قراءة في كتاب

صابر مولاي احمد: قراءة وتقديم كتاب: الحداثة ومركزية الرؤية العلمية

قراءة وتقديم كتاب: "الحداثة ومركزية الرؤية العلمية" للمؤلف محسن المحمدي

يعد اختراع المطبعة من لذن "غولدسميث يوهان غوتنبرغ " في ألمانيا نحو عام 1440م، نقطة بداية ظهور الحداثة من جهة الجانب التقني، فبفضل آلة الطباعة انتشرت التصورات والآراء المختلفة على المستوى العلمي والادبي ... الأمر الذي نتج عنه تشكل عقلية جديدة تأسست مع مرور الزمن طيلة ثلاث قرون على مبدأ مركزية العقل في التفكير، لتجد أوروبا نفسها في القرن 19م تملك من القوة ما لا يملكه غيرها.

الحداثة الأوربية في العالم الإسلامي في القرن 19م كانت موضوع اكتشاف، بدءا برحلة رفاعة رافع الطهطاوي إلى باريز (-1873م) وكتابه الشهير "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" فمنذ تلك اللحظة الفارقة، وموضوع الحداثة وما ارتبط بها من المفاهيم والتصورات عن طبيعة الكون والحياة والانسان موضوع جدل وأخذ ورد، بين مؤيد ومعارض، فهناك من انبهر كثيرا بمقتضيات الحداثة وتبعاتها إلى درجة أنه يراها بعين القداسة التي لا تقبل أي نقد ومراجعة وتحليل وإعادة نظر، وهناك رأى فيها بكونها أمرا دخيلا على تصورات البلاد والعباد، وهي مفسدة لأفكار الناس واعتقاداتهم وسلوكهم اليومي، في وقت رأى فيه أخرون، بكون الحداثة واقع محتوم لا مفر منه فأمرها يرتبط بواقع التقنية التي تحيط بالإنسان من كل جانب في كل مكان، ومن ثم ينبغي التمييز بين الحداثة والتحديث.

فالحداثة هي كل ما اتصل بالتصورات العقلية لدى الانسان وببنية الدولة، أما التحديث فهو كل ما اتصل بالتقنية في مختلف جوانب الحياة الاجتماعية، وقد ميز البعض بين الحداثة وروح الحداثة، فمع الحداثة نقع في الاتباع والتقليد، ومع روح الحداثة نجد أنفسنا في دائرة الابداع والتجديد، وقد نجد البعض الآخر يستحضر في حديثه عن الحداثة، الحديث عم بعد الحداثة.

الكتب والأبحاث التي اعتنت بفهم وتحليل العلم وما صاحبه من تطورات في مختلف مجالات المعرفة في صلة ذلك بموضوع الحداثة، ليست كثيرة أو غير كافية بالقدر المطلوب في العالم الإسلامي، ومن هنا تأتي أهمية وفرادة كتاب الدكتور محسن المحمدي "الحداثة ومركزية الرؤية العلمية" الصادر عن دار أدب للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، ط.1،2022م، فالمؤلف بذل كلما في وسعه ليقارب الحداثة من زاوية العلم وتحولاته وتأثيراته على الفرد والمجتمع عبر الزمن، الأمر الذي جعل متن الكتاب ينفصل عن المقاربات الأيدلوجية سواء تلك التي همها تلميع صورة الحداثة أو تلك التي همها تبخيس صورتها.

الكتاب من الحجم المتوسط، يغطي 430 صفحة، ومن ثلاث فصول، الفصل الأول: الحداثة بين السياق الأربي والاستقبال العربي. الفصل الثاني: التأسيس العلمي للحداثة. الفصل الثالث: العلم (الفلك) وكونية الحداثة. فصول الكتاب ولبناته بعضها يفضي إلى البعض الآخر.

قد يظن البعض أن الكتابة حول موضوع الحداثة وإشكالاتها، موضوع مستهلك، ولكن حقيقة الأمر أن هذا الموضوع له راهنيته ليس على المستوى المحلي فقط، بل على المستوى العالمي، ولكن كيف ذلك؟ وهذا سؤال يتولد عنه سؤال آخر مفاده، ما الذي ساهمت الحداثة في أن يكسبه الانسان اليوم؟

الإنسان يكسب العلم/ التقنية، فبتعبير مارتن هايدجر(– 1976) “العلم لا يفكر” "فعلى رغم وهم التحكم في الطبيعة وفي الإنسان، الذي ما تنفك التقنية تنشره، وعلى رغم وهم الضبط والعقلنة والتنظيم الذي ما يفتأ العلم يرسّخها، فإنهما (التقنية والعلم)، سرعان ما يدفعان الإنسان نحو تشكيل مدخرات هائلة من الطاقة تنفلت من كل عقلنة، ونحو نهَم الاستهلاك الذي لا تحدّه حدود، فيجران العقل إلى أن يعمل ضد كل تعقل، بل إنهما قد يعملان في النهاية ضد الإنسان ذاته."1 وعندما نتحدث هنا عن الإنسان ففي الأعم هو الإنسان الذي تشكل "جهازه المفاهمي وفق هذا الاكتساح للأسلوب العلمي وتوغله في جميع مناحي الحياة بوعي أو لا وعي منه "2  ومن هذا الذي كان يظن أن العلم في بعض من نتائجه سيكون سببا في معانات الانسان "لا شيء كان ينذر عند قيام أول المعارف العلمية منذ بضعة آلاف من السنين بأن العلم سيواجه يومًا ما مخاطر التعارض مع مصالح البشر."3

القرآن لا يرجع المشكلة إلى العلم، بل يرجعها إلى الإنسان؛ فهو مصدر الفعل، فالقرآن منذ البدئ ربط العلم والمعرفة بالفعل لدى الإنسان، أي بالقيمة الأخلاقية لديه، قال تعالى: " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) "(العلق) فهي قراءة في الخلق باسم الخالق، فمن الخالق نستمد الخلق والأخلاق، قال تعالى: "وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)" (النحل).  فالإنسان عندما يعرض عن المثل الأعلى، لطارئ أو لظرف ثقافي أو حضاري معين، سيتيه ويفقد الوجهة وقد يكون فعله سببا في شقائه، ويلقي بالتهمة على العلم والتقنية، وهو الوضع الذي عبرت عنه الآية قال تعالى: " ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)" (الروم)

ففي تقديرنا، أن فهم الحداثة من زاوية مركزية الرؤية العلمية، بمعزل عن المقاربات السطحية والأيدلوجية، ستجعلنا نفهم أكثر، أبعاد ها الإنسانية وأبعادها التي سارت ضد الانسان ووجوده بشكل أكبر، فوضع حدّ لأعطاب ومنزلقات الحداثة، لست مسألة وعظ وخطاب أخلاقوي  في المسجد أو الكنيسة أو الدير أو الجامعة ، بقدر ما هي مسألة  كد وجد واجتهاد، في تجديد فهم الوجود، بمعنى مختلف عما سبق، يحزم فيه الانسان نفسه بمعونة الله قال تعالى: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (4)"(الفاتحة) قبل أن يركب مركب العلم والمعرفة المعاصرة، وقد عبر هايدغر بقوله: «لن ينقذنا سوى الله».

***

بقلم: صابر مولاي احمد

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية

...........................

1- عبد السلام بن عبد العالي، موقع مجلة الفيصل، العلم، هل يفكّر؟ بتاريخ: 1/1/2021م،

https://www.alfaisalmag.com/?p=19874

2- محسن المحمدي، الحداثة ومركزية الرؤية العلمية، دار أدب للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، ط.1،2022م، ص.11

3- عبد السلام بن عبد العالي، م.س

في المثقف اليوم