قراءة في كتاب

عبد الحق الزموري: الدين والكرامة الإنسانية للرفاعي: جدل المؤمن أم جدل الإنسان؟

صدر للصديق العراقي الدكتور عبد الجبار الرفاعي منذ سنتين كتاب جديد في سلسلته الخماسية في فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد، بعنوان "الدين والكرامة الإنسانية"، وقد صدرت طبعته الثانية المزيدة والمنقّحة سنة 2022 عن دار الرافدين بالعراق. ينقسم الكتاب (وقد ورد في 340 ص) إلى ستة فصول، يمكن إجمالها في قسمين كبيرين يتساويان في عدد الفصول، يتناول في الأول مسائل الإيمان والدين والتديّن، وفي الثاني مسائل الكرامة وبنيتها الأخلاقية الإنسانية.

يضع عبد الجبار الرفاعي خارطة طريق مرسومة بعناية ووضوح لمن يهمه دراسة أعماله، يتدرج فيها بخطوات تبدأ من معرفة الإنسان، إلى معرفة الدين، والوحي، والنبوة، والإسلام. في ضوء ذلك يبتني الفكر الديني كما يشدد هو على: إعادة تعريف الإنسان، ويتفرع عليه إعادة تعريف الدين ورسم حدوده، ويتفرع عليه إعادة تعريف الوحي، ويتفرع عليه إعادة تعريف النبوة، ويتفرع عليه إعادة تعريف الإسلام ورسم حدوده. "الدينُ حياةٌ في أُفق المعنى، تفرضُه حاجةُ الإنسان الوجودية لإنتاجِ معنىً روحي وأخلاقي وجمالي لحياتِه الفردية والمجتمعية" كما يعرّفه الرفاعي، وفي ضوء هذا التعريف توالدت كل كتاباته، ورؤيته لله والإنسان والعالم. يندرج هذا الكتاب،كما يعبّر الرفاعي عن ذلك في كل مرّة يتعرض فيها لأعماله كتابةً أم مشافهة، في ما يسمّيه "تنويعات لرؤية واحدة، رؤية تحاول أن تتعرّف على الدين عبر اكتشاف الانسان".3159 الدين والكرامة الانسانية

ما فتئ الرفاعي يُخبرنا إنه يدعو إلى الإيمان باعتباره حاجة أنطولوجية للإنسان، لكنه ينأى بنفسه عن أشكال التدين المعلومة، ويختار إعادة اكتشاف الدين عبر كرامة الانسان الأصلية، مؤكدا أن أي جُهد تجديدي في المجال لا بد أن يبدأ بإعادة تعريف الانسان والدين، وبالتالي فهو يقترح علينا تعريفه الخاص للدين جاعلا "الإنسان وكرامته وسكينته وطمأنينته وإسعاده غاية ما ينشده الدين"؛ بل إنه يذهب أبعد من ذلك عندما يُعلن بصرامة إن "المعيار الكلي لاختبار إنسانية أي دين هو كيفية تعاطيه وإعلائه للكرامة الإنسانية، والموقع الذي تحتله الكرامة في منظومة القيم لديه". يصف الرفاعي عمله هذا بقوله: هذا كتابٌ ينطلقُ من الإنسان إلى الدين، مفتاحُ فهمه للدين ونصوصه هو الكرامةُ الإنسانية بوصفها مقصدَ مقاصد الدين.‏ الإنسانُ يولَد مُكرّمًا، لا يكتسبُ الإنسانُ الكرامةَ بعدَ ولادته، الكرامةُ توجدُ بوجودِ الإنسان وتلبث معه أبدًا حيثما كان. الكرامةُ رديفةُ الاستخلاف، خليفةُ الله في الأرض جعله قَيِّمًا وحافِظًا ووكيلًا ونائبًا عنه في الأرض، "مقدمة الطبعة الثانية للدين والكرامة الإنسانية".

ولأن الرفاعي في كتابته لا يتحرك في فضاء الأكاديميا وصرامتها المنهجية والنظرية "التجريدية" أحيانا، بل من صيرورة الدين الحية وديناميكيتها، سواء في استعماله لجزالة الكلمة وسيولتها، أو في استهدافه لجمهور واسع ومتنوع من المتلقين، فإنه لا يتحرج في وضع سياقات عملية لنجاح المقترح الإيماني الذي يدعو إليه، عندما يذهب إلى أن قوة الأفكار الواردة في الكتاب "لا تكفي وحدها لتطبيقها" ما لم تتبناها سلطة سياسية تفرضها، ومؤسسة دينية تتبناها، وحاضنة مجتمعية تلوذ بها. هنا نخرج سريعا (وبدون مقدمات أو تبرير عقلي ربما) من ساحة الوجود الانطولوجي التكويني للكرامة إلى ساحة الفاعل المجتمعي ذي الأدوات "القهرية" في مقاربة تلك الكرامة وفي تحويلها إلى "تشكيل" ينافح عنها.

ورغم إن تلك المعادلة / التقاطع تحتاج إلى نقاش واسع، إلا أن ذلك لا ينفي المهارة الفائقة التي عالج بها عبد الجبار الرفاعي واحدة من القضايا الشائكة في سياقات الفكر الديني، ولا يحجب الشجاعة التي خطّ بها طريقه رفضًا لصور الدين وأشكال التدين التي تنصّبُ نفسها متعالية على الكرامة الإنسانية، ومتعرضا بسببها إلى التصادم مع جمهور عريض من المتدينين، وهو المؤمن سليل الحوزة العلمية في النجف وقم.

***

عبد الحق الزموري -  كاتب تونسي.

في المثقف اليوم