قراءة في كتاب

شميسة غربي "فتح الإله".. إرْثٌ ثقافي بنكْهَة ذاتية

نحُطُّ الرّحال عند أحد ركائز موروثنا الثقافي؛ ونُسجّلُ بكل فخر وأريحية؛ تميُّزَ تلك الممارسات الكتابية التي برْهنتْ عنْ علُوّ كعْبِ أبناء هذه الأمة في حلبة النّتاج الفكري بِعَديد خلفياته وبتبايُنِ صِيَغهِ ( شعر/ نثر)

آثرتُ في هذه الكلمة الموجَزَة؛ الاستئناس بشذرات من بوح "محمد أبي راس الناصري" وهو يمتطي صهوة السيرة والرحلة في آنٍ واحد. يعزف من خلالهما على وتر إفراغ الذات وتعرية النفس المبدعة في جميع أطوارها وعلى اختلاف تموْضُعاتِها.. نجدُهُ تارة؛ يسْتلطف بعض الأحداث فيرْويها بشغف.. ويمْتعِض مِن أخْرَياتٍ فيرْوِيها بقرف..! وفي الموْقِفَيْنِ؛ يبرز وعْيُ الكاتب بحقيقة هذا العالَم المُتدحْرِج.. عالَمٌ قدْ يصحُّ فيه قول "شوبنهاور": " لا أشتهي أن أكون صانع هذا العالَم.. منظرُ هذا العالَم؛ يُفتّتُ كبدي "

يُجسِّدُ كتاب "فتح الإله ومنته في التّحدّث بفضل ربّي ونعمته"؛ نسقاً معيّنا في حياة أبي راس الناصري على امتداد خمسة أبوابٍ؛ تمتح كثافتها من غزارة الحكيِ وشيوع الاستطراد وتقصّي الأخبار في مظانها مع هيْمنة النّزْعَة الفخْريَة المبْنية على تعظيم النّفس في بعض المرويات.

بعد حديثه عن الانتماء والعائلة بتفصيلٍ جَليٍّ (الوالد، الوالدة، الأخ الأكبر..) ثمّ بعد سرده لمشوار التكوين العلمي والثقافي؛ يلْتفتُ الكاتب بين الفينة والأخرى إلى توثيق مشاهد عَصِية لم يستطع نسيانها.. الألم عندهُ؛ يخترق الكتمان، فإذا به يُدوّنُ المعاناة: " وقدِ استمررتُ عشرين سنين عرْياناً، لا لِباس لي؛ إلا خرق كالعدم، وما لبستُ نَعْلاً إلى أنْ قرُبَ صوْمي. ولمّا قدرتُ على السّعْيِ؛ صِرْتُ أطلُبُ منَ البُيوتِ، ثمّ أبيعُ وأُكْسى.." فتح الاله، ص 19. ويحكي عمّنْ استغلّ صغر سنّه فيقول: " ولمّا رأى منّي سمةَ صِغَر السنّ؛ كثُرَ تسخيره لي، ومن جملة ذلك؛ غسل ثيابهِ وثيابُ أهلهِ وأولادهِ، وكان يوصيني إن أنا صفيتهم بذهاب ماء الصابون، أضربُ على الحواشي بعْد جمعهمْ على الصّفاح بماءٍ ليذهب الطّيُّ والتّكماش. فلله درّهُ! ما أحسنَ مُعاشَرَتَهُ!" (الحديث عن الشيخ المشرفي المتوفى سنة 1192 هـ)

غير أنّ هذا الألم؛ لا يلبث أن يتوارى وسط مستجدّاتٍ سوف تؤثّثُ لذيوع الصيت؛ وذلك بعد حادثة الرّؤْيا التي حكى عنها.. وهو ما سيشجعه على وُلوج بساتين العلوم، يقول: " صرتُ في المصنّف؛ لا يشق غباري، ولا يجري سابق في مضماري.. وظهرت عليّ مخايل دعوة الأشياخ.. تنافَسَ الأشياخُ في أخْذي لتدْريس أوْلادِهم.." ص 24. هذا الصّيت سيصعد به إلى تقلّد مناصب هامة آنذاك، يقول: "ولمّا رجعتُ، قُلّدْتُ الفتوى، ثم القضاء والخطابة." ص 24.

كثُرتْ تنقّلات الكاتب؛ وكان له في كل تنقّلٍ لقاءات مكثفة مع العلماء داخل الجزائر وخارجها. يقول: " فأول رحلتي للجزائر العاصمة.. فلقيت بها الفقيه المسمّى الشيخ القاضي المفتي السيد محمد بن جعدون.. ولقيت قاضيها – إذْ ذاكَ – الفقيه الدّارك الشيخ محمد بن مالك، فضيّفني وجمع العلماء عليّ.. وتمادَوْا وسألوني أسئلة صعاب عظيمة.. إلى أنْ أظهرني الله عليهمْ." يزدادُ نبوغه اثناء هذه التنقلات إلى كلٍّ من قسنطينة، تلمسان، تونس، المغرب، مصر، أمّ القرى، الرملة (فلسطين) غزة، العريش وعن هذه الأخيرة يحكي: " ثم رحلتُ إلى العريش؛ فلم أجدْ بها عالماً آنَسُ إليْه، ويكون التّعويلُ عليْهِ."

كانت هذه ورقة مختصرة عن احد عمداء الإرث الثقافي الجزائري ويكفينا فخرا أنه نافس بعلمه وبصيرته الجهابذة في كل رقعة وصلت قدمُه إليْها.

هؤلاء قومي؛ فجئني بمِثْلِهم

إذا جمعتنا يا جرير المجامعُ

***

شميسة غربي / سيدي بلعباس

في المثقف اليوم