقدمة منها "تهافت التهافت" في وحدة منهجية متكاملة، ويغني المكتبة الرشدية ببحث جديد وأصيل في مادته وموضوعه، يذكرنا بكتب الحوارات بين الفلاسفة والمتكلمين وفي مقدمتها كتاب استاذنا الراحل حسام محيي الدين الآلوسي الشهير "حوار بين الفلاسفة والمتكلمين" الذي حظي باهتمام واسع من القراء والباحثين منذ صدوره قبل أكثر من نصف قرن، وبقي إلى يومنا هذا من المصادر الأساسية في المكتبات الأكاديمية العربية في موضوع تخصصه التي يشار اليها بين الدارسين اختصاراً باسم حوار الآلوسي، غير أن جهود الباحث قد تركزت على المنظومة المعرفية الرشدية المترابطة بين التهافت وفصل المقال ومناهج الأدلة .

ويقودنا هذا الكتاب وهو يمهد لبلورة موضوعه الأساس، في رحلة معرفية متسلسلة ومتشعبة وشائقة، تبدأ من المراحل الأولى لنشأة التفسير الفلسفي وعلم الكلام، ومفاهيم الفلسفة وفروعها، وطبيعة البحث في الموضوعات الإلهية بين الفلسفة وعلم الكلام، وظهور بوادر فلسفة التفسير على يد الماتريدي باستخدامه آلية التأويل العقلي متأثراً بالبيئة العقلية التي نمت نمواً عظيماً خلال القرنين الثالث والرابع الهجري، ثم ينتقل إلى الكندي والفارابي وابن سينا والغزالي الذين يمثلون نتاج انفتاح المسلمين على الفلسفة، مستعرضاً جهودهم الأولى في التفسير الفلسفي للقرآن الكريم، وفهمهم لمصطلحات فلسفية من قبيل قدم العالم وحدوثه، وأصل نظرية قدم العالم، وخصائص تفسير الفارابي وابن سينا على وجه التحديد وجدل العلماء حول قبول التفسير الفلسفي أو رفضه. بعد ذلك ينتقل البحث إلى حركة التفسير والفلسفة في الأندلس منذ الفتح وحتى عصر ابن رشد، من ابن مسرة وابن حزم وابن باجة وابن طفيل وصولاً إلى ابن رشد الذي دفعته إشكاليات توافق العقل والنقل، والتفرق والتكفير، والمنهج، إلى محاولة التوفيق بين الحكمة والشريعة. ثم يستعرض مفهوم الفلسفة وعلم الكلام والغرض من وحدتهما، ومشروعية الفلسفة عند ابن رشد من حيث الاستدلال بالقرآن وبعلم الأنبياء والمنطق. أما منهجه في تأويل القرآن فإن الكتاب يعرض الخطوات المدخلية لهذا المنهج من خلال قراءة في فصل المقال، وتأسيس السلطة الدينية، وضوابط المعرفة البرهانية، واستحالة الإجماع في النظريات، ووجوب النظر في كتب القدماء، والخطاب والتأويل، لينتقل بعدها إلى آليات ذلك المنهج متمثلة في أصول التأويل، والتأويل والمجاز، وقانون التأويل، ومبادئ التأويل وشروطه، والقول الديني والتأويل، والظاهر والباطن. ثم يستعرض منهج ابن رشد النقدي وخصائصه وقواعده في مواجهة المتكلمين، وموقفه من أهل الظاهر، والأشاعرة، والصوفية. وبعد هذه الرحلة المعرفية التأسيسية يصل الكتاب إلى مبتغاه في تأويلات إبن رشد الفلسفية بعرض منهجه البرهاني في إثبات وجود الله تعالى بدليلي العناية والإختراع، ومنهجه في القول بقدم العالم وحدوثه وفي التوحيد والصفات، وموقفه النقدي في مواجهة إبن سينا والغزالي، وصولاً إلى تطبيق التأويل الفلسفي على القرآن بتنزيه الله عن صفات المخلوقين كالمماثلة والتجسيم والجهة، وبأنه نور بحسب الآية الكريمة "اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ"، ثم يعرض قضية الله والإنسان من خلال بعث الرسل، والقضاء والقدر، والعدل والجور، والمعاد. ويختتم الكتاب غايته بالنظر في منهج تأويلات إبن رشد من منظور علم التفسير، وقيمة هذا المنهج وحدوده، وميوله إبن رشد الاعتقادية في الـتأويل الفلسفي للقرآن الكريم.

إن أهمية هذا الكتاب تكمن في الربط بين فعلي التفلسف والتفسير، واثبات صحة أركان العقائد الإسلامية بالأدلة العقلية المستمدة من النصوص القرآنية التي هي في جوهرها لا تتعارض مع المنطق والعقل السليم، ولعل غاية إبن رشد قد تعدت ذلك، فهو لا يرمي مثل الذين سبقوه إلى محاولة التوفيق بين الدين والفلسفة على ما في هذه المحاولة من هنات كثيرة، إنما غايته اثبات أن لا تعارض بين النص القرآني والبرهان العقلي، وان التفسير الفلسفي للقرآن هو من جنس التفسير العقلي الذي يستمد قوته من عقلانية النص نفسه لا من خارجه، ذلك أن المنهج الأعلى في علم التفسير هو تأويل القرآن بالقرآن ، وقد طبق إبن رشد هذا المنهج في تفسيره للآيات القرآنية للدلالة على أن القراءة الفلسفية في التفسير تراعي أصول وضوابط علم التفسير في تأويل النصوص القرآنية " فإن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له " مثلما يقول إبن رشد في كتابه فصل المقال .

أخيراً، فإن هذا الكتاب الذي بين أياديكم يمثل إضافة معرفية ممتازة ليس لمكتبة إبن رشد وحدها، إنما لعموم المكتبة العربية في الفلسفة الإسلامية وفي التفسير الفلسفي للقرآن الكريم، وهو جدير بأن يحتل مكانة مهمة في كتب المجادلات الفكرية والكلامية والفقهية والفلسفية التي تمثل خلاصة آراء الأولين الذين غامروا في سبر غور آفاق معرفية عقلية شاسعة أتاحها لهم التفكير الفلسفي في القضايا الكلامية الإسلامية الكبرى التي أثارها علم التوحيد وأصول الدين، أو ما يسمى بالفقه الأكبر الذي لم ينشأ كترفٍ فكري أو مغالطات جدلية، إنما لحاجة عقائدية مهمتها الأولى تعزيز التفكير العقلي عند المسلمين وهم يتفكرون في خالق هذ الكون وصفاته وقدرته وآيات خلقه، والرد على خصوم الإسلام ممن يتوهمون أنهم بالحجج العقلية البرهانية يدحضون عقائده، قبل أن تتوضح لهم أن آيات القرآن الكريم، لا تتناقض مع العقل والبرهان والتفكير الفلسفي، وما كان ذلك ليكون لولا جهود فلاسفة الإسلام، وفي مقدمتهم أبو الوليد بن رشد ، المُفترى عليه قديماً وحديثاً ! .

***

ا. د. طه جزاع

 

في المثقف اليوم