قراءة في كتاب

نبيل الربيعي: قراءة مختصرة لكتاب الشيخ هشام الخفاجي (وضع الأيدي على تُرهات علي الوردي)

(بداية الحكمة أن تُسمي الاشياء بأسمائها الحقيقية) مثل صيني

الأستاذ والمؤرخ وعالم الاجتماع العراقي علي الوردي (1913-1995م)، عُرف بتبنيه للنظريات الاجتماعية الحديثة في وقته، لتحليل الواقع الاجتماعي العراقي، وكذلك استخدم تلك النظريات بغرض تحليل بعض الأحداث التاريخية، كما فعل في كتاب وعاظ السلاطين. ومهما قيل في العلامة علي الوردي لا يضاف لما ذكره مئات الكُتّاب، فهذا الأكاديمي الذي يُعَدّ أكثر الكُتّاب العراقيين شهرة وجماهيرية. فالرجل حاربه نظام البعث بسبب صراحته في تحليل الشخصية العراقية، وقضى أيامه الأخيرة مريضاً في مستشفى في عَمّان، وبحسب عبد المنعم الناصر فإن الملك الحسين بن طلال تكفّل بعلاجه، لأن نظام صدام حسين لم يكن راضياً عنه. واليوم يحاربه البعض بسبب تحليله العلمي لشخصية الفرد العراقي.

وعلي الوردي يسند كل فضيلة في الشخص للعامل الوراثي والعامل البيئي، وحين أرادوا أن يكرموه بجائزة لتفوقه رفض تسلمها، مدعياً أن لا فضل له في تفوقه الدراسي، يقول: ما أنا إلا حصيلة عوامل بيئية ووراثية ولا فضل لشخصي في شيءٍ مما فعلت، هي البيئة وهي الوراثة. هكذا يتحدث. ويقول: تطورت أخلاق البادية حتى ضاعت وتبدلت، وتطورت المدينة حتى ضاعت أخلاقها وتبدلت. ولا يتحدث عن أن قيماً ما حلت محل قيمٍ أخرى فأزاحتها.

ويرى الأستاذ سلمان رشيد محمد الهلالي في مقال له بعنوان (الدوافع الايديولوجية والسياسية والذاتية في الهجوم على الدكتور علي الوردي - القسم الثالث) على موقع الحوار المتمدن العدد: 5947 في 29/7/2018؛ حول الهجوم على الوردي والتي اغلبها دوافع من قبل الإسلاميين، قائلاً: (إذا كان الدكتور الوردي قد استند في نقده للإيديولوجية الماركسية والقومية على أسس من القيَّم الليبرالية التي ينادي بها، فأن انتقاده للإيديولوجية الاسلامية قد استند على أسس من العلمانية والتغريب فضلا عن القيَّم الليبرالية والاصلاحية التي ينادي بها اصلاً. والمفارقة أن الوردي لم يوجه نقده للإسلام السياسي والثوري الذي هو سائداً اليوم في العراق والعالم العربي والإسلامي، لأنه لم يتبلور آنذاك بقوة في حياة الوردي، وإنما كان نقده منصباً على الإسلام التقليدي والطرح التبريري للإسلاميين، بل وإذا شئنا الدقة فأن الوردي يطالب بالإسلام الثوري والاصلاحي في مؤلفاته وينتقد المهادنة والتَقية والاجترار، وهي نفس الأطروحة التي نادى بها لاحقاً الدكتور علي شريعتي في إيران، في اطروحته الشهيرة عن التشيع العلوي والتشيع الصفوي).

والإسلاميين ماضياً وحاضراً يتحسسون ويمتعضون من مؤلفات الوردي جميعاً وخاصة في اعقاب صدور كتابه الثاني (وعاظ السلاطين)، وما زال سابقاً ولاحقاً مثيراً للجدل. إلا أن اقوى الاعتراضات على كتاب (وعاظ السلاطين) قد جاءت حينها من عائلة آل الخالصي الدينية في الكاظمية، فقد اهدروا دم الوردي وأرادوا قتله مرتين. وذكر الحادثة أيضاً الدكتور حسان علي الوردي - نجل الوردي الأكبر - وهو يصف هذه الملابسات نفسها ولكن من زاوية اخرى، وذلك في الكلمة التي ألقاها بمناسبة مرور عامين على وفاة والده في مجلس الشيخ (عيسى الخاقاني) يوم 14/7/1997: (إن الحادثة المهمة التي تأثرنا بها كثيرا كعائلة كانت عند صدور كتاب وعاظ السلاطين، الذي أثار ضجة كبيرة جداً في المجتمع وخاصة بين رجال الدين الذين وصلوا إلى درجة شتمه وعائلته على المنابر في خطب الجمعة وتهديده بالقتل. فاضطرت الحكومة إلى أخذ والدي إلى أحد مراكز الشرطة في الكاظمية لمدة ثلاثة أيام حماية له، وجمعت نسخ الكتاب من الأسواق. وأتذكر أن أحد الوزراء من بيت الخالصي اتصل تلفونيا بوالدتي وطمأنها على والدي، وكان الوزير من أقارب الشيخ محمد الخالصي الذي هدده بسفح دمه، ولكن بعد فترة حصلت مناظرة أو مناقشة في مدرسة الخالصي العلمية حول محتويات الكتاب فانتصر فيها والدي، ووصل إلى البيت ومعه مظاهرة كبيرة من جماعة الخالصي في وقت متأخر بعد منتصف الليل، أوصلوه للبيت وتصالحوا بعدها).

واليوم يتعرض الوردي إلى الانتقاد والحرب بسبب مواقفه ومؤلفاته التي لا تتلاقى مع مفاهيم البعض. ويصف الشيخ هشام الخفاجي على بعض ما طرحه الدكتور الوردي بالترهات، وهي كلمة فارسية بمعنى (المزخرف)، وخاصة في كتابه الموسوم (وضع الأيدي على تُرهات علي الوردي)، الطبعة الثانية مزيدة ومنقحة، بواقع 98 صفحة من الحجم الوسط، ودون دار نشر، ودون تاريخ، ودون ذكر البلد الصادر فيه هذا الكتاب، إلا أن الشيخ كتب في ص90 عنوانه النجف الأشرف 1437هـ. فضلاً عن فتح صفحة على مواقع التواصل الاجتماعي بعنوان (تُرهات علي الوردي).

ففي ص7 من كتاب الشيخ الخفاجي؛ ينتقد الوردي بما ذكر في كتابه وعاظ السلاطين ص15-16، وقد ذكر الوردي الوعظ (ذا ضرر بليغ في تكوين الشخصية البشرية، إذ كان ينشد أهدافاً معاكسة لقيم العرف الاجتماعي)، وهذا مبدأ لا غبار عليه في نظر الكثير من الكُتّاب والباحثين الاجتماعيين. لكن الشيخ الخفاجي في رده على الوردي في ص7 من كتابه قائلاً: (إن الموعظة في نظر الوردي لا قيمة لها بل إنها ذات ضرر بليغ مع أن القرآن الكريم يقول (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) سورة النحل: 90. بينما في الآية يخبرنا تعالى أنه يأمر عباده بالعدل، وهو القسط والموازنة، ويندب إلى الإحسان. مع العلم أن الوردي يوضح أن الموعظة المعاكسة للقيم الاجتماعية لا قيمة لها، فكأنك تنفخ في قربة مثقوبة.

وفي ص10 ينتقد الشيخ الخفاجي الوردي قائلاً (هذا الفكر المنحرف ذو الخطر العظيم الذي ينبغي القراء أن يحذروه ولا أن ينغروا به!). ولا اعرف أي فكر منحرف كان يحمله الوردي في عقله أو في طيات مؤلفاته. ويستمر الشيخ بتسفيه ما كتبه الدكتور الوردي في مؤلفه، ومن تلك العناوين في الكتاب: (أبو جهل والصدفة ص13)، ذاكراً قول الوردي في كتابه وعاظ السلاطين ص118: (من سوء حظ أبي جهل أنه قتل في معركة بدر في صف المشركين فنال بذلك لعنة الأبد ولو أن الصدفة ساعدته كما ساعدت غيره فنجى من تلك المعركة ثم بقيَّ إلى يوم الفتح فأسلم لصار من كبار الصحابة أو القواد الذين رفعوا راية الإسلام ونصروا دين الله). وهذه حقيقة فالصدفة تلعب دورها في مقدرات المجتمع والأفراد. أما الشيخ الخفاجي في رده على قول الوردي اعلاه يرى في ص14: (إن تقدير الصدفة منهج سلكه الملحدون في وجود الكون بالرغم من كونه منهج هزيل شاركهم فيه العلمانيون ببعض خصوصياته، ولذا ترى الوردي يبرر لأبي جهل بمنهج الصدفة ويعتذر له بعدم إسعاف الحظ له...). وأنا أجد أن الوردي قد قال الحقيقة مثلما حدث مع أبي سفيان عندما قال الرسول (ص) (من دخل بيت أبو سفيان فهو آمن)، فالصدفة لعبت دورها مع أبو سفيان ولم تلعب دورها مع أبي جهل. كان ذلك حينما لاقى أبو سفيان الجيش الإسلامي قبل وصوله إلى مكة وأعلن إسلامه، عندها أخذ العباس بن عبد المطلب عم الرسول أبو سفيان إلى النبي وقال له يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئاً. وفي عام 1282 أُعيد ترميم الدار واُتخذت مستشفى للفقراء والمنقطعين سميت بمستشفى القبان، وهي أول المستشفيات المنشأة في مكة المكرمة.

مع هذا لا ارغب بذكر بعض العناوين التي انتقدها الشيخ الخفاجي في كتابي لأنني قد اتعب القارئ الكريم بما ذكره الشيخ، لكن أجد اليوم من مصلحة أبناء العراق وشعبه أن يفتخر بأعلامه لا أن يسفه مواقفهم واقوالهم. ويقال أن المقياس الذي نقيس به ثقافة شخص ما هو مقدار ما يتحمل هذا الشخص من آراء غيره المخالفة لرأيه. لأن الإنسان مجبول أن يرى الحقيقة من خلال مصلحته، فإذا اتّحدت مصلحته مع تلك المواقف الاجتماعية صعب عليه أن يعترف بالحقيقة المخالفة لهما ولو كانت ساطعة كالشمس في النهار.

وكان القدماء يصفون الدليل القوي الواضح بأنه الشمس في رابعة النهار ونسوا أن الشمس نفسها على شدة وضوحها لا تصلح دليلاً كافياً لدى الإنسان إذا كان أعمى. وإن ما نقول عنه اليوم إنَّه غير معقول، قد يصبح معقولًا غداً. والوردي كان دائماً يذكر في مؤلفاته عن فرضيات جمعها بشكل عشوائي، منها؛ (ازدواجية الشخصية، التناشز الاجتماعي، صراع البداوة والحضارة).

أما موقف الدكتور الوردي من الدين او الظاهرة الإسلامية لم يكن يتميز بالغموض بل كان من الوضوح والصراحة بمكان. فقد أدرج آراءه العلمانية والاصلاحية بوضوح ظاهر ولغة مبسطة يعرفها حتى القارئ الاعتيادي، ولم يكن في طرح تلك الآراء غامضاً أو متردداً، بل كان يطرح آراءه الجريئة بصراحة ودون خوف او تردد. واعتمد الوردي منهجية النقد والتعرية والتحليل للخطاب الإسلامي التقليدي من جهة والسلوكيات والادعاءات التي يقومون بها من جهة أخرى، ومن الطبيعي أن يكون لهذا النقد ردت فعل من قبل الإسلاميين.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

في المثقف اليوم