قراءة في كتاب

حاتم حميد محسن: ما بعد الكلمات.. قراءة في كتاب جديد

من المألوف اعتبار العديد من الأعمال الأدبية العظيمة كالقصائد والدراما والقصة بمعنى ما فلسفية. غير اننا منذ افلاطون كان هناك توترا بين التنظير المجرد الحاصل في الفلسفة والتركيز على تفاصيل محددة تحدث في الشعر والرواية. كتاب وراء الكلمات لتيموثي كليفلاند يعالج ويفصّل هذا التوتر الافلاطوني، مستفسراً بأي معنى يمكن للادب في صورة الشعر والدراما والقصة الصغيرة والرواية ان يساهم بشكل هام في الفهم الفلسفي. المؤلف يقترح ان شيئا ما في القصائد والرواية والقصص يجعلها ملائمة خصيصا لتوسيع وعينا وفهمنا لطبيعة الاشياء، والتي بدون ذلك لا يمكن ان تُقال ولا يمكن تصوّرها. هذه الأعمال الادبية تبيّن لنا بان هناك شيء لا يمكن للخطاب النظري (علمي او فلسفي) ان يقوله حرفيا.

يدعونا مؤلف كتاب ما وراء الكلمات ان نتصورعالما نجح فيه افلاطون في نفي الشعراء، و "الفيلسوف يحكم الدولة بطراز عقلاني تام" (ص9). ما يريده المؤلف يكون قد ضاع "في انتصار الطريقة الفلسفية هذه) . بالنسبة له الأمر واضح: "ما يتم ازالته الى جانب الشعراء وجميع أشكال التعبير الخلاّق، هو تلك الطريقة للتعبير الابتكاري الحاسم للاكتشاف والفهم والمعرفة" (ص10). يستمر المؤلف بالجدال ان احد المظاهر الحاسمة لهذه المعرفة، هو مظهر لايمكن نقله بأشكال اخرى للكتابة، يتصل بـ "أشياء نستطيع معرفتها او لدينا بصيرة بها لكنها لا يمكن قولها حرفيا في خطاب نظري"(ص11). انه بالضبط في هذا الميدان من ما لايقال (unsayable) يستطيع الادب إلقاء الضوء، وعندما ينجح في القيام بهذا، فان "الأفكار التي يمنحنا اياها لهذا المظهر من الواقع يجب ان تُعتبر فلسفة"(ص11).

هذا هو الادّعاء الرئيسي الذي يبدأ المؤلف في الدفاع عنه، واصفا كتابه كـ "مقدمة فلسفية للرواية ولما لايقال"(ص4). الكتاب يتجاوز ذلك. يمكن قرائته كتحليل للّغة وقدرتها على التعبير، لأنه يذكّرنا بمقدار فهمنا للعالم وتجربتنا، الخاصة والاجتماعية، التي تتقرر ليس فقط بقدرتنا اللسانية وانما بالإمكانات الدلالية (سيماتك) الموجودة في أي لغة معينة وفي أي وقت .

باعتباره تحليل لطرق معينة تزخر فيها الاعمال العظيمة للفن بالإمكانات المعرفية، الكتاب تذكير جميل بان الفن ينقل افكارا ليست افتراضية صارمة بل هي لا تُنقل بالحجج الدقيقة وانما هي ذات فائدة هائلة في انسجامنا مع تجاربنا وعواطفنا وعلم النفس الاخلاقي. قبل كل ذلك، الكتاب مساهمة ثمينة للنقاش حول حدود التحقيق الفلسفي، اضافة الى كونه اقتراح واضح الفهم حول الكيفية التي يمكن رؤية الفن مجسدا لفلسفة. انه يبدأ وينتهي بالتفكير في افلاطون، مذكّرا ايانا مرة اخرى لماذا المعركة القديمة لاتزال تهيمن على النقاشات المعاصرة حول قيمة الفن والعلم والفلسفة.

في الفصل الثاني، يبدأ الكاتب توضيح تجربة الـ (ما لايقال)، منورا ادّعائه بالاشارة لكانط و برادلي وفتجنشتاين وديفد فوستر والاس. التحدّي للكتاب او كما يقول المؤلف المفارقة – هي في توفير وسائل للحديث حول شيء ما حسب التعريف لايمكن التعبير عنه باللغة، اي، الـ ما لايقال ذاته. لكي يعطي جوهرا لهذه الفكرة، يستطلع الكاتب ما يراه أمثلة رئيسية لما لا يقال: التجربة الحسية والمعرفة عبر التعارف. ما يُعرّف هنا كاهتمام حاسم، يتردد على طول الكتاب، هو السؤال ما اذا كانت "تلك المعرفة ستكون في يوم ما يمكن التعبير عنها بافتراضات لنظرية مقبولة يمكن تقاسمها موضوعيا "(ص37). وكما يبين المؤلف في الفصل الثالث، ان التحدي هو ان نفهم الفرق بين اشياء لايمكن ان تقال من حيث المبدأ، واشياء لايمكن ان تقال بشكل تافه بسبب بعض القيود الابستمية.

الكثير من هذا الفصل يتصل بفهم وتطور اللغة – العملية التي يشير لها المؤلف كـ توسّع دلالي . تتخفى وراء افكاره رؤى فيتجشتاين وديفدسون حول اللغة والمعنى. تحليلات المؤلف لهذه الرؤى ترتقي صعودا الى ما يسميه "المأزق البنّاء"، الذي يستنتج "اما هناك شيء لا يمكن ان يقال او لايمكن التعبير عنه من حيث المبدأ، او انه في أية لغة، هناك وقت يكون فيه شيء لايقال او لا يمكن التعبير عنه في ذلك الوقت"(ص51). بالنسبة للكاتب، ما لا يُعبر عنه من حيث المبدأ يتقرر فقط بنوع من الحجة المتجاوزة، لكن حتى لو كان هناك مثل هذه الحجة، نحن لا نستطيع الاقتناع بها، لأنها لا توضح لماذا نحن عادة لدينا شعور بان الفن يوفر رؤى لما لايقال. والاكثر أهمية، هناك امثلة تاريخية متعددة تبين بانه، في أية لحظة معينة، القدرات التعبيرية لأي لغة هي محدودة، حتى لو تم بالنهاية إخضاع تلك الحدود. وهكذا، يدّعي الكاتب، "عندما تطوراللغة الطبيعية آفاقا للّغة – فان حدود ما يمكن قوله – يتقدم الى الأبد. فيما اذا كان هناك شيئا لا يمكن التعبير عنه بالمعنى الزمني (لا يتأثر بالزمن) او ان ما لايُعبر عنه هو فقط مؤقت، فان اللغة عندما تتطور وما كان مرة لايمكن التعبير عنه يصبح معبّرا عنه، عندئذ كل لغة جديدة سوف تدفع الافق مجددا - ولا تتجاوزه"(ص55). هذه الاشياء، التي لا يمكن التعبير عنها، و يمكن بيانها – تقودنا الى جوهر جدال الكاتب – و"في اي وقت، هناك اعمال ادبية عظيمة من القصة والشعر التي حقا تحقق هذا النوع من تجسيد ما لايقال. اذا كان الامر هكذا، فانها تكون ذات أهمية فلسفية"(ص55).

قبل التفصيل الكامل لهذا الادّعاء، يناقش الكاتب في الفصل الرابع فكرته عن البيان، من خلال الادب، الذي لايمكن قوله . نقاش الكاتب هنا هام جدا لتفسير الكيفية التي يبين لنا الفن فيها الاشياء، التي تبنّاها فيليب كيتشر Philip kitcher في تحليله المفصل لعمل توماس مان (موت في مدينة البندقية). في رؤية الكاتب، بينما تحليل كيتشر هو مساهمة قيّمة للنقاش حول المساهمة الفلسفية للفن، لكنه لايصطدم مع رؤيته الخاصة. أي ان نظرية كيتشر قابلة للتطبيق فقط على مواقف تبيّن فيها أعمال الادب شيء قيل بشكل مستقل من جانب الفلاسفة، وليس شيئا لايمكن قوله في وقت محدد. لكي نفهم بشكل ملائم فكرة مالايقال التي يمكن ان يبيّنها الادب، يعرض الكاتب في الفصل الخامس توضيحا كاملا لنظريته في بيان ما لا يمكن ان يقال، معتمدا على تحليل مكثف لـقصيدة (ويست لاند) – من خلال خياراتها الشكلية المحددة، "تعرض عاطفة معقدة غير مسماة لم تُلتقط في خطابنا السايكولوجي المعروف وانها ربما تتحدى هكذا استيعاب او تعبير في مثل هكذا عبارات مبسطة ومجردة" (87). الإلهام لمثل هكذا تحليلات يأتي من ت اس اليوت في كتاباته عن دانتي، الذي وفق رؤية اليوت له قابلية للتصور بوضوح اكثر من الناس العاديين ويمارس رقة عاطفية تتجسد للآخرين فقط بمساعدة الشاعر. الشاعر يمكن ان يجد طرقا لغوية جديدة للتعبير عن الاشياء، وهو ما يفسر لماذا هو يستطيع تمديد "الوعي العادي من خلال الاستعمال الخلاق للّغة الى وعي اكثر صقلا، واعترافا وفهما "(99).

وكما يحدد المؤلف في الختام، لو ان افلاطون ادرك هذه القابليات للتعبير الشعري، "لكان رحب بأهمية الشعراء، بحيث لايمكن الاستغناء عنهم كمساهمين في الفلسفة"(110). طالما افلاطون فشل في ادراك هذا، فمن حقنا ان لا نعيد هذا الخطأ.

هذا الاستنتاج ثمين والمؤلف يستحق التهنئة عليه لتذكيرنا حول النتائج المؤذية لعدم تقدير القيمة الادراكية للفن بشكل جاد. الكتاب ايضا تذكير ثمين بعدد من القضايا ظهرت بشكل متكرر طوال التاريخ مثل تلك المتعلقة بالاهمية الابستمية للشعراء والفنانين. ت اس اليوت في نظرته لدانتي قد يتخذ المرحلة الاساسية في تفكير المؤلف، لكن من المدهش نوعا ما ان الكاتب لايشير الى رؤية شيلي Shelley حول السيادة الابستمية للشاعر. رؤية بان الشعر يستمر وهو اكثر نجاحا في معالجة الاهتمامات الفلسفية التي تأسست جيدا ضمن نظريات الشعر، ناهيك عن القصائد ذاتها، التي طُورت من جانب شخصيات مثل هولدرلن وشيلي. نظرية المؤلف هي في هذا الجانب مساهمة لرؤية الشعر تأسست جيدا في التقليد الادبي، مع توسع اضافي الى القصة. بالطبع، قد يتسائل المرء ما اذا كان نفس النوع من الآليات التي تمكّن الشعر من بيان اللامعبّر عنه هي ذاتها تعمل في القصة، نتيجة للاختلافات في المظاهر الشكلية لطريقتين في الكتابة، لكن الكاتب غير مهتم بهذه الفروقات ويعزي هذه القابلية الى أعمال الادب (والى فيلم تيرنس مالك Terrence Malick الخط الاحمر الرفيع ) بشكل مستقل عما لو كانت قصة او ادب او شعر . مع ذلك، فان النظرة للقدرات الابستمية واللغوية للكتاب تستحق التعامل معها بشكل اكثر جدية، في ضوء حجم الاعمال العظيمة للفن الادبي التي تتركنا مندهشين بقوتها في جلب انتباهنا للاشياء التي لم نكن في السابق مطلعين عليها. غير ان ما مفقود من تفسيره هو ارضية ابستمية اكثر تفصيلا لنظريته: مثلا، ما الذي يبرر للقارئ في قبول الرؤى التي عرضها الادب؟ كم بالضبط يعترف المرء، يفسر او يستجيب لمثل هكذا بيان وكم سيستمر تأثيرها؟ ما الذي يجعل الكتّاب ذوي سلطة بشأن الرؤى التي يوفرونها؟ كل هذه الاسئلة ذات أهمية ملحة في النقاشات المعاصرة للقيمة الادراكية والطموح الفلسفي للادب والتي يجب معالجتها في تطوير نظرية حول ماذا يمكن ان ينجز الادب لنا ادراكيا. بما ان الكاتب صامت في هذه القضايا، فان الكتاب يُحتمل ان يناسب بشكل افضل اولئك الذين يعملون ضمن فلسفة اللغة، نظرا للاهتمام الذي يوليه الكاتب في مناقشة التعبيرية.

مفكر آخر كانت رؤاه في الشعر مشابهة للمؤلف هو كانط لكن المؤلف لايشير له رغم انه يناقش آراء كانط حول اشياء تقع وراء معرفتنا التجريبية. في كتابه نقد سلطة الحكم يجادل كانط ان الشعر هو الأعلى بين الفنون، يشغل هذا المكان الخاص بسبب قدرته في التعبيرعن اشياء بدونه لايمكن العبير عنها. وبينما بالنسبة لكانط ذلك لا يرفع الشعر الى الفلسفة، لكن الشعر بالنهاية قادر على تنوير المفاهيم الميتافيزيقية من خلال عرضه للافكار الجمالية. كذلك، كان كانط ايضا حساسا لقدرة الشعر على تمثيل ما يتم تقديمه في التجربة ولكن ليس كاملا كما في الوصف الشعري ذاته. يكتب كانط : "الشاعر يغامر ليصنع افكارا عقلانية منطقية لأشياء غير مرئية، مملكة الخير، مملكة الجحيم، الخلود، الخلق، وغيرها بالاضافة ليجعل من تجارب الموت، الحسد وكل انواع الشر، وكذلك الحب والشهرة، اشياء معقولة تتجاوز حدود التجربة، وبإكتمال يتعدى أي شيء له مثال في الطبيعة".

نظرية الكاتب تتضمن ان الادب هو "خطوة للامام" بالمقارنة مع العلوم والفلسفة في توفير رؤى حول مختلف مجالات التجربة. اذا كان ذلك هو الموقف، هنا يبرز الخوف (عادة يتم ابرازه من جانب مفكرين مضادين للجمال مثل افلاطون او بيتر لامارك (2007): في ضوء القدرة الفريدة للادب، لماذا لم يُمنح اي اعتراف لرؤاه خارج الحلقة الصغيرة للمتحمسين الادبيين الذين ليس لديهم اي دليل اخر لدعم ادعائاتهم ماعدى تجربتهم الشخصية؟ كذلك الى اي حد يمكن تبرير الكاتب في ادّعائه ان مثل هذه القدرة للادب هي بالنهاية اسلوب لعمل الفلسفة؟ ايضا، هل الادّعاء يفترض سلفا ان القيمة الادراكية للادب تُختزل الى مقدرته على عمل فلسفة؟

يقترح الكاتب ان الادب عادة ينجح بما لا تنجح به الفلسفة – يعطينا مدخلا لأشياء لا نستطيع وضع ايدينا عليها – ويضيف في قوله هنا الادب عندما يقوم بهذا فهو في الحقيقة يقوم بعمل فلسفة.

ومن جهة اخرى، من المثير للتساؤل ما اذا كان الكاتب يستطيع وصف قدرة معينة للادب ليبين ان ما لا يُعبر عنه كـ "عمل فلسفة"، خاصة بعد الإعلان ان الفلسفة ذاتها تبقى صامتة في هذه القضايا. الادّعاء ذاته يفترض سلفا رؤية قوية حول ماهية الفلسفة، وهي ليست بالضرورة مقبولة على نطاق واسع.

رغم هذه المخاوف، يُنصح بقراءة الكتاب من قبل أي شخص مهتم بالأسئلة المتعلقة بالادب والفلسفة والتي تعود لمعركة قديمة. من المهم جدا ادراك اننا في عصر تتضائل به الأبجدية بسرعة وان القليل والقليل من الناس يستطيعون القراءة، وحيث تتراجع الانسانيات حول العالم مقابل هيمنة المواضيع الاكاديمية الاربعة (علوم، تكنلوجيا، هندسة، رياضيات)، فان كتاب ما وراء الكلمات يجعلنا بأمس الحاجة له كتذكير بان اشياء معينة هي وراء الفهم النظري، يمكن بيانها لنا بالفن.

***

حاتم حميد محسن

...........................

* كتاب ما وراء الكلمات: الفلسفة، الرواية وما لايقال للكاتب تيموثي كليفلاند صدر عام 2022 عن دار Lexington Books في 140 صفحة.

في المثقف اليوم