قراءة في كتاب

علي حسين: القبض على فالتر بنيامين في ابو ظبي

عام 2014 اصدرت دار كلمة الاماراتية كتاب "طفولة برلينية" للمفكر الالماني فالتر بنيامين، وكنت ولازلت مغرما بكتاباته واسعى للحصول على ما يترجم من كتبه. ولان كتابه " طفولة برلينية " يروي جانبا من سيرته كنت اوصي الاصدقاء الذين يذهبون الى المعارض العربية على نسخة منه وكانت جهودي للاسف تنتهي جميعها بالفشل، وعندما ذهبت الى معرض القاهرة كان اول سؤال اطرحه على مسؤول دار كلمة هل يوجد كتاب " طفولة برلينية " فكان جوابه محيرا: انتهت النسخ وتكرر الامر في معرض تونس، وكنت مطمئنا بان الكتاب سيكون بحوزتي وانا ادخل جناح دار كلمة في معرض ابو ظبي للكتاب، إلتزامه سيدة تتولى السيدة مسؤولية الجناح ستجهض محاولاتي وهي تقول: الكتاب نافذ وبعدان حدثتها عن بحثي المتواصل عن الكتاب، اشفقت على حالي لتتصل بموظف المخزن تطلب منه ان يبحث عن نسخة لقارئ عراقي يطارد هذا الكتاب بين المعارض، ووعدتني خيرا وفي سرها بتقول ما بال هذا الرجل متلهف على هذا الكتاب. في اليوم التالي ما ان دخلت جناح كلمة، حتى اخبروني بان هناك نسخة احضروها لي، وان مبلغها مدفوع من الدار تقديرا لاهتمامي بمطبوعات كلمة.

في عام 1940، كان المفكر والناقد الثقافي فالتر بنيامين قد اتعبه السفر والتنقل بين البلدان بسبب مطاردة النازية له، كان هاربا منذ صعود هتلر الى قمة السلطة، ولم يساعده رفاقه اعضاء مدرسة فرانكفورت، فقرر ان ينهي رحلة الحياة المتعبة بعد ان بلغ به اليأس حدا لا يطاق، تناول العلبة التي يضعها قرب السرير يفرغ منها " ٢٥ " قرصا يبتلعها مرة واحدة لتنتهي حياة واحدا من اهم مفكري القرن العشرين. مات بنيامين عن " 48 عاما وبعد اكثر من اربعين عاما عثر على مخطوط كتابه " طفولة برلينية " مصادفة في احدى مكتبات باريس.

يكتب في احدى صفحات كتابه ان " القراءة والكتابة هما الشيئان اللذان كانا يخصانني، فليس ثمَّ شيء مما سكن داخلي في سنواتي الأولى يثير فيَّ حنينًا أكبر من صندوق القراءة. كان يضمُّ في داخله الحروف على هيئة أقراص صغيرة بخط الكتابة المائل، الذي بدا أكثر صِبًا ورقّة من الخط المطبوع، وقد رقدت الحروف برشاقة في موضعها المائل داخل الصندوق، كل واحد منها كان مكتملًا بذاته، وكانت مترابطة في ترتيب وفقًا لقواعد طائفتها التي تنتمي لها انتماء الراهبات لطائفة ما، هكذا كان تعامل يديَّ مع الحروف مفعمًا بنكران الذات. الحنين الذي يوقظه صندوق القراءة فيَّ كيف أنه كان متوحدًا لدرجة كبيرة مع طفولتي، ما كنتُ أبحث عنه فيه كان في الحقيقة هو الطفولة كلها"

تبدو المدينة عند فالتر بنيامين، اشبه بكتاب حيث كان طوال حياته يتحدث عن الكتب وكانها رفيق لحياة يومية تطاردها الكوابيس والمخاطر.

لا يبدو كتاب " طفولة برلينية " مجرد سيرة مثقف يتذكر سنوات طفولته، بل هو نص أدبي يحفر في ذاكرة العلاقة بين المكان والزمان.

في الفصل القصير المعنون " كتب الصبيان " يقيم بنيامين علاقة وجدانية مع الكتب التي قرأها طفلاً فيقول: «كنت أحصل من مكتبة المدرسة على أكثر الكتب المحببة إليَّ "، ويكشف لنا عن طريقته في قراءة تلك الكتب: " في أثناء القراءة كنت أسد أذني، ألم يحدث، في يوم من الأيام، أن استمعت لحكاية بلا صوت؟". ويؤكد ان القراءة والكتابة : " هما الشيئان اللذان كانا يخصانني، فليس ثمَّ شيء مما سكن داخلي في سنواتي الأولى يثير فيَّ حنيناً أكبر من صندوق القراءة ".

من خلال صندوق القراءة استطاع الصبي الصغير ان يقرأ قصة مدينتين لتشارلز ديكنز، والكثير من القصص والروايات، وكان يشعر وهو يمسك الكتاب بيده : " بجو احتفالي مثل شخص يضع قدمه على أرض جديدة، وبالفعل كانت أرضاً جديدة تلك التي تزحزحت فيها القرم والقاهرة، وبابل وبغداد، وألاسكا وطشقند، ودلفي وديترويت، لتصبح قريبة جداً من بعضها بعضاً مثل ميداليات علب السيجار الذهبية التي كنتُ أجمعها".

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

في المثقف اليوم