قراءة في كتاب

قراءة في كتاب

الوقائع البغدادية المضيئة وحب العراق

أصدرت مؤخرا دار ميزر للنشر والتوزيع في السويد، كتابَ الصديق العزيز الدكتور فؤاد الطائي: معضلات الشكل والمضمون في الفيلم الروائي العراقي 2023 السويد، مالمو

يُشكر الدكتور ابراهيم ميزر صاحب دار ميزر على نشره كتاب الدكتور فؤاد الطائي!

كذلك تنظّم جمعية الثقافة العراقية في مالمو أمسيةً مكرسةً للفنان فؤاد الطائي،

ستقيمها يوم السبت المصادف 6 أكتوبر.

خيراً فعلت الجمعية الثقافية العراقية بتكريم الفنان فؤاد الطائي، فهو حقّاً جدير به، وقد تعرفتُ إليه في الثمانينات خلال دراسته الدكتوراه في موسكو ووجدته أكاديميا مجتهداً يدقق كل المعلومات وإنسانا رائعاً ساخراً رغم الصعوبات التي كان يلاقيها الأكاديمي العراقي المغترب آنذاك.

نقدم في هذه المناسبة مقالَنا المتواضع عن الفنان الدكتور فؤاد الطائي، الذي كتبته في الثمانينات حيث كنت طالباً أعد أطروحتي عن الروائي الراحل غائب طعمه فرمان لنيل الدكتوراه في معهد الاستشراق في موسكو.

وقد شارك الفنان فؤاد الطائي في معرض الفنانين المغتربين الذي نظّمتُه شخصيًا بالتعاون مع جمعية الفن الحديث في مدينتنا روسكيلده، وأعجب العديد من الحضور بأعماله رغم "عراقيتها" العميقة، التي قد تكون أحياناً عصيّةَ الفهم بالنسبة لغير العراقيين، ومع ذلك كان الاهتمام بها كبيراً.

ينتمي الفنان العراقي فؤاد الطائي الى مدرسة بغداد للفن الحديث. وهو بهذا يحمل في وعيه الجمالي الفني قِيمَ الوسطى وجواد سليم إضافة الى أحاسيسه المرهفة المرتبطة بالموضوعات الشعبية والتراثية والاجتماعية.

ويتميز فؤاد الطائي، هذا الفنان الدؤوب، عن غيره من التشكيليين المهتمين بالموضوعات البغدادية، بتكريسه معارض شخصية كاملة لوقائع بغدادية وموضوعات أخرى مأخوذة من ذكريات طفولته التي أمضاها في مدينة بابل مسقط راسه. ومَن يتعرف الى الدكتور فؤاد الطائي يندهش لهذه المعرفة الدقيقة التي يمتلكها عن تفصيلات الواقع الاجتماعي والجغرافي لمدينة بابل وازقتها وبيوتها القديمة، بل سكانها، وهو يحتفظ بتخطيطات كاملة عن أبنيتها وشوارعها.

ولعل أهم ما جلب انتباهي في أعمال فؤاد الطائي هو اهتمامه بالوقائع البغدادية. وانا لا اعني بذلك انه كرس لوحاته لهذا المنحى رغبةً منه في تلبية حاجات روحية نابعة من داخله فحسب، بل اقصد أيضا أن هذه التفصيلات الاجتماعية والوقائعية تتجسد فيها مفاهيم الناستولجيا أو العودة إلى الماضي والحنين إلى الطفولة، مما يبدو واضحا في اختياره لألوان لوحاته وفضاءاتها. وهي في الحقيقة موقف فلسفي من الحياة بكل أحزانها ومباهجها. فليس الشعور الرومانتكي والرغبة في التعبير عن الحنين الى الوطن هو الهاجس الوحيد الذي يحرك الفنان أثناء خلقه مثل هذا النوع من الابداعات الفنية. ولا يجد المطّلع على الأعمال الروائية العراقية صعوبة في تلمس الخيط الرفيع المشترك بين لوحات الطائي وروايات عراقية تجسدت فيها مناحي العودة الى الجذور العميقة والحنين الى الماضي من خلال وصف الأماكن القديمه مثل الأزقة و"الشناشيل" ولُعب الأطفال وأنواع الطيارات الورقية وغيرها من الموضوعات التي تدخل ضمن الموروث الشعبي والطقوس الدينية والعادات الاجتماعية. وبذلك يتحقق الهرونوتوب او الزمكان حيث تتداخل الأزمنة مع مختلف الاماكن بلوحة واحدة بينما نجد نفس الأمر على صفحات عديدة من روايات غائب طعمه فرمان وفؤاد التكرلي وبالذات في رائعته "الرجع البعيد" التي تتنفس تنفسا عميقا بتفصيلات الحياة اليومية ووقائعها اليومية.

يمكن ان نجد كل هذه الموضوعات بسهولة في لوحات فؤاد الطائي التي تشكل كلا متكاملا ومتناسقا ومرتبطا بفكرة الحنين إلى الماضي. وكل لوحة تكمل الأخرى وكأنه يوزع ألوانها ومساحاتها وفضاءاتها بعد دراسة هندسية وحسابية شديدة الدقة. ومَن اطلع على طريقة عمل هذا الفنان المبدع يعرف فعلا كيف يحسب فؤاد الطائي وبدقة شديدة كل لمسة ومسحة فتبدو الألوان متوزعة كما هي في الواقع مع التأكيد على تعبيرها عن آلامه وأفراحه.

تجسد لوحات فؤاد الطائي موقفا واضحا من الحياة يتلخص في الخوف من مصيرها المستقبلي وعدم الاطمئنان عليه بسبب هجوم التكنولوجيا والكومبيوتر والتقنين العقلاني لكل ما حصلت عليه البشرية من قيم ومفاهيم أخلاقية رفيعة. ولهذا السبب بالذات نجد في لوحاته حكمة شرقيه مكتوبة أو مزاجا محسوسا أو بيتاً شعرياً أو مقولة متعارف عليه أو مثلا شعبياً، التي هي في الحقيقة تمثل بعدا هاما من أبعاد اللوحة الفنية جنباً إلى جنب الفضاء والألوان لكي تعبر عن الجو النفسي، وعمودا هاما يتكون عليه معمار اللوحة الفنية. ويجد المتلقي متعة خاصة في قراءة مثل هذه العبارات فيحدث التفاعل بينه وبين الالوان والعبارات، التي كثيرا مايتعذر عليه قراءتها فيجدُّ من أجل حل اللغز جنبا إلى جنب مع التمعن بمشاهد تذكره بطفولته نقرأ في لوحة "الملاّية"، التي تجسد الطقوس الدينية:

مِنْ كان ظرفي دِبسْ ... يامكثر أحبابي

ومن يوم طَرفي يِبَسْ ..مَحّدْ طرق بابي

ولا يسع المشاهد إلا أن يتأمل كثيرا عندما يشاهد هذه اللوحة فيشده الحاضر الى زمن الماضي حيث نحن نمر اليوم في أحلك الظروف.. ونقرأ في لوحة أخرى من معرضه الشخصي الخامس الذي أقيم عام 1988

قلبي على قلب ولدي وقلب ولدي على الصخر مرمر.

وكان الكلام يقال على لسان امرأة تحتضن ابنها الاصغر بينما يمارس ابنها الاكبر مهمة خطيرة. ونقرأ في لوحة "النخلة" من نفس المعرض الشخصي

لا ساعة وحدة.

لا ليلة نمت الليل يا روحي.

القلب من فرقاك بالغربة وحده وغيرها من العبارات التي تذكرنا بالطفولة والوطن. فغالبا ما كنا نقرأها أو نسمعها في مختلف الأماكن. نقرأ في لوحة مكرسة للطفولة عبارة تثير الفرح والاطمئنان النفسي بسبب عدم ضياعها فهي مشهورة ومعروفة لدى الاطفال العراقيين أيام زمان:

بيض اللقلق علاَّ وطار

علاّ على بيت المختار

أو

ذقت الطيبات كلها فلم أجد أطيب من العافية

ونقلت الحديد والصخر فلم أجد أثقل من الدَيْن

هذه الحكمة المعبّرة والمجسدة بألوان خاصة تعكس واقع الحال في الزمن الماضي كنا نقرأها على واجهات المحال والدكاكين أو زجاج السيارات وجدران المقاهي الشعبية.

لقد وجدت العديد من لوحات فؤاد الطائي التي تشترك بأفكارها وألوانها وأجوائها مع الواقع الروائي العراقي المعروف باهتمامه بالتراث الشعبي، ونذكر من هذه اللوحات على سبيل المثال لا الحصر: عيد الفطر، شموع نذر، زفة العروس، هلال العيد، نخلة المحلة، ركيّة فوق التيغة، حمامة على البادكير، طبق الخبز، شناشيل، بيت الجيران، شاي العصر، ليلة العيد، المطيرجي وغيرها من اللوحات التي تدل أسماؤها على معانيها.

تذكرني لوحة "ليلة العيد" لفؤاد الطائي بمقطع من رواية "القربان" لغائب طعمه فرمان حيث يقول:" في ليلة العيد لم ينم الكثيرون من الأطفال، استلقوا على فرشهم واضعين تحت وسائدهم أو بالقرب منهم أشياءهم الجديدة، حذاء أحمر، جوارب ملونة، دشداشة مقلمة جاءت من الخيّاطة تواً وفيها رائحة قماش جديد ماخوذ ببطاقات التموين. وبسبب من تلك الجدة لم يناموا، وظنوا أن الشمس قد تأخرت عن ميعادها ولما غفوا قليلاً حلموا بالأراجيح والعيدية. واستيقظوا قبل الفجر وجربوا أحذيتهم وجواربهم للمرة العشرين". رواية "القربان" ص 65

ويكاد المشاهد المتمعن في لوحة "ليلة العيد" أن يجد الكثير من أوجه الشبه بينها وبين هذا النص الروائي، ويجد روحاً واحدة تقف خلفهما ونفسا واحداً يتنفسان به. ففي اللوحة أيضاً نجد الألوان تقدم لنا سرداً تشكيلياً عن الاطفال في ليلة العيد حيث الأم تجلس أمام ماكنة الخياطة، بينما يحلم الأطفال بصباح العيد والعربات والأراجيح.

اما لوحة "المطيرجي" فتذكرني بشخصية رديف المطيرجي في رواية "النخلة والجيران" التي تجسدت فيها رغبة الروائي في تصوير الحنين الى الماضي من خلال سرد المرأة العجوز نشمية لقصص مستوحاة من طفولتها. تقول نشمية عن رديف المطيرجي: "كانت كل شوفة ترد الروح، كان يوكف (يقف) فوق السطح بطوله الحلو، والدشداشة البيضاء وعرقجين الكلبدون وبنات الطرف كلهن يعانين عليه. وليش هو دايرلهن بال؟ وكنت أشيل راسي، أشو عبالك طير أورفلي وهو يشوفني ينكس عرقجينة على عينه. يعني مرحبه! ويقوم يناغي الطيور: أروح فدوه الأبوزلف وترجية، يا أبيض، يا زاجل، يا بو عيون الوسيعة، خذ لمحبوبتي تحية "النخلة والجيران" ص 102. في لوحة "المطيرجي" نجد الفنان فؤاد الطائي يطير مع الحمامات البيضاء المحلقة عالياً، وهي تعبر عن أمله الذي يتجسد في فضاء أغلب لوحاته، وليس هذه اللوحة فقط. بينما نجد في الرواية أن هذا الأمل يتجسد في شخصية رديف التي ترتدي ملابس شعبية تعبر عن قيم الماضي.

كثيرة هي اللوحات التي يشترك فيها فؤاد الطائي مع غيره من الروائيين العراقيين في تصوير تفصيلات الحياة اليومية. ولكن لنقرأ انطباعات الروائي غائب طعمه فرمان عن أعمال فؤاد الطائي حيث يقول:

".. ازددت غنىً روحياً وعاطفياً في مشاهداتي للوحات الفنان فؤاد الطائي، أنا وقفت أمام صورة كطفل، وشاهدتها بهذه العين، عين الطفولة، وقفت أمامها كقصاص يهمه دائما مشكلة الحيز والنفسية والتركيب، اللغة المكثفة واعتقد أني وجدت في كل لوحة حلاً ممتازاً لكل موضوع شعبي تناوله. إن اللون يستخدمه الطائي كلغة متحركة موحية تبرز الفكرة والنفسية، واعتقد أن هناك ألواناً عراقية صميمية استطاع فؤاد ان يوظفها ليخلق منها عالما كاملا من صميم حياة شعبنا.

وجدت في كل لوحة من هذه اللوحات قصة... فالذي يشغل الكاتب هو الحيز...، الكلمات، الجُمل، المقاطع. فمثلا عندما يريد أن يصور الكاتب حالة نفسية معينة، فهل يصورها في أربع صفحات أو صفحة واحدة، أنا أحسد فؤاد لأنه استطاع أن يعطيني النفسية في استعماله كميات الألوان. نظرت إلى كل صورة باعتبارها قضية، وكل صورة تعبر عن نفسية، ونظرت إلى الألوان الدقيقة جدا والتي لا تخطر على البال ويمكن الكاتب أن ينساها، إلا أن فؤاد استطاع أن يلتقطها"

وأنا كذلك أغبطُه لكونه استطاع فعلا، التقاط العديد من المشاهد المحلية بفضل الألوان والذاكرة القوية والنظرة من بعيد الى عالم الطفولة والوطن الذي لم ينفصل عنه لحظة واحدة رغم إقامته الطويلة في الغربة. إن كل لوحات فؤاد الطائي هي بمثابة تحية الى العراق. موطن الحضارات والشعر والفنون.

بطاقة

- ولد في محافظة بابل في العراق عام 1943.

- درس الرسم في اكاديمية الفنون الجميلة في بغداد

- واصل دراسته العالية خارج الوطن فحصل على الماجستير والدكتوراه في الفن التشكيلي في مجال السينما والتيليفزيون والصحافة العراقية.

- شارك بمعارض عديدة داخل وخارج الوطن.

- أقام سبعة معارض شخصية للفترة 1969-1980.

- له كتابات عن الفن التشكيلي والتعبير في السينما.

- يقيم منذ نهاية الثمانينات في السويد حيث اقام العديد من المعارض الفنية.

- أصدرت موخراً دار نشرميزر في السويد، التي يشرف عليها الدكتور ابراهيم ميزر كتاب فؤاد الطائي: معضلات الشكل والمضمون في الفيلم الروائي العراقي 2023 السويد، مالمو.

نماذج من لوحات الفنان التشكيلي العراقي المعروف الدكتور فؤاد الطائي

- أصدرت دار ميزر

***

بقلم الدكتور زهير ياسين شليبه

صدر للناقد المغربي الدكتور رشيد الإدريسي كتابٌ نقديٌّ بعنوان "محمود درويش سيميائيا أو حين يفكر الشعر" عن دائرة الثقافة الشارقة في طبعته الأولى سنة 2021، وهو الكتاب الفائز بالمركز الأول من جائزة الشارقة لنقد الشعر العربي في دورتها الأولى 2021، يبلغ عدد صفحاته مائة وسبعين صفحة من القطع المتوسط.

يستهل الناقد دراسته بمجموعة من الاستشهادات الفكرية والفلسفية (أبو حيان التوحيدي، هنري فريدريك أمييل...) التي تثبت العلاقة الوطيدة بين الفكر والشعر؛ ذلك أن المنطلق الذي أسس عليه الناقد رشيد الإدريسي دراسته النقدية هو إثبات العلاقة بين الفكر والشعر، وأن الشعر يفكر من خلال كون الشاعر لا يباشر كتابة قصيدته إلا بعد قراءات فكرية فلسفية متعددة، والحديث هنا عن المتن الشعري للشاعر الفلسطيني محمود درويش. ومن ثم، يعمل الشاعر على استثمار هذه القراءات الفكرية مُتَناصا ومتفاعلا معها في إطار شعري جمالي؛ أي أن الشعر، وهو يفكر، لا يتخلى عن مقوماته الفنية الجمالية، وإنما يبلور هذه الأفكار في بنية القصيدة الفنية والجمالية.

يحدد الناقد خلفيته المعرفية والمنهجية في السيميائيات التأويلية التي "تدرس العلامات بمختلف أشكالها وتبحث عن معناها تأويليا" (محمود درويش سيميائيا: ص8). ومن ثم، توظيفه لمجموعة من المفاهيم السيميائية الإجرائية التي مكنته من تأويل المتن الشعري المدروس، ومن هذه المفاهيم الإجرائية نلفي: العلامة، والمؤولة، والمقوم، والموسوعة الثقافية، والتشاكل، والرمز، والسيناريو، والعالم الممكن، والنموذج بحسب الحالات، والسياق، والتناص، والتظهير..إلخ. والمتأمل في هذه المفاهيم يجد أنها تجمع بين الاهتمام البنيوي والثقافي؛ ذلك أن الناقد يُفَعِّلها بناء على المعطيات النصية، أو تأسيسا على المحاور النصية التي يمليها سياق النص المدروس، لينفتح بعد ذلك على الإمكانات التأويلية التي تتيحها الموسوعة الثقافية للقارئ، مشترطا أن يقدم القارئ الحجج والاستدلالات التي تدعم تأويله، أو تدفعه إلى إعادة النظر فيه إذا لم يتطابق مع المعطيات النصية.

حدد الناقدُ المتنَ المدروسَ في أربع قصائدَ شعريةٍ للشاعر الفلسطيني محمود درويش، وهي "تنسى كأنك لم تكن"، و"لا شيء يعجبني"، و"درس في كاماسوترا"، و"عابرون في كلام عابر"؛ ومرد هذا الاختيار هو كونها نصوصا شعرية حظيت بمكانة كبيرة، كما أن الشاعر نفسه قد احتفى بقراءتها في سياقات متعددة. وعلى هذا الأساس، يمكن القول إن الناقد أخذ التلقي والتداول بعين الاعتبار في اختيار المتن، فضلا عن كون المتن يقدم إمكانياتٍ تأويليةً كبيرةً تسعف المحلل في قراءته وتحليله بمفاهيمَ سيميائيةٍ تأويليةٍ.

يخلص قارئ الدراسة النقدية العميقة إلى مجموعة من الخلاصات، من بينها:

- أن الناقد قد برهن على كفاءته التأويلية والتحليلية؛ ومرد هذا الأمر إلى ما اتسم به تحليل المتن الشعري من تؤدة وتريث، أي أنه تحليل هادئ يقرأ النص الشعري سطرا سطرا وكلمة كلمة دون أن يغفل السياق العام الذي تتشاكل فيه العلامات داخل السطر الشعري، والسطور الشعرية داخل القصيدة، والقصيدة داخل المتن الشعري للشاعر محمود درويش، وهذا المتن في علاقاته بالتراث الشعري والفكري العربي والعالمي. هذا بالإضافة إلى أن الناقد لا يلوي عنق النص حتى يتلاءم مع سيناريوهاته التأويلية أو أفكاره المسبقة حول النص، وإنما يعطي مساحة كبيرة للنص حتى يفيض بدلالاته، ثم ينفتح بعد ذلك على موسوعته اللغوية والنظرية والثقافية، وذلك مع استحضار دائم للمتلقي ودوره الفعال في إثراء دلالات النص بناء على تأويلات موضوعية ومشروعية ومدعمة بحجج واستدلالات تبررها وتدعمها؛

- أن السيميائياتِ التأويليةَ تتيح إمكاناتٍ تداوليةً متعددةً في قراءة الخطابات عامة، والخطاب الشعري خاصة؛ ذلك أن هذا الخطاب كثيرا ما وسم بالغموض والإبهام اللذين يوجهان عملية التلقي، ومن ثم، فإن المفاهيم الإجرائية الموظفة من قبل الناقد تفتح إمكانات متعددة، وآفاقا رحبة لقارئ الخطاب الشعري إذا ما أحسن توظيفها وأجرأتها؛ أي دون تعسف وإفراط في التأويل، وإنما من خلال استنطاق النص بناء على إمكاناته الدلالية المرتكزة على محاوره النصية وعلاماته اللغوية وغير اللغوية.

قدم الناقد رشيد الإدريسي بهذه الدراسة منهجية مهمة في قراءة الخطابات عامة والخطاب الشعري خاصة؛ ذلك أنه ينبه القارئ إلى أن النص يحمل دلالات متعددة بتعدد القراءات، وأن للتأويل شروطا وحدودا تتمثل في ضرورة استناده إلى البنية اللغوية للخطاب، واستحضار طبيعة سياقه وعناصره لئلا تكون القراءة خارج حدود الخطاب، والتأويل مفرطا ومتعسفا، وإنما على التفاعل مع النص أن يتحول إلى"نوع من الحوار بين محفلين هما القارئ والنص" (محمود درويش سيميائيا: ص161).

- أن الموسوعة الثقافية المرتبطة بقضايا النص وانشغالاته ضرورية في التحليل؛ ذلك أن الشاعر لا ينتج نصه بعيدا عن الأطر الفكرية والاجتماعية والثقافية والسياسية التي نشأ فيها، وأسهمت في تشكيل وعيه ورؤيته الوجودية والأدلوجية للعالم، وللذات والآخر، وهذا ما وظفه الناقد في دراسته من خلال تنشيط مجموعة من المؤولات التي يفسر بعضها البعض الآخر، وتتشاكل فيما بينها لإنتاج دلالات النص، ومن ثم فسح المجال أمام القارئ الذي يعيد بناءها وتأويلها مستندا إلى موسوعته الثقافية ومعرفته بالعالم.

أسهمت هذه القراءة الموسوعية الثقافية للمتن في توضيح جوانب ظلت مجهولة لدى القارئ المتسرع، وقدمت له مفاتيح وآفاقا جديدة لقراءة التجربة الشعرية لمحمود درويش في شموليتها، قراءة تتسلح بترسانة مفاهيمية سيميائية تأويلية، لا تتعسف تأويل علامات النص، ولا تتمحل في تقويلها ما لا تحتمله، ولا تغض الطرف عن أهمية السياق وطبيعته في إنتاج النص وتداوله وقراءته. إنها القراءة التي تنطلق من النص، مُفَعلةً ترسانتها المفاهيمية، وتنفتح على العالم الخارجي موظفة موسوعته الثقافية ومعرفتها بالعالم؛

- أن التحليل السيميائي والثقافي قد أثبت الفرضية التي انطلقت منها الدراسة، وهي أن الشعر يحفل بالفكر، وأن محمود درويش لا يقبل على كتابة قصائده غُفْلا من المعرفة الفكرية والفلسفية والثقافية، وإنما هناك عملية فكرية وفلسفية تسبق الإبداع؛ أي أن ثمة مخاضا فكريا وتناصا ذهنيا يخوضهما الشاعر قبل عملية الإبداع؛

- أن المتن الشعري المدروس تتشاكل فيه العلامات اللغوية والثقافية والفكرية والنفسية للتعبير عن قضايا الشاعر وانشغالاته؛ فالناقد انطلق من تحليل وتأويل هذه العلامات المتشاكلة ليخلص إلى طبيعة القضايا التي تشغل محمود درويش من قبيل: الهوية، والتاريخ، والوطن المستقل، والحرية والتحرر..الخ، وكلها قضايا تبرهن عليها نصوص المتن المدروس وكل ما أنتجه الشاعر، لذلك نجد الناقد يستحضر أسطرا ومقاطعَ شعريةً من قصائدَ أخرى للشاعر نفسه، تأسيسا على أن الشعر يفسر بعضه بعضا.

بناء على ما تقدم، يمكن القول إن الدراسة النقدية للناقد المغربي رشيد الإدريسي قد برهنت على جدتها من خلال طبيعة المتن المدروس الذي يزخر بدلالات متعددة، وطبيعة المقاربة النقدية المتمثلة في السيميائيات التأويلية التي تنفتح على النقد الثقافي والأنتربولوجيا وعلمي الاجتماع والنفسي..إلخ، وهذا مرده إلى الموسوعة الثقافية التي تفترض في القارئ قدرا كبيرا من المعرفة حول عالم النص ومبدعه ومتلقيه. كما أن هذه الدراسة تفتح أمامنا آفاقا جديدة ومختلفة عما عهدناه في المناهج والمقاربات التي اهتمت بدراسة الخطاب الشعري، حتى نقرأ الشعر قراءة تفاعلية وتحاورية مع نصوصه.

كما أن قارئ الدراسة يمكن أن يتساءل: ما الحجج التي قدمها الشاعر محمود درويش لإقناع القارئ بقضاياه وأطروحاته؟ ما طبيعة هذا الحجاج؟ وما مقوماته؟ وكيف يبنى الحجاج شعريا في نصوص هذا الشاعر؟.

***

محمد الورداشي

كتاب ""مراكش: ألف حكاية وحكاية" للمؤرخ عبد الله العلوي

(قد يعيد التاريخ نفسه مرات عدة، لكن سعره يتضاعف مع كل مرة) ـ مارك توين

في البدء:

الكتابة عن مدينة مراكش ليس حديث عبور أو انتقال مَا بَيْنَ ضِفَّتَي تاريخ حضارة سدرت عروشا متعاقبة، وحيرت شواهد مبثوثة في سُرادِقات الكون ومرائي الحيوات. فهي قابضة على كل تلك الأبعاد والمفارقات، مُتكمِّشة على فرائدها ونواميسها.

والحاذقون المتأملون في هذه الصنعة المبهرة، يجدون الاقتران بمراكش، شَطَارة واستنارة لا يدركها غير الممسوس بقوة روحها، المتنعم ببركات وصالها ووصلها. ومنهم، وهم قلة صافية، من لا يبلغ المراقى، يفيض بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ، ويعود أكثر انتماء للماء وأبدل في الحجة وأنقى في الإصغاء للتاريخ والمناط حد الإسكار والتورية .

من هؤلاء الأخيرين، المؤنس الراوي الحصيف، صاحب الموسوعية الأستاذ مولاي عبد الله العلوي، الذي استوثق أمانة الكتابة باستحضار مراكش، حضارة وإنسانا وطبائع وسلوكيات وموروثات، وآثار ومعمار وعلوم وفضائل ..إلخ .

وحول هذا العطاء الراسخ، يتَمَطَّى الباحث العلوي على قياسات علمية وتاريخية صلبة، تتكأ على نجود القراءة والاستطلاع المتفرد، وتطوير أنساق الأسئلة ومراسيها، أبدالها وأحوالها، في المراتب والاقتدار .

مصائد تاريخية:

في هذه المُكْنَة النَّشطة المتحركة، يقع كتاب "مراكش: ألف حكاية وحكاية" لكاتبنا الباحث والمؤرخ الأستاذ عبد الله العلوي، والصادرعام 2021 عن المطبعة والوراقة الوطنية بمراكش، وقد صدَّرَته مقدمة للأكاديمي الأستاذ حسن أوريد، أجاد من خلالها في وضع تأسيسات سوسيولوجية لطبيعة الكتاب وأفكاره وارتهاناته.

وقد وضع أوريد لهذه التأسيسات، أبنية وعلامات استنبط أغلبها من متون التاريخ وأوعيته الثقافية التأصيلية وتبعاتها الأخرى من قطوف الشعر والآداب وفنون السرد وعبقرية الاختيار.

ومن ضمن تلكم التلمسات المبينة، اكتناهه لمطلب "التراث الشعبي"، وافتئاته لمطعمة الساحة الشهيرة بكل تفاصيل تفاصيلها، الشفاهية والاجتماعية والإنسانية، واستحضاره بنظرة الهائم السائح، جوانب مغمورة ثاوية، من جنونها وألوان مَضَائها، وتحولاتها في السيرورات والمتاحف الزمنية والتاريخية، حتى لكأن أوريد لـيُصيخ بالوجدان والقلب، مناقب الأهواء ومفاخرها القصية التي لا تنفذ دون ذكر عاصمة القول ومدلولها في "الألف حكاية وحكاية"، مستعرة بين قطوف وروايات وأسمار ورؤى وأعمال مبثوثة هنا وهناك، تحت رقابة المعلوم بالضرورة من غير افتقار إلى نظر واستدلال، ومن غير قبول للتشكيك، أو استرابة أو تناقض مخل.

ولأن البداية بالضرورة، تكون بعتبة المعنى، باعتباره كائنا مصيريا، لا يمكن تجاوزه أو اعتباره "نتيجة سطحية أو لَمَعَان"، أو أن ما يخترقنا في العمق، ما يوجد قبلنا، وما يسندنا في الزمان والمكان، فإن الباحث العلوي، يقبض على جمر تينك النظرية بنواجد الإمتاع وسمو المقصد، وليس "التسلية" و" التكشف على الهوامش" و"الاستطراد المشوب بعماء الفهم"..؟، ومن وحي ذلك، كتب الأستاذ اوريد قائلا:" يقوم مولاي عبد الله العلوي بنفض الغبار عن هذه التحفة الثقافية التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، فكان هذا العمل قطر، وعساه أن يعقبه غيث، غما في جهد موصول به، أو قد تستحث الحمية ذوي الهمم. ولن يقدر على ذلك إلا من درج في رحاب مراكش، وتشبع بروحها وشغفته حبا، وهو حال مولاي عبد الله، لم يصرفه انخراطه في القضايا العامة، ولا دراساته الحقوقية، ولا اشتغاله بالمحاماة أن يفي بدين واجب في حقها".

سرديات جامع الفنا:

معظم الباحثين عن أسرار فتنة ساحة جامع الفنا وشخوصها وفضاءاتها، تجاسروا باستكناه أهم قيمها الثقافية الشعبية، المنقادة خلف ميراث كبير من المأثورات المشكلة لجماع الملاحم والسِّيَر الشَّعبيّة والرّقصات والأغاني والأمثال والألغاز والحكايات الشعبيّة، وما يشملها أيضًا من المعتقدات والعادات والتقاليد، بالإضافة إلى مختلف الفنون والحِرف اليدويّة التقليديّة..إلخ.

كل ذلك لا يتأتى دون الوقوف على معالم الفرجة والترفيه الذي لا ينشغل فقط بالاستمتاع بمشاهدة عروض مروضي الأفاعي ورواة الأحاجي والقصص، والموسيقيين، بل يقوم من ضمن ما يقوم على المصطلح السردي الدقيق، الذي يستأثر التفاصيل والخلفيات وفهم العلاقات وتأثيراتها، مع ما يشكل ذلك من اندماج إنساني ووجداني في المجتمع وطريقة العيش.

لا يستعصي على الكاتب العلوي، التوصيف المحكم والدامغ، لوشائج الهوية كما يمنحها هو، من قوة استعصاء الشدائد، في شخصية الإنسان المراكشي (البهجة)، أو مدى استبصاره لآمال رؤيته للمستقبل، وبحثه المتواصل عن فعالية أو هدف وجوده ودوره في المجتمع. ويرى العلوي، أن سيرورة هذه القيمة، في بنية العيش لدى المواطن التاريخي، هي بوصلة لتأمين ارتقائه وتحوله، من مجرد كائن مستهلك، إلى عقل منتج وإيجابي.

وتتحول هذه الثنائية المستبصرة لمعالم انتقال المراكشي، من حال إلى حال، ومن منظومة عيش إلى أخرى، وفق هذا التشاكل الزمني والتعاقب المستنفر للجهد والإمكانيات، إلى مقصلة متذاكية، تخفي من وراء نذوبها فائضا غير يسير من القلق والشك، ما يجعله قابلا للمكاشفة وخفة الدم وملء شقوق الذات، وإفراغ النفس مما جفل وانتصب؟.

ومن يقرأ مغزى انتقالات الكاتب، عبر جغرافيا ومناحي المتن التأليفي، سيجد أن الصياغة العامة، جاءت لتكسر قواعد البناء المتداعي للفكرة الأساس، حتى إنه يمكن قراءة التقديمات المعكوسة، على منطقية المنهج المتداول، بقياسات غيرية، مؤسسة على رؤية الكاتب وتقييمه الإشكالي للموضوع، وكيفية تفاعل اسئلته مع باقي المحاور والمسلكيات المتداولة. ويصح أن نمنح هنا، وقتا لصياغة هذه الرؤية، وفقا لطبيعة مقاربة الكاتب العلوي، ومدى تمكنه من استحضار عدة سخية، تتشكل من طفرات، يمكن اختزالها، في تمكنه من الإحاطة بمزيج من الثقافات، تشي بجهوزية غير طبيعية، يمتزج فيها التاريخي بالأدبي، والعلمي بالفلسفي، واللغوي بالبلاغي، وهلم جرا.

ويمكن التمثيل هنا، بما استأثرت بها معظم شخصيات الكتاب، ابتداء من "طوطو غماري" و"بلال وبلال" و"ألقاب وأسماء الحلايقية"، و"الطباء والصيادلة" و"أبناء الشيوخ والأولياء" و"الحكون والحكواتية"، مرورا بلفيف "التواشا"، المتضمن لشخصيات "الشريف/القوانين"، و"السي حميد" و"رحال: و"عزيز" و"العسكري" و"مبارك" و"عيوش" والقاري" وأبو فارس"، (استأثرت)، بقوة الخيال ونفاذه الجمالي، وطريقة توظيفه وصفائه وامتداده وتفرده.

الهوية ومكاشفة المعنى:

لا تفيض حاجة المعنى، عن التمحيص والدود عن الماوراء، في فهم أقصى لما يحاك من خلف الأحداث والوقائع.  بل إن القارئ في أتون الأقوال والأفعال المبتوتة بإتقان وقوة مخيال، في كتاب موسوعي زاخر بالمعادن والصروف والمدلهمات والتواريخ والتراث، لينداح إلى تعليل استئثار قابلية ذائقته للنظر والعبر، حيث تتأتى "المعاني أرسالا وتنثال الألفاظ انتثالا "، كما يقول الجاحظ، دون أن يصيبك ضنك الفقر المفهومي، أو العياء الاستيعابي، أو الضعف المملوء بغشاوة الرؤية والتقصير.

وهي صفات، والله، منذورة لمن يقع في ميزان المكابدة وإجالة الفكر وإلهام اللحظة التاريخية.

كما أنها علامة فارقة، تعين القارئ اللبيب على تتبع آثار الكاتب، في الدرس التاريخي والمعرفي، في مجالات يصعب الإحاطة بها والاتصال بمكنوناتها، من دون امتلاك أدوات النباهة والتشرب بميزان الحكمة، والإيثار في ميسم البدل والعطاء اللامتناهي.

إن حكايات مراكش، من محكيات زمانها وشخوصها وأحداثها، جزء من حيوات مادية ولامادية مفتقدة، لكنها في المقابل، لم تكن هنا مجرد تقرير لطبائع الاشياء، والنظر بازائها من فتحة الكيفيات والكميات، واستثارة المناحي العامة التي لا تخرج عن قاعدة البديهيات، بل إن "الحكايات" وفقا لمنظور الكاتب، وتأسيساته المنهجية، تنبري إلى توصيف المرتقى، وتأصيل ما نذر في أوثاق المنكتب والشفاهي، وإعادة تصحيح مواقعه وبياناته، وحضوره في الماهيات والأحوال المتعاقبة.

لقد استوعب الكاتب والمؤرخ عبد الله العلوي، في مثنه الذاخر بعوالم الثراء والابتهاج المعرفي، دروس التحول التاريخي وممكناته الدلالية، بانتقالها من هاجس التجميع والتوثيق، إلى التأصيل والاستشراف، والاستنتاج المبدع، مؤسسا على مبدئية الوعي بمناط "الهوية والانتماء" والمدينة الفضلى"، التي لا يتورع العلوي، من أن يجعلها دوما عنقود منارته ومتلد حريته وسواره الذي يحجبه عن التحجج بما لا ينفع ولا يقتدى به.

الصورة وإعادة التشكيل:

خص الكاتب العلوي جزءا غير يسير من كتابه "مراكش: ألف حكاية وحكاية"، حول تاريخ الصورة وتأويلاتها التاريخية والسياسية، واستعمالاتها الفنية والثقافية والأيديولوجية، دونما المرور من مواطن استعمالاتها الأخرى، غير بعيد عن الإضاءة والمجال وتوقيت التقاط الصورة، علاوة على الإيحاءات والسياقات الاجتماعية والثقافية والإنسانية التي التقطت فيها.

وخلال مساحة وفيرة بين دفتي الكتاب (ما بين الصفحة 144 و 17)، استطلع العلوي، آفاق الأحاديث عن أبعاد وممكنات الصورة وتأثيراتها على الجماهير والمتلقين، مستدرجا تاريخ انبلاجها وحضورها، قبل الاستعمار وبعده، ثم انتشارها على أوسع نطاق والتقاء ذلك مع بروز السينما وبرامج التوثيق التلفزي، ثم الرسم والفوتوغرافيا. ويرتقي العلوي، بعد هذه الدمغة، دروب البيان في صرح "الصورة السياسية"ن ومنشوراتها الوطنية والثورية، غير بعيد عن استغوار روح الحكي في المخيال الشعبي، وانطباعيته في مدلول السياسة، كواجهة لاستدعاء منظومة "المقاومة والحركة الوطنية" ورمزيتها وخلفيتها الدينية والأسطورية.

وعلى اعتبار، أن مفهوم الصورة زمانئذ، يحاول تأطير هذه العلاقة المتشابكة بين فعل الصورة والوجدان الوطني، فقد وظف الكاتب مفهوم "علاقة الصورة" ب"المقاومة"، مدققا ومستخلصا مدلولات "صور المقاومين" و"أنماط شاعتها ونشرها" كوسيلة اقتدارية متاخمة لوشيجة الالتحام الشعبي ووحدته التي ترتفع عن كل المحن والأهوال، وتجسد آية من آيات "الاقتداء والإيثار والتشبت بالحرية والانعتاق من العبودية والاضطهاد".

وما توجيه دلالات نشر وإبراز شخصيات المقاومة في الصور التاريخية الشهيرة في علامات وتقاطعات "محمد بن بريك و حمان الفطواكي و" وغيرهما، لدليل على نجابة ونضارة "فعل الصورة" وامتدادها في الزمان والتاريخ والإنسان المتيقظ.

ويوتر العلوي في ذات المنحى، تحقيق قوة الدفع بمتانة العلاقة بين تاريخ الصورة في المغرب المعاصر، ومؤسساتها التصنيفية والذاتية والسوسيولوجية، حيث أدرج مبحثا هاما حول "تطور الصورة"، وارتفاعها عبر تطورات جديدة وآفاق مترامية، وظهورها المتلاطم في شبكات العنكبوت مواقع التواصل الاجتماعي، كواحدة من أخطر الأدوات وأعتاها وأشرسها. مستحضرا مجالات استعمالاتها وآثارها وانتظاراتها، في مجالات العدالة والقضاء والإعلام والاجتماع والأخلاق والمعارف.

ولأنني أعلم جيدا مدى ولع الكاتب العلوي بالفنون البصرية ومفازاتها، وعلومها وثخومها، فإنني تلقيت اختتامه الكتاب ومبحث الصورة خاصة، بموضوعين استشكاليين هامين، هما "صالات السينما المفقودة" و"القاعات السينمائية في الحي الأوربي"، بغير قليل من الفضول، وبكثير جدا من الشغف والقلق الفلسفي. حيث تكمن المعرفة، بما هي حيية في طبع ما نقرأ، وليس بطبيعة ما نبحث عنه. فالكاتب مزيج من روح السينما والتاريخ، وهو إذ يستعيد هذه الثنائية الواعية بحضارة المقروء، تستحضر بالقطع، العلاقة الوجودية التي تجوس خلال اندغامه الطفولي والاستيعادي، بمأثورات السينما الهندية، التي أضحى كاتبنا الملهم، أحد أهم معالمها المغربية والعربية، بل والدولية، حيث يتكئ مخزونه العقلي والذهني، على مساحة واسعة من تراثها ووعائها التاريخي المليء بالحكم والآثار والتجارب الإنسانية الزاخرة. وهو ما يؤكد بالبدهية، أن التراكم يستجيب لتدفق الإنتاج، ويفرض تحولا معرفيا وجوهريا متسارعا. وهو الشيء الذي ينطبع لا محالة في كل كتابات الكاتب والمؤرخ عبد الله العلوي، غير بعيد عن الفعل الثقافي العضوي، الذي يمتاح من المجتمع وينحاز إليه.

***

د مصـطَـــفَى غَـــلْمَــان

................

" مراكش: ألف حكاية وحكاية" عبد الله العلوي، المطبعة والوراقة الوطنية مراكش، ط1/ 2021

اليوم نغوص في قراءة كتاب "المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري".. رحلة عبر التراث العربي، للدكتور زكي نجيب محمود، وهو كما نعرف قمة شامخة من قمم الفكر العربي والإنساني، وأستاذ تخرجت على يديه أجيال وأجيال من المفكرين والمثقفين والأدباء، وصاحب نظرة محددة في ضرورة الجمع بين أصالة التراث وأسباب العلم الحديث، ورائد كبير من رواد حياتنا الفكرية والثقافية. ظل يملأ حياتنا فكرا وأدبا وعلما لفترة تزيد على خمسين عاما، حيث كان يقف واحدا كواحد من الأعلام الذين تركوا بصمات لا تنسى على حياتنا الفكرية حتى أنه كان وما يزال يسمى بـ" الفيلسوف العربي المعاصر" ـ الذي استطاع أن يبلور لنفسه فلسفة خاصة مثله مثل كبار الفلاسفة، بل آخر جيل فلاسفة الكبار في عصرنا.

 قال عنه الكاتب والمفكر " أبو يعرب المرزوقي" إن الكلام في زكي نجيب محمود مسألة مهمة جدا لفهم الحال التي وصلت إليها الثقافة المصرية في عهد المؤسسين للثقافة المصرية الحديثة، وما يتميز به الدكتور زكي نجيب بخلاف جل المؤسسين لا ينتسب إلى المدرسة القارية وإنما ينتسب إلى المدرسة السكسونية، حيث ينظر للثقافة الغربية بمنظار مختلف عن الثقافة الفرنسية خاصة وهي المؤثرة منذ بداية عهد محمد علي باشا في مصر.

 من أقواله الرائعة التي لا تنسى قوله " إن الثقافة ثقافة الأقدمين أو المعاصرين هي طرائق عيش، فإذا كان عند أسلافنا طريقة تفيدنا في معاشنا الراهن أخذناها، وكان ذلك هو الجانب الذي نحييه من التراث، وأما ما لا ينفع نفعا علميا تطبيقيا فهو الذي نتركه غير آسفين.

 قصدت أن أفتتح ورقتي هذا بهذه المقولة لنقول: حمل انفتاح الشرق على أوروبا في القرن التاسع عشر الكثير من الأسئلة السياسية، والاجتماعية، والثقافية، وكان أحد أهم هذه الأسئلة هو الموقف من التراث العربي، ومنشأ السؤال في أغلب الأحيان، كان البحث من سبيل للحاق عن حضارة بدت زاهية في عيون العرب آنذاك.

 تعددت المحاولات للبحث عن حل لهذه المعادلة منذ عهد البعثات الأولي إلى فرنسا في زمن محمد على باشا، وإلى اليوم، ففي المكتبة العامة في المبني الرئيسي من جامعة لندن في عام 1946 لمعت الفكرة في ذهن الباحث المصري آنذاك " زكي نجيب محمود" لتشتعل شرارة بحق ظلت متوقدة لأكثر من أربعة عقود تالية، حيث توجه بكتابه "المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري"، والذي يمثل علامة في فكره، حيث نجده قبل سفره إلى أوروبا كان يعترف بذاته أنه لم يكن على دراية كافية بالثقافة العربية، وكان يشك في امكانية الثقافة العربية ذاتها في أن تصلح من أحوال العالم الثقافي، ولكن حينما تبحر في الثقافة وعرف التراث جيدا كما كان يقول بدأ ينتقي منه ما يصلح لنا من الناحية الفلسفية، وكان ذلك خلال فترة الأربعينيات من القرن الماضي، ثم بعد ذلك اعتبر أن التخلي عن التراث هو انتحار حضاري، وذلك بعد أن شهد النقاش بين التراثيين والحداثيين، حيث التراثيين الذين يرمون الدخول في التراث ونقله بكامله، والحداثيين الذين يرون الانقطاع، فكانت خلاصة أعماله في كتاب "المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري" أنه أراد وصلا بين هذا وذاك، حيث يقول: وقد أردت بهذا الكتاب الذي بين يديك أن أقف مع الأسلاف في نظراتهم العقلية وفي شطحاتهم اللاعقلية كليهما، فأقف معهم عند لقطات التقطتها من حياتهم الثقافية، لأرى من أي نوع كانت مشكلاتهم الفكرية وكيف التمسوا لها الحلول ؟.. لكنني إذ فعلت ذلك، لم أحاول أن أعاصرهم، وأتقمص أرواحهم لأرى بعيونهم وأحس بقلوبهم، بل آثرت لنفسي أن احتفظ بعصري وثقافتي، ثم أستمع إليهم كأنني الزائر جلس صامتا لينصت إلى ما يدور حوله من نقاش، ثم يدلي فيه بعد ذلك لنفسه ولمعاصريه برأي يقبل به هذا ويرفض ذاك.

  يقول الدكتور زكي نجيب محمود في مقدمة كتابه: أردت بهذا الكتاب الذى بين يديك أن أقف مع الأسلاف - فى نظراتهم العقلية وفى شطحاتهم اللاعقلية كِليهما - فأقف معهم عند لقطات ألقطها من حياتهم الثقافية، لأرى مِن أى نوع كانت مشكلاتهم الفكرية، وكيف الْتمَسوا لها الحلول، لكنني إذ فعلتُ ذلك، لم أحاول أن أُعاصرهم وأتقمَّص أرواحهم لأرى بعيونهم وأُحِسَّ بقلوبهم، بل آثرتُ لنفسي أن أحتفظَ بعصري وثقافتي، ثم أستمع إليهم كأنني الزائر جلس صامتًا لِيُنصِت إلى ما يدور حوله من نقاش، ثم يُدْلى فيه بعد ذلك - لنفسه ولمعاصريه - برأي يَقبل به هذا ويَرفض ذاك.

 ثم يستطرد فيقول: قسمتُ الكتاب قسمَين: جعلت أحدَهما لرحلتي على طريق العقل عندهم، وجعلتُ الآخرَ لبعض ما رأيتُه عندهم مجافيًا للعقل، لائذًا بما ظنوه أعلى منه، وتعمدتُ أن يجيء القسم الأول أكبرَ القِسمَين؛ لتكون النسبة بين الحجمَين دالةً بذاتها على النسبة التي أراها واقعة في حياتهم الفعلية بين ما وزَنوه بميزان العقل وما تركوه لشطحة الوجدان.

 وهنا نجد أن الدكتور زكي نجيب محمود حين هنا حين يحاول أن يحيل على القدماء بنظرة عصره، فهذه لا تعد نظرة تاريخية سليمة وهو يعترف بذلك ومدرك بذلك، فهو قد أصبح يحلل التاريخ ليس بنظرة الأديب ولا المؤرخ فقط ولكن الفيلسوف، فهو ينظر إلى التاريخ الإسلامي على وجه التحديد في القرون الأولى بشكل بانورامي ينتقل بنا من مدينة، ومن مفكر إلى مفكر، ليرسم لنا أبعاد المعقول واللامعقول في التراث العربي.

 كذلك في تقدير البعض فإن الدكتور زكي نجيب محمود أراد في هذا الكتاب أن يكون توأما لكتابه الآخر " تجديد الفكر العربي"، وفي هذين الكتابين الغرض هو إعادة الكرة وإعادة الغزوة، تلك الغزوة التي ربما قد فشل فيها في كتابه " خرافة الميتافيزيقا "، هذه المرة الجديدة التي يحاول أن يشتبك مع تراث التقليديين، وأن يبرهن لهم أن هنالك امكانية جديدة للانخراط مع الفلسفة الحديثة واستنباط المعقول من التراث العربي الإسلامي، ولهذا يقول الدكتور أبو يعرب المرزوقي:" كنا ننتظر أن نسميه العقل واللاعقل، فلماذا سماه زكي نجيب المعقول واللامعقول، وهو اسم مفعول، والذي يعد إشارة إلى أن مشكلة الدكتور زكي نجيب محمود ليس في العقل وإنما في ثمرة العقل، أي فيما ينفيه العقل من معقولية على معرفة الإنسان بالوجود دون أن يطرح إشكالية طبيعة العقل، وهي إشكالية ميتافيزيقية، وهذا علة استغرابي من غياب النقد الكانطي في فكره، لأن النقد الكانطي يميز بين ما يدركه العقل وبين الواقع الحقيقي.

 وهذا حقا لأن الدكتور زكي نجيب محمود دخل إلى بحثه بأفكار مسبقة، حيث أخذ جزء منه من برتراند راسل ونظرته في التفريق بين المنطق والتصوف، حيث كان يرى أن المنطق به حركة استدلالية، بمعنى أن تستخدم سبب وسبب لتصل إلى نتيجة، وأما في حالة التصوف فلا توجد لديه حركة فكرية ولكنه نوع من السكون، حيث يوجد هناك فيض ينزل عليك دون أسباب، وتطبيق هذه الأفكار المسبقة كان فيها نوع من التعسف في تناول بعض النقاط، فمثلا تناول الدكتور زكي نجيب محمود للقرن الهجري الأول، أو رؤيته السلبية الموجزة للإمام أبو حامد الغزالي، ولهذا رأينا الدكتور زكي نجيب محمود كان في هذا الكتاب يريد أن يثبت انتماءه للتراث لكنه ليس انتماء واضحا، وإنما انتماء بمرجعية عقلية أوروبية، ولهذا فالقارئ هنا في كتاب الدكتور زكي نجيب محمود سرعان ما يدرك أنه يحاولا لا أن يستقرأ التراث ليبحث عن حق فيه أو حقيقه، بل هو يبحث عن سند لما يعتقد من وجهة نظرة علمية وضعية إلى حد كبير، فكأنما يضع الدكتور زكي نجيب محمود العربة أمام الحصان، وذلك حين أراد أن يقول لنا أن المعقول من التراث الإسلامي هو ما ورافق التصور الغربي للتعقل.. ألم يقل " إن أصحاب اللاعقل في تراثنا وأتباعهم ثم أتباع أتباعهم الذين ما يزالون يملؤون رحاب الأرض، إنما ينظرون إلى الطبيعة وتصاريفها نظرة الساحر لا نطرة العالم، فما السحر؟.. هو محاولة استحداث النتائج عن غير أسبابها ؛ فإذا نزول المطر نتيجة طبيعية لعوامل مناخية معينة، يحاولون هم أن يستنزلوه بقراءة التعازيم من كلم يظنون به القدرة على فعل ما يريدون.

 ولهذا رأينا الدكتور زكي نجيب محمود في تقسيمه للكتاب يقسمه على أساس أيه قرآنية وردت في سورة النور، يقول الدكتور زكي نجيب: ولقد اهتديتُ في رحلتي على طريق العقل بدرجات الإدراك فى صعودها من البسيط إلى المركَّب، وهى المراحل التي أشار إليها الغَزالي عند تأويله لآية النور: فالمشكاة، والمصباح، والزجاجة، والزيتونة هى عنده درجاتٌ مِن الوعي، تتصاعد وتزداد كشفًا ونَفاذًا، فاستخدمتُ بدَوري هذه المراحل لأرى من خلالها خمسة قرون من تاريخ الفكر في المشرق العربي - من القرن السابع الميلادي إلى بداية القرن الثاني عشر - إذ خُيِّل إلى أن السابع قد رأى الأمور رؤيةَ المشكاة، والثامن قد رآها رؤية المصباح، والتاسع والعاشر قد رأَيَاها رؤية الزجاجة التي كانت كأنها الكوكب الدُّري، ثم رآها الحادي عشَر رؤية الشجرة المباركة التي تُضيء بذاتها؛ وذلك لأنى قد رأيتُ أهل القرن السابع وكأنهم يُعالجون شئونهم بفطرة البديهة، وأهل القرن الثامن وقد أخَذوا يضَعون القواعد، وأهل القرنين التاسع والعاشر وقد صَعِدوا من القواعد المتفرقة إلى المبادئ الشاملة التي تضمُّ الأشتاتَ في جذوع واحدة، ثم جاء الحادي عشر بنظرة المتصوِّف التي تَنطوي إلى دخيلة الذات من باطن؛ لترى فيها الحقَّ رؤية مباشرة. كذلك تصورتُ لكل مرحلة من هذه المراحل سؤالًا محوريًّا كان للناس مَدارَ التفكير والأخذ والرد؛ ففي المرحلة الأولى كانت الصدارةُ للمشكلة السياسية الاجتماعية؛ مَن ذا يكون أحقَّ بالحكم؟ وكيف يُجزى الفاعلون بحيث يُصان العدل كما أراده الله؟ وفى المرحلة الثانية كان السؤال الرئيسي: أيكون الأساس في ميادين اللغة والأدب مقاييسَ يَفرِضها المنطق لِتُطبَّق على الأقدمين والمحْدَثين على سواء، أم يكون الأساسُ هو السابقاتِ التي وردَت على ألسنة الأقدمين فنَعُدَّها نموذجًا يُقاس عليه الصواب والخطأ؟ وفى المرحلة الثالثة كان السؤال هو هذا: هل تكون الثقافة عربيةً خالصة، أو نُغذِّيها بروافدَ مِن كل أقطار الأرض لِتُصبِح ثقافة عالمية للإنسان من حيث هو إنسان؟ وجاء القرن العاشر فأخذ يضمُّ حصاد الفكر في نظرات شاملة؛ شأن الإنسان إذا اكتمل له النُّضج واتسَع الأفق، وها هنا كان العقل قد بلَغ مَداه، فجاءت مرحلةٌ خاتِمة يقول أصحابُها للعقل: كفاك! فسبيلنا منذ اليوم هو قلوب المتصوفة. وأما القسم الثاني من الكتاب ففيه نظرةٌ موجزة إلى الوجه الآخر من قطعة النقد، حتى لا نرى الحقيقةَ من جانب واحد؛ فإلى جانب الوقفات العقلية عند أسلافنا كان هنالك حالاتٌ رفَضوا فيها أحكام العقل ولاذوا بما نبضَت به قلوبهم حينًا، وبما أشبَع فيهم خيال الأيفاع حينًا آخر، وحاوَلتُ جهدي أن أُحلِّل المعنى المقصود بمصطلَح "اللامعقول" حتى لا يَنصرف في الأذهان إلى شتم وازدراء، إنما هو لونٌ آخر يَنبع عند الناس دائمًا من صميم فِطرتهم الإنسانية، وكل ما في الأمر أنني لا أجد هذا الجانبَ من السابقين قنطرةً تصلح لعبور اللاحِقين إذا أرادوا وَصْل الطريق، واكتفيتُ من جانب اللامعقول هذا بصورتَين: التصوُّف إحداهما، والسحر والتنجيم ثانيتُهما، ورأيتُ في ذلك ما يَكفى لاكتمال الصورة التي أردتُ رسْمَها أمام القارئين.

  ولهذا عندما يتكلم عن اللامعقول فهو يتكلم عن السحر والتنجيم والجانب اللاعقلاني في التصوف الإسلامي، وهنا أعيب على الدكتور زكي نجيب محمود في نقده للتصوف، حيث إن مشاهدات المتصوفة قد تكون تجربة فريدة وهو لا يشك فيها لأنه يرى أن علماء النفس يحللونها ولكن خروجها للعامة في نظر الدكتور زكي نجيب محمود على أنها طريق يُتبع فهذه هي الكارثة والطامة التي حدثت في عالمنا العربي في نظره.

 ولهذا رأينا مع صدور كتابه واجه الدكتور زكي نجيب محمود نقدا واسعا من كل التيارات الفكرية آنذاك، فمن يرون ضرورة التخلي التام عن التراث ساءتهم محاولته على الإبقاء على جزء منه، ومن يرى ضرورة الالتزام به في التراث كما هو اعتبر محاولته خطوة مراوغة في سبيل إبطال كامل التراث، فالرجل كان يعتقد أن في التراث أشياء تستحق البقاء، وهذا ما يعيب عليه الدكتور " جورج طرابيشي" في نقده لأنه يعتبر أن الانتقاء من التراث في النهاية ينتهي إلى رمي كل التراث، وأن ما قام به الدكتور زكي نجيب محمود هو نوع من التحايل، حتى إنه يقول " إذا تابعنا الدكتور زكي نجيب محمود فينبغي أن ننتظر قرنا آخر حتى نتخلص من التراث ونصبح حداثيين.

 والسؤال الآن: هل نبدأ الفكرة من أن تراثنا معصوم أو كله حق ؟.. فهناك من الأفكار في تراثنا ما استنفد قوته؟.. ولكن خصوصية الإسلام تأتي من أن التراث يشتبك مع الدين، وهذا الاشتباك الكامل بين التفسير والأصول واللغة وغيرها، يجعل الفصل بينها بين التراثات مستحيلة، وذلك لكونها تُبني على شكل متراكم متداخلة جدا، ولهذا بعض الأفكار حين نقول أصبحت تاريخية، وبرغم ذلك فالإنسان لا يعيش إلا في ترتثه، فأنت عندما تٌبطل التراث، فإنما تُفسد هويتك، وربما هذا هو بيت القصيد، حيث بيت القصيد هو ماذا نفعل بالدين، فهل الدين خرافة تُلقي؟، أم هو مقاصد يحتذي بها، ولهذا رأينا الدكتور زكي نجيب محمود أراد بكتابه المعقول واللامعقول أن يبرهن للمتدين وغير المتدين على أن الدين في الحقيقة يحمل في ذاته تدينات كثيرة، فتدين الفقيه ليس هو نفس تدين صاحب روايات الحديث، ولا تدين الصوفي، ولا تدين الفيلسوف، ولهذا يقول الدكتور زكي نجيب محمود: لقد سار الإنسان في محاولته أن يتصور العالم من حيث هو كل واحد، مدفوعا بدافعين مختلفين كل الاختلاف، وقد يتلاقى هذان الدافعان معا في إنسان واحد وقد لا يتلاقيان، فأولهما هو الذي يحفز الإنسان إلى النظر للوجود نظرة المتصوف، وأما الثاني فيحفزه إلى النظر بوسيلة العقل نظرة العلماء، ولقد استطاع نفر أن يبلغوا قمة العبقرية بالدافع الأول وحده، كما استطاع نفر آخر بلوغ تلك القمة بالدافع الثاني وحده، ولكن لعل أعظمهم جميعا هم أولئك الذين اجتمعت لهم عناصر المعرفة العقلية وعناصر الإدراك الصوفي في آن معا.

 وهنا يقول الدكتور أبو يعرب المرزوقي: ما اكتشفته في قراءة أعمال الدكتور زكي نجيب محمود هو أنه يجمع بين نوع من الفكر الصوفي والفكر التحليلي، فيبدو أن الدكتور زكي نجيب محمود حين ألف كتاب المعقول واللامعقول اختار أن يكون نموذج التطور الفكري هو ما ورد في كتاب لأبي حامد الغزالي وهو كتاب " مشكاة الأنوار".

 نعم ففي تنظيمه للجزء الأول والذي يختص بالمعقول في تراثنا الفكري تأثر الدكتور زكي نجيب محمود بتأويل الإمام الغزالي للآية 35 في سورة النور وهي " اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ"، كل هذه المسميات الموجودة في الآية عبارة عن مراحل من الوعي والإدراك، أخذها الدكتور زكي نجيب محمود وطبقها على القرون الخمسة الأولى في تاريخ الإسلام، فقال إن القرن الأول الهجري يرمز له بالمشكاة، فرأينا أن كل القرارات السياسية التي أٌخذت في فترة المشكاة، هي قرارات أخذت بدون تفكير وبدون تقعيد للقواعد كما يقول، ثم بعد ذلك تأتي في القرون التالية فترة المصباح،وفي تلك الفترة نبدأ لنقعد القواعد، حيث بدأ المسلمون يكتشفون العالم الآخر، وتٌثار قضايا هامة آثارها المعتزلة في مسألة الكبائر وصفات الله، فهذه كلها أفكار بدأت تتبلور في فترة المصباح.

 وعندما وصل الدكتور زكي نجيب محمود إلى القرن الرابع الهجري والذي يسميه بالكوكب الدري، فازداد تراثنا الفكرية عندما انتقل من مرحلة العلم إلى مرحلة فلسفة العلم، وهنا ظهرت الأسماء العظمى في تاريخ الإسلام، وعقب القرن الرابع ـ وهو القرن الخامس، دخلنا في مرحلة الشجرة المباركة وجدنا الحضارة الإسلامية قد انطلقت لتعلن على جميع موجات الدنيا بأننا دخلنا في عصر الإبداع الحضاري.

  بيد أن أننا أصبنا بصدمة من قبل الدكتور زكي نجيب محمود حيث رأيناه يتوقف في القرن الخامس عند الغزالي، ولا يتكلم عن القرن السادس وهو عصر السهروردي المقتول، ولا يتكلم عن القرن السابع وبالأخص الإبداعات الرياضية الإسلامية، ولا يتكلم عن القرن الثامن ومنه الابداعات الخلدونية.

 على أية حال فإن ما يغفر للدكتور زكي نجيب هو قوله الشهير في المتاب:" إنني في هذا الكتاب شبيهٌ بمُسافر في أرض غريبة، حط رحالَه في هذا البلد حينًا، وفى ذلك البلد حينًا، كلما وجد في طريقه ما يَستلفِت النظر ويَستحق الرؤية والسمع، ومثلى في رحلتي هذه مثل السائح؛ قد يُفلِت من نظره أهمُّ المعالم؛ لأنه غريبٌ لا يعرف بادئَ ذي بَدْء أين تكون المعالم البارزة، إلا إذا اهتدى بدليل من أبناء البلد، ولكنني أيضًا — مثل السائح الغريب — قد تقع عيني على شيء لا تراه أعيُن أبناء البلد؛ لأنه مألوف لهم حتى لم يَعودوا قادِرين على رؤيته رؤية صحيحة، ومن هنا كنتُ لا أستبعد وقوعي في أخطاء بمَعنيَين؛ بمعنى إهمال ما لم يَكُن يجوز إهماله من معالم الطريق، وبمعنى وقوف النظر أحيانًا عند ما لا يستحق الوقوف عنده بالنظر، وواضحٌ أنه لو أراد مُسافر آخرُ أن يَستبدل لرؤيته منظارًا بمنظار لرأى رؤيةً أخرى، وانتهى إلى أحكام أخرى غيرَ التي رأيتُ وإليها انتهيت... وللحديث بقية..

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة أسيوط

.................

المراجع

 1-الدكتور زكي نجيب محمود: المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري رحلة عبر التراث العربي، دار الشرق.

2-قناة الجزيرة: خارج النص | "المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري".. رحلة عبر التراث العربي.. يوتيوب.

يحلل نضج الزمان وقوة المكان

العالم الروسي ميخائيل باختين من الأعلام المعروفة في حركة النقد الأدبي المعاصر، وكثيراً ما يورد بعض النقاد اسمه. ولغة باختين تتميز عن أسلوب الباحثين الآخرين بصعوبتها بسبب تنوع أفكاره وأصالته، وهي صعبة ليس على القراء الاعتياديين وحسب، بل على الاختصاصيين الذين يقرؤونه باللغة الروسية، حيث توجد في أبحاثه الكثير من المقاطع والعبارات الغامضة، وبسبب هذه الصعوبة وهذا الغموض ، فقد حاول الكاتب الدكتور زهير شليبه أن يسهل الأمور للقارئ بتقديم مقال استعراضي تناول فيه أهم أبحاث باختين، متجنباً التشعب والانغمار في الثانوي، مهتماً بالتعريف بفكر الباحث ومكانته في علم الأدب وذلك من خلال الكتاب الصادر عن دار حوران مؤخراً بدمشق بعنوان ميخائيل باختين ودراسات أخرى عن الرواية. تتجسد فكرة هذا البحث ف يتجاوزه الهوة الشاسعة بين المدرسة الشكلية ، وكذلك في دراسة الكلمة الفنية، وفي أنه يجب أن تفهم الكلمة كظاهرة اجتماعية في كل مجالات حياتها وفي الحالات كلها التي تتواجد فيها بدءاً من الصورة الصوتية وانتهاء بطبقات الصوت ذات المعنى الخاص. ولهذا فإن باختين يهدف من دراسته إلى شرح سمات لغة النثر وعلى الأخص الرواية. ولقد أدى عزل الأسلوب واللغة عن النوع الأدبي في أكثر الحالات، إلى أن  تدرس النبرات الذاتية والاتجاهية للأسلوب فقط، بينما تركت النبرة الاجتماعية بعيداً عن اهتمام النقاد.

يهتم علم أساليب الكلام ببلاغة أسلوب الفنان ومهارته المحددة ضمن مشغله – على حد تعبير باختين – ولا يعير هذا العلم أهمية إلى الطابع الاجتماعي أو الحياة الاجتماعية للكلمة ونشاطها خارج مشغل الكاتب، بعيداً عن منضدة عمله ، أي في الساحات الواسعة والشوارع والمدن والقرى والجماعات والأجيال والعصور.

إن علم أسلوب الكلام لا يمتلك صلة بالكلمة الحية ، بل بجهاز الهستولوجي (علم الأنسجة الحية) وبالكلمة اللغوية المجردة، بينما تحصل النغمات الإضافية الذاتية والاتجاهية للأسلوب عن طريق حياة الكلمة الاجتماعية ، وتحصل على إضافة تفسير سطحي وتجريدي ، ولا يمكن أن تدرس في وحدة عضوية مع مجالات المعنى في العمل الأدبي.

الهرونوتوب بتعريف باختين يعني : ( العلاقة المتبادلة والملموسة بين المكان والزمان (الزمان – المكان). لقد استخدم المصطلح الهرونوتوب) في علم الرياضيات واستعمله اينشتاين أيضاً في النظرية النسبية . وقد أدخله باختين في علم الأدب مجازاً معبراً عن ارتباط الزمان والمكان (الزمان كبعد رابع للمكان) وأراد منه فهم الهرونوتوب كمقولة مضمونية شكلية للأدب وليس معناه في مجالات الحياة الأخرى. وفي الهرونوتوب الأدبي الفني تلمس ذلك الارتباط المتبادل بين العلاقات المكانية والزمانية في الكل المدرك والملموس. ونلاحظ أن الزمان يتكثف ويتلقص ، ويصبح ناضجاً فنياً، أما المكان فيصبح بدوره قوياً ويمتد حتى يصل إلى حركة الزمان والمضمون والتاريخ وتتضح علاقة الزمان في في المكان. أما الأخير فيمكن إدراكه بواسطة الزمان. وقد تابع باختين الهرونوتوب من خلال تطور مختلف الرواية الأوروبية بدءاً من ما يسمى بالرواية اليونانية وانتهاء برواية رابليه.

في القسم الثاني من الكتاب يتحدث باختين عن الفن والمسئولية فيقول : (الشخصية يجب ن تكون دائماً وأبداً ذات شعور بالمسؤولية ولا داعي للتبجح والتباهي باللامسؤولية بحجة الإلهام. وإن الإلهام الذي يتجاهل الحياة وتتجاهله الحياة نفسها ليس إلهاماً، بل صراعاً وجنوناً.

اعتمد باختين في دراسته (حول مسألة المحتوى، المادة والشكل في الإبداع الكلامي) على علم الجمال الفلسفي مسترشداً بمنطلقاته الفكرية نفسها ، فيقدم (البطل) و (المؤلف) كمفهومين مأخذوين من علم الجمال الفلسفي العام ، أي أن باختين عمل الحدث على تأكيد الصلة الوثيقة بين الكاتب والبطل ، باعتبارهما مشاركين في (الحدث الجمالي) وتوضيحهما ، إضافة إلى تأثير الحدث على علاقتهما المتبادلة في العمل الإبداعي الفني.

لمفهوم الحدث أهمية كبيرة في فكر باختين الجمالي، ويعد من أهم مفهيمه الواسعة والعامة للحوار. يعتبر باختين الحوار حدثاً هاماً في العلاقات الإنسانية. وضمن هذا السياق يقدم تفسيره للوحدة التامة في رواية دوستويفسكي المتعددة الأصوات كحدث للعلاقات المتبادلة بين مختلف الإدراكات المتساوية فيما بينهما ، التي لا تكتفي بالتفسير المضموني المنفعي. أي أنه لا يمكن  الحدث الجمالي أن يتقوقع أو ينحصر  ضمن أطر العمل الفني، بل له امتدادات بعيدة خارج النص الأدبي.

عالج باختين في كتابه (قضايا إبداع دوستويفسكي) مسألة الموضوع الجمالي والشكل المعماري لروايات دوستويفسكي الموهبة نحو قيم العالم الإنساني – كحقيقة (الوعي الذاتي للشخصية ، أي الإنسان في الإنسان ، حسب فلسفة دوستويفسكي ، وتعايشه العميق (الحوار الدائم) مع الشخصيات الأخرى).

ويسمى باختين هذا النفاذ الفكري القيم لكل عناصر العمل بالاجتماعية الداخلية وتدل ملاحظة باختين على النزعة التاريخية، كأساس ضروري للتحليل النظري ، على سعة رؤيته لمسائل الإبداع الفني، وقبل كل شيء لمسألة تقاليد الرواية عند دوستويفسكي.

حاول باختين أن يبرهن ويؤكد على استقلالية شخصيات دوستويفسكي وحريتها، إلا أن بعض القراء والنقاد لاحظوا هذا الجانب فقط من المسألة فأطلقوا العنان لتفسيراتهم في هذا الاتجاه، ومع ذلك فكلمة البطل لا تخرج من نية الكاتب الفنية، بل من ثقافته ومداركه المونولوجية.

وقد أشار باختين إلى أن (المعنى – الإدراك) في العمل الفني، ينتمي في نهاية المطاف وفي آخر مراحل نضجه، إلى الكاتب فقط وإن هذا المعنى ينتمي بدوره إلى الواقع وليس إلى (إدراك آخر متساو)، أي أن المغزى الفني النهائي والأخير للعالم الإبداعي الذي خلقه دوستويفسكي، يعود إلى الواقع وليس إلى (المدارك المتساوية) للأبطال الذين يشكلون بدورهم ولادات ذاتية للواقع.

حدد باختين ثلاث سمات أساسية تتميز الرواية مبدئياً عن كل الأنواع الأخرى.

1-    تنوع أساليب الرواية المرتبطة بالوعي المتعدد اللغات المتحقق في الرواية.

2-    التغيير الجذري في إحداثيات الزمان للشخصية الأدبية في الرواية.

3-    منطقة جديدة لبناء الشخصية الأدبية في الرواية.

تكمن الخاصية الأولى في أن الرواية – من وهة النظر الأسلوبية – تمثل عملاً فنياً متعدد الأصوات ، التي تتسم بتنوع أشكال الحديث والتعبير الاجتماعية المختلفة للغة نفسها. وقد أغفل علماء اللغة هذه الموضوعة الجديرة بالاهتمام التي طرحها باختين ، أي أنهم لم يتناولوا اللغة الروائية كظاهرة اجتماعية، ولم يأخذوا بعين الاعتبار الخلفية الاجتماعية لمفردات النثر الروائي ولا علاقة الأخيرة بالأحداث.

السمة الثانية التي تميز بها الرواية فهي أهمية الانتقال والتغيير في تصوير الزمان ، وضرورة التعبير عنه في العمل الروائي ضمن خطوط بيانية تكشف هذا التغيير. فالزمان في العمل الروائي يمارس حضوره الدائم، وهو انعكاس لحركة المجتمع والأحداث والشخصيات.

والسمة الثالثة تكمن في خصائص تصوير البطل الروائي الذي يجب أن يقدم بشكل تدريجي وعبر مسارات تطور الأحداث وأن يكون على صلة بالواقع.

الفصل المعنون (عصر الرواية) جاء بقلم بافل غرينتسر ، وقد أراد المؤلف أن يعرض للقارئ تلك المقالات التي كتبها غرينتسر، والتي تناولت مختلف جوانب نشأة آداب الشرق وأفريقيا فيه وتطورها والأدب العربي القديم، وبواكير الأشكال الروائية الأولى في التراث الأدبي العربي. وقد اعتمد غرينتسر على أسس الأدب المقارن في كتابته لبحث (عصر الرواية) فتناول عملية التطور الأدبي التاريخية التي مر بها النوع الروائي في أغلب آداب آسيا وأفريقيا بما فيها الأدب الرعبي. وهو بهذا لخص أغلب النظريات والأفكار الصادرة فيما يخص النوع الروائي، ولم ينس أن يتطرق إلى الرواية العربية، مقارناً ظروف نشأتها بظروف نظريتها في آداب الشرق.

الكتاب : ميخائيل باختين ودراسات أخرى عن الرواية

الكاتب : د. زهير ياسين شليبه

الناشر : دار حوران – دمشق 2001

عدد الصفحات : 131 من القطع المتوسط.

***

عقبة زيدان

يعد الدكتور فيصل الأحمر من الباحثين الجزائريين القلائل الذين يجمعون بين اهتمامات معرفية وإبداعية كثيرة، فهو الشاعر والروائي والناقد والمترجم والأكاديمي، الأمر الذي جعله يكتسب رصيدا تأليفيا يتكون من قائمة تتوزع بين الشعر والرواية والسيرة الذاتية والفكرية والكتب النقدية والترجمات المختلفة. دون إغفال اهتمامه بأدب الخيال العلمي كتابة إبداعية ونقدا تأسيسيا.

 ومن الدراسات النقدية التي تهمنا في هذا السياق كتابه  في أفق الدراسات الثقافية الصادر عن منشورات الاختلاف الجزائر عام 2019. وهو من الكتب التي لم تنل اهتماما نقديا في الأوساط العربية لأسباب تبقى مجهولة .

خصائص الدراسات الثقافية

أذا أردنا مناقشة كتاب فيصل الأحمر أفق الدراسات الثقافية فإننا يجب أولا الوقوف عند مجموعة من الخصائص التي تتميز بها الدراسات الثقافية.  

1- فهي نشاط معرفي عابر للتخصصات، وتتحقق هذه الخاصية بواسطة قدرة الانفتاح على المعارف المجاورة مثل علم الاجتماع  وعلوم الاتصال والفلسفة والتاريخ والدراسات الأنتربولوجية والنقد الأدبي وعلم الجمال والفكر السياسي وغيرها. ونشير هنا أن هذه الخاصية قد وجدت من يرفض بسببها هذا الحقل المعرفي، ويدعو إلى مراجعة مقولاته خاصة في السياق العربية

2-  الدراسات الثقافية ليست على شاكلة واحدة وموحدة، فهي حقل عابر للجغرافيا، قابل للتوطين، إذ تتلون بصبغة كل ثقافة تحل بها، فمثلا هناك فروق دقيقة بين الدراسات الثقافية في بريطانيا (موطنها الأصلي) وبين الدراسات الثقافية في و.م.أ وبينها وبين نظيرتها في الهند وباقي أنحاء العالم.

وبالعودة إلى كتاب فيصل الأحمر "أفق الدراسات الثقافية" يمكن أن تواجه القارئ جملة من التساؤلات من قبيل:

- ماذا سيضيف هذا الكتاب للمتلقي العربي؟

- هل استند الكتاب على وعي نقدي، أم هو محاولة لمواكبة موضة الدراسات الثقافية؟

- لماذا وصل فيصل الأحمر متأخرا، خاصة إذا استحضرنا عقدين من تواجد الدراسات الثقافية عربيا؟

ولو عدنا إلى كتابه أفق الدراسات الثقافية لتمكنا من الإجابة عن بعض هذه الأسئلة

لقد  قسم فيصل الأحمر كتابه  إلى آفاق معرفية عديدة وهي:

- أفق الدراسات الثقافية، أفق معرفي.

- من سلطة التدليل إلى سلطة التخييل بين السرد والتاريخ: أفق فلسفي.

- شذرات من خطاب لغوي: أفق اللغة

- النص من منظور الدراسات الثقافية، من القاعدة اللغوية إلى اللعبة الكلامية: أفق النص

- مقدمات جديدة في فلسفة التاريخ باتجاه هرمنيوطيقا التاريخ: أفق التاريخ.

- الخيال العلمي والفلسفة: أفق الافتراض

- في مقاربة ما بعد البينوية: أفق تحقيببي

- حكمة للأزمنة الجديدة: المشروع الأخلاقي لدى إدغار موران: أفق إتيقي

- الخيال العلمي والمستنسخ: أفق الواقع

- الصوت والدلالة: أفق الصوت، الدلالة

- يوميات فلسفية

- الحاجة إلى التنوير.

     ينطلق فيصل الأحمر من هذه الآفاق محاولا وضع القارئ ضمن شروط أساسية تضمن التعرف على الدراسات الثقافية بعيدا عن العقلية التأريخية، حيث يتجاوز ذلك إلى الخوض في قضايا عديدة تقترب من الممارسة النقدية الفاحصة، والمختلفة. ومن هذه القضايا ما يلي.

- الدراسات الثقافية: التنوع والانفتاح

يرى فيصل الأحمر أن الدراسات الثقافية حقل عابر للتخصصات، فهي تتحقق من خلال الانفتاح على المعارف المجاورة للثقافة عموما وللأدب خصوصا، مثل التاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع والأنتربولوجيا وعلوم الاتصال وغيرها....

كما إن الدراسات الثقافية عنده ليست واحدة، حيث تتلون بصبغة كل بلد تحل به، فمثلا يخبرنا أن هذا النشاط في الولايات المتحدة الأمريكية يهتم بموضوعات النظرية السياسية والاقتصاد السياسي ودور الميديا في صناعة الوعي.

أما في آسيا خاصة الهند فالدراسات الثقافية قد تم مزاوجتها مع المقولات الثقافية ما بعد الكولونيالية مثل الهجنة ودور الأقليات والفضاء ما بعد الكولونيالي في خلق عملية الرد بالكتابة.

والدراسات الثقافية في أوربا قد اهتمت بقضايا الإيديولوجيا البيضاء والهيمنة الأبوية والسعي نحو الخروج من سلطة الأب المهيمن. وفي بريطانيا تتلبس الدراسات الثقافية لبوس يساري .....

بينما نجد أن فيصل الأحمر يقف عند مكامن العطب في استقبال النقاد العرب للدراسات الثقافية وحصرها تقريبا في جهود ادوارد سعيد خاصة في كتابيه الاستشراق والثقافة والأمبريالية.

ويصبح دور الدراسات الثقافية عند الباحث هي " إعادة تفكيك ما قد انبنى من الأصنام الحياتية والاجتماعية بمعزل عن إرادة الفرد البسيط المتناهي في الصغر  على المستوى السياسي، والمتناهي في الخطر على المستوى الثقافي والمتماهي والقدر مع ذلك على المستويات كلها." ص 17.

الدراسات الثقافية والنصوص:

يتحول الباحث بعد ذلك نحو مناقشة العلاقة الكامنة بين النص والدراسات الثقافية، حيث يتحول النص في هذا الحقل المعرفي من معناه الحرفي المتداول للتعبير عن التجربة المعيشة أو ليصبح ممارسة دالة، إذ كل ممارسة دالة هي نص. وتتحقق قيمة هذه النصوص  في معرفتها ضمن السياقات السياسية والطبقية والإيديولوجية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والثقافية والاجتماعية التي أنتجتها.

وللدراسات الثقافية حسبه " طريقة خاصة في مقاربة الأرضية الأكثر عراقة لكل معرفة: النصوص، ولكن المتحري لطرائق دراسة النصوص ومساءلتها في هذا الميدان سيجد الهواجس الكلاسيكية التي هي تاريخية النصوص وجماليتها ودفاتر الأحكام النقدية السابقة حولها وحتى الجوانب الشكلية التي درجت المعرفة البشرية الكلاسكية على الاحتفاء بها كسمات دالة على فردات المؤلفين وعلى بؤر توتر الجماعات في سياقات تاريخية معينة، كل ذلك ليس هاما بقدر السؤال الذي يحرك الدراسات الثقافية في مواجهة النصوص: ما الذي يتحكم في ظهور نصوص معينة في سياق تاريخي وثقافي معين؟ وما هو الدور الاجتماعي والسياسي والإيديولوجي الثوري الذي تلعبه هذه النصوص؟ " ص 16.

تركيب:

ومن الملاحظات التي نسجلها حول كتاب فيصل الأحمر أنه نسج على منوال ما يكتب في الولايات المتحدة الأمريكية ويمكن أن نستحضر كتابي مايكل ريان الدراسات الثقافية مدخل تطبيقي ترجمة خالد سهر، وسايمون دوريينغ الدراسات الثقافية مقدمة نقدية. ترجمة ممدوح يوسف عمران.  وكما تمكن الباحث من الكتابة في آفاق الدراسات الثقافية بشكل متناسق رغم ما يظهر لغير المتخصص من عدم تجانس هذه المباحث، وغياب الرابط المنهجي والمعرفي بينها.

  ولعل ما أسعف فيصل الأحمر في تحقيق ذلك هو خبرته المتعددة والتي تتوزع بين الفلسفة والنقد والكتابة الإبداعية شعرا ورواية وخيالا علميا والترجمة والاهتمام بالسينما والمسرح ومختلف الفنون السمعية والبصرية .  بالإضافة إلى أن فيصل الأحمر يملك خبرة ودراية بالحاضنة المعرفية التي ولدت فيها الدراسات الثقافية وأهم محطات تطورها.

وتكمن صعوبة هذا الكتاب في أنه - كما ذكرنا سابقا-  عابر للتخصصات منفتح على المعارف المجاورة للباحث الأدبي، مع الكثرة في المداخل المعرفية والأسماء النقدية والفلسفية والتاريخية.

وأخيرا يتطلب هذا الكتاب روحا  قرائية مختلفة عن السائد، كونه يتجاوز النظرة المدرسية بل والحرفية للدراسات الثقافية في المنجز العربي المعاصر.

***

د. طارق بوحالة ...الجزائر

أنا قارئٌ قبل كلِّ شيء وبعد كلِّ شيء. لم تمنحني القراءةُ إجازةً ليومٍ واحد في حياتي، لم أجد نفسي خارج أسر القراءة، وأظن أني لن أتوقف مادمتُ حيًا. قراءتي تتغير بتغيرِ الواقع، والوعي، وتغيرِ المزاج، وعوامل أخرى خفية لا أدركها تفعل فعلَها في انتقاءِ نصوصٍ واستبعادِ أخرى. رفقةُ الورق والكتب استغرقتْ معظمَ أيامي، أنفقتُ من سنوات عمري معها أكثرَ بكثيرٍ مما أنفقتُ برفقة البشر. لو فرضتْ عليّ الأقدارُ أن أختار العيشَ مع الكتب أو البشر لاخترتُ العيشَ مع الكتب. أنا كائن لا أطيق العيشَ بلا منبعٍ للمعنى في حياتي، القراءة كانت ومازالت ترفد حياتي بأعذب معانيها. بعد هذه الخبرة في القراءة أصبح القارئُ كاتبًا، غير أن القراءةَ مازالت تلازمه وتفرض حضورَها كأولويةٍ على الكتابة، لا تصمد مواعيدُ الكتابة وجداولُها الزمنية لحظة يتّقد شغفُ القراءة. حين أضجر من الكتابةِ استريح بالقراءة، وحين أفقد التركيزَ بعد ساعاتٍ من القراءة، لا يستفيق وعيي إلا بالقراءة.

لا أستطيع إحصاءَ ما حصدتُه من مكاسب القراءة والكتابة. بالقراءة والكتابة استطعتُ أن أفكر خارج الأطر المغلقة، أحترم كلَّ رؤية عقلانية، لكن لا أعبأ بالترهيب الذي يمارسه بعضُ المتحدثين والكتّاب، ممن يحاولون إحباطَك برأي من التراث، أو رؤيةٍ لفيلسوف يوناني أو فيلسوف حديث، أو نصٍّ لأديب شهير، أو قولٍ لمفكر معروف. تعلمتُ من الكتابة ما هو أبعد مدى وأدقّ من القراءة، استطعتُ أن أصنع من كلماتٍ مبعثرة معاني مُلهِمة لحياتي. تعلمتُ من الكتابة الوضوح، ورسمَ الحدود بين الأشياء، واكتشافَ جغرافيا المفاهيم وخرائطها، وحرّرتُ ذهني من وصايات الفلاسفة والمفكرين والكتّاب بمختلف أساليبِهم البلاغية، وأدواتِهم اللغوية، ومراوغاتِ كلماتهم.كانت الكتابةُ ومازالت منبعًا غزيرًا لتوالد أسئلةٍ حارقة لما تراكم في ذهني من أوهام، تولد منها أسئلةٌ أشدّ احتراقًا.كلما فكرتُ بعمق وأنا أكتب ضاق فضاءُ الأجوبة واتسعت الأسئلة، ذلك ما يجعلني أتهيّب اقتحامَ الكتابة، وأحاول ألوذ بخيمة القراءة.

يرى القارئُ في هذا الكتاب تفاصيلَ متنوعة عن رحلتي الطويلة بمعية القراءة وممارسة الكتابة. وتكشف له هذه الأوراقُ شيئًا من ذكريات هذه الرفقةِ الشيقةِ في القراءة والشاقةِ في الكتابة، وشيئا مما تعلمتُه من دروسهما الثمينة. ما ورد فيها فصلٌ من محطات حياتي المتنوعة، اخترتُ كتابةَ هذا الفصل قبل غيره من السيرة الذاتية، بوصفه يعبّر عن أثمن ما عشتُه في حياتي. لا أنكر أن صنفًا من الكتب نقلني من يقينٍ مغلق إلى لايقين، وزحزح وثوقياتٍ متجذرة كالكائنات المتحجرة المنهكة لذهني، تلك الوثوقياتُ أخلدتْ تفكيري للنوم. بعد يقظة الذهن تخفّف من أثقال مكثتْ غاطسةً مدة ليست طويلة في منطقةٍ مظلمة، لم يفضحها إلا نورُ التفكير العقلاني.كأن الذهنَ لحظة أزاحها تحرّك بصيرورة متواصلة، لا يلبث طويلًا، إن مكث في محطة، إلا ويغادرها عاجلًا في رحلةٍ لا تتوقف إلى محطةٍ آتية، صار ذهني لا يتطلع للتوقف في المحطات قدر شغفه للسير في الطريق، همُّه المضيّ في رحلة اكتشاف، صار الطريقُ فيها غايتَه لا المحطة. لا يفزعني تساؤل العقل، ولا أخشاه على الإيمان، ولم أحرص يومًا على حماية إيماني بتعطيلِ التفكير العقلاني النقدي. لم تعبث قراءتي وأسئلتي المتواصلة بأخلاقي، ولا بسكينةِ الروح، ولا بطمأنينةِ القلب. مَن يختزل الإنسانَ ببُعدٍ واحد تبدو له هذه واحدةٌ من المفارقات، أدرك جيدًا أنها تظهر بنظرةٍ عاجلة كمفارقة، وإن كانت النظرةُ المتأنية تكشف عن قدرةِ الطبيعة الإنسانية على استيعابِ الأضداد.

تعلمتُ الكتابةَ بالكتابة، لا يتكون الكاتبُ بالتوصيات الساذجة الجاهزة، على طريقة: "كيف تتعلم اللغة الإنجليزية بسبعة أيام". لا أعرف كاتبًا عظيمًا ولد في مدارس تدريب وورش كتابة. الكتابة الحقيقية عملية إبداعية تتطلب موهبةً، وشخصيةً صبورة، مضافًا إلى قراءاتٍ نوعية متواصلة، وتفكيرِ هادئ، وجَلَدٍ على تكرارِ تمارين الكتابة المملة، وعدمِ التعجّل بالنشر، والتضحيةِ بكثيرٍ من متع الحياة الحسية الآنية.

قراءة الكتاب الورقي ليست كلَّ شيء في تحصيلِ المعرفة وفهمِ العالَم، وليس من لا يقرأ الكتابَ الورقي اليوم لا يفهم شيئًا في العالَم. تتضاعف طرائقُ تلقي المعرفة، وتتبدّل وسائلُ القراءة وتتنوع أساليبُها، وتتضاعف باضطرادٍ أعدادُ القراء في عصر الإنترنت. قبل الإنترنت كان عددُ القراء محدودًا، صار أغلبُ من يستعمل تطبيقات وسائل التواصل يقرأ اليوم. لم يعد مفهومُ القراءة ضيقًا لا يعرف فضاءً خارج الورق، وسائلُ التواصل الجديدة وسّعتْ هذا المفهومَ وأضافت طرائقَ جديدة للقراءة، اتسعتْ فيها آفاقُها بعد أن تشارك السمعُ والبصرُ الوظيفةَ ذاتها. أكثر من تطبيق اليوم تحضر فيه الصورُ والمسموعاتُ بكثافة، وأحيانًا تأثيرها أبلغ من الكلمات، ويفوق عددُ المشتركين فيه ملياري إنسان. تطبيقات الذكاءُ الاصطناعي تعدنا بإضافات مبتكرة، تتغير فيها وسائلُ تلقي المعرفة، ولا ندري ماذا وكيف تكون غدًا. مفهوم القراءة يواكب تلك التطبيقات، ويتكيف وفقًا لها ولكيفية استعمال القراء لها في تلقي المعرفة بصريًا وسمعيًا،كلُّ قارئ يختار طريقتَه المتناغمة واحتياجاتِه ورغباتِه وما ينجذب إليه ويتذوقه. مَن يستعمل هذه التطبيقات يمكن أن يتخذ النمطَ الذي يتوافق معه في القراءة، مَن يرى الكلمات يقرأها، مَن يستمع للنصوص والكتب المسجلة صوتيًا يمارس نمطًا ثانيًا من القراءة، مَن يشاهد الصورَ ويتأملها يمارس نمطًا ثالثًا من القراءة، مَن يرى مقاطعَ الفيديو وينصت إليها يمارس نمطًا رابعًا من القراءة. أعدادُ القراء اليوم كبيرة جدًا، الأطفال يبدأون باستعمال الأجهزة اللوحية وتطبيقات وسائل التواصل قبل أن يتعلموا القراءةَ والكتابةَ في المدرسة. يقرأون بطريقة تتناسب ومرحلتَهم العمرية، كثيرٌ منهم يستعمل هذه الأجهزةَ بعمر لا يتجاوز السنتين، ويدمن أغلبُهم عليها بشكلٍ مدهش، رأيتُهم لحظة يستفيقون صباحًا إلى أن ينامون ليلًا لا يغادرونها.

كلّما اتسع مجالُ القراءة اتسعتْ بموازاته الكتابةُ بأنماطها وأوعيتها الجديدة. إذا ازداد علمُ الإنسان أدرك أن مجهولاته لا حصرَ لها، وتوالدت تبعًا لذلك أسئلتُه المتنوعة، وتنوعت وتعمقت إجاباتُه. لن تموت القراءةُ والكتابة مادام الإنسانُ بحاجة إلى التعلّمِ واكتسابِ المعرفة، وإنتاجِ معنى لحياته، وحاجة إلى التسلية. ما كتبه الإنسانُ منذ اكتشاف الكتابة بكلِّ مراحل تاريخه ليس كثيرًا، ما لم يكتبه الإنسانُ ولم تخطّه حروفُه وتستوعبه كلماتُه لا حدود له. لم يتمكن أبرعُ الكتّاب من التعبير عن حالاتٍ تختنق في معانيها الكلمات. لا أتمكن من التعبير عن كلِّ ما تختزنه ذاكرتي، ولا يطيق وعاءُ اللغة جمرةَ ألمي لحظة يبكي قلبي. لا أستطيع البكاءَ أحيانًا على الرغم مما أصطلي فيه كالنار في داخلي. تخرس الكلماتُ لو أرادت النفسُ التعبيرَ عن كلِّ شيء في أعماقها. مثلما تعجز الكلماتُ عن القبض على معاني آلامنا تعجز عن تصوير حالاتِ ابتهاجنا وفرحِ قلوبنا.

لا يتحقق التفكيرُ والمعرفة بكلِّ قراءة. القراءة الجادّة من بواعث التفكير الخلّاق وإنتاج المعرفة، القراءة المحرِّضة على التساؤل والتفكير العميق تمكّن الذهنَ من التعرّف على حدود الأشياء والمفاهيم، وتوقظ قدراتِه على اكتشاف ما تشترك وما تختلف فيه عن غيرها. هذا النوع من القراءة يثير التساؤلَ، ويزحزح المسلّمات في الذهن، وينقله من الركون إلى بداهاتٍ ليست بديهية، ويقينياتٍ غير مبرَهنة، وقناعاتٍ جزافية، إلى إعادةِ النظر فيها وإخضاعِها للمراجعة ومساءلتها، وتقصي بواعث القول فيها وشيوعِها، وعوامل رسوخِها.

كلماتُ هذا الكتاب تدفقت كسيل، بلا توقفٍ وبلا معاندة. أرسلتُ الكتابَ للنشر بعد الفراغ منه، اكتمل الإخراج، فكتبتُ هذه المقدمة فورًا، بعد كتابتها سرعان ما انهزمت ثقتي بكلماتي، ضجرتُ فتركتُ الكتابَ عدة أيام، تريثتُ اسبوعين كي أعود للتحرير النهائي للمقدمة، لم أعد إلا بعد أن شعرتُ بالحرج من الناشر لتأخر الكتاب.

***

‏ د. عبد الجبار الرفاعي

..................

تقديم لكتابي: "مسرات القراءة ومخاض الكتابة: فصل من سيرة كاتب"، صدر الكتاب هذا الأسبوع عن منشورات تكوين في الكويت، ودار الرافدين ببيروت.

(جنون المغارات وتداعيات أرض الفرات)

هذا الارتباط الوثيق بالوطن، رغم الغربة والاغتراب، نصوص أدبية في فضاء الغربة (مقالات ونصوص شعرية) تتحسس جراحات الوطن عبر الازمنة الكالحة السواد التي مرت بسنواتها العجاف على العراق، التي عملت على أهانة القيمة الانسانية بالانتهاكات الصارخة، في الممارسات الوحشية المدمرة. في نهج الإرهاب والعسف والاضطهاد، بحيث تكون حياة الإنسان رخيصة في الموت المجاني بكل اشكاله المدمرة، في الحروب والمقابر الجماعية، من أجل تدمير حياة الانسان العراقي، لكي يتقوقع في دائرة الإحباط والهزيمة، نصوص أدبية من رحم المعاناة العراقية. في الازمنة المختلفة في الماضي والحاضر، لتكون شواهد شاخصة من المشاهدات والوقائع والحقائق الدامغة، و بالمعايشة الفعلية، في استلاب والاستحواذ والركوع من أجل كرسي السلطة والحكم، حتى لو كان على جماجم الابرياء، نصوص من عمق المأساة العراقية، عبر العهود الظالمة بالبطش والتنكيل، في سيكولوجية الإرهاب والموت المجاني، وضعت في صياغات ادبية تؤطر وترسم المحنة العراقية بكل ابعادها واشكالها الحقيقية، اخذت شكل براعة التعبير الادبي البليغ في صياغات مختلفة، توصف وترسم وتصور الانتهاكات الصارخة في حق الانسان العراقي في الماضي والحاضر، وما يدور في الظاهر والخفاء، محاولة ادبية ناضجة في تقديم نصوص دسمة بالابداع، توغلت في عمق الازمة العراقية. من الموت الجماعي في المقابر الجماعية، الى الحروب العبثية التي تهلك الحرث والنسل كما كان يفعل نظام البعث الساقط، تغير الأمر في العهد الجديد الى ضخامة عدد التفجيرات الدموية، والحروب الطائفية الطاحنة في النظام الجديد (الدم / قراطية) دخل الإنسان العراقي مرة آخرى في حقل التجارب والاختبارات من العنف الدموي في ابشع صوره المروعة، لتدلل ان الانسان العراقي ظل محروماً من الحياة الامنة والعيش الرغيد الذي يحترم القيمة الانسانية في كل الازمنة الظالمة والطاغية. طرحت هذه المواضيع الملتهبة والساخنة في أسلوب واقعي رزين ومتميز وبقلم وطني اصيل، رغم البعد والغربة والاغتراب، لكنه يعيش في عمق الواقع وإفرازاته، يعيش مع قضية الإنسان والوطن عن قرب، في مشاعره وإحساسه العميق ويرفض الانتهاكات التي تحصل بشكل وحشي من اية جهة كانت.أن يكون سماء العراق محملة في امطار الدماء، التي شكلت نهراً ثالثاً للعراق، وكما تشير النصوص الادبية، بأن الصراع قائم، ولم ينتهي حتى لو مالت كفة الميزان إلى جانب قوى الشر والغدر، فالنار باقية تحت الرماد، قد تنفجر في اي يوم كالبركان، كما انفجرت بالغضب الشعبي العارم والساحق في انتفاضة الشباب التي أغرقتها المليشيات الطائفية (الطرف الثالث الملثم) بالدماء، وقد وقدمت على مذبح الحرية مئات الشهداء من الشباب تلقوا الموت بصدور عارية. ان العراق ابتلى بالذئاب الوحشية من الجانبين (داعش والعصابات الطائفية) مهما كانت اشكالهم والوانهم وايديولوجياتهم ومعتقداتهم السياسية والدينية. مثلما تفعل ذئاب داعش في الاغتصاب الفتيات الصغيرات، ثم يأتي بعد ذلك دور السكين لتنهش اجسادهن، نفس الحالة عندما تغتال براءة الطفولة القاصرات في الارغام على الزواج، وهن في عمر الطفولة، حين تباع الى مسن متقدم في العمر، وهنَّ في عمر حفيدته لتقتل طفولة الفتيات البريئة (امتثل الجسد لعطر روحها المراقة، متكوراً، ينتظر مصيره المحتوم، أذعن بكل ما أوتي من قوة الى نشيج نحيبه الاخير، باتت تطلق زفراتها اللاحقة، ذلك عند بقايا دكة عجوز، كانت تنبت في الأرض هي الاخرى، لتواسي أحكام ذلك الصراخ) ص10. هذا مسلسل في انتهاك واغتصاب طفولة الفتيات الصغيرات لم يتوقف بل ازداد سوءً بمراسيم هزيلة، لكي ينتحر الحب والعشق في هذه الأجواء اللانسانية. ويبقى العراق سجناً لتجارب القاهرة في المعاناة قديماً وحديثاً. والنصوص الادبية، تستعرض بشاعة الموت بالابادة الجماعية، طوابير بشرية من كل الاعمار تذهب الى حتفها الى المقابر الجماعية، ارتال بشرية تلاقي حتفها بالموت الجماعي، كما كان يفعل حكم البعث الساقط، الذي اقام مملكة الموت المجاني، لتكون رائحة الارض عابقة بجثث الموتى المدفونة تحت التراب (اندكت رائحة الحياة مع دعاء امرأة حبلى سقط جنينها، لتنال مصرعها مع زفير استغاثات تصدعت مع تشتت عروقهم النابضة، أولئك الذين راحوا يتساقطون تباعاً، ليتم دفنهم بشفرات الآليات التي تم تحصيصها لذلك النوع من المقابر. أنسلت احزان الليل لتتقاسم الفجر شتات الشقاء الذي امتزج بصرخات انينهم وهم يطلقون زفرات آخر ما تبقى لهم من رمق. استلقى الوطن عند مخاض ملاكات مكبلة بالدم) ص18. الموت باشكاله المروعة والبشعة لم يتوقف، بل استمر في النظام الطائفي الجديد، واخذت شكل التفجيرات الدموية التي تطال الناس الابرياء في الأماكن المزدحمة، مئات التفجيرات الدموية، التي أصبحت من الظواهر العامة والعادية جداً، مثل التفجير الدموي المروع الذي حدث في الكرادة في بغداد من قبل عصابات داعش في عام 2016، تناثرت اشلاء الجثث من كل الاعمار، حتى تلك الفتيات المخطوبات كن يتسوقن لشراء فساتين الزفاف، ليتحول المكان الى بحيرة كبيرة من الدماء، و تلونت السماء بالدخان الأسود الكثيف، وتعطلت الحياة، اصبحت مراسيم عزاء واحزان ونحيب (صارت الأشياء مكفهرة مثل مملكة بائسة فقدت بريقها، تناغصت معها اعمدة الدخان، راحت تغور بها صوب دهاليز أمدٍ بلا نهايات، أستيقظت أشرطة الموت، حاملة معها أنباء نعوشهم، أرتدى المكان ثوب الفزع، تطايرت رسائل الهائمين، غدت الشوارع اكثر استياء، تسارعت لغة الحدائق متسائلة عن خطب جلل) ص19. لم ينقطع مسلسل الدماء، بل يتناوب باشكال وادوار مختلفة من عصابات داعش، التي سلمت راية الموت السوداء الى العصابات الطائفية ومليشياتها المسلحة، التي لا تعرف سوى لغة الموت المجاني والرصاص الحي، بالقتل والاختطاف والاغتيال بكواتم الصوت، كما فعلوا في إجهاض انتفاضة الشباب عام 2019، اغرقوها بالدماء وبالرصاص الحي وبدم بارد، وبوحشية دموية كأنهم تعلموا وتربوا من دروس استاذهم (داعش) بقتل مئات الشباب بعمر الزهور، ما أشبه اليوم بالبارحة، والغريب ان القاتل المعروف لداني والقاصي يبقى مجهولاً لغايات سياسية بغيضة، رغم ان الكل يعرف هويته واسمه وعنوانه والجهات التي تقوم بممارسة العنف الدموي، ويديها ملطخة بالدماء والاجرام (لا أحد يقدر ان يواجه شبح الموت، مع هذا الخراب الذي ما أنفك يعلن عن نفسه بين الفينة، والفينة لتأويلات يجري اشاعتها بطريقة المكر الإعلامي، من قبل جهات مسؤولة، لتغطية معالم الجريمة على أساس تصنيفها، واخضاعها لمعادلة الزيف التي ما انبرت تفرض نفسها في فضائيات المحافل، مع الإبقاء على قانون الجناة، هو نمط من الحكايات لا يحق للعامة اعتراض على مساراتها) ص87.

ان نداء الوطن باهظ الثمن، لكن العزيمة والارادة لن تموت، تستمد قوتها من ملحمة كربلاء ووقفة الامام الحسين العظيمة، التي تمثل روح التحدي والشموخ والإصرار العنيد (هيهات منا المذلة) وتحت الرماد نار حارقة، تحرق كل مجرم وخائن بحق الشعب والوطن:

يستأنف رحلته،

ينهض الامل،

يعانق عطر صباحاته القديمة،

تستعيد المشاهد أنفاسها،

يدرك الفجر نومته

يهتف النور،

تغادر النجمة البعيدة،

يتناثر ضوء الشمس،

---------

تبتعد الاشرعة،

تستأنف النوارس طوافها،

تستعرض صيحاتها،

مع مستقر مهجة عابرة) ص110

طالما تحلق نوارس الحرية في سماء العراق، فأن العراق لن يموت سوف يحيى من جديد ويعود الى الحياة.

***

جمعة عبدالله

أكثر من نصف قرن صحافة في ظل متغيرات سياسية كبرى تصارعت على حكم العراق

التنقيب والإنتاج والتسويق عمليات كلاسيكية نمطها الإعلام لأبرز نشاطات وزارة النفط  ورسخها في الأذهان، لكن في مشهد تكسرت فيه قيود هذا التنميط بالحضور اللافت لإعلام الصحافة والثقافة العراقية في جناح وزارة النفط في معرض بغداد الدولي للكتاب في دورته الثانية في كانون الأول 2021، في حفل توقيع كتاب "آخر المشوار.. 65 عاماً صحافة" لرائد الصحافة العراقية الأستاذ محسن حسين، أثر تبني  وزارة النفط العراقية نفقات طبع وإصدار الكتاب في دار آنيا للفنون المرئية والطباعية والنشر في لبنان بواقع 208 صفحة من القطع المتوسط .

قبل تقديم قراءتنا وعرضنا للكتاب لابد من الإشارة إلى الدوافع الموضوعية التي دفعتنا لهذا الاستهلال لما أشرنا من نشاط لافت لوزارة النفط في معارض الكتاب الدولية على مستوى الدعم والمشاركة الفعالة دعماً منها للحركة الثقافية والكتاب العراقي. وما هذا الكتاب" آخر المشوار" إلا واحدة من سلسلة المبادرات التي اطلقتها الوزارة بعد عام 2003، والتي شملت رعاية القامات الوطنية (ثروة العراق) في فروع الأدب والتشكيل والموسيقى والسينما والإعلام، وغيرها من مجالات المعرفة ولن يكون كتاب آخر المشوار آخر العهد من الدعم والرعاية، بل سيكون بداية المشوار من أجل غد افضل، هذا ما قد ورد بقلم مدير الإعلام في الوزارة الأستاذ عاصم جهاد في غلاف الكتاب الداخلي.

وبالإضافة غلى تبني الوزارة إصدار الكتاب الذي تزامن مع ذكرى مرور نصف قرن على تأسيس منظمة الأقطار العربية  المصدرة للنفط "أوبك" وجهت الوزارة الدعوة الرسمية للمؤلف بحضور الاحتفال الرسمي على اعتبار أنه الصحفي الشاهد على جميع الاجتماعات التي سبقت تأسيس المنظمة عام 1960.

قدمت أولى العتبات النصية للكتاب (الغلاف الأمامي) إشارات انطباعية تحاكي مضمونه، أذ يسيطر العنوان الأيقوني  البصري بورتريه كاريكاتيرية لصورة المؤلف بريشة الرسام علي الصميخ، وقد ضخمت مكونات الوجه وبدت عليها ملامح الشيخوخة والهدوء والتركيز في إشارة إلى أنها شخصية جادة شاخت في مشوارها الصحفي ومازالت مراقبة وتنصت باهتمام، وقد تربع فوق الصورة اسم المؤلف والعنوان الرئيسي "آخر المشوار" ودناها من الأسفل العنوان الفرعي "65 عاماً صحافة".

ساح المؤلف في رفوف ذاكرته الصحفية فاستحضر بانتقائية ما استودعت بها من أحداث تركت بصمتها التاريخية على مدار الخمسة وستون عاماً من العمل الصحفي، تفاعل معها ونضدها في كتاب ضم مقالات متنوعة تتسم بالسلاسة اللغوية وجمال الأسلوب الذي يقترب من الوقائع والأحداث والشخصيات بموضوعية تامة.

 يستهل الكتاب بمقال "أحببتها ولو عاد بي الزمن لما اخترت غيرها" يستحضر الكاتب فيها ذاكرته منتشياً من النجاح الذي حققه بعد نيله أول تذكرة ركوب قطار الصحافة الذي انطلق في 14 تشرين الثاني 1956 من محطة صحيفة الشعب إحدى أهم الصحف في العهد الملكي، وعمل فيها إلى جانب الشاعر بدر شاكر السياب كما تعرف إلى كتاب بارزين أمثال الدكتور علي الوردي، ثم انضم إلى أسرة تحرير صحيفة الجمهورية بعد ثورة 14 تموز 1958 التي أطاحت بالعهد الملكي وأسست النظام الجمهوري، قبل تكليف الزعيم عبدالكريم  قاسم له ولزميله حميد رشيد تشكيل النواة الأولى لوكالة الأنباء العراقية (واع) التي قضى فيها 17 عاماً مديراً للأخبار ومعاوناً لمديرها العام، ومديراً لمكتب القاهرة، وبعد إحالة نفسه إلى التقاعد ألتحق بالعمل في أسرة تحرير المجلة العريقة ألف باء لمدة ربع قرن (25 عاماً) حتى أغلاقها بقرار أمريكي بعد احتلال العراق عام 2003. وبعد هذا الاستهلال ينقلنا الكاتب إلى "100 عام على تأسيس الدولة العراقية" منطلقاً من يوم 23 آب 1921 يوم تأسيس الدولة العراقية الحديثة، ليوثق بها معلومات عن لحظة تحول العراق إلى النظام الملكي، وتتويج الأمير فيصل بن الحسين ملكاً على العراق، بالإضافة إلى ما رافقها من أحداث تشكيل المجلس التأسيسي من زعماء العراق أمثال نوري سعيد ورشيد عالي الكيلاني، وانتخاب السيد عبدالرحمن النقيب أول رئيس وزراء في العهد الملكي.

رغم خلو الكتاب من مقدمة توضح طبيعته، لكن بإمكاننا القول أن هذا المنجز لم يكن مجرد استعراض عابر لثمة أحداث ووقائع، إنما مقالات ستكتسب أهميتها التاريخية مستقبلاً في محتواها الوثائقي لجملة من الوقائع السياسية والثقافية، وشهادات حية على أحداث وشخصيات كانت لها صداها في تاريخ العراق والوطن العربي، وهي أشبه بالمذكرات الصحفية كتوصيف تجنيسي لها، سردت بضمير المتكلم وبضمير الغائب أحياناً لأحداث خاضها خلال مشواره الصحفي، وقد حدد بها تاريخ ومكان الحدث وشحنها بشيء من العاطفة والحوارات ومعززاً سرده بالصور التي غالباً ما وثقت الحدث.

وقد تجلى ذلك بوضوح في مقاله الموسوم "14 أيلول يوم تاريخي يفخر به العراقيون" والذي وثق فيه دور العراق في تأسيس منظمة أوبك (في يوم 14 أيلول 1960 كان اليوم الختامي لاجتماعات عقدتها خمس دول دامت خمسة أيام في بهو الأمانة في باب المعظم قرب مبنى وزارة الدفاع وقد حضرت جميع تلك الاجتماعات كصحفي في وكالة الأنباء العراقية.. ويعود الفضل في تأسيس أوبك إلى رئيس وزراء العراق في ذلك الوقت الزعيم عبد الكريم قاسم الذي خاض مفاوضات صعبة ومعقدة مع شركات النفط ..ص31). ويروي محسن حسين في ص43 على شكل حكايات ذكرياته الصحفية عن الرئيس عبدالسلام عارف خلال مرافقته إياه في معظم جولاته الداخلية والخارجية، قبل أن ينتقل في مقاله الموسوم " عبدالرحمن عارف أيام النزاهة والشرف" ليوثق وضع العراق المتمثل بنزاهة الحاكم، والهدوء والأمن مقارنة مع عهود من الاضطرابات التي تلت ذلك الزمان حتى يومنا هذا (عرفت بحكم عملي الصحفي  عبدالرحمن عارف منذ الأيام الأولى لثورة 1958 وكنت أقف جواره لحظة انتخابه رئيساً للجهورية في 16 نيسان 1966 ورافقته خلال فترة رئاسته.. واستطيع القول أنه مثال للإنسان النزيه لم يستغل منصبه ولم يسمح لأفراد عائلته بالحصول على ما لا يحق لهم ..ص52)، كما لم يغفل الكاتب في مذكراته توثيق أحداث 17 تموز 1968 يوم ألقي القبض على رئيس الوزراء عبدالرزاق النايف وسيطرة حزب البعث بقيادة أحمد حسن البكر على السلطة وأقصاء الرئيس عبدالرحمن عارف.

وتتسربل اغلب مقالات الكتاب بسربال المقالات السردية والوصفية التي حاول فيها الكاتب تزويد القارئ بتفاصيل أشخاص أو مواقف أو أحداث تاريخية دونها بأسلوب واضح وموجز ومكتنز بالوصف قريب إلى الأسلوب القصصي حتى في الحبكة أحياناً، وقد تجلى ذلك بوضوح في مقال "العشاء الملكي الأخير- بغداد ليلة 14 تموز" الذي سرد فيه ما حدث في القصر الملكي ليلة ثورة 14 تموز 1958(كان الملك فيصل وعائلته مجتمعين في قصر الرحاب وهم يضعون الترتيبات الأخيرة لسفره إلى إسطنبول ثم لندن.. ودخل جناحه الخاص للأشراف  على إعداد حقائب السفر، وبرغم جو الدعابة الذي ساد اجتماع أفراد الأسرة وهم يتناولون الشاي فإن شيئاً من القلق والتوجس كان يسيطر على مشاعر بعض الأميرات، وبخاصة الأميرتان عابدية  وبديعة.. وعند الساعة التي سبقت الغروب وصلت سيارة شاهدها أفراد العائلة وهم جالسون في شرفات القصر توقفت وترجل منها ضابط يحمل رسالة سلمها للملك إليها تطلع إليها ملياً وقد اكتسى وجهه بالوجوم وحاول إخفاء ارتباكه أمام الأميرات..ص21).

ويعرج الكاتب بذاكرته بعيداً عن المحلية إلى لقاءاته المتعددة مع الرئيس اليمني عبدالله السلال ويوثق فيها لقاءه به يوم 14 أيار 1964 في افتتاح السد العالي بحضور الرئيس السوفيتي " نيكيتا خروشوف" والرئيس الجزائري أحمد بن بلا، بالإضافة إلى الرئيس المصري جمال عبدالناصر الذي أخذ هو الآخر نصيباً من ذاكراته الصحفية  عنما شغل منصب مدير مكتب القاهرة في وكالة الأنباء العراقية، ويكشف الكاتب في مذكراته للقارئ عن محاولاته التي اصطدمت بالمنع في التعرف كصحفي على تحية محمد كاظم زوجة الزعيم جمال عبدالناصر.

وتنعرج مسارات المقالات عن سياقها بعد أن شدت إلى مسارات التوثيق إلى سياق الطرافة والغرابة في الأيام الدولية العجيبة والغريبة التي يحتفل بها العالم فيما يسمونه باليوم العالمي للـ (للشاي، والنوم، والمرحاض، الحمار، والعُسر)، بالإضافة إلى مقالاته المبوبة بـ (سؤال بريء) التي تناول بها وضع العراق المعاصر في ظل شبهات  الفساد التي يشهدها في مختلف  مرافق الدولة ويثير فيها الكاتب ما يسميها أسئلة بريئة لكنها تندرج ضمن سياقات التهكم السقراطي القائم على السخرية مع التظاهر بالجهل بطرح أسئلة من شأنها دفع الآخرين في البحث عن الحقيقة.

ثم ما تلبث أن تعود عجلة المقالات إلى مسارات التوثيق عبر توثيق ذاكرته الفنية والثقافية منطلقة من محطة فنانة الشعب فخرية كريم الذي ذكر فيها اللقاء الأول الذي جمعهم ، ويكشف للقارئ بها عن رسالتها إلى الفنان يوسف العاني والتي عبرت فيها عن رغبتها في التمثيل والانضمام إلى فرقة المسرح الحديث وموضحة العقبات التي تواجهها . وفي المحطة الثانية توقف عند الفنانة السينمائية والمسرحية ناهدة الرماحي ووثق فيها  لحظة فقدانها البصر على خشبة المسرح في 10 كانون الثاني 1976 في مسرحية القربان الذي أعدها الناقد الكبير ياسين النصير، ثم يعرج  بذاكرته بلقاءات جمعته بيوسف العاني وسليم البصري قبل أن يختم مقالاته في لقاءه بالفنان جواد سليم قبل عامين من بدء العمل في نصب الحرية موثقاً  شيئاً من سيرته، وإجابته عن المدرسة الفنية التي ينتمي إليها ولحظة وفاته قبل إتمام مشروع النصب.

والى يومنا هذا لم يشيخ رائد الصحافة العراقية  الأستاذ محسن حسين فما زال يواصل مشواره ويمارس الكتابة ويمتع القراء في صحيفة الزمان العراقية والدولية أو عبر صفحته الخاصة  على الفيس بوك، وقد أضاف بكتابه هذا منجزاً إبداعياً رابعاً إلى جانب (ذكريات صحفية، من أوراق صحفي عراقي، صورمن الماضي البعيد) وثق فيها شذرات من تجربته الصحفية الطويلة وما رافقها من مواقف وأحداث على مدار 65عاماً بأسوب وئيد، ونبرة متواضعة ممتزجة  بسماته الشخصية من غير استطرادات طويلة ومملة غالباً ما يقع بها كتاب السيرة الذاتية عند الحديث عن الذات.

***

صفاء الصالحي

التوثيق والكتابة ميزة وشجاعة، ولكل كاتب نمط معين يمتاز به، وقد يشعر الكاتب أو الباحث بما يكتب وما يتركه في بطون الكتب من مفردات ونوادر الكلمات ببلاغتها ودلالاتها، وحقائق تاريخية يوثقها الباحثون والمؤرخون للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والأستاذ الدكتور محمد صالح الزيادي الأستاذ في كلية التربية/ جامعة القادسية متابع لما يحدث في مدينة الديوانية من الأحداث والحياة الاجتماعية للمدينة خلال حقبة العهد الملكي، فجاء مؤلفه الموسوم (الحياة الاجتماعية في لواء الديوانية 1921-1958م.. دراسة تاريخية) الصادر عن دار نيبور عام 2019 وهو الطبعة الثانية للكتاب ذات (383) صفحة من الحجم الوزيري، اضاف لتأريخ المدينة ذات قيمة عالية وفائدة جَمّة أغنت المكتبة العراقية والعربية من سرد الأحداث الاجتماعية في مجال التعليم والصحة والعادات والتقاليد الموروثة، فقد امتلك صفات المدون التأريخي بصدق دون تورية أو مجاملة، فكان مؤلفه مصدراً مهماً ومعتبراً يعتمد عليه فيما بعد الباحثون لما فيه من تنوع المواضيع، وتوثيق أمين لقضايا تقادمت عليها الأيام، ويخشى المؤرخ أن تنسى لذلك تم توثيقها في مؤلفه هذا، والمؤرخ الزيادي يمتلك طاقة من الإبداع في التوثيق والتمحيص ومتابعة المصادر والأفراد الذين عايشوا الحدث إن كانوا على قيد الحياة.3735 الحياة الاجتماعية في لواء

وصلتني هدية الأستاذ الدكتور محمد صالح الزيادي، وهو كتاب ذات أهمية تاريخية قد اهداه الزيادي إلى (سارية وشهداء العراق وزوجته وابنائه) فضلاً عن تقديمه الشكر والامتنان لكل من الأساتذة (أ.د محمد هليل الجابري، أ.د عماد الجواهري، أ.د حسن علي السماك، أ.د عبد الكريم الشيباني)، وإلى من كان داعماً للكتاب.

كُسِرَ الكتاب على مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة وعدة ملاحق، وكل فصل تضمن بين أربعة إلى ثلاثة مباحث. أما أهمية المصادر والمراجع فقد اعتمد المؤلف على (وثائق دار الكتب وملفات البلاط الملكي الغير منشورة)، فضلاً عن (ملفات مجلس الأعيان، وملفات وزارة الداخلية التي تجاوزت احدى عشر ملف، إضافة إلى ملفات وزارة العدل ووزارة الأعمار ووزارة المعارف ذات الأهمية للدراسة)، وهناك وثائق عثمانية وحكومية مهمة جداً تجاوزت (26) وثيقة تاريخية كان لها الدور في تعزيز الكتاب، كما اعتمد المؤلف على تقارير وزارة الشؤون الاقتصادية التي تجاوزت (24) تقريراً، فضلاً عن تقارير وزارة التخطيط والشؤون الاجتماعية والصحة والمالية والحكم المحلي، وتقارير حكومية مختلفة، هذا بالإضافة إلى المطبوعات الحكومية ووثائق محاضر مجلس النواب والوثائق الاجنبية، والرسائل والاطاريح الجامعية التي تجاوزت (29) رسالة واطروحة، كما اعتمد المؤلف على المصادر العربية والمعربة التي تجاوزت (93) مصدراً مهماً، فضلاً عن المصادر الاجنبية والمخطوطات والبحوث والصحف والمجلات والمقابلات الشخصية.

الكتاب يعتبر دراسة مهمة فريدة من نوعها في مجال الحياة الاجتماعية للواء الحلة في العهد الملكي، وقد كشفت الدراسة عن بدايات الجانب التعليمي والواقع الصحي للمدينة والعادات والتقاليد والموروث الاجتماعي. في الجانب التعليمي سلط المؤلف الضوء على بدايات التعليم الأولي والثانوي ودور المعلمين والمعلمات والتعليم الثانوي آنذاك في المدينة، هذا فضلاً عن الرعاية الصحية والأمور الحياتية والاجتماعية والاقتصادية، وقد كشفت الدراسة جانب مهم من الاحصائيات المخيفة للواقع الصحي في المدينة وتدهورها قبل عام 1952م، علماً أن وزارة الصحة عام 1952م قد استحدثت وسائل حديثة في متابعة الأمراض المتوطنة والأمراض المنتشرة بسبب سوء الحالة الاقتصادية وقلّة الوعي الصحي بين بعض عوائل المجتمع الديواني.

كما سلط المؤرخ الضوء على دور الطابع العشائري العميق في تركيبة البنى الاجتماعية والمتغيرات واثرها على المجتمع الديواني. الكتاب عبارة عن دراسة حيوية مهمة للمؤسسات التعليمية والصحية في المدينة، حيث وضح الباحث الأسباب الحقيقية لتردي الواقع التعليمي والصحي في المدينة ملفت النظر لأسباب عديدة منها: الاهمال وسوء التغذية وندرة الأدوية والمستلزمات الصحية واهمال متابعة واقع حال المستشفيات والمستوصفات في المدينة فضلاً عن قلّة التخصيصات المالية المخصصة لها، هذا إضافة إلى ضعف التوعية والإرشاد الصحي مما سبب إلى دفع العائلة في المدينة والريف بالألتجاء للطب الشعبي لمعالجة الأمراض.

كان من ضمن العوامل التي أدت إلى تردي الخدمات الصحية من قبل المؤسسات في المدينة هو ندرة الأعداد الحقيقية للإحصاءات الرسمية للمراض المتوطنة وتدهور الأوضاع الصحية والابتعاد عن تشجيع بناء المستشفيات الأهلية آنذاك. إلا أن الدكتور الزيادي يؤكد من خلال دراسته: أن في عام 1952م من خلال تقديم دراسة الأسباب الحقيقية للانخفاض الملحوظ في الأمراض كان بسبب تطور الوعي الصحي والمؤسسات الصحية. أي بمعنى أن الواقع الصحي والخدمي قبل عام 1952م كانت حالة يرثى لها في المدينة.

اهتمت الدراسة التي قدمها الدكتور الزيادي في كتابه هذا على دراسة الواقع الريفي في المدينة والمشيخة والمعضلات الاجتماعية لا سيما الفقر والجهل والتخلف والأمية. وقد عزز المؤرخ كتابه بملحق من الجداول التي تجاوز عددها (20) جدولاً، وكانت الجداول غنية بأعداد الكوادر التعليمية واعداد المدارس وطلبتها، والهياكل الادارية لمدارس المدينة والأقضية والنواحي، فضلاً عن دعم الكتاب بجداول توضيحية للمنشآت الصحية في لواء الديوانية للفترة من عام 1928 ولغاية عام 1958م.

ولا يسعني في النهاية إلا الإشادة بهذا الجهد الكبير والعمل الموسوعي الذي يمثل القدرة الكامنة لدى الباحث في الوصول إلى مكامن الواقع الاجتماعي في المدينة، فعمل كهذا يحتاج إلى جهود عدد من الباحثين، ولا يخلوا الكتاب من أمور تحتاج لدراسة أوسع وجهد أكبر، أرى إن الباحث قادر في المستقبل على سد أي فجوة تظهر وصولا إلى الحقيقة التي يسعى إليها.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

ذكّر الناقد الجزائري محمد دريدي في كتابه "استراتيجيات"  بالقاعدة العامة للإستراتيجية التي  تقول: من لا يصنع التاريخ، يصنع به التاريخ والأدوار محصورة بين فاعل استراتيجي ومفعول به استراتيجي، أما الفاعلون فيواصلون رحلة التاريخ، وأما المفعول بهم  فمصيرهم بين يدي الفاعلين، فمن وجدوه ضروريا لازما مفيدا للمرحلة القادمة سمحوا له بالبقاء والمرافقة ومن  وجدوه  عبئا ثقيلا أنهوا حضوره كما يفعل الأطباء مع الحالات الميأوس منها.

 كتاب "استراتيجيات" هو للناقد الجزائري محمد دريدي  استاذ جامعي مختص في العلاقات الدولية، هو خلاصة للواقع ومتابعة للأحداث اتسمت بتنوع  السياسات والمنهجية في طرح الأفكار والمواقف، الكتاب صدر عن دار النشر الماهر  وهو من الحجم الصغير يقع في مائة وخمس صفحات (105)، دون حساب فهرس الموضوعات وهو عبارة عن مقالات وأعمدة وحوارات جمعها المؤلف، حيث سلط  الضوء على كثير من المسائل  التي أخضعت للتحليل والتفكيك وحتى إلى التمييع،  في إطار ما يسمّى بالهدم والبناء، لقد وضع الأستاذ محمد دريدي  معادلة سمّاها الجملة الاستراتيجية وهي تتكون  من (مجال، فعل استراتيجي، فاعل ومفعول به وموارد)، وتعني هذه المعادلة  وجود الفكرة (الحرب كمثال) من يقوم بها الفاعل؟  من هو المستفيد ومن هو الضحية؟، ثم  الموارد (الجيش والعتاد الحربي)، و ماهي الإستراتيجيات المستعملة،  أول ملاحظة وقفها عليها هي أن الكاتب لم يقدم تعريفا  لمفهوم "الاستراتيجية" رغم أن الكتاب حمل عنوانه هذا اللفظ  الذي لا يزال موضع جدل بين الكتاب والمحللين وخبراء الاستراتيجيات، خاصة وأن لفظ الاستراتيجية يعتبر أكثر الكلمات شيوعا بين الناس وحتى المسؤولين وترددها الألسن مرار وتكرارا ولكن القليل فقط من حدد معناها وأغلبهم عسكريون، وهذا لأنها كانت حكرا على كبار القادة العسكريين وظلت تُنْقَلُ من جيل إلى جيل في سِرِّيَّةٍ تامّة، واليوم نجدها تطبق في كثير من الميادين : السياسة والاقتصاد والدبلوماسية،  لكنها لا تنفذ بطريقة مبنية على أفكار ومنهجية ناتجة عن تفكير عميق.

 وقد قدمت كثير من الدراسات تعريفا لمفهوم الاستراتيجية ومنها الدراسة التي أجراها الأستاذ رشيد حمليل بحكم عمله في وزارة الدفاع الوطني  قبل أن يتوجه إلا  المجال الإعلامي بحكم تخصصه فيه، حيث قدم تعاريف عديدة لمفهوم الإستراتيجية وضعها خبراء الاستراتيجيات وخبراء عسكريون ومنهم ليدل هارت الذي قال بأنها قيادة وتوجيه مجمل العمليات العسكرية،  وعرّفها الجنرال أندري ووفر في كتابه (مدخل إلى الاستراتيجية) أن روح الاستراتيجية  في اللعبة المجردة التي تنتج عن تضارب إرادتين  متعارضتين وعرفها بأنها فن يسمح في التحكم في الصراع دون الحاجة إلى تقنية، وتوجد تعاريف عديدة لا يسع المجال لذكرها هنا.

ثم أننا نرى الكاتب من خلال عنوان الكتاب استعمل لغة الجمع والتعدد والتنوع، فهو لا يتحدث عن استراتيجية واحدة بل عدة استراتيجيات،  كانت هناك تساؤلات حول فكرة من يضع الإستراتيجية، هل هم رجال السياسة؟ أم القادة العسكريون؟ أم يضعها رجال ثائرون خاصة في وقت الحرب، وما هي الوسيلة المستخدمة، وإلا كان العمل مخالفا للأهداف، فرجال الحركة الوطنية مثلا ولغياب وسائل محاربة الإحتلال الفرنسي استعملوا استراتيجية "حرب العصابات"، يلاحظ أيضا أن مفهوم سياسة متقارب مع مفهوم استراتيجية، إذ لا يمكن خطة معينة دون معرفة الوضع السياسي لدولة من الدول معرفة دقيقة، ولذا فهي تستعمل "الجوسسة" كعنصر من عناصر استراتيجيتها، والتجسس يحتاج إلى وضع خطة دقيقة، أولها إعداد الجاسوس إعدادا نفسيا وعقليا وجسديا، وتدريبه وتعليمه اللغات الأجنبية وكيفية استعمال  "الرموز" في تحويل الرسائل ونقل التقارير والمعلومات،  يرى الجنرال دولا شابيل وهو ديغولي المذهب أن كل استراتيجية تحتم  وجود فلسفة كامنة وهي الفلسفة العسكرية، والواقع وكما يقول استراتيجيون أن دراسة الإستراتيحية كانت ولا تزال اساس اي بحص  تاريخي كان أو عسكري، ثم أن واضعي أفستراتيجية سواء كانوا سياسيون أم رجال عسكر لا يؤمنون بالصدفة، فنابليون واحد من الذين لا يؤمنون بالصدفة لأنها في نظره تختص بذوي الأفكار المتوسطة.

 والحقيقة أن الاستراتيجية مفهوم عسكري تعود أصوله إلى العهد اليوناني القديم وهو يعني جيش وقائدا له وانتقل هذا المفهوم إلى المفكرين العسكريين الألمان واليوم يستعمل في كثير من الدراسات الإدارية، ففي إحدى المقالات الواردة في هذا الكتاب يقدم الأستاذ محمد دريدي استراتيجية اليهود  كأنموذج في سعيها للسيطرة على العالم، وصل بها الأمر الى درجة الذهاب الى دسترة الإرهاب ذلك عن طريق الدعاية (النشيد الوطني) الذي يحرك مشاعر الجماهير وهو في نظرها الوحيد الذي يصنع التاريخ، والسؤال الذي يمكن أن نوجهه للأستاذ دريدي هو كالتالي:  هل النشيد الوطني وحده كاف لصناعة التاريخ دون تضحيات الرجال؟.

نلاحظ أن الكاتب يندد بنشيد اليهود كما جاء في الصفحة 18، فالنشيد اليهودي كتب بأسلوب الترهيب والتهديد وهو اعتراف ضمني بأن إسرائيل دولة إرهابية،  نذكر بعض ما جاء في هذا النشيد:

أملنا لم يُصنع بعد

حلم الف عام على ارضنا

أرض صهيون وأورشليم

ليرتعد سكان كنعان

ليرتعد كل سكان بابل

ليخيم على سمائهم الذعر  والرعب

استراتيجية "الشكوى" عند اليهود

تلك هي استراتيجية اليهود وحلمهم  بالعودة واستعادة أرضهم المزعومة، والعراق وفلسطين ليست وحدهما المستهدفتان، فإسرائيل هدفها السيطرة على العالم كله والقضاء على كل دولة إسلامية، كانت إيران أيضا مستهدفة وبشهادة  دينيس روس أشهر السياسيين الأمريكان، لأن الثورة الإسلامية انطلقت من إيران وكانت لها آثارها، نشير هنا أن استراتيجية اليهود وإسرائيل لخصتها بروتوكولات حكماء صهيون، وكذلك نظرية معاداة السامية، ربما الكاتب تحفظ عن الإشارة لهما، فوضع استراتيجية نقيض وضع قوانين كما فعل اليهود  في قانون العداء للسامية وطريقة صياغته،  فالجماعات الصهيونية في استراتيجياتها تستغل الكراهية الموجهة إليها عبر العالم، حيث صوّرت نفسها على أنها الضحية، إذ ترى أن اليهودي الوحيد الذي يمتلك ديمقراطية حقيقية، وقد جعل اليهود من الشكوى وحتى نظرية المؤامرة  استراتيجية.

 لا ندري طالما الكاتب يركز في مقالاته على الاستراتيجيات وتحدث عن اليهود كعينة، لماذا  أهمل هذه المفاهيم ولم يشر إليها ولو أن هذا ليس مجال للحديث عن سياسة اليهود تجاه العرب والمسلمين، لكن نحن نحاول أن نبيين كيف تم توظيف مفهوم الاستراتيجية  في كل الميادين، فالكاتب تحدث عن سياسة الاستعباد (ص23)  وأوضح كيف يتطور الاستعباد  من استعباد الإنسان لأخيه الإنسان (الميكرو) إلى استعباد دولة لدولة أخرى (الماكرو)، وسعيه في احتلال الأرض كلها من لبنان إلى أفغانستان مرورا  بسوريا والعراق واليمن وحتى إيران مستدلا بالأعمال التي قامت بها إدارة سايس بيكو التي لا يزال المؤمنون بها  يعملون لبقاء إسرائيل، وفي الصفحة 25  يقدم الكاتب رؤيته لمسألة "الحُكم"  وكيف يكون بعد الخدمة خاصة في حالة إذا ما تغيرت القوى وتعدلت لصالح طرف معيّن، فقد أشار - من باب التلميح- إلى الهاجس الإسرائيلي وتخوفها  من البلدان العربية  في الوقت الذي نجد دولا عربية تطبع مع إسرائيل وشوهت صورة العربي في كل المجالات، فالتبعية كانت سمة بارزة لدى علماء وفقهاء وحتى شعراء البلاط مقابل خدمة أو كسب مال،  هذه التناقضات طبعا قد تغلط القارئ.

  السؤال الذي يلح على الطرح، هل كانت الأزمة الخليجية هي تمهيد للتطبيع مع إسرائيل وهل ولدت فجأة كما قال صاحب الكتاب؟ أم خطط لها كما تم التخطيط لأحداث 11 سبتمبر 2011 ؟ فكل قوى لها استراتيجيتها  مثلما نراه في حلف بغداد الذي كان جزء من استراتيجية القوى الإمبريالية (كمثال فقط)، التي تقودها أمريكا حين وقع التمرد المصري والسوري على المخططات الإمبريالية في المنطقة فكان هذا الحلف لحماية إسرائيل، ما فهمته من بعض المقالات الواردة في الكتاب نرى أن مفهوم استراتيحية تم تطويره وتوسيعه بأسلوب مبالغ فيه، إذ تم توظيفه حتى في العلاقات الإنسانية (بين المسلم وغير المسلم) عندما تحدث عن السيرة النبوية وقضية الإيمان بالمبدأ (من ص 33 إلى37)، وهذا يعني أن الإستراتيجية لا يمكنها أن تخرج عن المبدأ والثبات والنهج  الموصلة للهدف، فهل  يمكن القول أن هناك استراتيجية التفاوض مع الطرف الخصم، إذا قلنا أن المتفاوض يجب أن يكون لديه أسلوب الإقناع، ثم أن  الأستاذ محمد دريدي استشهد بمسألة هامة جدا وهي تتعلق بصناعة التاريخ، فصناعة التاريخ تتطلب خطة واستراتيجية أي رؤية بعيدة المدى مع معرفة نتائجها، قد تكون نتيجتها النجاح وقد تكون العكس عندما يكون واضعها بوجهين.

سؤال آخر ينتظر الإجابة عليه من طرف صاحب الكتاب وهو كالتالي:  هل يمكن أن نضع استراتيجية لكل مناسبة أو لكل عمل نقوم به حتى في المسائل العادية كالإحتفال بالسنة الهجرية أو الإحتفال بمولد المسيح أو المولد النبوي، نريد أن نعرف ما علاقة هذه الأعياد بالإستراتيجيات؟ كما ذكر محمد دريري مسألة التطبيع كما داء في الصفحة 73، في وضع كهذا يمكن القول أن العلاقة بين طرفين هي علاقة تابع ومتبوع (التبعية) وغالب ومغلوب وبين آمر ومطاع، نلمس ذلك في لمقال الذي عنونه بـ: الأحمق المطاع، مستدلا بالقول المأثور(ص75) "لكل داء دواء يستطب به إلى الحماقة أعيت من يداويها"، ولو أن المُطَبِّعُونَ ليسوا حمقى بل خونة، في كل الأحوال، يتفق الجميع على أن الإنتصارات في الحرب مثلا  تسبقها استراتيجيات لتحقيق مطالب اجتماعية أو مصالح وطنية.

***

قراءة علجية عيش بتصرف

يشكو الكاتب المبدع الدكتور عبد الغفار مكاوي، في كتابه "النبع القديم"*، مرّ الشكوى من نكران الاصدقاء وجحودهم، ويخرج عن طوره الهادئ بطبيعته المعروفة باتزانها، فيصفهم بالجراء التي طالما أعطاها من عمره ومن علمه، وينزف مُرّ الشكوى وكأنما هو يريد أن يصفّي حسابًا آن له أن يصفّيه مع هؤلاء وربّما مع الحياة، وهو ما يذكّر بشكوى أخرى مشابهة ضمّنها الكاتب المفكر الفرنسي جان جاك روسو في كتاب مذكراته "الاعترافات".

عبد الغفار مكاوي (11 كانون الاول 1930 - 24 كانون الثاني2012)، أستاذ فلسفة ومترجم وباحث أدبي وفلسفي مصري. يُعتبر من أفضل المترجمين من اللغة الألمانية للعربية. ترجم أعمالًا للفيلسوفين الالمانيين عمانوئيل كانط ومارتن هيدجر، إضافة لأعمال أدبية ونقدية كثيرة. وهو مؤلف العديد من الكتب المثيرة في مقدمتها كتابه "البير كامي- محاولة لدراسة فكره الفلسفي"، وكتابه عن الشاعرة الاغريقية القديمة "سافو"، وهو مؤلف الكتاب الهام جدًا "ثورة الشعر الحديث"، الذي جاء في جزأين ضخمين، في الاول تحدّث عن ثورة الشعر الحديث، أبعادها، معانيها وأعلامها المُجلّين، وفي الثاني ترجم نماذج من روائع الشعر الاجنبي لأبرز الشعراء في العالم.

أما شكواه المشار إليها فقد وردت في كتاب "النبع القديم"، وهو كتاب يضمّ في قسمه الاول سرديات نثرية، أوحت إليه بها قراءاته الواسعة في الادب، شعرًا ونثرًا، ويتحدّث في قسمه الثاني فيه عن حياته غير المعروفة لدى الكثيرين حتى من المقربين إليه، ويبدو في هذه المذكرات إنسانًا مكافحًا من أجل العلم والارتفاع بمستواه في بلاده، رغم ما حاق به وأحاطه من عقبات وعثرات، كما يبدو إنسانًا صريحًا يعرف قدر نفسه ولا يبالغ في تقديره لذاته، فيقول مثلًا إنه حاول كتابة الشعر في بداياته الاولى، إلا أنه ما لبث أن انفضّ عنه وعن كتابته له، لأنه عرف أنه لن يقول فيه ما يذكر!!

في شكواه التي يدور الحديث عنها يقول: "عندما تسير على الطريق، فتُدمى قدميك الاشواك، وتهب عليك الرياح المسمومة من كلّ ناحية، وتتكالب عليك الجراء التي طالما أعطيتها من عمرك ومن علمك لتجرّب فيك أظافرها ومخالبها وأنيابها الصغيرة، وتتقافز القرود فوق الاكتاف وتتصارع على العروش الوهمية التي كانت بالأمس تزينها كبرياء الاسود، حينئذٍ لا تملك إلا أن تهتف: يا ربي. لِمَ ولدت في هذا المكان .لِمَ وجدت في هذا الزمان؟ ويتابع قوله هذا. يقول: أنت" تعلم أن السؤال عقيم لا جواب عنه، لكنك تتحسّر وتتمنى . تتحسر على عمر يضيع وطاقة تُبدد وكرامة تُنهش، ومرارة تتراكم في القلب كجبال الملح وموهبة تُطفأ شمعتُها الواهنة يومًا بعد يوم كلّما حاولت أن تسرجها.

يحاول المكاوي أن يتراجع عن تحسره هذا، فلا يتمكن. عندها يتذكر في محاولة للتعزّي على ما يظهر، يتذكر واحدة من خواطر الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال الذي طالما أحبه، يقول:" أرى هذه الفضاءات الكونية المخيفة التي تحوطني، وأجد نفسي مقيّدًا إلى رُكن من هذا الامتداد الهائل، بغير أن أعرف لماذا وضعت في هذا الموضع دون غيره، وإلا لماذا حددت هذه الفترة الزمنية القصيرة التي قُدر لي أن أعيشها في هذه النقطة بعينها، لا في نقطة أخرى من الازلية التي سبقتني أو الابدية التي ستأتي. لست أدري من كلّ ناحية إلا هذه النهايات التي تحبسني، كأني ظلٌّ لا يدوم إلا لحظة واحدة وبلا عودة (الخاطرة رقم 194 من ترقيم برونشيج لخواطر باسكال).

يستحضر مؤلف الكتاب شخصية أدبية مبدعة عُرفت بإبداعاتها المشهود لها، وعن غيابها عن الساحة الادبية المصرية فترة من الزمن، فيغمرها النسيان وتعيش في أخريات أيامها، وهي أيام اللقاء بها. يقول له صاحب هذه الشخصية، ضمن سردية مؤثرة يحمّلها عنوانًأ مرعبًا هو "كوجيتو مصري**"، يقول عن صاحب هذه الشخصية وما قاله له في زيارته الاخيرة له وهو يرسل نحوه ابتسامة مُرّة، فيسأل نفسه وهو يرسل ابتسامة اخرى مُرةّ مماثلة:" أصحيح أن الانسان عندنا لا يوجد إلا حين يتظاهر ويدّعي ويعلن عن نفسه في كل بوق وبكلّ وسيلة؟".

رحم الله كاتبنا الراحل المبدع، فقد عاش حياة حافلة بالعطاء كتابة وترجمة، ورحل كما يبدو من نبعه القديم، وعلى شفتيه علامة أسى وفي قلبه حزن وحسرة.. فهل يرحل هكذا مبدعونا الحقيقيون.. وهل يصدُق عليهم ما قيل عن اولئك المبدعين وهو: إنهم عندما يحلّقون بعيدًا ويوغلون في السموات العليين.. فلا يراهم مَن هُم على الارض؟

***

ناجي ظاهر

........................

*النبع القديم. د. عبد الغفار مكاوي. سلسلة كتاب الهلال الشهرية. العدد 670 – صدر في تشرين الاول من عام 2006.

**الكوجيتو هو المبدأ الذي انطلق منه ديكارت لإثبات الحقائق بالبرهان وهو عبارة عن قضية منطقية.

يعد الدكتور محمد الشياب من أبرز أساتذة الفلسفة الحاليين في جامعة الأميرة سمية للتكنولوجيا بالأردن الذين أسهموا بقسط وافر في تكوين رؤية جدية في تجديد وتطوير الفكر العربي المعاصر، وذلك من خلال كتابه القيم والرائع، وهو "قراءات في تحرير الوعي العربي"، وهذا الكتاب صادر عن دار الصايل للنشر والتوزيع في عمان.

هذا الكتاب يقدم الأطروحات المقدمة لعدد كبير من مفكرينا العرب المعاصرين، وهي جديرة بالنقاش والجدل، وهى تحرير للقارئ على قراءة مثل هذه النتاجات الفكرية، فمسألة تجديد الفكر العربي، وتوظيف العقل النقدي داخل الفكر والوعي العربي بعقل مستقل من معطيات من الواقع الفعلي والموضوعي القائم على مستجدات باتت ملحة، ومن أهم ما نحتاجه في واقعنا الثقافي العربي الراهن .

يقول الدكتور محمد الشياب بأنه من المتعارف عليه أن سؤال هزيمة مصر والعالم العربي في عام 1967 تسرب إلى إعادة النظر في سؤال العقل والنقل الذي يحيل إلى سؤال الحداثة والتحليل، فمثلا عمد حسن حنفي إلى قراءة تأويلية للنصوص الدينية والتي خضعت لها النصوص اليهودية والمسيحية على النصوص الإسلامية من قرآن وتراث فقهي معوضا بذلك مثلا لاهوت الله بلاهوت الأرض، ومعوضا كذلك بالشهادة العلمية على قضايا العصر وحوادث التاريخ .

إن عودة الدين من جديد في فضاء الفكر العربي كما يرى الدكتور محمد الشياب وبصورة مكثفة شكلت محورا لسجالات داخل هذا الفضاء الثقافي في الفكر العربي، فالإسلام كدين وتراث فكري أخذ يسترد حيوته المطابقة لتسارع التاريخ في المجتمع العربي، وأصبح يلعب دورا مهما في تشكيل الايديولوجيات، بل إن الأمر لم يقتصر على هذه الملامح، وإنما أنتج قراءات متميزة داخل منظومة الفكر العربي تمثلت كما يقول الدكتور محمد الشياب بالقراءات التأويلية للنص الديني والنصوص التراثية.

ويعتقد الدكتور محمد الشياب أن من أهم الأسباب للتخلف العربي والإسلامي هو موت الفكر النقدي الحر، ولذلك فإن تفكيك الانغلاقات كما يرى الدكتور محمد الشياب الطائفية والمذهبية التي تمزق المجتمعات العربية راهنا وتمنع التواصل فيما بينها هو ما يحول دون تشكل الدولة القومية الديمقراطية الحديثة، فبدون حل المشكلة الفكرية لا يمكن أن نحل المشكلة السياسية، ذلك أن التحرير الفكري يسبق التحرير السياسي، ويمهد الطريق له، وهو ما يعني أنه ينبغي على الفكر السياسي أن يحل محل اللاهوت السياسي القديم الذي ما زال متجذرا في العقل الجمعي العربي ؛ أي لاهوت الطوائف والمذاهب على اختلاف أنواعها وأشكالها، وهذا لا يمكن له أن يحصل ما لم يتم تفكيك المسلمات العقائدية لهذا الأخير.

ولذلك تناول الدكتور محمد الشياب في كتابه " تحرير الوعي العربي" في الفصل الأول تأويل الخطاب الديني لدى محمد أركون ونصر حامد أبو زيد، فوجد أن التأويل عندهما كان مسكونا بهاجس التغيير والتحرر عبر السعي نحو إقامة قطيعة مع أصحاب التراث القديم والكتابات الايديولوجية وفكرها الوثوقي، حيث انطلقت معالجة محمد أركون ونصر أبو زيد كما يقول الدكتور محمد الشياب في قراءتهما للنص الديني بإخضاع هذا النص لمناهج القراءة والـتأويل لتبيان تاريخيته والكشف عن حدود مجاله المرجعي من جهة، وكسر قداسته وتقويض بنيته الموثوقية لفتح المجال أمام القيم الإنسانية التحديثية من جهة أخرى، ففي قراءة كل أركون ونصر أبوزيد قدم حوارا نقديا مع الخطاب الديني في فهمها للإسلام بوصفه خطابا ايديولوجيا، أي بوصفه فهما بشريا للإسلام وليس الإسلام ذاته.

لقد أقر كل من أركون ونصر أبوزيد كما يقول الدكتور محمد الشياب واتفقا مع الخطاب الدين حول أهمية الدين أن يكون فيما لو تم تأويله وعدم استخدامه ايديولوجيا أن يكون عنصرا مهما من عناصر النهضة، ولكن خلافهما تركز حول المقصود بالدين مختلفين في ذلك مع دعاة الأصولية الإسلامية أو اليمن الإسلامي، ومع اليسار الإسلامي الذي مثله منذ سبعينات القرن الماضي " حسن حنفي"، باعتبار أن مشروعه على حد قول نصر أبو زيد هو " تأويل ايديولوجي للإسلام وليس قراءة علمية معرفة له ".

ومن هنا فإن الخطاب التأويلي الديني عند أركون ونصر أبو زيد كما يرى الدكتور محمد الشياب إنما هو سعي لتأويل علمي للإسلام يحرره مما لحق به من خرافة وأسطورة وتوظيف نفعي ليحافظ على ما فيه من قوة دافعة نحو التقدم والحريات، كما يطمح خطابهما أيضا كما يرى الدكتور محمد الشياب إلى الاتقاء بالوعي الديني إلى مستوى نظام العقل من خلال إدراج العقلانية والعلمانية في بوتقة واحدة، بوصفهما عنصرين جوهريين من عناصر بناءه بغية تشكيل منظومة لما يمكن ان تكون عليه العقلانية الإسلامية .

أما الفصل الثاني من الكتاب وهو بعنوان" تجديد الوعي الديني عند حسن حنفي"، حيث يدعو حنفي كما يرى الدكتور محمد الشياب إلى الأصول لتأسيس نهضة عربية جديدة، حيث إن التراث في نظر حسن حنفي وهو يمثل الأصول هو نقطة البداية كمسؤولية قومية ثقافية، والتجديد هو إعادة تفسير التراث طبقا لحاجات العصر، والأصالة هي أساس المعاصرة، ومن ثم فالتراث هو الوسيلة والتجديد هو الغاية، وليس للتراث قيمة في ذاته إلا يقدر ما يعطي من نظرية علمية في تفسير الواقع والعمل على تطويره .

كما أن التراث والتجديد في نظر حنفي يؤسسان علما جديدا، فهو الحاضر في ضوء الماضي، وشد الماضي إلى الحاضر، وقد يكون الاختيار الإعتزالي في نظر حسن حنفي أكبر تعبير عن حاجات العصر، وأكثر تلبية لمطالبه، كما أن التراث والتجديد في فلسفة حنفي كما يقول الدكتور محمد الشياب ليس هدفه القيام بحركة اصلاح كما حدث في القرن الثالث عشر الهجري أي عصر النهضة العربية، إنما يهدف إلى تكوين حركة جماهيرية شعبية وإلى حزب ثوري يكون هو المحقق للثورة الوطنية الموجهة للسلوك الجماهيري، كما يهدف إلى تغيير الأطر النظرية الموروثة تبعا لحاجات العصر.

من هنا فإن إعادة بناء الفكر العربي كما يرى الدكتور محمد الشياب عند حسن حنفي ليس مسألة نظرية فقط، بل هي أيضا إعادة بناء مع الواقع وذلك بتحويل الوعي التاريخي العربي من أساس إلى آخر دون اغتراب في القديم بالجمود أو اغتراب في تراث الآخرين أي الحداثة بدعوى التجديد تمهيدا لتحويله كلية إلى الواقع العربي المعاصر .

وبالمحصلة يرى الدكتور محمد الشياب أن مشروع حسن حنفي تميز بعدد من الخصائص، ومن أهم هذه الخصائص:

1- أنه مشروع ذو طبيعة عملية يقوم على أولوية الواقع على الفكر وأولوية حركة النهضة على نظرية النهضة، ولهذا كان حنفي يدعو إلى تأسيس حركة في مشروعه.

2-أنه مشروع ذو مضمون ديني بالمحصلة أو يرتبط بالوعي الديني الذي يسعى إلى تجديده وتحويله إلى أيديولوجيا عصرية ثورية .

3- أنه مشروع جماهيري مادته الأساسية الجماهير التي هي أداة النهضة والتغيير .

4- أنه مشروع يعتمد على التصديق لا الاقتناع فالمعاني التي تصل إليها المعالجة الفينومينولوجية الشعورية لا تتطلب اقناعا عقليا، بل تتطلب بنظر حين حنفي التصديق من قبل القارئ والذي عليه أن يصدق بها .

أما الفصل الثالث فهو بعنوان " مشروع محمد عابد الجابري"، حيث يرى الدكتور محمد الشياب أن السمة الأساسية التي طبعت إنتاج الجابري وأصبحت علاقة ملازمة لاجتهاداته الفكرية هي القراءة الأبستمولوجية للتراث، والمدلول الأساسي لهذه القراءة هو اتخاذ مسافة معرفية كافية من التراث بوصفه موضوعا للدراسة، وهذه المسافة تميز بين الحاضر والماضي، وبين عقل اليوم وعقل الأمس، وتتمثل بداهتها في الانتقال من نموذج فكري دوجمائي – دفاعي –تمجيدي إلى نموذج فكري يخضع للفحص والتساؤل النقدي بداية من أدوات المنهجية الجديدة التي راكمتها العلوم الإنسانية الحديثة في الفكر العربي .

لذلك فإن قراءة التراث من خلال منظور الجابري كما يرى الدكتور محمد الشياب كان هو فعل نقدي وتفكيكي لا بالمعنى العدمي، بل من أجل استبيان بنياته وآليات التفكير التي يشغلها، وإرجاع الخلفيات المضمونية الشكلية الذي يلجأ إلى استعمالها مضمون ذلك أن العلاقة مع التراث ليست علاقة تماهي أو أنه مجرد أدوات خطابية بل هي علاقة تحريرية نقدية قوامها الفحص والتساؤل.

أما الفصل الرابع، وهو يتناول الوعي التاريخي عند هشام ناصيف وعبد الله العروي، فأما ناصيف فقد عمل على صياغة خطاب ماركسي قوي – تحرري، منطلقا من إخضاع الفكر القومي والليبرالي والماركسي للنقد والتحليل وتجاوزه إلى فكر ماركسي ثوري – عقلاني، ينزع عن الماركسية صيغتها الإيمانية، وعقائدها المدرسية الوثوقية، وعن الليبرالية والديمقراطية والقومية الثورية بلاغاها اللفظية بحيث تعاد جميعها إلى الواقع العربي للانطلاق منه لتأسس وعي مطابق يكون ممهدا لثورة ثقافية تعيد إنتاج هذا الواقع معرفيا ومفهوميا، فدمج هشام ناصيف كما يرى الدكتور محمد الشياب الجانب العقلاني لليبرالية – الديمقراطية فلسفة عصر الأنوار وفلسفة كانط النقدية، والقومية العربية العلمانية –الثورية، والماركسية –اللينينة لإنتاج صيغة ثورية تصلح لأن تكون منهجا ونظرية للثقافة العربية الحديثة، وتأسيس زمن ثقافي جديد، انطلاقا من الماركسية النقدية، ومن العقلانية الليبرالية، والوعي القومي العربي الديمقراطي العلماني.

أما بالنسبة لعبد الله العروي كما يرى الدكتور محمد الشياب فقد وضع العروي المسألة الثقافية في المقدمة، ووضع منهجا نقديا للتعامل معها معتبرا أن أبرز علامات تأخرها هو تخلف الوعي عن الواقع، والثورة الفعلية في جوهرها هي رفع الوعي إلى مستوى الواقع، لأن في ذلك فهما لذوات الأفراد، والإجابة عن مشاكل المجتمع وتحقيقا لمرام الأمة .

إن هم العروي كما يرى الدكتور محمد الشياب هو هم كوني بالدرجة الأولى، أي كيفية إدخال العرب إلى التاريخ العالمي بعدما تطلب خروجهم منه، والآخر أي الغرب في نظر العروي بريء من الواقع العربي الدوني خارج التاريخ، وإدامة تخلفهم، وغيبتهم عن ساحة الفعل، فإذا كانت شهادة الآخر أي الغرب بنظر العروي فينا كعرب هي التي تحدد مستوى وعينا، فعلينا الانتظار حتى الأبد، لأنه لن يعترف بنا كما يقول الدكتور محمد الشياب راضيا، بل مهزوما، ومكرها، والسبب في هذا التأخر بنظر العروي هو عيب بنيوي، إنه مستوى وعينا، فإذا لم نقم بتحليل دقيق وصارما جدا لمجموع أدواتنا الذهنية، فإننا لا يمكن أن نكون واثقين بأننا نتحدث فعلا عن ذاتنا .

يعد هذه الإطلالة السريعة والمختصرة التي قمنا بها حول كتاب الدكتور محمد الشياب، نراه يؤكد على أن جميع المفكرين العرب على اختلاف اتجاهاتهم متفقون على أن الدين موضوعيا، هو أحد الثوابت في تكوين شخصية الأفراد والجماعات في المجتمعات العربية، حيث لا يزال الاعتبار الديني في تلك المجتمعات يغلب كل اعتبار، ومجتمعاتنا للأسف في نظر الدكتور محمد الشياب مجتمعات " ثيوقراقية"، أي دينية إذا قمنا بتحليل المضمون لجملة البناء الذهنية التي تتحكم في سلوك الكم الهائل من الطبقات أو الفئات، أو الشرائح الاجتماعية .

وهنا يقول الدكتور محمد الشياب إننا في هذه القراءة للفكر العربي الراهن يمكننا أن نخرج بنتيجة أساسية وهي أننا نعيش مأزق التنوير وحداثة الـتأخر، فهناك إندمال فكري ونكوص ثقافي في حياتنا الفكرية والثقافية المعاصرة، فالثقافة العربية نلحظ فيها الكفر بمبدأ التقدم، والكفر بعدم القبول بالعقل وسيطرة اللاعقل، فالفكر الديني ما يزال يسيطر إلى حد بعيد على الحياة العقلية والشعورية للإنسان العربي سواء كان ذلك بصورة صريحة وجلية أو بصورة ضمنية لا واعية، ففي الوقت الذي أنجزت الأمم الغربية وحدتها السياسية بتوطيد الاتجاه القومي العلماني، فإن الشعوب العربية بقيت متشبثة بالتقاليد المحلية والعقائد الدينية الخاصة .. إننا نجد أن الإسلام ما زال يشكل القسم الأكبر من لا وعينا الجمعي، وأن الدين هو أحد الثوابت في تكوين الشخصية العربية لا يجوز الاقتراب منه أو ملامسته .. إن هذه النظرة والهروب الدين ومهادنته في الفكر العربي يعد تراجعا ونكوصا في صيرورته، بعد ان كان الفكر العربي في عصر النهضة العربية (في القرن 13 الهجري- الموافق القرن التاسع عشر الميلادي)  يحاول إعمال العقل في الإسلام ويقولب قراءته وفقا التنوير والعقل ولحاجات العصر والتقدم، نجده اليوم يشهد تقهقرا بالنسبة للإقدام العقلاني حتى ذلك الذي كنا نجده عند ابن سينا وجابر بن حيان وابن رشد وابن خلدون وغيرهم .

إن التراث كما يرى الدكتور محمد الشياب ما زال يشكل نقطة استقطاب في الفكر العربي بالرغم من أن التراث ليس نقيا أو منظومة، أو منطقا ثابتا مغلقا، ومكتفيا بذلك، وإنما هو منفتح وخاضع لمقتضيات العصر، والمصالح والأهواء السياسية والايديولوجية . لذلك يرى الدكتور محمد الشياب أن التوفيقية هي النزعة الأكثر انتشارا في التعامل مع التراث، حيث نأخذ ما يناسبنا ونترك ما عداه،  كما قال بذلك الدكتور زكي نجيب محمود، وهكذا نفعل اتجاه العصر، حيث نفعل اتجاه العصر فنأخذ من ثقافة المعاصرين ما يفعنا في معاشنا ويفيد في تطور مجتمعاتنا، ولكأن المسألة تُحل بأن نريد ما نرغب فيكون ما يكون ما نرغب وبمعزل عن الشروط الاجتماعية القائمة، لكن مع هذه التوفيقية إلا أن الدكتور محمد الشياب يرى أنها انتهت إلى أن الواقع الذي أصبحنا نعيشه كان أقرب إلى العكس تماما ؛ أي مزيدا من التغرب في الأخلاق والسلوك .

يقول الدكتور محمد الشياب :" لقد استحضرت مجتمعاتنا كل شيء من الغرب من أجل أسوأ نتائج حضارته وتناقضاته وصراعاته الاجتماعية، حتى أعقد مبتكراته في التكنولوجيا، لكن مع العجز الواضح عن تمثل واستيعاب واستحضار تعاليم العقل العلمي والعلم المنتج، وأما ما بقى فينا ومعنا من الماضي فعلا فهو ما ورثناه من عصور الانحطاط والتعصب وإقالة العقل .

إن تخطي أزمة التراث في الفكر العربي المعاصر كما يرى الدكتور محمد الشياب يتطلب قبل كل شيء الخروج من مازق الحياة الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، وأما التعامل مع التراث فهو بالنسبة لكل الاتجاهات الفكرية، سواء التراثية والتحديثية أو التوفيقية، إنما هو صراع ايديولوجي علي ثقة الفكر، وهو في الأغلب لن يكون ذات جدوى ما لم يترافق مع العمل في واقع الحياة الاجتماعية الفعلي، وهذا يتطلب تأويل التراث من أجل فهمه وتخطيه، وذلك بالعمل على كشف العلاقات والبنيات ورصد قوانين التغير والتطور المرتبطة بعلاقة جدلية بين المجتمع والفكر، ويقوم هذا التأويل للتراث اعتمادا على الفكرة العضوية بين عناصر التراث في علاقاتها بمحددات المجتمع الداخلي والخارجي، أو الخاصة والعامة .

ومن هنا فإن الفكر العربي المعاصر في نظر الدكتور محمد الشياب يراد به أنه إذا أراد العربي أن ينهض بالواقع العربي عليه أن ينطلق من الواقع العربي المعاصر لا استنادا إلى صورتنا الحضارية في مخيالنا الاجتماعي – السياسي التي فقدت جُل تاريخيتها، لأن الفكر العربي لا يمكنه أن يكون ترجيعا لأصداء ميتة في ماضينا، فهذا الانشغال بالتراث والماضي ظاهرة مرضية لا توجد في الثقافة المتجانسة والناضجة والمتكاملة والواحدة . أما عندنا وحده في فكرنا العربي كما يرى الدكتور محمد الشياب فقد أصبح يُنظر إلى التراث، وكما نتعامل معه فكريا، أنه ذلك الماضي –النائي  المتشكل في كتلة قائمة بذاتها، ونضع التراث مقابلا للواقع، وكأن هناك شيء اسمه التراث العربي، وشيء اسمه الواقع العربي .

هذه الأطروحة الخاطئة الأساسية هي كما يرى الدكتور محمد الشياب تسييد لأزمة الفكر العربي لمعاينة الواقع، لأن التراث ليس إلا مكونا من مكونات الواقع، ولذلك لا ينبغي النظر إلى التراث بأنه يشكل مشكلة تشغل المجتمع العربي ثم نحاول هذه المشكلة، فهذا قلب للحقائق، فالأصل ألا ننظر إلى التراث بوصفه بنية قائمة بذاتها، وإنما النظر إليه بوصفه مكونا من مكونات الواقع لكي نستطيع الوصول إلى الفروض والتصورات والتي من خلالها ندرك العلاقات القائمة بين التراث والمكونات الأخرى في البنية الكلية للواقع، ومن ثم مواجهتها ومحاولة تطويرها بحيث تُحل المشكلة، والغاية من ذلك ليس نفي التراث أو رفضه، وإنما أن تصبح القضية قضية كينونة عربية كاملة أي قضية مجتمع متجانس له بنبة واضحة تجمع كل مكوناته وتشجب كل العلاقات القائمة بين هذه المكونات.

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط

.........................

المراجع:

1- محمد خالد الشياب.. قراءات في تحرير الوعي العربي ـ دار الصايل للنشر والتوزيع، عمان.

2- قناة الفينق.. قراءة في الفكر العربي المعاصر، د. محمد الشياب.. فيديو.

"بشرة سوداء أقنعة بيضاءPeau noire masques blancs " هو كتاب من تأليف الطبيب النفسي والفيلسوف الاجتماعي فرانز فانون Frantz Fanon أصدره عام 1952. الكتاب مكتوب بأسلوب علم الثقافة الذاتية، حيث يشارك فرانز فانون تجاربه الخاصة بينما يقدم نقدًا تاريخيًا لآثار العنصرية ونزع الصفة الإنسانية المتأصلة في حالات الهيمنة الاستعمارية على النفس البشرية.

أعيد طبعه عام 2004، من طرف منشورات ANEP في الجزائر بالتشارك ودار الفارابي في لبنان، جاء الكتاب في 250 صفحة. وقام بتعريبه خليل أحمد خليل.

يقول فرانز فانون مقدماً كتابه هذا: "هذا الكتاب هو دراسة عيادية، سريرية. وأعتقد أن الذين سيتعرفون فيه على أنفسهم، سيخطون خطوةً إلى الأمام. فأنا أرغب حقاً في أن أقود أخي، الأسود أو الأبيض، إلى أن يُمزِّق بقوة العباءة البالية التي نسجتها عصور عدم الفهم والتّفاهُم." ص 15، ويُضيف: "تنكب الفصول الثلاثة الأولى على الزنجي الحديث. فأنا أتناول الأسود الرَّاهن، وأحاول تعيين مواقفه في العالم الأبيض. سوف أخصص الفصلين الأخيرين لمحاولة تقديم تفسير من خلال علم النفس المرضي والفلسفة لفعل الوجود لدى الزنجي. ويمتاز التحليل بأنه استرجاعي بنحو خاص. فالفصلان الرابع والخامس يقعان على مستوى مختلف جوهرياً." ص 16، "سنرى في سياق هذا الكتاب تبلور محاولة لفهم علاقة الأبيض بالأسود. فالأبيض منغلق في بياضه. والأسود منحبس في سواده. ثمّة واقع هو: أنَّ بعض البيض يعتبرون أنفسهم متفوِّقين على السود. وثمّة أمر واقع أيضاً هو: أن السود يُريدون أن يُظهِروا للبيض، مهما كلَّف الأمر، غِنى فكرهم وتساوي قدرتهم الرُّوحية." ص 12 .

" -أن تأويلاً نفسانياً للمسألة السوداء يستطيع وحده الكشف عن التشوّهات العاطفية، المسؤولة عن البناء العُقدي، فنحن نعمل على تفسخ عضوي كُلِّي لهذا العالم الموبوء، ونعتبر أن على كُلِّ فرد أن ينزع إلى الالتزام بالكونية الملازمة للوضع البشري... لكن، للتوصل إلى هذا الإدراك، لا بد أن نتخلص من سلسلة عيوب، هي من بقايا المرحلة الطفليّة. كان نيتشه يقول: إن تعاسة الإنسان تكمن في أنَّه كان طِفلاً. مع ذلك لا يُمكننا أن ننسى، كما يقول شارل أودييه: إنَّ مصير العُصابي يبقى رهن يديه. مهما يكون هذا الاستنتاج قاسياً، فإننا مكرهون عليه: بالنسبة إلى الأسود، لا يوجد سوى مصير واحد. وهو مصير أبيض". ص 13

" -إنَّ التحرير الحقيقي للأسود يستوجب إستيعاءً للوقائع الاقتصادية والاجتماعية بالغ الصعوبة. فإذا كان ثمّة عُقدة نُقص، فهي حصيلة مسارين: - اقتصادي، أولاً؛ - وتالياً، بالاستبطان، أو بكلامٍ أفضل، نسب هذه الدُّونية إلى لون البشرة". ص 13

" -من أين يأتي هذا التغيُّر في الشخصيّة؟ من أين يأتي هذا النمط الوجودي الجديد؟... إن كل اصطلاح تعبيري هو طريقة في التفكير. وواقع أن يعتمد الأسود العائد حديثاً لغة مختلفة، عن لغة الجماعة التي شهدت ولادته، يظهر اختلالاً وتفاوتاً. كتب البروفيسور وسترمان في كتابه (الإفريقي اليوم  (the African to dayأن هناك شعوراً بالدُّونية لدى السُّود، يشعر به المتطورون بنحو خاص، ويعملون باستمرارٍ للسيطرة عليه. ويُضيف: إن الطريقة المستعملة لهذه الغاية هي ساذجة غالباً: «ارتداء ملابس أوربية أو أسمال من آخر موضة. وتبني أشياء يستعملها الأوربي.، كأشكال تحضُّره الخارجية، وإغناء اللغة المحلية بعبارات أوربية، واستعمال جُمَل متكلفة لدى التَّحدُّث أو الكتابة بلسان أوربي، ويجري العمل بذلك كله في محاولة للتوصل إلى شعورٍ بالمساواة مع الأوربي ونمط حياته»... أن هذه السلوكات ذاتها موجودة داخل كل عرق كان قد جرى استعمارُه". ص 27

" -لئن كانت تعلن مساواة النّاس باسم الذكاء، والفلسفة، فبإسمهما أيضاً تعلن إبادتهم". ص 31

" -إن الحكم المُسبق على اللون هو حماقة، إهانة ينبغي إبادتها". ص 32

" -هكذا يستهل سارتر كتابه(orphée noir): «ماذا كنتم تأملون إذاً عندما انتزعتم الكُمامة التي كانت تسدُّ هذه الأفواه السود؟ أن تنشد قصائد المديح بكم؟ هذه الرؤوس التي أحناها آباؤها بالقوة حتى الأرض، هل كنتم تظنون أنكم ستقرأون الإعجاب في عيونها، عندما سترتفع مُجدَّداً؟»". ص 32

" -إنه تاريخ يجري في الظلام، ولا بُد للشمس أن تُضيء أدنى الخلايا". ص 32

" -يستنتج السير آلان بورنز Sir Alan Burns في الصفحة 120 من كتابه Le Préjugé de race et de couleur  :«لا نستطيع أن نعتبر أنها ثابتة علميّاً النَّظرية القائلة إن الإنسان الأسود قد يكون أدنى من الإنسان الأبيض أو أنه آتٍ من آرومة مختلفة»". ص 33

" -ونحن ندعو إلى الإنسانية، إلى الشعور بالكرامة، إلى المحبّة، إلى الإحسان، لن يكون من السهل علينا أن نُبيّن أو أن نُبرهن على أنّ الأسود مُساوٍ للأبيض... ما نُريده هو أن نُساعد الأسود على التَّحرُّر من التَّرسانة العَقَدية التي نَمت في قلب الوضع الكولنيالي". ص 33

" -في حالة الأسود، فهو ليست لديه ثقافة ولا حضارة، ولا هذا الماضي التاريخي الطويل... إن ما نؤكده هو أن الأوربي لديه فكرة محددة عن الأسود... وبعد كل ما سبق قوله، نُدرك أن ردّة فعل الأسود الأولى هي أن يقول لا لأولئك الذين يُريدون تحديده". ص 37 ، 38 ، 40

" -هناك علاقة تساندية بين اللغة والمجتمع. إن التكلم بلسانٍ يعني الاضطلاع بعالم وثقافة". ص 42

" -إن الدونية جرى الشعور بها، تاريخياً، كدونية اقتصادية". ص 47

" -الإنسان حركة نحو العالم ونحو نظيره. حركة عدائية، تولِّد الاستعباد أو الغزو. حركة محبة، ووهب الذَّات، المآل الأخير لما اتفق على تسميته التوجُّه الأخلاقي. يبدو أن كل وعي قادر على إظهار هذين العنصرين. معاً أو مداولةً". ص 45

" -الأبيض والأسود يُمثِّلان قُطبي عالم، قطبين في صراع دائم: إنه تصور مانوي، حقيقي، للعالم... أبيض أو أسود تلك هي المسألة. أنا أبيض، يعني أني أملك الجمال والفضيلة، اللذين لم يكونا يوماً أسودين. أنا من لون النهار. أنا أسود، أحقق انصهاراً كاملاً مع العالم، وفهماً ودياً للأرض، وخسارة ذاتي في قلب الكون... أنا حقاً قطرةُ شمس تحت الأرض. ويمضي الأمر في مجابهة مع سواده أو بياضه، في خضم الدراما النرجسيّة، وكُلٌّ مِنَّا مُنحبس في خصوصيّته، مع بعض الإشراقات المهدَّدة في موردها". ص 49

" -المطلوب هو أن نعرف إن كان في إمكان الأسود تخطِّي شعوره بالنقص، وطرده من حياته للطابع النزوي الذي يُقرِّبه كثيراً من سلوك الكاره. هناك لدى الزنجي إفراط عاطفي. غضب من الإحساس بأنه صغير، وعجز عن كل تآلف إنساني، فهذه كُلّها تضعه في عزلة لا تحتمل". ص 55

" -إن الزنجي عبد لدونيّته، والأبيض عبد لتفوّقه. يتصرفان، كلاهما، وفقاً لخط تواجّهٍ عُصابي... فالزنجي يقترب في سلوكه، ويتقارب مع نمط عُصابي هُجاسي". ص 65

" -إن الزنجي المتدني ينتقل من القلق المُهيمن إلى الاتهام الذَّاتي. الذي يستشعره حتى اليأس. فغالباً ما يُعاود موقف الأسود من الأبيض. أو موقف نظيره في الخلق". ص 65

" -إن كُلّ نقد للموجود ينطوي على حلّ، ما دمنا قادرين على تقديم حلٍّ لنظيرنا، أي إلى الحُريّة... إن العيب يجب أن يُطرد مرةً واحدة وإلى الأبد". ص 67

" -إن البنيّة العُصابية لفردٍ ما ستكون بالضبط البلورة، التشكيل والتفتيح في الأنا لعقد نواعية، مأزميّة، صادرة عن البيئة من جهة، وعن الطريقة الشخصية التي يَرُدّ بها هذا الفرد على هذه المؤثرات، من جهة ثانية". ص 87

" -ينبغي على هذه الأسطورة الجنسية - خرافة البحث عن الجلد الأبيض - أن لا تعود، منقولةً بواسطة ضمائر مسلوبة، فتحول دون فهمٍ فعَّال. في كل حال، لا ينبغي الشعور بلوني كأنّه عاهة. فمنذ أن يتقبل الزنجي الشرخ الذي يفرضه الأوروبي، لا تعود أمامه فُسحة، ومُنذُئذٍ، ألا يكون مفهوماً أن يحاول الارتفاع نحو الأبيض؟ الارتفاع في سُلَّم الألوان التي يُعيَّن لها نوعاً من الهيكلية؟ سنرى أنّ حلّاً أخر يكون مُمكناً، فهو يفترض إعادة بناء العالم". ص 88

" -لا يوجد في العالم شخص مسكين معاقب، إنسان معذب، لا أكون مقتولاً فيه ومُهاناً". إيمي سيزار. ص 89

" -كُلّ الأشكال الاستغلالية تتشابه. وكلّها تبحث عما يجعلها ضرورية... كُلّ الأشكال الاستغلالية متماثلة. لأنها تنطبق على غرضٍ واحد: الإنسان. وحين يُرادُ النظر من الزاوية التجريدية إلى بُنية هذا الاستغلال أو ذاك، إنما تُقنع المسألة الكبرى، الأساسية، مسألة إعادة وضع الإنسان في مكانه. لا تختلف العِرقيّة الكولونيالية عن العرقيّات الأخرى". ص 94

" -الجُرميّة الميتافيزيقية لدى كارل ياسبرز  Karl Jaspers:«بما أن البشر هم بشر، يوجد بينهم تكافل يكون كُلَّ فرد، بموجبه، مسؤولاً، مُشاركاً في كُلِّ ظلم وكُلَّ أذى أُرتكب في العالم، وخصوصاً الجرائم المرتكبة بحضوره، أو بعلمه. فإذا لم أفعل ما يلزم لمنعها، أكون متواطئاً. وإذا لم أُخاطر بحياتي لمنع اغتيال بشر آخرين، وإذا بقيتُ ساكتاً، أشعر أني مذنب، بمعنى لا يمكن فهمه بطريقة مناسبة، لا حقوقياً، ولا سياسياً ولا أخلاقياً... وإذا عشت بعد وقوع أمورٍ كهذه، فإن ذلك يضغط عليّ مثل ذنبٍ لا يمكن التّكفير عنه. هناك مطلب مطلق يفرض نفسه في مكانٍ ما من أعماق العلاقات الإنسانية: ففي حالة هجمة جُرمية، أو ظروف حياة مهدِّدة للوجود الطَّبيعي، لا تقبلوا أن تعيشوا جميعكم إلَّا معاً، أو لا تعيشوا أبداً»". ص 95

(Karl Jaspers, La culpabilité allemande, tr. par Jeanne Hersch, p 60 -61)

" -ليس على الأسود أن يعود يجد نفسه أمام هذا المأزق: أن يبيَّض أو أن يزول، بل عليه التمكّن من استيعاء إمكانية الوجود". ص 106

- "إن الأبيض، العاجز عن مواجهة كل المطالب، يتحلّل من المسؤوليات، أنا أُسمي ذلك المسار: التوزيع العرقية للجُرميّة". ص 109

- "ما دام الأسود في دياره، لا يكون عليه أن يُجرِّب وجوده مع الآخر... حقاً هناك لحظة «الوجود لأجل الآخر» التي تحدَّث هيغل عنها. لكن كل أونطولوجيا (Ontologie) كل آنية، كينونيَّة، تغدو مستحيلة التحقق في مجتمع مُستعمَر، مُمدَّن". ص 117

- "ما دام من المستحيل عليّ أن أنطلق من عُقدة فطرية، قررتُ أن أؤكد بنفسي كأسود. طالما أنَّ الآخر مُتردِّد في الاعتراف بي. لم يبق سوى حلٍّ واحد : جعله يعرفني". ص 123

- "ليس التعصب إزاء اللون بشيء آخر سوى حقدٍ أعمى يُكنّه عرق لعرق آخر، احتقار الشعوب القوية، الغنية للشعوب التي تعتبرها أدنى منها، ثم الشعور المرير لدى هؤلاء المُكرهين على الإذعان، والذين تلحق بهم المهانة. بما أن اللون هو علامة العرق الخارجية الأشد بروزاً، فقد صار المعيار الذي، من زاويته، يُحكم على النَّاس، بصرف النظر عن مكاسبهم التربوية ومكتسباتهم الاجتماعية. فالأعراقُ ذات اللون الفاتح بلغ بها الأمر أن تحتقر الأعراق ذات اللون الداكن، وهذه تمانع الإذعان، أكثر وأطول، للوضع الممحو الذي يُراد فرضه عليها". ص 126

(Sir Alan Burns, Le préjugé de race et de couleur, Éd. Payot, p 14)

- "إن عسكرة ومركزة السلطة في بلد ما تؤديان آلياً إلى إزدياد السلطة الأبوية". ص 154

- "إن السلطة في الدولة هي بالنسبة إلى الفرد تجديد إنتاج للسلطة العائلية التي تُحاكي أنموذجها في طفولته. فالفرد يتمثّل السلطات التي يلتقيها لاحقاً، مشبِّهاً إيّاها بالسلطة الوالدية: إنه يُدرك الحاضر بعيون الماضي. وعلى غرار كل السلوكات البشرية الأخرى، يجري تعلُّم السلوك تجاه السلطة، يجري تعلُّمه داخل عائلةٍ يُمكنُ تمييزها، من الزاوية البسيكولوجية، بتنظيمها الخاص، أي بالطريقة التي يجري بها توزيع السلطة فيها وممارستها". ص 155

(Joachim Marcus, structure familiale et comportements politique)

- "عندما يُلامس الزنوج العالم الأبيض، يكون هناك فعل تحسُّس معين، وإذا تبدّت البنيةُ النفسية هشّةٌ، نشهدُ إنهياراً للأنا. عندها يتوقف الأسود عن التصرف كفرد فعّال. إذ أن هدف فعله سيكون الآخر (في صورة الأبيض)، لأن الآخر وحدَه يستطيع أن يُقوِّمه". ص 166

- "عندما لا يتوافر الحدّ الأدنى الإنساني، لا تعودُ ثمّة ثقافة". ص 195

- "الدونيّة تظنُّ أنها تقوِّم ذاتها، ويُصرُّ الأعلى على الهرميّة التراتبية". ص 224

- "إنَّ الزنجي يحاول الاحتجاج على النقص، الدونيّة التي يشعر بها تاريخيّاً، وعلى مرِّ الزمان، كان الزنجي ناقصاً، مرؤوساً، فيحاول الردّ على ذلك بعقدة تفوُّق". ص 126

- "لا يكونُ المرءُ إنساناً إلَّا بقدر ما يرغب في فرض نفسه على إنسانٍ آخر، لكي يجعله يعترف به. وما دام فعليّاً لا يُحظى باعتراف الآخر، فإن هذا الآخر يظلُّ موضوعةَ فعله. فقيمتُه وحقيقته الإنسانيّتان تتوقفان على هذا الآخر، على اعتراف هذا الآخر به. إن معنى حياته يتكثَّفُ في هذا الآخر". ص 230

- "المرءُ، فقط حين يُجازف بحياته، يحتفظ بحريته، ويُبين أنّ جوهرَ الوعي الذاتي ليس الوجود، ليس النمط المباشر الذي ينبثق منه وعيُ الذات بادئ ذي بدء، وليس استغراقاً في توسعت الحياة". ص 231

- "إن الحقيقة الإنسانيّة بذاتها_لذاتها لا تتمكَّن من الاكتمال إلَّا في الصراع وبما ينطوي عليه من مُجازفة، هذه المُجازفة تعني أن أتجاوز الحياة نحو خيرٍ أسمى، ألا وهو تحويل اليقين الذاتي الذي أملكه عن قيمتي، إلى حقيقة موضوعيّة، مقبولة عالمياً". ص 231

- "كان فخته يقول: نعم ولا.

قلنا إن الإنسان كان نعم. لن نكُف عن ترداده.

نعم للحياة. نعم للحُبّ. نعم للكرم.

لكنَّ الإنسان هو أيضاً: لا لا لاحتقار الإنسان. لا لإذلال الإنسان. لاستغلال الإنسان. لقتل أجمل ما هو إنساني في الإنسان: الحُريّة". ص 236 .

- التعريف بالكاتب:

فرانز فانون Frantz Fanon ولد في فور دو فرانس بالمارتينيك في 20 يوليو 1925، وتوفي في ماريلاند بالولايات المتحدة الأمريكية في 06 ديسمبر 1961. عُرِف بنضاله من أجل الحُريّة ضد التمييز والعنصرية. تخرج من المدرسة الطبية في ليون بفرنسا. وتخصص في الطبّ النفسي. عمل رئيساً لقسم الطبّ النفسي في مستشفى جوانفيل في البليدة في الجزائر، في الفترة الاستعمارية.

من أهم كتبه "بشرة سوداء وأقنعة بيضاء" (1952) و"معذبو الأرض" (1961).

***

أ. السعيد بوشلالق

هناك كثير من الكتب تهتم بالعلاقات البشرية التي تهدف إلى ضبط عاداتهم وسلوكياتهم. واعتماد منهج يقود إلى تحسين ظروفهم النفسية أو الاجتماعية أو حتى الاقتصادية. وهي كتب هادفة ينهل منها القارئ لتطوير ذاته وأفكاره . تسمى بـ كتب التنمية البشرية، لها رواج كبير من قبل القراء والمثقفين والمهتمين بتطوير الذات.

ان لكتاب فن الاقناع مزايا عديدة في كونه "مجموعة من مهارات الإقناع الإيجابي وأساليبه وتوجهاته، والتي مع تعلمك لها واستخدامها وتطبيقها سوف تجعل من حياتك أسهل بكثير وأقل صغوطاً في مجملها وأكثر متعة على وجه العموم" ص2، ويشير الكاتب في الفصل الأول:  الفوز بدون تخويف، يسرد فيه الكلام بطريقة طريفة ويشير إلى بعض المواقف التي من خلالها سيبدأ بتوضيح كيف يمكن الفوز بدون استخدام الترهيب والتخويف ولن نستخدم المنطق هذه المرة وإنما " نحن البشر نتصرف بعواطفنا وليس بالمنطق" ! ص9، ويسرد الكاتب الكثير من المواقف من أجل إيصال أفكاره بعقلانية وتتشعب الأفكار لتتطرق لمواضيع كثيرة ومنها تفسير السعادة في أنها " ما أنواع السعادة التي نسعى إليها نحن البشر ؟ حسناً ..نحن نعرف جميعاً أنواع السعادة الجسدية، مثل السعادة الأسرية أو السعادة بسبب أكل شيء لذيذ..." ص13.

وفي الفصل الثاني تناول الكاتب بشكل مركز تعليم فن الإقناع وبأسلوب بسيط عن طريق المواقف التي مرت بالكاتب سرد كيفية تعلم فن الإقناع على أساس التعامل العكسي وليس المتوقع كأن يكون الشخص الواقف أمامنا بحالة عصبية فيمكن أن نتعامل معه من خلال المجاراة معه في الكلام ومن ثم اقناعه بما تريد، " سواء كنت تناقش أمراً سياسياً مع أحد الأصدقاء، أو تشارك في نقاش إجتماعي، أو تلقي عرض مبيعات على زبون محتمل، فعليك أن تنتظر حتى ينتهي الآخر من إتمام فكرته . فإن لم تفعل فسيصاب الآخر بالإحباط والغضب وأيا ما ستقوله من لحظة مقاطعتك له فإنه لن يفهمها" ص43.

وجاء في الفصل الثالث عنوان (يعرفك، يحبك، يثق بك) وهو عنوان ملفت فبكل تأكيد حين نعرف الاشخاص ونحبهم سنثق بهم، وقد وضح بوب ذلك من خلال مواقف مرة بها مع زملائه أو مع عاملين في مجالات كثيرة مثل عاملين في المطار أو في مكاتب عامة...، وكانت هناك مجمل توصيات منها أهمية دعم الآخرين " لو أننا استبدلنا بعبارة " أريد أن أكون " عبارة " أريد أن أحصل على " يمكنك إذن اعتبار ذلك هو القاعدة الأساسية للنجاح من خلال فن الإقناع . ومن ثم تصبح " إن العقبة الوحيدة بينك وبين ما تريد الحصول عليه هي دعم الاخرين"" ص 47. فيؤكد بوب على ضرورة مشاركة الآخرين لأن الانسان بحاجة إلى الإنسان مهما حاول أن يثبت غير ذلك .

أما عن الفصل الرابع فاستهل بعبارة فن إشعار الناس بالأهمية .. وفسر في هذا الفصل أهمية إشعار الناس بقيمة أعمالها و أكد أن كلمة الشكر ضرورية جداً عند الحصول على أي خدمة تحصل عليها " حين تحظى بوجبة رائعة في أحد المطاعم أترك رسالة شكر كتابية موجهة للنادل أو المالك أو مدير المطعم .سوف تعامل بعد ذلك ولأجل هذه الرسالة باعتبارك شخصية مميزة ويمكنني القول من واقع تجربة شخصية وتجارب آخرين إن هذا أسلوب شديد النفع" ص 76. وبذلك كان أسلوب مميز للحصول على بعض المعاملة الخاصة من وجهة نظر الكاتب.

الفصل الخامس:  كل شيء قابل للتفاوض سلط الضوء في هذا الفصل على ضرورة التفاوض وعدم ترك الأمر للفوز بما يريده الإنسان،وبين ضرورة عدم إستخدام الأنا في هذا الجانب " أنا اتفهم أنك"..  وأنما يقول "أعلم أنك .." ص95.

الفصل السادس: كيف تتعامل مع أصحاب المشكلات؟ تحدث بوب بهذا الفصل عن موضوع مهم جداً في التعامل مع الأشخاص المتعصبين ويحدثون المشاكل وجاء بعدد من المقترحات وكذلك مواقف مرة به أو قصص لأشخاص آخرين وبين ضرورة الإبتسامة في هذا التعامل وكذلك الاعتذار المسبق قبل التعامل معهم فأستعمل الاسلوب النفسي وكذلك سلوكيات طيبة من أجل إقناع الآخرين والحصول على ما يبغي، شرح ذلك أيضاً بالأمثلة والمواقف التي مر به.

الفصل السابع: وضع فن الإقناع موضع التنفيذ .. وبعد كل ما سبق لا بد من تنفيذ أساليب الإقناع  وبوسائل كثيرة حتى أن الكاتب استخدم التهديد من أجل الإقناع ! بصورة مبطنة وليست صريحة !، " اطرح وجهة نظرهم من القضية أولاً وبعدها فقط اعرض وجهة نظرك " ص154، بطريقة عبقرية يقترح بوب طريقة مميزة من أساليب الإقناع  فطلب من القارئ أن يسمع الطرف الآخر ومن ثم يطرح وجهة نظره وبذلك سيتيح المجال لإقناع المقابل بكل ما يريد اقناعه.

الفصل الثامن: ما يجعلك مختلفاً عن الآخرين.. يوضح بوب هنا من أجل أن يستمر نجاحك في الإقناع لابد من البقاء متواضعاً بعد كل انتصار تقوم به ولا بد أيضاً من استخدام عبارات الطلب وليس الأمر وبذلك تصبح مميز عن الآخرين.

الفصل التاسع: رقائق الحكمة التي تلقيتها خلال الرحلة .. من خلال أساليب بوب بيرج في الإقناع استخدامه عبارات شديدة التأثير لكي تكون الإستجابة للإقناع  سريعة وايضاً يمنح الشخص المقابل دفعة معنوية كبيرة فعبارات الثناء تجعل كل شيء ممكن القبول به .. وهذا من وجهة نظر الكاتب. " سبع كلمات ترتد عليك حتما "لن أحتاج إليه مطلقاً في أي شيء"" .

الفصل العاشر: ما وراء عالم الأعمال.. ويبدأ الفصل بعبارة ملفتة جداً " لا تُخجل أحداً بضبطه متلبسا" ص203 . حيث يرى بوب أن ذلك قد يؤدي إلى خسارة هذا الشخص إلى الأبد ولربما احتاجنا هذا الشخص يوما ما ! ويطرح بعض المواقف التي مرَّ بها وتجارب عاشها بشيء من التفصيل حتى يوضح للقارئ وجهات نظره...

رأيي الشخصي بالكتاب..

الكتاب بصورة عامة فيه الكثير من المعلومات والممارسات  والسلوكيات قد يستطيع من خلالها الانسان التعامل مع من حوله وبأسلوب مقنع، أسلوب ممتع وبسيط وسلس . وجدت أن الكاتب كرر بعض المواضيع واسهب فيها، استخدم الكاتب أسلوب التجارب الشخصية والحوارات المتخيلة حتى يستطيع أن يقنع الناس بوجهة  نظره .

***

سراب سعدي

شطح المقاربة الموضوعية وإسقاطية التساؤلات الشعرية

توطئة: من المفيد أن يستثمر العقل العربي ضمن مشروعية صياغاته وتساؤلاته واستدلالاته بالسيرورة الاقامية الانتلجسنية لأجل تحقق أهدافه ضمن إطارية تبريرية مفهومية ومعيارية لها من التعديل والصحة والتأسيس ، ما يجعلها استعدادا وقبولا في حركية مشروعها التقويمي والتقولي:وإلا ما معنى الانشغال بمقاربات استعادة الأسئلة والإجابة عنها ضمن ذات الحيز من الإشكالية في مفاصل السؤال والإجابة في الآن نفسه؟. لابد من أن هناك ذلك الوعي الحاد بأزمة هوية المقاربة ومعرفيتها وصولا إلى حادثة الوقوع في فخاخ اللارؤية المتماسكة في وعي المقاربة ذاتها. لم يكن أدونيس في جل ما كتبه من الشعر والبحوث خارجا عن ما أسلفنا عنه من حدود الإشكالية في الوعي والتصنيف والخلط وصعوبة التوفيق في الجمع بين الثنائيات المضادة، فهو يطرح علينا مشروع كتابه (الصوفية والسوريالية ) بذلك الطابع الذي تفارقه رؤية الباحث المتقصي لجذور الأصول في طبيعة المذاهب الفلسفية والحركات الفكرية التي لها كل الدور في تبين إمكانية التوفيق بين حركة دينية وأخرى من الأنموذج الذي يتصل في مجال الفنون الجميلة:فما غائية التصديق القضوي والوصفي بين مجال الصوفية والسوريالية من جهة ما، خصوصا وأن كلاهما لا تعكس الأخرى بغير قيود التسمية والاختلاف في تحقيق المقابلة الوظائفية، حتى وأن كان في الأمر محسوسية تتصل بديهيا بالمعنى المضمر في كل من المعنيين المتاحين.

ــ الغيوب ليس ظرفا ماديا لأنشاء الجزئي من المعنى:

يمكننا القول أن آليات مباحث وفصول كتاب (الصوفية والسوريالية) لأدونيس، جاء للقراءة في حدود عينات ومشخصات (الشاعر؟!) في الذات والاعتقاد والانطباع السيال، فهو مجموعة عرضيات في اللون والنحو والبنية والمقصود من ورائها، ذلك التعلق الفني وليس مخصوصية الاعتقاد واليقين والماهية في وجود الصلة والصلات المقدمة على صحة الدليل العقلي في محمولات المقاربة بين (رؤية الصوفية = رؤية السوريالية) ولو تعاملنا بالوجود الجانبي أي بما تحمله واردات الخصيصة الخاصة بالمذهب الصوفي لدى أسانيد أدونيس عبر فصول كتابه، لوجدنا بالمطابقة لا تخلو من وحدات تدوينية منتحلة من كتب أبن عربي ككتابه (الفتوحات المكية) حصرا، ولو دققنا في بعض ما قاله أدونيس عبر صفحات أطروحته، لما وجدنا فيها من دلالة حقيقية على أنه من بدا ملتزما ومتماثلا إزاء حقيقة الحصول على حالات مقاربته بين الصوفية والسوريالية، اللهم إلا من ذلك الجانب الذي يخص ذلك المركب من الاستعارة والترميز والغموض في مصطلحات الصوفية:ولكن يا ترى هل هذه المقاربة هي الأولى والأخيرة في القاسم المشترك ما بين آليات الصوفي والسوريالي ؟. في الواقع وكما قلت منذ قليل، أن أدونيس أصلا لم تتوفر لديه الخلفية الكافية حول المذهب الصوفي، سوى ما غدا متشبثا به من كتاب (الفتوحات) لأبن عربي، متغافلا عن مئات المراجع والمصادر الصوفية ومشايخها الأجلاء في مواطن عروجاتهم الكشفية التي لا تستدل منها الأعيان الظاهرة سوى أوهام الأبصار والعقول. إن ما ذكره أدونيس في بعض متون كتابه، ما لا يستند على أسس منطقية ومعيارية في إقامة الصلة بين الأبعاد الصوفية والسوريالية في أحياز حثيثة من المعنى، بل هناك مفارقة مضحكة بحق أدونيس حقا، عندما أتاح لنفسه أن يقيم حدودا من التقارب ما بين (الصوفية ــ السوريالية) مستندا في ذلك على بعض مقولات أبن عربي تارة في التصوف، وتارة على السوريالي أندريه بريتون في بعض من النماذج التي تخص القرائن المتقاربة ما بين الأمرين. وإذا لاحظنا لوهلة بأن أدونيس لا يظهر بأية مقولة ما أو خلفية ما، ما يدل على أنه ليس له في الأمر سوى ابداء الموضع الوسيط في المجانبة في التصور بين الأمرين، ولو حاولنا الاستدلال بما قاله أدونيس في ما يخص التصوف، لربما تبين لنا بأن الرجل هو من الخارج عن الابعاد الموضوعية من هوية التصوف، وليس له من الأمر إلا ذلك المعنى الغامض الذي يربط المادة الصورية في الرؤية السوريالية بمقولات أبن عربي ليس إلا: (الهدف الأخير الذي يسعى إليه الصوفي هو أن يتماهى مع هذا الغيب، أي مع المطلق، ويهدف السوريالي إلى أن يحقق الأمر نفسه، وليس المهم هنا هوية المطلق، بل حركة التماهى معه، والطريق التي تؤدي إلى ذلك، سواء كان هذا المطلق الله، أو العقل، أو المادة نفسها. /ص11 الصوفية والسوريالية) من الصعوبة بمكان إدراك أدونيس إن بإمكان معقولات المطلق، أن لا تتم إلا بالقياس الجوهري والتسليم اليقيني بوحدة الوجود، وليس هناك ممكنات مفصولة عن بعضها البعض إلا في الصور والأعراض والكيفيات الحادثة والتي تطرأ على المادة كحالة تستدعي القول بوجود المسبب في وضعها التدرجي بالوجود. الإشكالية الكبرى في فهم أدونيس كونها لا تعاين قدرات الإرادة الإلهية في حسابات العدم والغاية وأزلية وجود العلة وقدمها، بقدر ما راح يناقش حقائق غموضية في لغة المادة وظهورها في أدلة عين الشاعر نفسه، وهذا ما أراده أدونيس نفسه عبر مقاربة مقولات إثبات الغيوب والتعامل معها من قبل الصوفي، وكيفية المطابقة مع غيوب المعنى في لغة اللوحة السوريالية حصرا، وبين هذا وذاك تكاملت غيوب القيمة التكوينية بالقاسم المشترك بين غياهب السوريالية والصوفي في تحصيلات مادية المعنى اللامحسوس فهما عابرا.

ــ الشاعر المجهول بين برزخ غيوب المابين:

إن جميع الاستدلالات المقدمة في مقاربة كتاب (الصوفية والسوريالية) هي محض مقايسات فرضية تخلو من عمق المباحثة المدعومة بالحدود العقلية والحكمية في القضايا الأخطر مما توصلت إليه مفاهيم أدونيس الشعرية. لا خلاف لنا مع هذه المقدمات ومتن الكتاب ولا من جهة ما مع أفق آليات الشاعر التي لم تستطع سوى التقاط بداهة البداهات من عوالم العلوم الصوفية، ولا حتى مع إمكانية التشبيه والتجسيم الاستقرائي في عوالم المعنى السوريالي. بقدر تبقى المشكلة الواردة حول انتحالات أدونيس لأغلب مقولات أبن عربي التي قام برصفها داخل صفحات مباحثه، دون حتى اشارة ما تدل على المصدر، أو على الأقل وضع كلام المصدر قاب قوسين. ولكن أدونيس في الواقع لم يواجه أية ضرر وضرورة من وضع الأقواس أو علامة الإحالات إلى المصادر الخاصة بفتوحات أبن عربي، طالما أن هذا الشاعر لا يعنيه من المصادر وكلام أبن عربي واندريه بريتون، سوى التعين الاستعاري بين حدود المتشابهات في الأحوال الحسية وما توحي به من حقيقة وهوية تقاربية شاطحة لا تقترب من عوالم الحقائق الجوهرية في المعارف الصوفي والسوريالية لا من ناحية التكييف ولا التمثيل قيد نملة، بل أن القياس الأحق والاعتبار الأصوب حول تمثيل قيمة كتابه ما يقترب بالملاحظة من تجاربه الشعرية الواقعة في تعطيل المقاصد وملازمة دوائر الترغيب بالمعنى الملتبس والاستفادة من معاجم اللامعنى في الدال والدليل الذاتي والموضوعي.

ــ آفات أساطير المخيلة:

في مقالنا أود القول أننا أصبحنا داخل آفة مفهومية وثقافية تحمل في ظاهرها مزايا الصيت المعرفي والعقلاني، ولكننا عندما نتواصل معها درسا وتمحيصا، لا تصادفنا في مواثيقها أدنى علامات الموقف الموضوعي والمعرفي الجاد والجديد. فهذا كتيب أدونيس أنموذجا (الصوفية والسوريالية) عندما سبرنا غوره، لم تصادفنا فيه أدنى درجات البداهة المعرفية، بل ركز فيه الشاعر حول ثيمات التباين في مشروع الاحتمالات الدلالية المضمرة في نصوص ومواقف المتصوف والسوريالي وهذا الأمر بحد ذاته لم يستدل به أدونيس بسوائطه المعرفية الفاحصة في عوالم الصوفية، بل كان منتحلا لجل مقولات أبن عربي التي وظفها داخل كتيبه ــ دعما للدليل والشاهد والبرهان والعلاقة الرابطة بأبعادها الظاهرية بين غياهب المعاني المشتركة بين معارف المتصوف العروجية وحالات السوريالية الاحتمالية الغائبة للمعنى المتاح الذي يستوجب السفر فيه غورا في الآفاق . ولكن هل حقا كان أدونيس جادا في إثبات هذه المعنى الشاطح تحديدا، والذي لا يشكل في ذاته كل هذا الشغل الشاغل من التخصيص والغور والانتحال والاستثار عن أصول المعارف الحقة التي لم تتصورها ولا من جهة ما الوصول إليها من خلال فيض مقاربة فجة لا تدعمها استكمالية الفهم الأعمق والأصعب في التعرف على حقائق المابين أو الحكمة المتعالية التي تعاين النور الأعلى وملكوته دون مقاربات دنيوية مغرقة بالشفافية، إنما تعاينها ببصائر القلوب المؤمنة وعرفان عروجات أفئدتها الممتحنة بالتمحيص والمجاهدة والورع والواردات القلبية التي تصرع لها الأجساد وتعرج لها الأرواح عروجا في المقام والكينونة. من الواضح والأكيد أن رؤية أدونيس في مشروع كتابه هذا، تتعامل بالمقارنة في حدود ذلك الطابع الحلمي من (آفات أساطير المخيلة) إذ لا مكان لأفق المناظرة القويمة والموضوعية والعقلية بين عوالم (الصوفية = السوريالية) اللهم إلا في مواضع ما اقترحت عليه مخيلة أدونيس الشعرية. ولكننا لو تماشينا مع مباحث كتابه من ناحية فكرية ومعرفية وفلسفية وأصولية، لما وجدنا ثمة دالة واحدة على ما يرمي إليه كتابة قطعا، كقوله الوارد في هذا الصدد من كتابه: (الصوفية والسوريالية، تقوم على لغة التشويق للبحث، والسؤال، ومعرفة المجهول، والدخول في حركة اللانهاية. /ص145 الصوفية والسوريالية) تبدو لنا المعادلة من وراء مقاصد أدونيس المقاربة، وكأنها تتعامل مع فضاءات شعرية، من شأنها الاعتماد على المجاز والاستعارة والشكوى والهموم الذاتية، وليس الأمر مقصورا على مقاربة علاقة (العابد:المعبود) وكيفية المجاهدات العبودية في محراب هذا العابد التقي إزاء فيوضات سبحات الجلالة. كل هذا قد رماه أدونيس خلف ظهره، لأنه ببساطة لم ينطلق من خلفية العارف بالله وصفاته واسماءه وأطواره وتجلياته النورانية، بل إنه راح ينطلق من حدود وجهة نظر ضيقة وهشة، راح من خلالها يبث الصلة بين الآفاق الصورية والانشائية التي تحكمها وسائل التعبير والتوصيف الأدبي. بالتأكيد أن مقامات الفناء الشهودي في معرفة الله لا تتناسب مع معالجة أدونيس لأحوال إسقاطاته المعرفية المحدودة بأصول الدين والعرفان (النظري ــ التطبيقي) لذا وجدنا ولايته الشعرية تنصب في موصوفاها للتصوف في حدود علاقة هي من بداهة البداهات المعرفية. ولو أردنا التقويم كون أدونيس (مفكرا ــ باحثا) لوجدنا أغلب ما كتبه لا يتجاوز مجال الأداب والفنون، أي ليس للرجل في مجال الفكر الأصولي أو العرفان أية طريقة وحقيقة وهوية. وهذا الأمر ما وجدناه بالضرورة القصوى في كتابه المعنون بـ (الصوفية والسوريالية) كمجرد تدوينات يبحث فيها الشاعر عن ماهية تقارب الغموض بين العالم الصوفي والسوريالي، ولو كان لأدونيس ثمة خلفية أصولية وعرفانية، لراح ينبذ فكرة هذا التقارب شكلا وموضوعا، لأن الباحث الحقيقي لا يقدم بحثه على أساس حالة نسبية جدا من عوالم لها من الأحوال والأطوار والأسرار والحقائق ما يفوق فلك الحياة بأسرها.

ــ تعليق القراءة:

في الختام أود تعريف القارىء بأني لست ممن يتحاملون على أدونيس وأعماله الثقافية والشعرية أو اللاشعرية، ولكن من الغريب أن هذا الكتاب قد زج ذاته الأدبية والثقافية في السبيل الذي لا يمكن سلكه من قبل أيا كان من الناس أو حتى الأفذاذ من أرباب العقول، لأنه يتطلب ممن يود سلوكه على الأقل، أن يكون من أهل التقوى والتوحيد ثم بالتالي من أهل اليقين، وأعتقد أن معرفتنا الظاهرة بأدونيس تجعله بعيدا عن مثل هكذا مقاربات عسيرة، إن لم نقل أن كتابه لم يخرج بأية تجربة مثمرة وناضجة، وذلك لكونه تسلط الضوء على وظيفة نسبية وأكثر طرافة من حكايات ــ جدتي والمصباح السحري ــ فالشاعر أدونيس كان من الخليق به أن يهتم بوصفه الشعري وتجربته في مجال القصيدة التي لحد الآن تراهن على مكوثها الشاحب في الإجراء والممارسة والهوية والرؤية، ما يشغله جزافا أن يتماهى ويتكاتف ويتداخل مع صعودات الموجة، فتارة نراه شاعرا وأخرى باحثا وأخرى ككمبارس في أفلام الدمى المتحركة. على هذا النحو وجدنا مكونات أدونيس تلك الذات التي تبحث عن صعودها رغم المفارقات والنقائص فما زالت هذه الشيخوخة الأدبية تعاود ملاحقة ما فاتها من المصادفات العمرية، غير مكتفية بما أصبح لا يلاءم قامتها من الدور والأدوار الدخيلة.

***

حيدر عبد الرضا

في بقعة من عالمنا الحالي، تدوى أصوات القنابل، تُرعد كل ذي سمع.. تيتم الصغار والكبار وتثكلهم.. ليست بقعة ولكن في بقاع يصعب حصرها.. وفي بقعة أخرى يُفتن كثيرا منا في دينهم فيُحبسون عن الصلاة ويُحرمون عن الصيام، ويقتلون بلا ذنب، إلا الإسلام (1).

ثم وفي بقاع أخرى من عالمنا هذا وتخلوا مساجدهم من أكثر أقرانهم، ففي الحين الذي تواجه فيه الأمة أقوى عواصف العدوان العسكري، والفكري، والثقافي، يغرق الكثير من شبابها في بحار التجهيل، لا يعرفون أمتهم، ولا يدركون ما هي ؟، بل لا يدركون من هم من الأساس، وخلف شاشات تعج بالتفاهة والتجهيل، غابت عقول نضرة، وغُيب أصابها.

شباب تلك الأمة، وعمادها الأول، أولئك الذين نصروا الدين قبل 1400 سنة، حتى صار أكثرهم الآن في غيابة الهزيمة والتيهه، فما الذي غيبهم ؟، وما الذي يحتاجونه؟، ولما هم هنا من الأساس ؟  (2).

وقد أجاب الفيلسوف الكندي "ألان دونو"  في كتابه "نظام التفاهة (ترجمة وتعلق د. مشاعل عبد العزيز الهاجرى ) قائلا : " ضع كتبك المعقدة جانبا، لاتكن فخورا ولا روحانيا، ولا حتى مرتاحا، لقد تغير الزمان.. فلم بعد هناك اقتحام للباستيل، ولا شيء يُقارن بحريق الرايخستان، كما أن البارجة الروسية أورورا لم تطلق طلقة واحدة باتجاه اليابان. ومع ذلك، فقد شن الهجوم بنجاح: لقد تبوأ التافهون موفع السلطة".

وهنا في تلك الكلمات يكشف " ألان دونو"  عن شكل عالمنا الجديد، ذلك العالم الذي يسيطر فيع التافهون على كل مفاصل الحياة تقريبا، والذين أدت تفاهتهم لتدهور متطلبات الجودة العالية، فُهمشت منظومات القيم، وبرزت الأذواق المنحطة، وأُبعد الأكفاء، وحلت الساحة من التحديات، فتسيد إثر ذلك شريحة كاملة من التافهين والجاهلين ذوي البساطة الفكرية  (3).

وقد ألقت هذه التفاهة بظلالها على مختلف نواحي الواقع اليوم، خاصة تلك التي يتلقى منها الشباب، ويتأثرون بها، ففي الشأن العام أصبحنا نرى المثقف الحكيم يختفى تدريجيا ليصعد محله ذوى الشهوات والدورات التدريبة الفارغة، حتى وإن اعترتهم السطحية، وافتقدوا الأمانة في كلامهم، وهذا الأمر لا ينطبق على الإعلام والبرامج التلفزيونية فحسب، وإنما يمتد إلى الجامعات ومنصات التعليم أيضا.

إذا يرى دونو أن الجامعة أمست لبنة أساسية في نظام التفاهة، الذي نحيا في ظله، فبدل من أن تفرز المثقفين الحقيقيين الذين يقودون الشباب، وبدلا من يخُتار المعلم الجامعي على أساس ثقافته، إلى جانب تخصصه، أصبح التخصص هو المحور المهم الوحيد، حتى لو كان هذا المعلم فارغا، ضئيل الثقافة، منعدم الحكمة.

وفي هذا السياق يضيف دونوا أن مفرزة التعليم نفسها، صارت تنتج التفاهة بكل قوة، إذ انتهى عصر التعلم لأجل العلم على ما فيه من ثقل وجدية تشحذ الهمم وتنمي العقول وسيطر عصر التعلم لأجل الشهادة والوظيفة، حتى أصبحت وظيفة التعليم، الحصول على ورقة مختومة نتربح من ورائها، لا صقل العقول والأفهام بالعلوم والثقافات (4).

وفي سياق آخر فإن أحد مصادر التلقي لدى الشباب يكمن في الفنون التي ترقى بضائقة الإنسان، إلا أن نظام التفاهة قد استحوذ عليه، مع سيطرة منطق السوق والرأسمالية التجارية على كل شيء، فكما صرنا نتعلم لنتحصل المال والعلم، صار المشتغلون بالفن ينتجون الفن التجاري الذي يبيع العرى والانحطاط، بدلا من الانشغال بالقيم العالية والقضايا الجادة.

وهذا كله نتاج لسيطرة التفاهة وتصدر التافهين لمناصب التأثير المجتمعي، ثم جاء عصر التواصل الاجتماعي، والشهرة السريعة ليتفاقم هذا الأثر السيئ بتصدر التافهين، وقد أشار لهذا الأمر الكاتب والفيلسوف ألبيرتو لإيكو قائلا : إن أدوات مثل تويتر وفيسبوك منحت حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد كأس من النبيذ دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فورا، أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحملون جائزة نوبل، إنه غزو البلهاء، ففي عصر كهذا كيف سيكون شكل القدوات التي ينظر إليها الشباب ".

إن نفوس البشر مجبولة على حب الاقتداء والتأسي ممن تتجسد فيهم المعاني والقيم النظرية، ولهذا دعا الله المؤمنين إلى التأسي المطلق، وفي عالم اليوم لم نعد إلا كما قال نونو سوى كائنات مشدودة إلى لعبة تتجاوزنا على جميع المستويات، فالإنسان ليس مختارا بما فيه الكفاية ليحدد مصيره، أو يتجاوز الحدود المرسومة إليه سلفا، من خلال الخطط والاستراتيجيات التي يُساق إليها كرها، ولعل لأهم شيئا تحدد مصيرنا اليوم هو هذه التفاهة المحيط بنا من كل جانب.

هكذا يؤكد ألان دونو على أننا محاطون بقدر كبير من العبثية واللامبالاة، والتفاهة التي تعني أن البشرية في طريقها إلى حائط مسدود، بعد أن سيطر التافهين على مقاصل كل شيء، بدءا من الخريطة الاجتماعية، وانتهاء إلى عوالم الثقافة والفن والرياضة، وهذا هو النظام الذي يُساق له الناس، ويرعوه عن قصد أو دونه، ووجب التحذير منه والتعرف على طبيعته وهويته (5).

وكتاب البروفيسور الكندي "آلان دونو" نظام التفاهة هو واحد من هذه الكتب القيّمة، التي يتردد صداها أبعد من ذلك، يمكن وصفه بأنه كتاب استثنائي جرئ، ومن بين الأهم في القرن؛ والكتاب عبارة عن مناقشة هامة حول واحدة من أهم مشاكل ومعضلات عصرنا الرأسمالي، وهي التفاهة التي تغزونا من كل الاتجاهات، وحول أيضاً مسؤوليتنا الثقافية والأخلاقية المقابلة، وبالتالي منحَ هذا الوضع الخاص الكتاب أهمية أخرى. فبالإضافة إلى كل ما سبق يُعد واحداً من تلك الدراسات القليلة والنادرة، التي تعمل في هذا الحقل كعدسة تميّز محتوى ومضمون التفاهة، التي تحيط بنا، وكمرآة تعكس سلوك التافهين ومنطقهم المتدنّي (6).

على السياق ذاته، يقدّم "دونو" عصرنا على أنه عصر سيطرة التفاهة بلا منازع، وليسخّر قلمه ولغته وأسلوبه لنقدها، ونقد الأشكال والأيقونات، التي تشكّلها وتتشكّل بها في الوقت ذاته، والتفاهة بشكل خاص تميّز عصرنا عن بقية العصور.

يبدأ "دونو" كتابه بعبارة: "لقد تبوأ التافهون قمة السلطة"، ثم يسأل ما جوهر كفاءة الشخص التافه؟

ويجب في الوقت نفسه: "إنها قدرته على إيجاد شخص تافه مثله؛ فمعاً، يدعم التافهون بعضهم البعض، يرفع كل منهم الآخر، لتكبر في النهاية جماعة التفاهة، وتتسع أدوارها”. فالتفاهة لا تعاني من نقص في القدرة والكفاءة والعدد، وكل ما يلزمك فقط أن تدّعي أنّك شخص براجماتي (7).

ثم يمضي ويُعرّف التفاهة، وكيف تفرض نفسها على حياتنا تدريجياً، ومن خلال وسائل التواصل الاجتماعي والصحافة والتلفزيون والتجارة والأعمال…، وكيف يصبح التافهون مجموعة مسيطرة ذات نفوذ، ولا ينسى تذكيرنا بان ظاهرة التفاهة مرافقة لكل جيل، ومع ذلك كانت مستنكرة ومرفوضة. واليوم ولسوء الحظ صار التافهون يقبضون على السلطة والإعلام تدريجياً وأكثر قبولاً وشمولاً (8).

ولا يتوقف عند هذا الحد، بل يتوسّع ليحذّر من أن التفاهة أصبحت نظاماً، ونموذجا تم نصبه. والأسوأ من كل ذلك أن لها فرصاً أكبر للنجاح. ثم يحذّر من سيطرة الأشخاص التافهين، باعتبار ذلك "حالة خلقتها الأشكال التافهة نفسها" (9).

إن الشخص التافه - برأي "دونو" نفسه - هو شخص ذكي يحاول أن ينجو بنفسه، له ابتسامة متواطئة مميّزة، ويردد عبارات مدلّسة مثل: "عليك أن تلعب اللعبة"، وهذه الطريقة بالتفكير - بالذات - تعكس علاقتنا بالانتهازية، طريقة مبتذلة تشجّعنا على "الإغفاء" بدلا عن "التفكير"، والنظر إلى ما هو غير معقول على أنه حتمي، وإلى ما هو مقيت وكأنه "ضروري".

وما يحدث هو أن التفاهة تقوم بتسطيح وتمييع كل شيء وفي كل مكان، في مقار العمل، والدراسة، والإعلام، والسياسية، ومؤسسات الدولة،  والمؤسسات الثقافية، والتعليمية، والصناعية، والتجارية، وبصيغ متعددة أكثر بؤسا وشمولاً ممّا نتوقّع  (10).

وينقسم الكتاب إلى الكتاب إلى أربع فصول، فيبدأ  آلان دونو الفصل الأول بالمعرفة والخبرة، حيث يؤكد الكاتب في هذا الفصل على أن عامل اليوم يعاني من مجموعة من المعضلات، لكن أخطرها يتجلى في تسرب التفاهة إلى عوالم المعرفة والخبرة، التي يفترض أن تكون بمنأى عن هذا الفيروس القاتل، وهذه السيطرة التي أحكم إغلاقها التافهون كانت نتيجة طبيعية لسيادة فكر أكاديمي تافه موجود على امتداد كل الجامعات، والمراكز البحثية، والمنظومات الاكاديمية، فما الذي دل على ذلك؟.

وللجواب عن هذا السؤال يؤكد ألان دونو على أن دور المثقف والحكيم والعالم لم يعد موجودا في عالم اليوم، واًصبح المكان شاغرا ليملئه الخبير والاختصاصي والبروفيسور، والمسألة هنا ليست مسألة أسماء قد عوضت بعضها البعض، فلا مشاحة في الاصطلاح، بل على العكس من ذلك كله، فالإشكالية كلها تتركز حول هذا التحول التراجيدي حيث تم تشويه دور المؤسسات الاكاديمية، وتم التعاطي مع الجامعات على أنها مؤسسات لتفريخ العاطلين، وعدم قدرتها على الإنتاجية البحثية والثقافية (11).

لقد تم الابتعاد كما يري دونو عن عملية المعرفة، أي العملية التي نكتشف من خلالها وعينا، وما هو قادر عليه من خلال سعادة الشخص المبتكر بعمله، صغيرا كان أو كبيرا،، فالتفاهة هو العنوان السائد في المجال المعرفي والعلمي، إلى الحد الذي يعطي الانطباع باستحالة إضافة الجديد والمفيد، والفكرة هي أن التافهون قد سيطروا على كل ما هو أكاديمي، وحولوا المعرفة والعلم إلى أشياء تافه (12).

أما الفصل الثاني وهو بعنوان التجارة والتمويل، وفيه ناقش دونو كيف تحكم الاقتصاد في كل مفاصل المجتمعات المعاصرة، فهو عصب الحياة وقائدها، وبه تتحدد عظمة الدول من وضاعتها، لكن اقتصاد اليوم ليس كاقتصاد الأمس حيث تغير كل شيء، ولم يعد العالم بحاجة إلى البنيات التقليدية التي سادت في العوالم القديمة، لقد سادت وهيمنت البورصات والمضاربات المالية على كل مفاصل الاقتصاد العالمي، واًصبح مستحيلا الخروج من قبضة رؤوس الأموال العابرة للقارات التي تتحكم بها خوارزميات غير معروفة للجميع. إن المتحكمين للنظام الاقتصادي المعاصر، خاصة في الدول الرأسمالية الكبيرة لا يشكلون إلا فئة قليلة يتحكمون في كل شيء ويحركون من وراء الستار كل شيء دون أن اشعر بهم، أو تحدد ملامح وظائفهم، وهنا خطورة نظام التفاهة، حيث كل شيء يمشي وفق استراتيجيات هدفها هو التمويه والتضليل والتغرير، بعناوين مختلفة، ظاهرها فيه الرحمة، وباطنها من قبله العذاب. وهذا هو شأن النظام المالي المعاصر حيث يترتب على هذا المستوى من الضبابية في عامل تفاهة الاقتصاد وأسواق المال، ظهور إنهيارات مفاجئة لأسواق المال، بطريقة بجعل المواطنين مبهوتين إلى درجة لا يستطيعون التعرف معها ما إذا كانت عقولهم تستطيع أن تعمل بسرعة كافية لكشفها، فأسعار الأٍسهم تنهار، والأسواق تشتعل، والتضخم يزداد، والحيرة هي السائدة والمهيمنة في نظام التفاهة. والفكرة نظام التفاهة المالي والاقتصادي، حيث لا يستطيع الإنسان أن يتنبأ باتجاهه أو عواقبه (13).

أما الفصل الثالث: وهو بعنوان " الثقافة والحضارة"، في نظر دونو لا يقتصر نطام التفاهة فقط على الجانب العلمي والمعرفي، أو في بعض الأحيان التسرب إلى عالم الاقتصاد والمال، بل أخطر ما فيه هو انه بنية متكاملة، تتسرب أيضا إلى الموضوعات الثقافية والحضارية، وكل الأبعاد الروحية للكائن الإنساني، فالنقود مثلا تخدم الجانب الفني وتستخدمه في الآن ذاته لتخبر عن نفسها، باعتبارها وسيلة توسطية للتأثير في التفاهة في أعظم حالاتها، فليس هناك مال أو نقود بعيدا عن توجيه الفن والإرث الإنساني، هي الأغراض التي يريدها الرأسمالي (14).

وهنا يفرق الكاتب بين نوعين من الاقتصاد الروحاني والمادي، فالاقتصاد الروحاني، يجد أصله فينا كبشر كألفاظ متصل : كوتا التأثير، والاستثمار الغريزي، أو عملة المعنى، أما الاقتصاد المادي فيتكون من الصفات التجارية الصغرى، كالشغف المحاسبي، والتشريعات المحددة للإنفاق، فماذا يعنى كل ذلك؟... يعنى أن في الأمر نظاما حقيقيا جدا للسلطة، إلا أنه لا يترجم إلى أي شكل دستوري، أو مؤسسة مدركة في المجال العام، أي أن هذا النظام النخبوي سوف يستوعب الأشكال التقليدية للسلطة، ويجمع بين ملاك العقار، والشركات متعددة الجنسيات، وهذا ما يمكنهم من متابعة عملياتهم المالية، خارج نطاق الدولة التي يسود فيها القانون(15).

إن أخطر ما في نظام التفاهة كما يروى دونو هو أن لديه القدرة علة تحويل رأس المال الثقافي إلى أشياء تافهة، حيث يفرض على الفنانين العمل وفقا لأهداف السوق أكثر من الأهداف المرتبطة بعمليتهم الإبداعية الخاصة، والفنان إن لم يخضع بهذا الترويض، فإنه لن يعتد به. إذن فكره الفصل هي ان الثقافة والحضارة في نظام التفاهة تابعة لاقتصاد والسوق وما يحدده أصحاب رؤوس الأموال (16).

أما الفصل الرابع وهو بعنوان " إنهاء ما يضر بالصالح العام"، وهو الفصل الأخير وفيه يؤكد دونو على أننا نصارع في الحقيقة لترسيخ علاقتنا الاجتماعية بالقدر نفسه، الذي نجد فيه من المستحيل أن نفكر في أنفسنا كثوريين بطريقة غير رومانسية، ومع ذلك فالثورة التي تعنى إسقاط المؤسسات التي تدمر الصالح العام بشكل خطير، وجعلها من الماضي هي مهمة عاجلة جدا، حتى ولو كانت مسألة تتعلق بأشياء مثل حماية أية نظام بيئي نما زال يمكنه الإفلات من الدمار الأعمى الذي توقعه الصناعات الكبرى والأموال الطائلة، وحمل متخذي القرار الاقتصادي على إجراء تغييرات راديكالية على الطريقة التي يفكرون بها في البلايين من الناس الذين تم افقارهم والذين يعانون اقصاءا مجنونا يستشعرونه في دماءهم، فما الذي يجب عمله في ظل هذا النظام الذي يجب عمله بتفاهة ؟

وهنا يجيبنا دونو  فيقول: " اعمل بلا هوداة  لخلق توليف من القضايا الوجيهة.. التقي مع آخرين في تجمعات بخلاف تلك الطائفية والشللية.. اسخر من الايديولوجيات.. اختزل المصطلحات التي تريد البروباغندا كتابتها في جوهر ذواتنا، وحولها إلى موضوعات مجردة للتفكير.. تجاوز أساليب السيطرة التي تمارسها المنظمات، ثم حاول خلق بنى تُشبِهُنا، والفكرة المستخلصة من الفضل، هي العمل للخروج من نظما التفاهة يحتاج منا ثورة حقيقية في كل المفاهيم التي ورثناها عن العالم المعاصر" (17).

الخلاصة: التفاهة عبارة عن إشكالية وواقع معقّد، مشكلة تُلقي بظلال طويلة قاتمة على حياتنا المعاصرة، طبيعتها المختلّة وظيفياً، وبشكل دراماتيكي قادرة على إفساد مستقبلنا، قدرتها على تخريب كل شيء أمر واقع، ومهما حاولنا الهرب لا يمكننا إنقاذ أنفسنا منها، فنحن نعيش في عالم لا يعترف بقيمتنا.. ورغم كل الإحباط الذي يشكّله الكتاب إلا أنه لا يتجاهل تنبيهنا إلى أن لنا دورا هاما، وهو تغيير هذا النظام تغييراً جذرياً، عوض أن نعلن الحداد (18).

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة – جامعة أسيوط

.......................

المراجع

1- مركز رواسخ: تفاهة جيل.. وهموم أمة بين التجهيل والتهوين، يوتيوب.

2- المرجع السابق.

3- المرجع السابق.

4- المرجع السابق.

5-المرجع السابق.

6- بشير عثمان: "آلان دونو" ونقد عصر التفاهة، بلقيس، 22/03/2022, 13:36:46.

7- المرجع السابق.

8- المرجع السابق.

9- المرجع السابق.

10- المرجع السابق.

11- آلان  دونو : نظام التفاهة، ترجمة د. مشاعل عبد العزيز الهاجري، دار سؤال للنشر، 2020، ص  100، وأنظر كذلك ملخص م كتاب نظام التفاهة - آلان دونو، خير جليس، يوتيوب.

12- المرجع السابق، ص 111.

13- المرجع السابق، ص 171-233.

14- المرجع السابق، ص247-293.

15- المرجع السابق، ص 255.

16- المرجع السابق، ص293.

17- المرجع السابق، ص 303-311.

18- بشير عثمان: "آلان دونو" ونقد عصر التفاهة.

(قراءة في كتاب "الكبار يعرفون متى يرحلون" للكاتبة الجزائرية حبيبة نقوب)

هو كتاب يرسم لوحة لانتفاضة شعب ودور الجيش في التجاوب مع الأحداث والتعايش معها تجنبا لسفك الدماء  وعدم  العودة إلى مرحلة اتسمت بالعنف  حين وقع صدام مسلح بين النظام والمعارضة وجدت الجزائر نفسها الخاسر الأول، فالحديث عن الجيش الشعبي الوطني سليل جيش التحرير الوطني الثوري حديثٌ ذو شجونٍ، ولولا جيش التحرير الوطني الذي حرر البلاد لما وصل الجهاز العسكري في الجزائر الى مستوى الريّادة،  فالجيش الجزائري عاش أحداثا دموية، فكان عليه أن يلتزم بالتعقل والتريث وعدم التهور في اتخاذ موقف لا يخدم البلاد، لم تُخْرِجْ مؤسسة الجيش في الجزائر دباباتها في حراك 22 فبراير 2019  ولم تستعرض عضلاتها كما استعرضتها في بداية التسعينيات لتواجه المعارضة حتى الشعب كان مسالما متفتح الفكر في تعامله مع الوضع، تجدر الإشارة أن الكاتب حبيبة نقوب هي مدربة في التنمية البشرية ومتقاعدة من قطاع التربية حيث درّست طلبة العلوم الطبيعية بالطور الثانوي وهي أيضا شاعرة، في رصيدها دواوين وكتب.

 الكتاب من الحجم الصغير وهو من نوع "كتاب الجيب" يقع في 112 صفحة صدرت طبعته الأولى في 2021  عن دار الأوطان للنشر والتوزيع، كتاب يمكن وصفه بقصية غزل نثرية كتبتها حبيبة نقوب عن شخصية عسكرية هي الجنرال أحمد قايد صالح، حيث خصصت له أغلب الصفحات من الصفحة السابعة الى الصفحة 35 لتعود إليه في أواخر صفحات الكتاب وعكس بعض الكتاب الذين يمارسون ثقافة العنعنة (عن عن)، إلا أن الكاتبة استعملت ثقافة جديدة  إلى حد الإطراء وهي تثني على شخصية عسكرية حتى أنها كادت أن تضع على رأسه تاج القداسة، لاسيما والقايد صالح ارتبط اسمه بالحراك الشعبي عكس ما كان عليه في التسعينيات، حيث خصصت فصلا عن  "الانتفاضة" السلمية التي قامت بها الجماهير الشعبية قادها رجال وطنيون وشباب ونساء وحتى أطفال من أجل التغيير الجذري وتطهير البلاد من الفساد الذي عشعش في الحكم وتحقيق العدالة فضلا عن رفضهم للعهدة الخامسة، هي انتفاضة شعبٍ حُرٍّ لا يهاب القنابل المسيلة للدموع ولا الرصاص ولا ى الدبّابة ولا السّجون، خاصة وأن التحليلات السياسية أشارت أن الحراك الشعبي كان مكملا  لما حدث من قبل  لأن النظام لم يفهم الدرس، فاستمر في جبروته، فكان على الجماهير أن تعبر عن غضبها من جديد وهي تواجه نظام متسلط  دكتاتوري، وهو ما أشارت إليه الكاتبة عندما قالت: " أن هذا الشعب كان مستبدا من طرف نظامه المتعسف" (ص36) .

و تضيف الكاتبة أن خروج الشعب كهبّة واحدة لم يكن صدفةً، بل بسبب ما عناه من الإستعمار ثم العشرية السوداء ثم العشرين سنة التي عاشها تحت وطأة السلطة الحاكمة في عهد بوتفليقة، حيث وصفت هذه المسيرات السلمية بالراقية، لأن الشعب خرج لإنقاذ كرامة الجزائر، ربما يتفق القارئ مع الكاتبة في بعض النقاط، لكنه قد يختلف معها في نقاط أخرى عندما أشارت في الصفحة 36 أن "الشعب صمت دهرا ونطق يوما" وأن القايد صالح هو من غيّر شعوره، نقول: لقد كان الشعب يُعَبِّرُ عن صوته في كل انتفاضة يقوم بها منذ الثورة إلى ما بعد الإستقلال، وما الحراك الشعبي سوى الانتفاضة الأخيرة وربما لن تكون الأخيرة إذا ما استمرت السلطة في تعنتها  وقمعها طالبي الحرية والعدالة، الإعتراف جميل طبعا، وقد اعترفت الكاتبة حبيبة نقوب بالحكمة والوعي الذي يتمتع به الشعب الجزائري الذي عاش المأساة الدموية، فكان عليه أن يتعقل من أجل سلامة الوطن، لم يكن الحراك الشعبي في الجزائر من أجل إسقاط العهدة الخامسة فقط وإنما من أجل إسقاط نظام فاسد وبناء جزائر جديدة بوجوه وطنية تعيد للشعب كرامته المسلوبة.

 الملاحظ أن الكاتبة  قد اعتمدت على بعض آيات القرآن الكريم من باب الاستدلال على الخط الذي رسمه الإسلام في تسيير شؤون الرعية وإدارة الحكم، كما نقرأه في الآية 37 من سورة النازعات: " فأمّا من طغى ..الخ "، فالحراك الشعبي جاء لمحاربة "الطغاة " (العصابة) الذين  عاثوا في الأرض فسادا، تشير الكاتبة  في الصفحة 38 من الكتيب أن " الطغيان عدوٌّ غاشمٌ وهو آفة الشرعية والعدل والحرية ويستحيل مع الطغيان تحقيق التقدم والازدهار  ولا صون الوحدة والأمن والاستقرار"،  والملاحظة الثانية هي أن الكاتبة وقعت بين نقيضين، فتارة تتحدث بموضوعية وبمنطق  الكاتب الملتزم والباحث الحيادي وتارة أخرى تنجرف وراء الأنا، أي أنها تكتب بذاتية، وهي تصف القايد صالح،  فالذين قادوا الحراك أناس تسري في عروقهم  روح نوفمبر، وإن حقق الحراك بعض المطالب، فلمُّ الشمل الجزائري لم يتحقق بعد وهناك أطراف لا تريد له أن يتحقق، فلا ينبغي أن نقول أن فلان وحده من أنقذ الموقف، ثم أن الكاتب الملتزم يجب أن يكون حياديا فلا يقف في صف طرف دون الآخر، كما يجب عليه أن لا يُشَخِّص، فكيف لكاتب أن يصنف شخص ذا رتبة عالية في خانة المجرمين كما جاء في الصفحة45  دون أن يقدم قرائن وبراهين، أم أننا نمدح هذا ونقدح ذاك من أجل الإثارة؟

هذه الملاحظات ليست من أجل إنكار جهد الكاتبة، فأفكار الكاتبة جاءت متسلسلة، فما وقفنا عليه هو أننا نلمس في الكاتبة  شيئا من "الغيرية " على الوطن، عندما قالت : إن الحراك الشعبي هدفه بناء دولة جزائرية على قيم وثوابت الدولة (ص48)،  فالغيرية  كرِهَان ليس لتأسيس الإنسان فقط،  بل لبناء دولة لا تزول بزوال الرجال، وهذه الغيرية لها ارتباط وثيق بالذات والآخر، ولذا لا يمكن أن نؤله هذا الآخر  ونمنحه هالة قدسية فنضعه في مرتبة الإله  فنعبده خاصة إذا ارتكب هو الآخر أخطاءً لا يمكن غفرانها أمام الله والتاريخ، إلا أننا نختلف معها في قولها: (بناء دولة جزائرية على قيم وثوابت الدولة، بل نضيف على  قيم وثوابت الدين الإسلامي الحنيف ومبادئ أول نوفمبر 1954  الذي رفع شعار " الله أكبر"، أما ما جاء في الصفحة 49 نقف مع الكاتبة عندما اقتبست مقولة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله : " الفساد يبدأ من القمّة والإصلاح يبدأ من القاعدة" ولو أن هذه المقولة فيها إعادة نظر، كيف  يكون الإصلاح من القاعدة إذا كان رأس العصا مُعْوَجٌّ من فوق وليس من الأسفل؟.

في فصل آخر تنتقل الكاتبة إلى الحديث عن "العصابة"، و كل المتورطين في الفساد باتفاقهم مع أعداء الجزائر، مذكرة بما تناولته الصحافة ومواقع التواصل الإجتماعي من ردود، خاصة فيما تعلق بجولات القايد صالح  وخطاباته وتحذيراته للعصابة وأذنابها مهددا إياهم بالكشف عن الملفات الثقيلة (ص54) لتنتقل للحديث من جديد عن القايد صالح، لتصفه (ومن باب التلميح)  بأنه "المُعَلِّمُ" الذي علّم الشعب معنى الوطنية والنضال والكفاح، إذ تقول في الصفحة 68: من أراد أن يمارس السياسة عليه أن يتعلم معنى الوطنية  وكيف تبنى الأوطان و..و..الخ، إلى ان تقول  فلا يمكن أن يتعلم ذلك  إلا من سيرة هذا القائد الفذ الفريق القايد صالح ..الخ، ما ينبغي التنبيه إليه هو أن الجزائر أنجبت قادة عسكريين منذ الأمير عبد القادر إلى آخر جنرال في جزائر ما بعد الحراك الشعبي، فيهم من قضى نحبه وفيهم من لا يزال على قيد الحياة وعلى رأسهم الجنرال اليامين زروال أطال الله عمره المنحدر من منطقة أوراس النمامشة وهي نفس المنطقة التي ينحدر منها القايد صالح.

من الصعب ان نذكر كل ما جاء في هذا الكتيب خاصة مسألة انتخاب الرئيس تبون ووفاة القايد صالح فهذا مجرد تحصيل حاصل، كون الشعب عاش الحدث ولم تعد تخفى عليه كثير من الامور (الصفحة 81.. إلى الصفحة 108 من الكتاب)، نعم الرجال يتعلمون من الرجال والقايد صالح تعلم ممّن سبقوه في القيادة العسكرية منذ ايام الثورة وبعدها، ثم أن الحديث عن الجيش الوطني الشعبي سليل جيش التحرير الوطني حديث ذو شجون، ولا يسعنا إلا أن نذكر قادة عسكريين كان لهم دور في رفع راية الجزائر  في السماء، ونذكر منهم الجنرال اليامين زروال أطال الله عمره والعقيد محمد الصالح يحياوي رحمه الله وأسماء أخرى، تأبى الذاكرة الجماعية أن تنساهم أو تُخْدَشَ صورتهم من طرف الخونة أعداء الوطن.

الملاحظة الأخيرة  هي أن الكتيب لم يكن مهمشا حيث اشارت الكاتبة أن إنجازها هذا المولود جاء من خلال متابعتها القنوات الفضائية وما نشرته مجلة الجيش، بحيث لم تذكر التواريخ وأعداد المجلة حتى تمكن القارئ من الرجوع إليها، وخلاصة القول نقول أن الكاتبة حبيبة نقوب على غرار كتاب آخرين وكاتبات قد أرخت للحراك ولشخصية عسكرية عاشت أحداثا دموية، فكان عليها أن تلتزم بالتعقل والتريث ومعالجة المشاكل بعقلانية، والدليل أن الجهاز العسكري لم يُخِرِجْ الدبابات في حراك 22 فبراير 2019  ولم يستعرض عضلاته كما استعرضها في بداية التسعينيات ليواجه المعارضة، الكتاب في حاجة إلى إثراء  للوقوف على المسائل اتي لا تزال خفية على الشعب الجزائري وماذا يُدار في كواليس النظام والسلطة  وإلى الوقت الراهن.

***

قراءة علجية عيش مع ملاحظات

اللهجة العراقية بين المندائية والعربية الفصيحة: فقرات أخرى من مقدمة "معجم اللهجة العامية العراقية: الجذور العربية والرواسب الرافدانية" قيد التأليف: وسعياً لإثبات أن اللهجة العامية العراقية تمت بصلة أقوى إلى المندائية التي يعتبرها "الأساس" منها إلى اللغة العربية "الداخلة" يحشد المؤلف قيس مغشغش السعدي عدداً من الصفات والروابط التي يعتقد بأن اللهجة العراقية تنفرد بها مع المندائية ومنها في ميدان النحو، نذكرها أدناه ثم نفندها واحدة بعد أخرى:

1-عدم وجود صيغة المثنى في المندائية لذلك يلجأون إلى التدليل على المثنى بكلمة "اثنان" للمذكر و "اثنتان " للمؤنث" ويقابل هذه الظاهرة بأخرى مماثلة في اللهجة العراقية فيقول إن العراقيين يقولون " كتبوا اثنيناتهم" و"أكلوا اثنيناتهم". وهنا فالمؤلف لم يكن دقيقا في قوله أولا، فجملة " كتبوا اثنيناتهم" وأمثالها لا تقال إلا جوابا على سؤال محدد يستفسر عمن كتب من الأولاد أو الولدين. فيكون السؤال مثلا" منو كتب من الأولاد أو / الوِلد؟" فيقال " كتبوا اثنيناتهم" وظاهرة عدم استعمال المثنى للفاعلية واستعاضة عنها بصيغة الجمع هي ظاهرة تشمل جميع العاميات العربية من المحيط إلى الخليج وليست حكرا على العامية العراقية كما قلنا قبل قليل، بل هي من أبرز خصائص العاميات بعد إهمال الإعراب والنحو المتحرك. فمقابل سؤال فصيح يقول "هل وصل الولدان / البتان من المدرسة" يقال في العاميات "وصلوا الأولاد / وصلن البنات من المدرسة؟". ؟"، ويجاب على السؤال بالعامية العراقية وغير العراقية غالبا في حال الإثبات: إي وصلوا! وكلمة (إي) فصحى هي الأخرى وتعني (نعم) وهي من ألفاظ القرآن وقد وردت في الآية (53) من سورة يونس ﴿وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾. ومعنى (إي) في تفسير الجلالين والمُيسر والبغوي هو (نعم وربي إنه لحقٌ لا شك فيه). وإعراب (إِي) حرف جواب لا محل له من الإعراب.

2-ويكتب السيد السعدي قائلا "لا يفك الإدغام في الفعل المشدد (يقصد المضعف الثلاثي) المسند إلى ضمير بل يزاد عليه ياء وهذا النهج معتمد في اللغة المندائية بحكم عدم وجود التشديد "التضعيف" فيها. ص 90". وما يجهله المؤلف هو أن قاعدة فكِّ الإدغام في اللغة العربية بتكرار الحرف المشدد غالباً ما تستثقل حتى في الفصحى؛ فكلمة "استمررتُ" أثقل على اللسان من "استمريتُ". يكتب هادي العلوي بهذا الصدد: "القاعدة في جميع العاميات العربية تعمُّ الأفعال المشددة الآخر إذا اتصلت بضمير فاعل للمتكلم والمخاطب مفرداً وجمعاً، ومثالها: مرَّ: في التصريف المعروف في الفصيح يقال: مررتُ، مررتَ، مررنا، مررتم. وفي العامي: مريت ومرينا ومريتم. اضطر: في التصريف الأول يقال: اضطررت واضطررنا واضطررتم، وفي العامي اضطريت واضطرينا واضطريتم. والعامي هنا فصيح أيضا وقد نص عليه القالي في أماليه واعتبره قاعدة تعم كل المضعف في الأفعال". وقد وثَّق العلوي ما قاله أبو علي القالي في كتابه "الأمالي" في ج2 الصفحة 221. والخلاصة هي أن السعدي يجهل كما يبدو هذا الموضوع تماما، وأن هذا النوع من الإبدال في العامية العراقية يعم جميع العاميات العربية، وأنه ليس عاميا فقط بل هو فصيحٌ أيضا وله قاعدة مطَّردة والقصد من هذا الإبدال تيسير النطق وتخفيفه بفك الإدغام الثقيل على الألسن.

3-الأمر نفسه يتكرر في ما يقوله السعدي في التشابه بين العامية العراقية والمندائية في كون العراقيين لا يستعملون المبني للمجهول إلا في صيغة "انفعل" فهم لا يقولون أُكِلَ وشُرِبَ بل يقولون: انوكل، وانشرب. ويقول السعدي ان هذه الصيغة موجودة في المندائية ولكن باستعمال حرف التاء بدلا من النون "اتوكل- واتشرب" ولذلك خففت التاء إلى نون لسهولة وانسيابية الكلمة/ ص90".

والحقيقة فهذه الصيغة على زنة "انفعل" عربية فصيحة أيضا، قبل أن تكون موجودة في عدد من العاميات العربية وتسمى "صيغة المطاوعة" ويسميها الباحث رمضان عبد التواب (الانعكاسية) بدل المطاوعة تأثراً ببروكلمان، وقد ذكرها جلال الحنفي في معجمه وقال إنَّ العامة "يزيدون النون في بعض الحالات كقولهم (انتخذ) بمعنى اتخذ وقولهم "انتچا) بمعنى اتكأ". وصيغة المطاوعة "انفعل" هي واحدة من أربع صيغ والثلاث الأخرى هي (اِفْتَعَلَ وتَفَعَّلَ وتَفَاعَلَ). وهذه الصيغة قديمة في اللغة العربية الفصحى وقد وردت في القرآن الكريم كثيرا ومن ذلك ﴿إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا﴾ [الشمس: 12] و ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ﴾ [الانفطار: 1]. وتحل هذه الصيغة في العاميات محل صيغة المبني للمجهول، ولكنها لا تؤدي المعنى نفسه بالضبط. فحين تقول "انكسرَ القدحُ" فالجملة توحي بأن الحدث حدث للشيء (القدح) من تلقاء نفسه، أو بقواه الداخلية الخاصة ولم يكسره فاعل معلوم.

وحين تأخذ العامية العراقية صيغة المطاوعة العربية القديمة والقرآنية وبصيغتها العربية (بحرف النون) وليس بالصيغة المندائية (بحرف التاء) فهي تسجل نقطة مهمة لمصلحة عروبتها وكونها عربية الجذور والقواعد والمعجمية "المفرداتية" ولا علاقة لها بتلك الصيغة التائية في اللهجة المندائية.

4-يخطئ المؤلف مرة أخرى في قوله إنَّ الفعل في العامية العراقية يتعدى بحرف الجر اللام كما هي الحال في المندائية فهم لا يقولون كما في الفصحى "كتب الدرسَ" بل يقولون " كتب للدرس" وهذا كلام غير صحيح، ففي العامية يقولون "كتبه للدرس" أي إنهم يعدون الفعل كالمعتاد باستعمال الضمير المتصل كمفعول به ثم ولتوضيح المفعول يذكرونه بعد لام الجر فتكون الصيغة "كتبه... للدرس". وما يجهله السعدي هو ان هناك أفعالا لا تتعدى إلا بحرف جر في الفصحى والعامية كالأفعال: " دافع - شَرَعَ -دخل - خرج –جلس – بادر- أصغى -أحال" ويصل عدد هذه الأفعال إلى أكثر من مائة فعل! والخلاصة هي إنَّ العراقيين لا يعدّون الفعل بحرف جر في عاميتهم بل يعدونه على المفعول به الضمير المتصل ثم يوضحون إبهامه بشبه جملة بعد المفعول به فيقولون (بسطه للولد) ولا يقولون (بسط للولد)!

5-يقول السعدي إنَّ الآرامية الشرقية تتميز عن جميع اللهجات الآرامية بأن حرف المضارعة للغائب هو النون وليس الياء، وقد حفظت ذلك المندائية وتستخدمها اللغة العامية حينما يسأل فرد عما يقوم به فتراه يجيب بصيغة الغائب المذكر (ناكل، نكتب، نروح). وهنا أيضا، فالسعدي لم يكن دقيقاً في نقله من العامية! فالفعل المضارع لجماعة المتكلمين في العربية الفصحى والعامية العراقية - وليس الغائبين- هو "نأكل، نكتب، نروح" وفي المندائية تأتي النون كما يقول السعدي مع صيغة المضارع للغائب وليس للمتكلم. ومعروف على نطاق واسع أن المتكلم المفرد يعبر عن نفسه أحيانا بصيغة المفرد المهموزة "آكل - أكتب -أروح" وأحيانا بصيغة جمع المتكلمين "نأكل –نكتب –نروح" ولا علاقة للياء هنا بهذه الصيغة فالياء تأتي في صيغة المضارع الغائب "يأكل –يكتب – يروح" في الفصحى والعامية على السواء، وحرف الياء واحد من حروف المضارعة الأربعة في الفصحى والعاميات ويعرفها تلاميذ الابتدائية حين كان المعلم يسهل عليهم حفظها فيجمعها لهم في كلمة "أنيت"!

وفي معرض محاولته لتأكيد أن اللغة المندائية كانت هي لغة العراقيين القدامى قبل الإسلام يكتب السعدي (فالعدد الكبير من المفردات المندائية الذي استطعنا التوصل له والتي وجدنا استمرار استخدامها إلى اليوم في اللغة العامية العراقية عامة ولغة الجنوب العراقي خاصة، وهو ما سيقف عليه القارئ في هذا الكتاب، لا يفيد فقط في أن المستخدم من في اللغة العامية هو بقايا اللغة الآرامية ذلك أنه يأتي بمفردات مندائية خالصة من جهة وباللفظ والاشتقاق المعتمد فيها بشكل محدد من جهة أخرى. وإن كان هذا هو الذي بقي ووصلنا إلى اليوم فما حجم ما كان متداولا أصلا وعلى مدى ما ينيف على ألفي عام على الرغم من دخول اللغة العربية واكتساحها بالاستخدام الرسمي لجميع اللغات واعتمادها اللغة الدينية بحكم انتماء النسبة الأعم من الناس للديانة الإسلامية وضرورة تعلم اللغة العربية كونها لغة القرآن والشعائر الدينية". إن ما يريد السعدي قوله تلميحا لا تصريحا هو أن اللغة المندائية كانت قبل الإسلام هي لغة العراقيين القدماء وخصوصا في الجنوب، وإن ما تبقى منها اليوم دليل على انها هي لغتهم الأساس "الأم"، ولكننا إذا انتهينا من قراءة تخاريجه لأكثر من 90 بالمائة من مفردات معجمه وتأكدنا من أنها لم تكن مندائية بل هي عربية فصيحة في غالبيتها العظمى، إلى جانب نسبة مهمة من المفردات المشتركة مع اللغات السامية الشقيقة، وبعضها أقدم من المندائية بأكثر من ألف سنة كالأكدية بلهجتيها، سنجد أن ما يقوله الكاتب هنا مجرد وهم ورغبات نرجسية لا جدوى منها. ومع ذلك فإن الكلمات التي زعم أنها مندائية وجدنا أنها ملفوظة غالبا بالحروف غير موجودة في المندائية بل بالحروف الآرامية والعربية الفصحى معا وخاصة (الحرفين العين والحاء).

إن السعدي يبدو مرتبكا وحائرا هنا، يحاول لملمة الموقف وحل الإشكال وتمييع الفرق بشكل غريب بين "بقايا اللغة الآرامية" و"مفردات مندائية خالصة" وأيهما هي أساس العامية العراقية، وإذا ما علمنا أن حرفي الحاء والعين موجودان في الآرامية والعامية العراقية والعربية الفصحى وغير موجودين في المندائية فهذا يؤكد وبشكل حاسم قرب هذه الكلمات من الآرامية والعربية الفصحى وليس من المندائية التي تبقى لهجة لطائفة دينية صغيرة منغلقة. وكاتب هذه السطور لا يتبنى هذه الاستراتيجية البحثية وسبق وأن ذكرنا بأننا نعتقد أن العامية العراقية هي لهجة عربية جذورا واشتقاقات وقواعد وهي غنية أيضا برواسب اللغات الرافدانية القديمة ومنها السومرية والأكدية بلهجتيها، والآرامية بلهجاتها المختلفة والكنعانيات ومنها العبرية المنقرضة ومن اللغات الأجنبية الحية غير الجزيرية المجاورة كالفارسية والتركية أو اللغات الأوروبية اللاتينية او انكلوسكسونية في العصر الحديث ومنها الإنكليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية ...إلخ.

***

علاء اللامي*

...................

*حذفتُ الهوامش التوثيقية من نسخة النشر كمقالة صحافية وأبقيت عليها في مقدمة الكتاب.

[1] - السعدي – م.س - ص 55.

قراءة في كتاب تخليص الإبريز في تلخيص باريز

(إن مخالطة الأغراب، لا سيما إذا كانوا من أولى الألباب، تجلب للأوطان المنافع العمومية).. (مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية ص: 168)*.

(... والبلاد الإفرنجية مشحونة بأنواع المعارف والآداب التي لا ينكر إنسان أنها تجلب الأنس وتزين العمران.... أنهم يعرفون التوفير وتدبير المصاريف، حتى أنهم دونوه وجعلوه علماً)..

(تخليص الإبريز في تلخيص باريز ص: 119-171) (الطهطاوي).

يعتبر رفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873) أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر، لقب برائد التنوير في العصر الحديث، لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إماماً مشرفاً ومرافقاً للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار (1766-1835) لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. بذلك يعتبر الطهطاوي هو أنبغ المصريين الذين بُعثوا إلى أوروبا، وقد كانت له بعد عودته جهود محمودة في حياة مصر الثقافية، مما يجعله بحق زعيماً لنهضتنا الفكرية في ذلك العصر.

وتعتبر هذه الزيارة التي قادت رفاعة رافع الطهطاوي إلى اكتشاف أسرار باريس، بعدما عين من طرف أستاذه حسن العطار كمشرف ليرافق البعثة التعليمية المتكونة من 40 طالباً مصرياً لفرنسا لتعلم العلوم والوقوف على المناهج التعليمية الفرنسية، زيارة تاريخية وقف من خلالها الطهطاوي على عوامل نجاح وتقدم فرنسا ثقافياً وحضارياً وعلمياً، ولم يكتف رفاعة الطهطاوي بمهمة الإشراف الديني على البعثة بل دفعه شغفه بالمعرفة وحب الاكتشاف إلى تعلم أبجديات اللغة الفرنسية وهو لا يزال على ظهر السفينة الحربية المتوجهة نحو فرنسا رفقة الطلاب المصريين.

كانت نصيحة العطار لرفاعة أن يُسجل مشاهداته في رحلته في كتاب خاص، وقد استجاب التلميذ لنصيحة أستاذه، فبدأ منذ ركوبه السفينة في الإسكندرية يَفتح عينيه وأذنيه ليرى كل شيء ويسمع كل شيء. وكان كلما رأى جديداً أو سمع جديداً، انطوى على نفسه يفكر فيما رأى وفيما سمع، ثم لا يلبث أن يستحضر في مُخيِّلته الصورة المقابلة - لِما رأى أو سمع - في وطنه، أو في ديار الإسلام عامة، ثم يترك نفسه على سجيتها يُلقي النظرة بعد النظرة على الصورتين: الصورة القديمة التي عرفها في وطنه أو في ديار الإسلام، والصورة الجديدة التي رآها في الغرب أو في ديار النصرانية، فإذا ملأ نظره من الصورتين انقلَب يُحلل ويُقارن؛ لأنه كان يرى دائماً أن الصورة القديمة باهتة كريهة وأن الصورة الجديدة زاهية حية محبوبة.

وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام 1801م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيراً من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره.

- قراءة في كتاب رفاعة رافع الطهطاوي (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) عام 1834:

معنى الإبريز، حسب قواميس اللغة العربية، هو الذهب الخالص، ويقال: ذهب إبريز، والقطعة منه إِبريزة، ويعود الفضل إلى رفاعة رافع الطهطاوي الذي جعل هذه المفردة حاضرة، حين اختارها في عنوان كتابه الأشهر: " تخليص الإبريز في تلخيص باريز "، الذي يمكن أن نعده النافذة العربية الأولى على الفكر الأوروبي الحديث، وأحد الكتب المؤسسة لفكر النهضة العربية، بل لعله أهمها.

المقصد من تأليف الكتاب، يقول الطهطاوي إن في مدة السفر " من مصر إلى باريس "، وما رأيناه من الغرائب في الطريق، أو مدة الإقامة في هذه المدينة العامرة بسائر العلوم الحكمية، والفنون والعدل العجيب، والإنصاف الغريب، الذي يحق أن يكون من باب أولى في ديار الإسلام، وبلاد شريعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا المقصد يتضمن عدة مقالات، تشتمل على عدة فصول:

المقالة الأولى: فيما كان من الخروج من مصر إلى دخول مدينة (مرسيليا) التي هي فرضة من فرضات الفرنسيس، وفيها عدة فصول.

المقالة الثانية، فيما كان من دخول (مرسيليا) إلى دخول مدينة (باريس) وفيها فصلان.

المقالة الثالثة: في دخول (باريس)، وذكر جميع ما شاهدناه، وما بلغنا خبره من أحوال (باريس) وهذه المقالة هي الغرض الأصلي من وضعنا هذه الرحلة، فلذلك أطنبنا فيها غاية الإطناب، وإن كان جميع هذا لا يفي بحق هذه المدينة، بل هو تقريبي، بالنظر لما اشتملت عليه، وإن استغرب هذا من لم يشاهد غرائب السياحة، قال بعضهم:

من لم ير الروم، ولا أهلها ما عرف الدنيا ولا الناسا

فمن باب أولى بلاد " أفرنجستان "

المقالة الرابعة: في ذكر نبذ من العلوم والفنون المذكورة في الباب الثاني من المقدمة.

وذكر فيه بعض الصنائع المطلوبة، لتعرف أهميتها، ولزومها في أي دولة من الدول، وهذه الفنون إما واهية في مصر، أو مفقودة بالكلية. وهي قسمان: قسم عام للتلامذة، وهو: الحساب، والهندسة، والجغرافيا، والتاريخ، والرسم، وقسم خاص متوزع عليهم، وهو عدة علوم:

العلم الأول: علم تدبير الأمور الملكية، ويتشعب عنه عدة فروع: الحقوق الثلاثة التي يعتبرها الإفرنج، وتسمى بالنواميس، وهي الحقوق الطبيعية، والحقوق البشرية، والحقوق الوضعية، وعلم أحوال البلدان مصالحها وما يليق بها، وعلم الاقتصاد في المصاريف وعلم تدبير المعاملات والمحاسبات، والخازندارية وحفظ بيت المال.

العلم الثاني: علم تدبير العسكرية.

العلم الثالث: علم القبطانية، والأمور البحرية.

العلم الرابع: فن معرفة المشي في مصالح الدول، ويعني علم السفارة، ومنه (الإيلجبة)، وهى رسالة البلدان. وفروعه: معرفة الألسن، والحقوق، والاصطلاحات.

العلم الخامس: فن المياه وهو صناعة القناطر، والجسور، والأرصفة، والفساقي، ونحو ذلك.

العلم السادس: الميكانيكا، وهي آلات الهندسة، وجر الأثقال.

العلم السابع: الهندسة الحربية.

العلم الثامن: فن الرمي بالمدافع وترتيبها، وهي فن (الطوبجية).

العلم التاسع: فن سبك المعادن، لصناعة المدافع والأسلحة وغيرها.

العلم العاشر: علم الكيميا، وصناعة الورق، والمراد بالكيميا معرفة تحليل الأجزاء وتركيبها، ويدخل تحتها أمور كثيرة؛ كصناعة البارود والسكر وليس المراد بالكيميا حجر الفلاسفة، كما يظنه بعض الناس، فإن هذا لا تعرفه الإفرنج، ولا تعتقده أصلاً.

العلم الحادي عشر: فن الطب، وفروعه: فن التشريح، والجراحة، وتدبير الصحة، وفن معرفة مزاج المريض، وفن البيطرة، أي معالجة الخيل وغيرها.

العلم الثاني عشر: علم الفلاحة، وفروعها: معرفة أنواع الزروع وتدبير الخلا بالبناء اللائق به، وغيرها، ومعرفة ما يخصه من آلات الحراثة المدبر للمصاريف.

العلم الثالث عشر: علم تاريخ الطبيعيات، وفروعه: الحيوانات، ومرتبة النباتات، ومرتبة المعادن.

العلم الرابع عشر: صناعة النقاشة، وفروعها، فن الطباعة، وفن حفر الأحجار ونقشها، ونحوها.

العلم الخامس عشر: فن الترجمة، يعنى ترجمة الكتب، وهو من الفنون الصعبة، خصوصاً ترجمة الكتب العلمية، فإنه يحتاج إلى معرفة اصطلاحات أصول العلم المراد ترجمتها، فهو عبارة عن معرفة اللسان المترجم عنه وإليه، والفن المترجم فيه.

فإذا نظرت بين الحقيقة رأيت سائر هذه العلوم المعروفة معرفة تامة لهؤلاء الإفرنج ناقصة أو مجهولة بالكلية عندنا، ومن جهل شيئاً فهو مفتقر لمن أتقن ذلك الشيء، وكلما تكبر الإنسان عن تعلمه شيئاً مات بحسرته، فالحمد لله الذى (أنقذنا) من ظلمات جهل هذه الأشياء الموجودة عند غيرنا، وأظن أن من له ذوق سليم، وطبع مستقيم يقول كما أقول، وسأذكر بعضها بالاختصار في آخر الكتاب إن شاء الله تعالى، وهو المستعان.

- الرحلة إلى باريس (رحلة البحث عن العلم والتدوين) 1826-1831: ترك رفاعة مصر والعلم فيها مقصور على رجال الدين من خريجي الأزهر، وهو واحد منهم، ولكنه ألفَى العلم في باريس ميادين واسعة، له فروع كثيرة، وللفروع فروع، وهكذا… وقد تخصص كل عالِم في دراسة فرع من هذه الفروع فوهَبه كل وقته وجهده فأنتج فيه وابتكر. ووجد أن علماء الدين ليست لهم المكانة الأولى كما هي الحال في مصر أو في بلدان العالم الإسلامي، فرسم لمواطنيه الصورة الجديدة للعلم والعلماء وكأنه يُوحي إليهم في كل سطر من السطور بأن هذه هي الطريقة المثلى والصورة الحقة للعلم والعلماء.

في يوم الخميس السادس من شهر رمضان سنة 1241ﻫ الموافق14 أبريل 1826م أبحَرَت السفينة من الإسكندرية تحمل رفاعة وزملاءه. وفي التاسع من شهر شوال وصلت بهم إلى " مارسيليا "، ومُذ وطئت قدما رِفاعة أرض هذه المدينة بدأ يتعلم اللغة الفرنسية. يقول في رحلته: " وتعلمنا في نحو ثلاثين يوماً التهجي ".

قضى في باريس تلاميذ البعثة جميعاً نحو سنة وهم يُقيمون معاً في بيت واحد، ويشتركون معاً في دراسة مواد واحدة. يقول رفاعة: " كنا نقرأ في الصباح كتاب تاريخ ساعتين، ثم بعد الظهر درس رسم، ثم درس نحو الفرنسي، وفي كل جُمعة ثلاثة دروس من علمَي الحساب والهندسة ".

وكانت هذه الخطة ترمي إلى عزل تلاميذ البعثة حتى لا يفسدِهم الاختلاط أو الحياة في باريس، وحتى يستطيعوا التوفر على دراستهم ليحصلوا العلوم التي يريدون على أحسن وجه وفي أسرع وقت، ولكن هذه العلوم التي أوفدوا لدراستها مودعة في بطون المؤلفات الفرنسية، ولا سبيل إليها إِلا إتقان هذه اللغة حديثاً وقراءةً وفهماً. ولا سبيل إلى هذا الإتقان إلا أن يختلط هؤلاء الشبان بأندادهم من الفرنسيين حتى تستقيم ألسنتهم.

أحس هذا النقص المشرفون على البعثة، كما أحس به أعضاء البعثة أنفسهم. يقول رفاعة: " مكثنا جميعاً في بيتٍ واحد دون سنة نقرأ معاً في اللغة الفرنسية وفي هذه الفنون المتقدمة، ولكن لم يحصل لنا عظيم مَزيَّة إلا مجرد تعلم النحو الفرنسي، لهذا صدرت الأوامر بتوزيع هؤلاء المبعوثين، فتفرقوا " في مكاتب مُتعددة، كل اثنين أو ثلاثة أو واحد في مكتب مع أولاد الفرنساوية، أو في بيت مخصوص، عند معلم مخصوص، بقدر معلوم من الدراهم في نظير الأكل والشرب والسكن والتعليم …" وفي هذه المكاتب، أو (البانسيونات) كان التلاميذ المصريون يقضون ليلهم ونهارهم في التحصيل، ولم يكن يُسمح لهم بالخروج إلا في يوم الأحد أو بعد ظهر الخميس أو في الأعياد الفرنسية. وكان يحدث أحياناً أن يخرج بعضهم بعد العشاء إن لم يكن يشغله درس أو واجب.

وكان رفاعة أكثرهم انهماكاً في عمله وأشدهم إقبالاً عليه، ولم تكن تسعفه أوقات فراغه في النهار، فكان يقضِي مُعظم ساعات الليل ساهراً بين كُتبه ودروسه، يقرأ ويتفهَّم ويُترجم، حتى أصيبت عينه اليسرى بضعف، ونصحه الطبيب بالراحة ونهاه عن المطالعة في الليل، ولكنه لم يمتثِل لخوف تعويق تقدمه.

ولم يقنع رفاعة بالكتب التي تُشترَى له على حساب البعثة، فقد أحسَّ لذة المعرفة، فأقبل يشتري كتباً أخرى من ماله الخاص، ثم أحس أن دروس أساتذته لا تكفي لإشباع فهمه، فاستأجر معلماً خاصاً ظل يدرس له أكثر من سنة وكان يدفع له أجره من مرتبه الخاص.

أرسل رفاعة إلى فرنسا ليكون إماماً للبعثة، ولكن يبدو أن الأوامر صدرت في آخر لحظة أن يسمح له بالدراسة، فإن أقبل ووفق فليوجه إلى إتقان الترجمة، وذلك لأن ثقافته الأزهرية في اللغة العربية ترشحه لهذا العمل إذا ألم باللغة الفرنسية وأتقنها. وهذا عمل واسع عريض لأنه غير محدود، فحكومة محمد علي كانت مقبلة على الترجمة في كل علم وفن: في الهندسة، والطب، والفنون العسكرية، والتاريخ، والجغرافيا … إلخ، فواجب رفاعة إذن أن يقرأ كتباً في كل هذه العلوم وأن يمرن على الترجمة فيها جميعاً، ويا له من واجب شاق! ولكن همة رفاعة كانت همة عالية، فاستسهل الصعب، وأقبل ووفق.

وقد ذكر رفاعة في رحلته العلوم والفنون التي درسها، وعين الكتب التي قرأها والتي ترجمها أو بدأ يترجمها وهو في باريس. ومنها نلحظ أن ثقافته كانت موسوعية، فقد قرأ كتباً كثيرةً في مختلف العلوم مع أساتذته، ثم قرأ كتباً كثيرة أخرى وحده. وبرهن بهذا على أنه كان يتمتع بروح جامعية حقة. ولا عجب فقد ساعد على تزويده بهذه الروح أمور أربعة: المران الذي اكتسبه وهو يطلب العلم في الأزهر، والنفحة التي أضفاها عليه أستاذه العطار، وحبه العجيب للعلم وشغفه بالتحصيل، ثم نفسه العالية الطموح ورغبته في إشباع هذه النفس وإرضاء باعثه وباعث النهضة الجديدة في مصر (محمد علي).

وكان هناك عامل آخر، أو حافز آخر بعث رفاعة على الجد والاجتهاد لا يقل عن العوامل السابقة إن لم يكن أقوى منها. ذلك أن رفاعة درس دراسة دينية في أكبر جامعة دينية، ثم تخرج عالماً دينياً، وكان تلميذاً لشيخ الأزهر، كما كان قوي الإيمان متين العقيدة، وقد راعه منذ اللحظة الأولى الفارق الكبير بين ما كانت تتمتع به ديار المسيحية من تقدم في مختلف نواحي الحياة، وبين ما كانت تتمتع به مصر وديار الإسلام من تأخر وخمود وجمود في مختلف نواحي الحياة وخاصة في الناحية العلمية. ورحلته مليئة بهذه المقارنات كما سبق أن ذكرنا، لهذا نحس في جهوده التي ذكرها أنه ما كان يفرغ من قراءة كتاب في أي علم أو فن حتى يقبل على ترجمته، يريد بذلك أن ينقل لديار الإسلام وبنيه هذا العلم الجديد، عله يبعثهم إلى نهضة جديدة تنتهي بهم إلى أن يكونوا كأبناء المسيحية حضارة ورقيا، ولكن أنى له الوقت لترجمة هذه الكتب جميعا؟ ومع هذا فقد بدأ وترجم كتبا أو رسالات صغيرة ثم ترجم فصولاً من الكتب الكبيرة. وكأني به قد ترك الباقي حتى يعود لمصر فيتم ما بدأ، وقد فعل، ولكن جهده جهد إنساني محدود، ووقته وقت محدود، وهنا ترقب الفرص حتى سنحت له فعرض على محمد علي مشروعه لإنشاء مدرسة الألسن، وقد أنشئت. واتسعت بعد إنشائها حركة الترجمة، واستطاع رفاعة أن يحقق بعض آماله. ويؤيدنا في رأينا هذا أن معظم الكتب الأولى التي ترجمها خريجو الألسن هي الكتب التي قرأها رفاعة في باريس والتي كان يتمنى أن يترجمها بنفسه.

إن العلوم التي درسها رفاعة، والكتب التي قرأها، وهي تدل على أنه ثقف ثقافةً موسوعية. وقد كان لا بد له أن يتثقف هذه الثقافة ما دام قد بعث للتخصص في الترجمة، حتى إذا طُلب له بعد عودته أن يترجم في أي علم من العلوم لبى الطلب ونفذ الأمر. وهذا ما حدث مثلاً، فإِنه عُين بعد عودته مترجماً بمدرسة الطب، ثم نُقِل مترجماً بمكتب طرة الحربي. ولما أُنشئت الألسن كان يُشرف على أعمال خريجيها الذين ترجموا كتباً في كل هذه العلوم والفنون.

ويعتبر كتاب " تخليص الإبريز في تلخيص باريز " من أهم مؤلفات الطهطاوي، ويسمى هذا الكتاب أيضاً (الديوان النفيس بإيوان باريس) وهو الذي صور فيه الطهطاوي رحلته إلى باريس وتقدم به إلى لجنة الامتحان في 19 أكتوبر 1830م.

خلاصة القول، يبقى أن في كتاب الطهطاوي " تخليص الإبريز في تلخيص باريز " الكلمة الفصل، فالطهطاوي أراد القول إن ما يقدمه في الكتاب هو انتقاء ما يراه مناسباً للمصريين، وللعرب عامة، مما وجده وعايشه في باريس، فهو لا يريد نقل " النموذج الباريسي / الفرنسي "، بحذافيره إلى بلده، وإنما انتقاء الإبريز، الذهب الصافي، الخالص، منه، فهو الذي سيفيدنا في نهضتنا.

بالمقابل ألا يصح النظر إلى تراثنا نفسه بنفس المنظور الذي به نظر به الطهطاوي لما رآه في باريس؟ نزعم أن الرجل قام بذلك فعلاً، فهو إذ استخلص الإبريز الباريسي، كان يدعونا أيضاً إلى استخلاص الإبريز من ثقافتنا وتراثنا وسلوكنا، ونبذ كل ما هو زائف وسطحي ومعيق لنهضتنا، لأن تطور الأمة ونهوضها لا يتحقق فقط بالاهتمام بعلوم الدين والشريعة، بل لا بد من الاهتمام بالعلوم الأخرى ولعل ندرة العلماء الموسوعيين أو عدمهم في بعض البلدان هو من الفتور الذي أصاب عموم الأمة الإسلامية في العلوم وغيرها. فإذا استيقظت الأمة من سباتها وانجلى عنها كابوس الخمول، وتقدمت مظاهر حياتها وظهر فيها فطاحل علماء الدنيا من رياضيات وفلسفة وطبيعيات وظهر المبتكرون والمخترعون عند ذلك يتنافس علماء الدين مع علماء الدنيا فيظهر المجتهدون وفقهاء الواقع الذين يكيفون الواقع ليتأقلم مع نصوص الشرع، وهكذا يتحقق التكامل التشريعي والعلمي ويصبح كل منهما خادما للأخر، وهذا بطبيعة الحال لن يتحقق إلا بالحكم العادل الساهر على مصالح العباد.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

..........................

- المراجع المعتمدة:

1. رفاعة رافع الطهطاوي: تخليص الإبريز في تلخيص باريز، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، 2010.

2. محمد عمارة: رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث، دار الشروق، القاهرة، ط2007،3.

3. جمال الدين الشيال: رفاعة الطهطاوي (زعيم النهضة الفكرية في عصر محمد علي)، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، 2019.

4. حسن مدن: تخليص الإبريز، صحيفة الخليج، 27/ فبراير/ 2021.

5. عبد القادر الطرنيشي: نظرات في تخليص الإبريز، مدونة الجزيرة، 02/06/2017.

هوامش

* إن دعوة الطهطاوي هذه يجب ألا تفهم أنها كانت تعني التخلي عن بعض القيم أو الثوابت في الثقافة العربية والإسلامية. وإنما سعت في المقام الأول إلى التفاعل مع مفرزات الحضارة الغربية في المجال العلمي، والأخذ منها ما لا يتعارض مع القيم الإسلامية. ومن هنا كانت محاولته لإيجاد صيغة وسط توائم بين المطلبين. بمعنى أدق إن هدفه من ذلك كما يشير في كتابه " تخليص الإبريز في تلخيص باريز " أن يوقظ سائر بلاد الإسلام. كي يبحثوا عن العلوم البرانية والفنون والصنائع التي كان لها ببلاد الإفرنج ثبات شائع والحق أحق أن يتبع. أما الذين يرفضون اقتباس العلوم الأجنبية عن أوروبا فهو يصفهم في كتابه " مناهج الألباب " بأنهم واهمون لأن الحضارة دورات وأطوار، وهذه العلوم قد كانت إسلامية عندما كنا نعيش عصر نهضتنا فأخذتها عنا أوروبا وطورتها. لمزيد من القراءة والاطلاع انظر: https://alrai.com/article/10504108/أبواب/رفاعة-رافع-الطهطاوي

الجذور العربية والرواسب الرافدانية

إن محاولة إخراج المعجم اللهجوي العراقي من حاضنته العربية وهي اللغة السائدة في عصرنا وإرجاعها الى لغة منغلقة ومنعزلة على طائفة صغيرة من المتكلمين بها ولا تتأثر باللغات الأخرى باعتراف المؤلف نفسه ص 144، عمل لا مغزى فيه ولا يمت بصلة للمنهجية العلمية ولا يخلو من النزعات الأيديولوجية السياسية التي لا علاقة لها بعلوم اللغة.

ينطلق السيد قيس مغشغش السعدي في محاولته وضع معجم خاص للمفردات المندائية في العامية العراقية من أن اللغة المندائية كانت - كما يقول -  لغة العراقيين القدماء قبل الإسلام. وهذا خلط فاضح وخاطئ علميا، فالكاتب يخلط وبشكل تعسفي بين النبطية والمندائية؛ فالأولى هي إحدى اللهجات الآرامية التي كانت سائدة في بعض جهات العراق والشام قبل الإسلام والمندائية وهي لهجة أخرى من الآرامية وكانت حكرا على طائفة منعزلة ومنغلقة لها ديانتها الخاصة هي الصابئية المندائية.

لم يكن المجتمع العراقي قبل الإسلام مجتمعا أحادي اللغة بل كان تعدديا لغويا وعرقيا قد مرت على سكان وادي الرافدين دول عديدة وكان مسرحا لهجرات وغزوات عديدة استقرت فيه شعوب وأقامت دولتها واندمجت في الغالبية السكانية من الأكاديين البابليين والآشوريين ومن هؤلاء شعوب جزيرية كالبدو الأموريين والآراميين وشعوب أخرى غير جزيرية كالحيثيين والميتانيين الحوريين، وليس معقولا أن تختفي هذه الشعوب كلها دون أن تخلف وراءها رواسب لغوية وتراثا ثقافيا واجتماعيا في المجتمعات الرافدانية.

وعلى أية حال فموقف المؤلف السعدي من موضوع العلاقة بين اللغات الثلاث (الآرامية الشرقية والمندائية والنبطية) يشوبه الغموض فهو يرى أن المندائية هي "الفرع الأنقى للآرامية الشرقية". ويضيف أنَّ العرب المسلمين حين دخلوا العراق وانتشرت وسادت لغتهم بقيت "ترسبات" من اللغة الأولى في اللغة الجديدة ونشأت لغة مشتركة بين العراقيين هي العامية العراقية التي أساسها اللغة المندائية!

ولكي لا نتهم بتقويل الرجل ما لم يقله، لنقرأ ما كتبه حرفياً بهذا الصدد: "نرى أن منشأ اللغة العامية هو وجود لغة أولى لشعب ما، ثم دخلت عليه لغات أخرى فاعتمدها وبقيت ترسبات اللغة الأولى في لسانه. ص2". للوهلة الأولى يظهر أن ما يقوله السعدي صحيح لا جدال فيه ضمن سياق الجذورية المشتركة للغات الجزيرية السامية، ولكن لندقق في ما قاله قليلا؛ فهل كان العراق قبل الإسلام خاليا من العرب والأقوام الأخرى غير الناطقة باللغة الآرامية - والمندائية لهجة منها-؟ وهل كانت اللغة الآرامية ممثلة باللهجة النبطية لغة أجنبية وبعيدة عن اللغة العربية أم إنهما لغتان شقيقتان متداخلتان ومتفاعلتان من عائلة لغوية واحدة هي التي يسمونها "اللغات السامية"؟ وهل وجدت العامية العراقية بعد دخول وانتشار اللغة العربية أم أن اللهجات ظاهرة تاريخية نشأت مع نشوء وتطور اللغات واختلاطها؟ وهل يمكن للسعدي أو لغيره مصادرة المفردات غير العربية واعتبرها مندائية فقط حتى إذا كانت موجودة في لغات أقدم انتشارا من المندائية كاللغة الأكدية بلهجتيها البابلية الجنوبية والآشورية الشمالية؟

إن القول بأن "اللغة" العامية العراقية هي لغة مشتركة ولدت كمنتوج لدخول العربية بعد العصر الإسلامي مع "اللغة الأساس" أي اللغة الأم الآرامية هو هراء لا علمي خطر، ولا يخلو من النزعة الأيديولوجية الانعزالية المناهضة لهوية العراق وشعبه العربية. ومعلوم أن هذه النزعة تفاقمت بعد الاحتلال الأميركي للعراق وإقامة حكم المحاصصة الطائفية وفق دستور المكونات الاحتلالي لسنة 2005. وإذا كانت السياسة قد فعلت فعلها في ميدان الشطب على الهوية الحضارية العربية للعراق حين توافق الساسة الإسلاميون الشيعة الذين تنكروا لعروبتهم وأصبح همهم إعلاء شأن هويتهم الطائفية الانعزالية مقابل أن يساعدهم الساسة الكرد في ذلك ويحصلون مقابل ذلك على ترسيخ هويتهم القومية الكردية وإعلاء شأنها مع الشطب على الهوية العربية للعراق وتحويل هذا البلد العربي إلى دولة عديمة الهوية، فإن جهدنا في هذا المعجم يطمح ليكون جزءا من الجهد الدفاعي عن هوية اللهجة العراقية وعلاقتها العضوية باللغة العربية جذورا واشتقاقات وقواعد وتصريفات!

لست هنا في معرض اتهام أحد اتهاما مباشرا وصريحا بأنه جزء من هذا المشروع المناهض لعروبة العراق في ميدان اللهجة العامية لشعبه، فليس لدي ما يؤكد ذلك وانطلق في معالجتي البحثية للموضوع من ركائز البحث العلمي الموضوعي ومن منطلق حسن النية حتى ثبوت ما يؤكد العكس، ولكني أضع حدثاً معيناً في سياقه التاريخي والاجتماسي العام بحثيا.  

إنَّ اللغة العربية لم تولد في العراق مع دخول الفاتحين العرب المسلمين بعد معركة القادسية (19 تشرين الثاني 636 م)، فالعرب كانوا موجودين في وادي الرافدين وبلاد الشام القديمة "بلاد آرام" منذ القرن التاسع قبل الميلاد كما كشفت عن ذلك الأدلة الأركيولوجية المعتمدة والموثقة ومن أهمها نصب شلمانصر الثالث وتفاصيل معركة قرقرة (853 ق.م)، صعودا حتى نشوء وتوسع ممالك عربية، وعربية آرامية مختلطة، في الحضر والرُّها وتدمر وسلع "بترا" والمناذرة والغساسنة وغيرها.

فنحن لا ننفي وجود رواسب من اللغات الرافدانية المنقرضة كالسومرية والأكدية بلهجتيها والآرامية بلهجتها المندائية وحتى العبرية من خلال وجود المسبيين اليهوذاويين في بابل الكلدانية، ومع ذلك، أعتقد شخصيا، أنه لا توجد لهجة عربية أكثر غنىً وتنوعاً وتفرداً من اللهجة العراقية وريثة اللغات الرافدانية المنقرضة أو تلك التي في سبيلها إلى الانقراض، وأضيف إلى ذلك أنها اللهجة العربية الوحيدة تقريبا التي ما تزال تحتفظ بعشرات، وربما مئات المفردات العربية المنقرضة والتي لا وجود لها إلا في معاجم اللغة. وقد ضمَّنت في ذلك الكتاب "قويمسا" يحتوي شبكة واسعة أخرى من المفردات لنتعرف من خلالها على الحضور الكثيف لمفردات العربية القديمة في اللهجة العراقية المعاصرة. ومن هذا القبيل أوردنا المفردات التالية التي لا ترد في أي من اللهجات العربية المعاصرة بل ولا تستعمل في اللغة العربية الفصيحة "الوسيطة" بما في ذلك في العراق ولكنها موجودة في العامية العراقية؛ برطيل، مدردحة، أريحي، نازك، دحس، برطم، ملخ، دفر، أثرم، أجلح، ثخين، ثول، ثرب، خبن، أهدل وختل...إلخ. وقد اكتشفت امثلة أخرى خلال تأليفي لهذا المعجم.

وفي كتابي السابق، جئت بمثال على مقطوعة من الشعر الشعبي العراقي المعاصر في هذا السياق وأكرر الإتيان بها هنا لأثبت بمثال أن اللهجة العراقية من الغنى والثراء بحيث إنها تنطوي على مخزون هائل من الكلمات العربية المنقرضة "عربية ما قبل الإسلام" والتي لم يعد لها وجود إلا في المعاجم القديمة. لنقرأ هذه الأبيات للشاعرة "دَنَّة الساعدية " من جنوب العراق - عاشت في بدايات القرن العشرين الميلادي-هذه الأبيات التي تحمس بها قومها على الحرب وتشيد بقائدهم "أبو مهودر "، قالت:

 قوم وشد لبو مهودر على حصانه

 يا الحر الكبير   الـ خزل العانة

 من كثر الطَبـُر   يمناه خدرانه

 وسيوفه بالجماجم أبد مثنية.

والقاف تلفظ حميرية / جيما غير معطشة /قاهرية. والشاعرة الساعدية هنا حذفت الهمزة من (أبو). واختزلت اسم الموصول إلى " أل ". وحركت باء طبر بالضم رغم إنها ساكنة، وسكنت مفردتي حصان، سيوف. وفي هذه الأبيات ذات البنية والمذاق "الجاهليين" مفردات من العربية القديمة غير المتداولة في لغة الكتابة الحديثة ولكنها حية في لهجة عرب جنوب العراق كما مرَّ معنا في أمثلة سابقة، ومن هذه المفردات الواردة في الأبيات والتي تذكرنا بمفردات المعلقات السبع: خَـزَّل = عوَّق.  العانة = قطعان الظباء وحمير الوحش.

***

علاء اللامي

ليس هناك أصدق من حالات الانفعال الطفولي، حيث أن تداعياتها تبقى حاضرة مهما اختلفت ظروف الإنسان في العمر والمكان، وهي كما قال الشاعر طرفة بن العبد: تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد. من ذكريات الطفولة هذه، يفاجئُنا الأستاذ محمد حسين النجفي بكتابه الممتع (المناضل الصغير) الصادر حديثا في بغداد، عن دار أهوار للنشر والتوزيع سنة 2023. والكتاب كما يقول المؤلف، من أدب السيرة التي تُحدّد ذكرياتها الأيام، عندما كان المناضل الصغير يضع أولى خطواته في مسارات السياسة المتعكّرة تاريخياً في أرض العراق.

في إهدائه، يتُلُّك الكاتب بشيء من قوة الإيمان النضالي، بعد دهر من زمن، تولى لأكثر من ستة عقود، يقول: (إلى من له رأي في الحياة، وضحى في سبيل ما يؤمن به، إلى المناضل المجهول الذي عُذّب وصرخ، ولم ينحني، إلى من استشهد في سبيل قضيته، ولا نعرف له اسم أو صورة أو قصة نتحدث بها للأجيال)، هذا في ص:6. ومن بين سطور هذا الإهداء، يبرز أكثر من سؤال وأكثر من إشكالية. إشكالية سياسية أو اجتماعية، وحالات من الغبن والإخفاء القسري، لمجموعات كبيرة استشهدت في سبيل قضية وطن تلاعب به الأوغاد.

من الطفولة وللطفولة القادمة، ولأجيال ما عرفت عمق محبة العراق بعد، يقول المؤلف: أشكر وطني الغالي العراق، الذي وُلدت وترعرعت فيه، والذي أكـنّ له خالص ودي ومحبتي التي لم تتزعزع). ص:7. وهذا الود والشكر ينسحب بدوره على الأهل والأبناء والأصدقاء والطفولة وأبناء الحارة، بل وحتى على أسماء الأزقة والشوارع والحارات، بغية أن تكون هذه المذكرات جزءا من كتابة التاريخ الذي عادة ما تكتبه السلطات الحاكمة بحقائق ومعلومات مزورة وملفقة، منذ ستينات القرن الماضي وحتى سقوط صنم العوجة عام 2003. كون الجيل الناشئ في أعوام الستينات وما تلاها، لم يكن يعرف سوى الحقائق المزورة التي كانت تقدمها السلطات الغاشمة بوسائل إعلامية مخادعة. ص:7.

حتوتات الزمن الجميل كما يراها الكاتب، هي ذكريات حلوة تخللتها ظروف قاهرة، مُرة وصعبة. عاشها جيلنا الذي أسميناه جيل تموز 1958، بوصفه يشكل مرحلة مفصلية من تاريخ العراق المعاصر، بإيجابياته وسلبياته. ص:11. وهذه الذكريات الراسخة في عقل الكاتب، تتبعه لتدوينها، كونها ذات محمول سياسي، واختبارات اجتماعية، تجد لها صـدى واسعا في مخيلة الكاتب، بوصفها جزءاً من تاريخ جيلي، ومكوّن من مكونات الشارع العراقي، صفحة: 11. والنضال الطفولي، بحتوتاته الصغيرة تلك، يرى الكاتب بضرورة تدوينها ونشرها في كافة وسائل النشر الحديثة. بغية أن يطلع عليها الشباب داخل الوطن الأم، على اعتبار أن الكاتب وهو يعيش بعيدا عن وطنه، ومُستقرٌ حالياً في الولايات المتحدة، يرى من خلال محادثاته مع العديد من شباب الجيل الجديد، أن هناك نقـصاً كبيرا في الذاكرة العراقية، لاسيما سنوات الستينات والسبعينات من القرن الماضي. بالرغم من أن بعض الكتّـاب بدأ يكتب عن تلك المرحلة، من أمثال: مذكرات نصير الجادرجي، وذكريات عراقية للدكتور فاروق برتو، وأيام لا تنسى لهمّام عبد الغني المراني. وأسرار ثورة 14 تموز لإسماعيل العارف، وعقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي لعزيز سباهي، وطوارق الظلام لتوفيق الناشي وابتسام الرومي وغيرهم الكثير، ص:12.

ويرى الكاتب محمد حسين النجفي، أن مذكراته تختلف قليلا عن الأخرين، كونها ليست سـرداً زمنياً لحياته وما جال فيها، وإنما أحداث مختارة ومنتقاة، لقيمتها الحضارية والاجتماعية والسياسية بوصفها ذكريات ومذكرات شاهد عيان على الأحداث. كونه مشاركا فيها، وعلى تماس مباشر في الشارع والمحلة والمدرسة، ص:12. كما إن هذه الذكريات تخص أناساً آخرين توجب ذكر أسمائهم بغية، اكتمال الصورة لدى القارئ، وتثبيت مصداقياتها، وهي تمثل كما يرى الكاتب، عينات عشوائية بمئات وآلاف مما مر به الشباب، من جيله في فترات الصمت القاتل والطويل، الذي لا يستطيع حتى الأصدقاء التحدث عنه فيما بينهم. شباب اقتلعوا من فوق الأرض ليختفوا في المجهول المعلوم، وفي دهاليز سلاطين القهر والظلام. ص:13.

والهدف المرتجى من هذا الكتاب، كما يقول المؤلف، هو للتذكير بجرائم مهولة حدثت ضد الإنسانية في العراق، وفي كل العهود بدون استثناء، وللتذكير  بالتضحيات الجسام التي قدمتها الأجيال والتي لا يدركها جيل ما بعد الألف الثانية، ثم يضيف الكاتب: أنحني بخشوع وإجلال للشباب والشابات الذين انفرد بهم الجلادون في الليالي المظلمة، والغرف الآسنة، والقسوة السادية، شباب معظمهم جنود مجهولون، لم يسمع عنهم أحد، لا يعرف بهم أحد، لم يكتب عنهم أحد، لم ينشر صورهم أحد، أكتب هذا الكتاب كي أحث الآخرين على البحث والتدقيق عن جرائم البعث، عن تلك الفترة التي يعتقد الكثيرون أنها كانت العصر الذهبي. ص:13.

تداعيات الأحداث تسحب الكاتب إلى بدايات طفولته التي عاشها في النجف، تلك المدينة التي ولد فيها هو، ومن قبله، كان أبوه، في محلة العمارة داخل سور النجف القديم، وعندما كان والد المؤلف في الصف الثالث الابتدائي، أخرجه والده من المدرسة بناء على نصيحة أحد رجال الدين المعمّمين. ص:15، ليمارس، في متجر صغير مجاور لمقهى الحاج حسين القهواتي في وسط السوق الكبير بالنجف الأشرف.

في مدخل أنثروبولوجي، يقودنا الكاتب إلى شكل التفكير العائلي بحمولاته الميثولوجيا، حيث كان الناس في حارتهم يطلقون أسماء لأبنائهم وفق حالة المخاض العسيرة أو الميسرة، وأطلقوا عليه عند الولادة المعسرة اسم (ناجح). وحين دخل المدرسة غُيّر الاسم إلى محمد حسين نظرا لولادته في أيام مولد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. ووقتذاك كانت هناك نسبة وفيات عالية بين الأطفال، وهناك خوف شديد (من العين الشريرة والحسد)، ولذلك ثقبوا إذن الكاتب، وألبسوه التراﭼـي أو الحلق، كي يظن الغرباء بأنه بنت، وليس ولدا. بغية تلافي عيون الحاسدين، لأن الناس آنذاك كانت لا تحسد الأمهات اللاتي تنجب الإناث ص: 16.

حتّمت الظروف على والد الكاتب بأن ينتقل إلى بغداد بشكل نهائي عام 1949، واستقرت العائلة في حي الدهانة في بغداد الرصافة، خلف جامع الخلفاء، حيث كان المكان هو الأقرب إلى سوق الشورجة، ذلك السوق التجاري المركزي لمدينة بغداد. وهنا في هذا المكان بدأت رحلة الكاتب تتطبع بالحياة البغدادية، فتعرّف على الصديق أو صديق العمر كما يسميه حكمت وعائلة الطحان. ومنهم صديق الطفولة رياض ص:17.

المظاهر الفولكلورية البغدادية تنعكس بشكل ملحوظ على العادات والتقاليد. فقد تم ختان ثلاثة من أفراد العائلة، هم الخال محسن، والخال كريم، وأخوة الكاتب عصام ورعد على يد مطهرجي الذي كان من الطائفة اليهودية. ص:18. بغداد تسحب الفتى النجفي إلى حياضاتها الشعبية وتفرض عليه أن يكتشف بعض مظاهرها الفولكلورية وعاداتها وتقاليدها، حسب كل منطقة من مناطق بغداد المتعددة، فمن حي الدهانة بشارع الجمهورية إلى منطقة كرادة داخل حيث هناك. النادي الرياضي الذي تمارس به لعبة الزور خانة والذي كان الحاج عباس الديك بطل العراق في لعبة المصارعة، كان يمارس لعبته المفضلة في الزور خانة. وبالكرادة الشرقية، تعرّف الفتى النجفي على مجموعة من الفتيان المجايلين له بالسن والمرحلة. والكرادة الشرقية تعد واحدة من بين أهم ضواحي العاصمة بغداد في جانبها الشرقي، فهي شبه جزيرة يلتف حولها نهر دجلة من ثلاث جهات، ويتوسطها كورنيش شارع أبي نواس والمقاهي الجميلة، وعلى الجرف للشط، هناك مصائد السماكين ومحلاتهم التي يعملون فيها السمك المسكَوف. ناهيك عن جمال الكرادة داخل ونظافة الكرادة خارج وحداثة. عرصات الهندية، وأناقة هدوء منطقة المسبح. ص:19.

سحر الكرادة الشرقية يجلب انتباه الكاتب لمجمل النشاطات الثقافية والسياسية، حيث يسكن ويعيش في هذه الناحية العديد من المثقفين والسياسيين البارزين من أمثال. عبد الوهاب مرجان الوزير ورئيس الوزراء في العهد الملكي، والدكتور إبراهيم كبة وزير الاقتصاد في حكومة عبد الكريم قاسم وبالكرادة أيضا سكن الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري، ومؤرخ الوزارات العراقية الكاتب المعروف السيد عبد الرزاق الحسني، وأستاذ القانون الدولي الدكتور محمد علي الدقاق، الجراح المشهور الدكتور عبد المجيد حسين مؤسس مستشفى عبد المجيد حسين. وهناك أيضا مجموعة من تجار بغداد المعروفين: عبد الرسول علي، ورضا علي، وجابر مهدي، وبيت الخضيري وغيرهم. ويوجد في الكرادة أيضا العديد من المستشفيات مثل مستشفى الراهبات في منطقة رخيته، ومستشفى الإمام في منطقة أبو اقلام، ومستشفى عبد المجيد الحسين في منطقة البو شجاع. ص:20.

في الكرادة، تتفتح ذهنية الصبي النجفي، حيث في مطلع ستينات القرن الماضي، يبدأ برصد التحولات السياسية في العراق، وكيف تحولت الصراعات السياسية بين مختلف القوى إلى صراعات دموية، حتى تكللت بانقلاب شباط الأسود عام 1963، التي شكلت بدايات التدخل الإقليمي الأجنبي في شؤون العراق، حيث تكالبت جميع الأطراف على الإجهاز على ثورة 14 تموز1958.  ص:21. لا سيما بعد أن شرعت ثورة تموز بقانون الإصلاح الزراعي. وقانون الأحوال الشخصية. وهذه الأمور خلقت آراءً وأفكارا مع الثورة وضدها. انقسم الشارع العراقي بين مؤيد للزعيم وبين مـعادٍ له، وقد كانت الأغلبية من الشعب مع الثورة وزعيمها عبد الكريم قاسم فيما كانت الأقلية المعادية بقيادة البعث والناصريين وبعض رجالات الإقطاعيين والإسناد الخارجي من بعض الدول، حتى انشق الرجل الثاني في الثورة هو العقيد عبد السلام محمد عارف، ثم تلاه حركة رشيد عالي الكيلاني وأحداث كركوك وحركة الشواف في الموصل، وغيرها من الأحداث الجسيمة. ص:22.

ثمّـة حوادث سياسية يشترك فيها المناضل الصغير، بحكم تواجده الجغرافي المكاني في الكرادة الشرقية. ويبقى يتابع ما يجري على الساحة العراقية بعد هذه الانقسامات السياسية. في الشارع العراقي، وقد لعبت محكمة المهداوي دورا بارزا في مسألة تأجيج حالة الصراع، كونها أي المحكمة، تنقل على الهواء مباشرة على شاشات التلفزيون الفضية وقتذاك، ومحكمة المهداوي صارت حالة سياسية اجتماعية تعبر عن حالة الصراع السياسي المحتدم من جهة، ومن جهة أخرى تظهر مدى تأثر الوسط الاجتماعي بهذه المحاكمات للخارجين على الثورة. ولذلك، أصبح التجمهر في البيوت والمقاهي الشعبية ظاهرة ملحوظة، حتى أن والد الفتى النجفي يشتري تلفزيونا كي يشاهد محاكمات المهداوي في محكمة الشعب للخونة والمتآمرين على ثورة 14 تموز وزعيمها، وقد شملت هذه المحاكمات رجالات العهد الملكي البائد من أمثال بهجة العطية وسعيد قزاز، ثم محاكمة عبد السلام عارف والمحاكمة الشهيرة لناظم الطبقجلي والمشتركين بمحاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم بشارع الرشيد منطقة المربعة. ص:22.

بدأت انعكاسات الصراع السياسي في العراق تجلب انتباه المناضل الصغير أكثر من اللازم، حيث أصبحت جزءاً من همومه اليومية، فراح يرصد بشدة حالة الصراع السياسي المحتدم. بين جماعة الشيوعيين والزعيم عبد الكريم قاسم من جهة، وجماعة البعثيين والقوميين من جهة أخرى. وقد تحول هذا الصراع إلى مصادمات دموية في الشارع العراقي، وظهر ذلك في حركة الشواف في الموصل، وأحداث في كركوك في 14 تموز 1959، حيث اشتبك الأكراد مع التركمان، وأريقت الدماء في شوارع كركوك، وقد استغلت قوى الثورة المضادة هذه الأحداث وألبسوها برقبة الشيوعيين كما يقول المناضل الصغير في صفحة: 23.

وأثرت هذه الأحداث على رؤية الزعيم عبد الكريم قاسم، وأعلن في خطاب له عند افتتاح كنيسة مار يوسف بتاريخ 17 تموز1959 بالكرادة الشرقية. وقد تضمن هذا الخطاب غضبا واضحا من الزعيم على الشيوعيين والأكراد، وسماهم (الفوضويون). وقد رافق هذا الخطاب توجّه من قبل أجهزة الأمن العراقية، وقامت بحملة من الاعتقالات الواسعة في الموصل وكركوك وبغداد. واعتقلت القيادات العمالية والفلاحية والناشطين السياسيين الآخرين. ص:23. وتراكم هذه الأحداث جعلت الشارع العراقي أن ينقسم على نفسه بثلاث اتجاهات، الأول، الزعيم والقاسميون والمؤيدون له، وهم الجمهرة الغفيرة من الناس الفقراء، والقسم الثاني هم الشيوعيون الذين أبعدهم عبد الكريم قاسم عن دائرته المقربة، وأبعدهم عن المناصب الحساسة في الجيش والقوات المسلحة، لكنهم بقوا على الولاء للثورة والدفاع عن مكاسبها. أما القسم الثالث فهم البعثيون والقوميون الذين أخذوا بتقوية قواهم، تسندهم جمهورية مصر الناصرية، إضافة إلى الجماعات المتضررة من قوانين الثورة، وهم جماعة العهد الملكي والإقطاعيون والأغوات الأكراد الذين تضرروا من قانون الإصلاح الزراعي، ورجال الدين الذين سحب قانون الأحوال الشخصية البساط من تحت أقدامهم، لا سيما الفتوى للسيد محسن الحكيم المرجع الأعلى للشيعة في العراق، والتي بموجبها أفتى من (أن الشيوعية كفر وإلحاد). ص:23.

مجمل هذه الأحداث والصور تلهب مخيلة المناضل الصغير، وهو يعيش طفولته في شارع الهندي في منطقة الكرادة الشرقية، فقد عاش في هذا المكان سني عمره الجميلة من عام 1954 إلى عام 1961. حيث بدأت توجهاته السياسية ترسم ملامحها على مسارات حياته القادمة، وتسرّع من نضوجه السياسي، حيث بدأت صداقاته الاجتماعية تفرزن من الأصدقاء في المحلة والزقاق في منطقة الكرادة الشرقية ص:24.

رغم النضوج المبكر للمناضل الصغير، إلا أن رواسب الطفولة وما يتعلق بها تبقى حاضرة في الذهن، ففي حالة التأمل تظهر إسقاطات تلك الطفولة، حيث تظهر الألعاب الشعبية التي يمارسها الأطفال بالساحات والشوارع، حيث في الصف يبدأ موسم الطيارات الورقية الملونة من فوق السطوح، وكيفية جعل خيط الطيارة الورقية حادا كالسكين من خلال طحن البامية اليابسة وتمريرها على الخيط، ثم ينشر الخيط حتى يجف. وإذا ما تقاطع ما خيط آخر قطعه، وجعل طيارة الخصوم تسقط على الأرض. ص:25.

وفي الصيف أيضا، كان الأولاد يلعبون مفرقعات البوتاز أيام المحيا. وهناك لعبة الدعبل ولعبة المرصع، والكعاب والسنطرة توتو، ولعبة البوزة، وخض بطل السيفون، والكوكاكولا، فيما كانت لعبة كرة القدم يمارسها الأحداث والمراهقين، والتفرج على المنتخبات العراقية كآليات الشرطة والقوة الجوية، ومنتخب الزوراء، وهذه الفرق الرياضية كان الناس يشاهدونها من على ساحة الشرطة قرب القصر الأبيض، وساحة الكشافة في الأعظمية، وترتسم بخيالات المناضل الصغير شخصية الكابتن جمولي أو جميل عباس، وعمو بابا وشدراك يوسف ويورا وقاسم زوية وحامي الهدف لطيف شندل وحامد فوزي والمعلق الرياضي المعروف مؤيد البدري. صفحة:15.

يمر شريط الذكريات على أحداث ثورة 14 تموز 1958، والذي صادف يوم الإثنين، وكيف كان العقيد عبد السلام عارف يقرأ البيان الأول للثورة. وقد يتذكر المناضل الصغير يوم الثورة بوصفه يوما أثّر في حياته بشكل عميق، وربطه نفسيا بالثورة ورجالها وأحداثها، وكيف أصبح الجيش العراقي محبوبا من قبل الجميع، وكيف بدأت الثورة تشرّع القوانين الثورية لتغيير حياة الناس الاجتماعية والاقتصادية، لعموم العراقيين، لا سيما القوانين. قانون الإصلاح الزراعي رقم 30 لسنة 1958، والأرض لمن يزرعها، وقانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959. وعقد الاتفاقات الاقتصادية والسياسية مع الاتحاد السوفيتي وغيرها من الإنجازات.

تلك الإجراءات التي أغضبت قوة الثورة المضادة، فكادوا للثورة، وقضوا على رجالاتها وزعيمها المقدام في 8 شباط الأسود 1963، حيث أعدم الزعيم وقتل المئات من أحرار الشعب العراقي. وسجن الآلاف، وعذبوا في مقار الحرس اللا قومي، تلك الميليشيات الخارجة عن إطار الدولة والتابعة لحزب البعث الفاشي، وأودع الآلاف من الأبرياء في غياهب السجون، داخل أقبية الأمن العامة السيئة الصيت، وبذلك دخل العراق في حمامات من الدم، والتي ما زالت تسيل دون حساب حتى يومنا هذا، كما يقول المؤلف في صفحة:31.

المناضل الصغير بين التسمية والواقع

لم يكن صاحبنا محمد حسين النجفي. أن يلقب بصباه بهذا اللقب اعتباطا، بل جاءت هذه التسمية نتيجة مماحكات طفولية مع أصدقائه في سكنه، وهم في شارع الهندي، حيث كانت صداقات الطفولة في ذلك الحي بدأت تتأثر بالنزاعات السياسية في عموم البلد، لذلك كانت سياقات هؤلاء الأطفال الذين لم يتجاوزوا بعد سن الثامنة عشر من العمر، لاسيما حين ظهر الخلاف بين عبد السلام عارف وعبد الكريم قاسم، حيث انحاز النجفي هو وصديقه حكمت الدقاق إلى الاتجاه الوطني التقدمي المؤيد لعبد الكريم قاسم. بينما كان صديقهم الثالث قحطان السامرائي ذا ميول قومية ومتأثر بالرئيس جمال عبد الناصر، لذلك انحاز إلى حزب البعث عن طريق الاخوة سمير وسعيد الطحان. صفحة: 34.

هذا الفرز السياسي بين أصدقاء الطفولة خـطّ له مسارا سياسيا مستقلا، ذا بوصلة وطنية دفعت المناضل الصغير لأن يتجه لدعم اعتصام لعمال السجائر عام 1959، لتلبية مطالبهم العمالية، ثم تلاه إضراب السواقين نتيجة رفع سعر البنزين خمسة فلوس. هذه الاحتكاكات العمالية مع السلطة، جعلت من الفتى النجفي لأن يفتح عقله ووجدانه إلى الصراعات السياسية الكبرى. حيث كان الشارع العراقي تتحكم به آنذاك القوى الشيوعية من جهة، والبعثيين والقوميين من جهة أخرى، لذلك حاولت قوى اليسار مساندة إضراب السواقين وبقية العمال والنقابيين مثل نقابة السكك الحديدية ونقابة النفط، واتحاد الجمعيات الفلاحية، حيث تمت السيطرة عليها عن طريق شراء الذمم لبعض القيادات وتزوير الانتخابات، لتنصيب قيادات موالية للزعيم عبد الكريم قاسم، بعد زج معظم قادة نقابات اليساريين أمثال علي شكر وصادق جعـفر الفلاحي وكليبان وغيرهم، حيث وضعوا بالسجون والمعتقلات. فيما لم يستطع الزعيم السيطرة على بعض النقابات مثل نقابة المعلمين ونقابة المحامين، حيث كانتا تحت سيطرة القوميين والبعثيين. ص:35

ثم تطورت الأحداث السياسية في البلد، حيث كان البعثيون والقوميون يعدون العدة للانقضاض على السلطة السياسية، وتم لهم ذلك في 8 شباط 1963م. كـانت الأحداث السابقة لانقلاب شباط الأسود عام 1963، تحفز الفتى النجفي لأن يصبح مشاركا بالأحداث السياسية والنقابية، فقد جلب انتباهه عندما كان طالبا في المتوسطة الشرقية، مجموعة من الطلبة كان لهم مكانة خاصة في تلك الظروف، أولهم الطالب مناضل بن فاضل عباس المهداوي رئيس محكمة الشعب، والثاني باسل لطفي طاهر بن أخ العقيد وصفي طاهر، المرافق الأقدم للزعيم عبد الكريم قاسم، ثم هناك الطالب الثالث، مخلص عبد الجليل، الأخ الأصغر لغانم عبد الجليل، عضو القيادة القطرية لحزب البعث والذي أعدمه صدام حسين فيما بعد، إضافة إلى مجموعة من الأساتذة والمدرسين الذين لعبوا دورا في صقل نفوس الطلبة وشخصياتهم/ صفحة: 38- 39.

بدأت تحركات المناضل الصغير، وهي التسمية التي أطلقها عليه الشهيد فاضل عباس المهداوي. إثر زيارته لبيتهم بصحبة ابنه مناضل، عندما قام هو ومجموعة من الطلاب بتوزيع المنشورات السياسية المعادية والمناهضة للتجارب النووية والتوجه للسفارة الأمريكية لتسليم السفير عريضة احتجاج، حيث فوجئوا بمجموعة كبيرة من رجال الأمن العراقي وراء بوابة السفارة تعتدي عليهم بالضرب، ثم تعتقلهم بالسيارات الكبيرة وتنقلهم إلى دائرة الأمن العامة في جانب الكرخ. ص: 42.

ومن هذا التوقيف الأول تبدأ التوقيفات الأخرى السياسية بمركز شرطة المنصور، والموقف العام أو القلعة السادسة، وهو ما يزال في عمر المراهقة (14 سنة) حيث يلتقي هناك في القلعة الخامسة والسادسة بمجموعة من الشيوعيين واليساريين والأكراد، منهم نقيب المحامين حمزة السلمان وصادق جعفر الفلاحي والموسيقار أحمد الخليل وغيرهم الكثير من المناضلين الوطنيين واليساريين. صفحة:45- 46.

مبدئية الموقف، تجذّر روح التحدي في المناضل الصغير. كانت الأحداث التي أوصلت هذا الفتى إلى باحات السجن، كلها أحداث وطنية (ترفع الرأس) كما يقال، فلماذا يزج به في غياهب هذه السجون؟ بدأت هذه الأسئلة تربك عقل وتفكير هذا الفتى المراهق، لا سيما بعد أن توسط والده لدى السيد محسن الرفيعي ابن مدينته النجف، وكان رئيساً للاستخبارات العسكرية، كي يطلق سراحه، وكان جواب هذا الشخص للوالد، والله لو كان ابنك بعثي أو قومي، أو قواد أو قاتل قتله، لأطلقت سراحه في الحال، ولكن شيوعي هاي لا تحكيها أبدا صفحة: 46.

حدث هذا في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم، وقد طلب مدير الاستخبارات هذا من الأب أن يقنع ابنه المناضل الصغير أن يغير إفادته وأن ينكر ذهابه للاحتجاج على التجارب النووية الأمريكية. ثم يفكر بمساعدة الوالد حول إخراجه من الموقف.

وبعد عشرة أيام في الموقف العام، استدعيّ المناضل الصغير لإعادة التحقيق معه، وجرى استدعائه بشكل فردي لمكتب التحقيق العرفي الثاني. ومن الموقف العام تم ترحيل الفتى. مشياً على الأقدام إلى وزارة الدفاع. يقول المناضل الصغير: أخذني الشرطي المرافق إلى أحد المكاتب ودخلتها، وهناك كانت مجموعة من ضباط الجيش برتب عالية، وفي منتهى الأناقة والأدب، سألوني: لماذا ذهبت إلى السفارة الأمريكية؟ قلت للاحتجاج على التجارب النووية. قال أحدهم إن أباك يريد مساعدتك كي يخلى سبيلك، وهذا يتطلب أن تغير إفادتك. قلت: لا أريد أن أغير إفادتي. قالوا: لماذا؟ قلت له أني لا أريد أن أكذب. حيث إن الإيمان العميق بما كنا نقوم به هو الحق، ويستحق التضحية، دفعني للإصرار على عدم تغيير إفادتي، صفحة: 47. هذا الموقف من لدن هذا الفتى السياسي الصغير، زرع الإيمان والقوة داخل نفسه، وأعطاه الثقة بما أقدم عليه، رغم أنه شعر برهبة التحقيق واختلافه عن سابقاته. ورغم صغر سنه 15، بدأ يشعر بقوة الذات، ومحاكمة الأمور بمنظار آخر دفعه للتساؤل: دعك من رجال الأمن والشرطة والاعتقالات الاعتباطية وغير القانونية، ولكن كيف ارتضى ضباط حقوقيون برتب عالية لأنفسهم أن يرجعوني إلى الموقف، بعد أن علموا أنني لم أقم بأي عمل ضد الدولة؟ وبعد أن رؤوني وميّزوا عمري من أنني دون السن القانونية للاعتقال؟ صفحة: 47.

تبدأ صلابة الإنسان السياسي من المواقف الصغيرة، ثم تبدأ تتعاظم مع المواقف الكبيرة، ورغم سطوة العاطفة الأبوية التي كانت تظهر عند موعد الزيارات الأسبوعية في السجن، إلا أن الشعور بالانتصار على الذات والعاطفة الأبوية، يخلق من الإنسان روحـاً متعالية للتحدي، فبالرغم من أن المناضل الصغير كان أصغر الموقوفين سنّـاً، إلا أنه كان يشعر بسوية الموقوفين معه، من أمثال النقابي الكبير صادق جعفر الفلاحي وغيره من   المناضلين. وبعد 40 يومـاً أفرج عن المناضل الصغير بكفالة. لقد خلقت تجربة السجن عند هذا الفتى النجفي حالة من الشعور الوطني العالي، والافتخار بهذا الموقف عند الأهل والجيران، بل وحتى تجار الشورجة وحمّاليها، يقول: استقبلوني بالابتهاج والفخر. وحتى أبي كان يتباهى بشجاعة ابنه المناضل الصغير، لذلك، جعلت هذه التجربة المناضل الصغير يشعر أن ما يقوم به من عمل مهم له، ولهُ مردود إيجابي لدى عامة الناس. ص:49.

بعد فترة وجيزة من ذلك الحدث، توالت الثورة التموزية بالتراجع، وراجت قوى الثورة المضادة تنسج خيوط التآمر، واستطاعت أن تسقط حكومة عبد الكريم قاسم في أحداث 8 شباط 1963م. وبدأت الملامح الفاشية تظهر في سلوك البعث في بداية انقلابهم، وبدأت تظهر مجموعاتهم الفاشية هنا وهناك عند منطقة الكرادة الشرقية، وراح المناضل صغير يختبئ من الأعين ويترك سكنه في الكرادة هربا من الملاحقة، لاسيما بعد حركة الشهيد حسن سريع في معسكر الرشيد في 3 تموز 1963 حيث صدر أمراً باعتقال المناضل الصغير،  مما أضطره  للمبيت عند أخواله في مدينة الكاظمية ببغداد منطقة النواب، لكنه لم ينقطع عن عمله مع أبيه في سوق الشورجة إلا بعد أن صدر أمرا باعتقاله وتعميم ذلك في الصحف العراقية حتى توسط أبيه مع صديق له اسمه أبو سعد عبد الوهاب العلي أن يصحبه إلى مديرية الأمن العامة ويقول لهم : إني لست هاربا وأنا بانتظار المحكمة، حتى أطلق  سراحه بكفالة مرة ثانية.  ص:51.

تتوالى الأحداث، وبعد ثلاث حكومات متوالية هي، حكومة قاسم وحكومة البعث الفاشي، وحكومة عبد السلام عارف، إلاّ أن قضية النضال أو التظاهر ضد التجارب النووية ظلت ثابتة في كل الحكومات الثلاث، وقد حكم على المناضل الصغير بـأحد عشر شهراً. وتكبر الأسئلة في عقل هذا الفتى الصغير، وتصبح الأمور السياسية واحدة من اهتماماته الوجودية، ص: 54.

ثمّـة أمر هام يوليه الكاتب أهمية واضحة في مذكراته، ألا وهو: وجود الصور التوثيقية. لنشاطه. ضمن المجموعات الطلابية لاتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية، والذي كان هو أحد أعضائه النشطين. ص:55-61. وقد استطاع المؤلف أن يستعرض نشاطات هذا الاتحاد العام لطلبة الجمهورية العراقية، ونضاله ضد البعثيين، لاسيما اتحادهم البغيض الاتحاد الوطني لطلبة العراق، والتصادم المستمر معهم: راجع صفحة: 61-78، شباط الأسود، الجرح الذي لا يندمل في الروح العراقية.

لم يكد مُناضلنا الصغير يتجاوز أيّ مرحلة تاريخية كان قد مر بها إلا وتعود به الذكريات المؤلمة إلى أحداث ردة شباط الأسود عام 1963، ذلك الجرح الذي لا يندمل في قلوب كل العراقيين، حينما قام البعث الفاشي في 14 رمضان المصادف ليوم الجمعة 8 شباط 1963، وهو يوم الردة في تاريخ الشعب العراقي، وثورته المغدورة. حيث استشهد في ذلك اليوم خيرة أبناء الشعب العراقي، واستشهـد قادة الثورة، كل من الزعيم عبد الكريم قاسم والزعيم الركن الطيار جلال الأوقاتي، والزعيم عبد الكريم الجدة والعقيد طه الشيخ أحمد والمقدم كنعان حداد، كذلك الذين كانوا مبعدين عن السلطة، إلاّ أن ّ اخلاصهم دفعهم للالتحاق والدفاع عن الثورة مثل العقيد فاضل عباس المهداوي، ووصفي طاهر، كما استشهد في ذلك اليوم، خيرت أبناء الشعب العراقي أثناء المقاومة ضد الانقلابيين في العديد من معسكرات الجيش وفي المحلات الشعبية الموالية للثورة والزعيم قاسم، وقد تصدرتها مدينة الكاظمية الباسلة ومحلة عقد الأكراد الفيلية ومنطقة الشاكرية، مدينة الفقراء، ومحلة الكريمات في الكرخ في حي المناضلين الأشاوس، أو من استشهد لاحقا، تحت وطأة التعذيب الوحشي في قصر النهاية، أو في مقار الحرس القومي في الأعظمية والكرادة والكاظمية وعموم مدن العراق، وفصل خيرة أبناء العراق الشرفاء. استمرت هذه الليلة السوداء لمدة تسعة أشهر مقيتة حتى انقلب عليهم عبد السلام عارف في يوم 18 تشرين الثاني 1963، وأنهى سلطتهم وبطشهم.  ص: 80- 79.

موجعة هذه الأيام السوداء في ذاكرة الكاتب محمد حسين النجفي، حتى لحظة كتابته لمذكراته هذه عام 2023. الأمر الذي يعكس مقدار الألم الدفين الذي تركته تلك الأيام في ذاكرته، بعد أكثر من 60 سنة مضت

إن مرارة تلك الأيام وتداعياتها قد أطبقت بكل سوداويتهـا على تفكير الكاتب محمد حسين النجفي، فلم يعد يتذكر سوى حالات الإجرام التي قام بها فاشيو البعث القتلة من أمثال ناظم كزار، ومنذر الونداوي، وعبد الكريم الشيخلي، ومحسن الشيخ راضي ومدحت إبراهيم جمعة، وهاشم قدوري، وطالب شبيب، ونجاة الصافي، وعلي صالح السعدي، وعمار علوش. وغيرهم الكثير. ص: 98.

فيما راحت ذكريات النضال، تعيد رسم ملامح الشهداء، سلام عادل ورفاقه، والخيانات التي وقعت بين صفوف المناضلين. لا سيما اعترافات عدنان جلميران وحمدي أيوب، واعترافات هادي هاشم الأعظمي، الذي كشفت 23 دارا حزبية من بينها الدار التي كان يختبئ بها الشهيد سلام عادل، الذي استشهد في يوم9 آذار 1963. هو وحسن عـوينة، ومحمد حسين أبو العيس. ص:98.

مع قساوة الأيام، تلك وندوبها التي ما زالت تحفر بالذاكرة، كانت هناك إلى جانبها بعض الأحداث التي تشحن وهج الذاكرة بشيء من عطر الذكريات، منها حركة الشهيد حسن سريع في 3 تموز 1963 والتي كان من المقرر أن يشترك بها ذلك المناضل الصغير، وحكاية قطار الموت وتداعياته، وسعيد متروك، بطل المقاومة في الكاظمية. ص:100.

ذكريات خارج السياق:

الباب الأخير من الكتاب، يورد المؤلف محمد حسين النجفي، بعض المقالات الصحفية، حملت عنوان (مقالات وآراء) يخرجُ فيها عن سياق كتابته، أو سياق كتابه المناضل الصغير، وسياق أحداثه، لكنه يستنبط أفكار هذه المقالات من أحداث الكتاب نفسه، بمعنى أنه ما زال أسير الوقائع والأحداث التي مر بها في فترة الطفولة والمراهقة. وتدور موضوعات هذه المقالات حول أحداث شباط الأسود 1963، باعتبارها هي البوصلة الحاكمة على تفكير صاحبنا النجفي. فقد تركت في ذهنه وفي خياله ووجدانه، ذكريات سوداء مرّة. لم يستطع التخلص منها حتى يومنا هذا. نظرا لشدة حفرها في عمق الروح من الآلام، مازالت تحتفظ برنينها المؤلم كلّما تذكر المؤلف بعض أحداثها أو أسماء الشخصيات التي وقع عليها الحيف التاريخي، ولم ينصفها التاريخ حتى اللحظة.

في مقالته الأولى المعنونة: يوم تحولت النوادي الرياضية إلى معتقلات. (جرائم ما زالت بلا عقاب) ص:105، تتراءى أمام الكاتب أحداث يوم الجمعة 8 شباط الأسود، حيث اغتيلت ثورة تموز، وسفك دماء قادتها ومناصريها، وتحولت كل أجهزة البعث وسلطاته إلى قوى من الجستابو، واعتقلت الآلاف من الناس ووضعوهم في الملاعب الرياضية. حيث جعلوها مراكز للاعتقال، والتحقيق، والتعذيب والقتل، مثل نادي النهضة الرياضي في الكرادة الشرقية والنادي الأولمبي في الأعظمية وملعب الإدارة المحلية في المنصور، واستولى الحرس القومي على بيوت سكنية وحولوها إلى مقار لهم منها ما هو سري وما هو علني في الكرادة الشرقية. وقصر النهاية السيء السمعة والصيت الذي ارتكبت به أبشع جرائم التعذيب والقتل، ومن جرائم البعث التي يذكرها الكاتب بهذه المقالات هي: إسقاط الجنسية عن أشرف أبناء العراق، لاسيما وأنها استهدفت أبرز العلماء والأدباء والشعراء والمثقفين والمخلصين من أبناء الشعب، حيث أصدرت وزارة الداخلية لحكم البعث الفاشي بموجب كتابها السري والمستعجل الرقم (ق. س 11660 والمؤرخ في 26-10-1963)، والقاضي بسحب الجنسية وإسقاطها من 12 مثقفاً عراقـياً، لأن سلطات البعث لم تتمكن من إلقاء القبض عليهم، كونهم كانوا خارج العراق أثناء قيام ردة البعث المشؤومة في شباط 1963. وهذه الكوكبة هم من أبرز مثقفي العراق، وهم كل من:

1- شاعر العرب الأكبر: محمد مهدي الجواهري.

2- الدكتور فيصل السامر: وزير الثقافة في حكومة عبد الكريم قاسم عام 1959

3- الدكتورة نزيهة الدليمي: أول وزيرة في العالم العربي.

4- صلاح خالص: أحد مؤسسي اتحاد الأدباء في العراق.

5- الزعيم هاشم عبد الجبار: شقيق عبد الكريم قاسم بالرضاعة وكان من أول المدافعين عن الثورة، وهو أحد. أمراء اللواء العشرين مشاة الذين قادوا الثورة.

6- الأستاذ نوري عبد الرزاق حسين: السكرتير العام لمنظمة الشبيبة الديمقراطية، وسكرتير اتحاد الطلاب العالمي عام 1960، ورئيس منظمة التضامن الافروآسيوية.

7- الشاعر عبد الوهاب البياتي: أحد رواد الشعر العراقي الحر

8- الشاعر والكاتب الروائي ذنون أيوب: كان كاتبا مرموقا وصحفيا بارزا، ومدرسا وناقدا أدبيا من أهل الموصل.

9- الروائي غائب طعمة فرمان: أحد أعمدة الرواية العراقية، وصاحب رواية النخلة والجيران، وقد ترجم إلى العربية أكثر من 80 كتابا من اللغة الإنجليزية والروسية والذي توفي في موسكو عام 1990.

10- محمود صبري: الفنان التشكيلي المعروف وأحد رواد الفن التشكيلي الحديث

11- الدكتور رحيم عجينة: مناضلا يساريا معروفا وطبيبا للأمراض المستوطنة، كان من قادة الحزب الشيوعي العراقي ورئيس جمعية الطلبة العراقيين في لندن.

12- عزيز الحاج حيدر: كان عضوا بارزا في قيادة الحزب الشيوعي العراقي وقاد أكبر انشقاق بتاريخ الحزب الشيوعي العراقي عام 1967 عرفت جماعته باسم القيادة المركزية.

وفي نهاية مقاله، يعلـّق المؤلف محمد حسين النجفي حول هؤلاء الذين أسقطت عنهم الجنسية بالقول: كيف يمكن لأي سلطة غاشمة وفاشية، أن تبعد رواد الثقافة في بلدها؟ إنها مجموعة تتودد الدول الأخرى لاحتضانهم والاستفادة من نتاجهم الفكري والتعليمي؟ هؤلاء عينة لما حدث عام1963. بعد ردة ثمانية شباط الدموية عام 1963، إذ تم اعتقال الآلاف من الطلبة والأساتذة الجامعيين. ويضيف: إن ردة شباط 1963 هي المسؤولة بشكل مباشر عن تردي المستوى الثقافي والعلمي في العراق، لأنها حاربت المثقفين المخلصين بشتى الوسائل، ومنها إسقاط الجنسية عن الذين لم تستطع أن تضع أيديها على أعناقهم، مع جرائم ما زالت بلا عقاب. ص 114.

وفي مقالة (فهود بين نخيل الكوفة) يستعرض المؤلف حملات الاعتقادات والمطاردات التي كانت تشنها عصابات البعث الإجرامية بعد ردة 8 شباط 1963، حيث راحت هذه العصابات بمطاردة التجمعات الشيوعية واليسارية في مدينة الكوفة والنجف وبساتين الشامية ونهر الفرات، وقد قام بسطاء الناس في قرية بورسعيد في ريف الشامية بصد كل الهجمات الفاشية التي قام بها الحرس القومي ضد هذه القرى.  ص: 116.

وفي مقالته الأخيرة، والمعنون بـ (التقييم الموضوعي لثورة تموز 1958) صفحة: 120 - 121. يستعرض الأستاذ محمد حسين النجفي جملة من الآراء والأفكار التي سادت تاريخ ثورة 14-7-1958 وما قاله المفكرون والسياسيون حول هذه الثورة، إلا أنه ينفرد برؤيته الخاصة ص: 121، حيث يرى أن عبد الكريم قاسم وتنظيم الضباط الأحرار لم يكونوا محددين بـ أيديولوجيا واضحة المعالم، سوى إسقاط الملكية، وتأسيس الجمهورية، على غرار التجربة المصرية، كان معظمهم ذوي اتجاهات ومشاعر مزدوجة، قومية عروبية من جهة، ونهج يساري علماني من جهة أخرى. لذلك انقسم الضباط الأحرار والشارع العراقي في مسألة الوحدة الفورية مع مصر، وتحولت إلى فرصة للخلاف لا أكثر ولا أقل، وقد استُـغلّت للحشد الجماهيري، وللسيطرة على الحكم من قبل البعثيين، وبناء عليه جرت محاولة عبد السلام عارف، السيطرة على السلطة بعد شهرين من قيام الثورة، أعقبتها حركة رشيد عالي الكيلاني ثم حركة الشواف، بالتنسيق مع المخابرات المصرية، بعد تسعة أشهر من الثورة، ثم أحداث كركوك المروعة بين الأكراد والتركمان، ومحاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم في شارع الرشيد وتمرد البارزاني في شمال العراق، وقضية الكويت والمشكلات مع إيران ومصر والأردن وغيرها، وقانون رقم (80) الذي يسترجع العراق 95% من الأراضي غير المستثمرة من الشركات النفطية، وكان هذا القانون، هو القشة التي قسمت ظهر البعير، والتي أدت إلى اغتيال الثورة وإنجازاتها وزعيمها ورفاقه بضربة واحدة في 8-2-1963،  ص: 121 - 122.

ثم يستدرك القول بأن نهاية الجمهورية الأولى بهذا الشكل المأساوي، تقع على عاتق زعيمها بالدرجة الأولى، وعلى القوى القومية التي سعت إلى السلطة بشكل دموي بالدرجة الثانية، وغيرها من الأمور، هي التي وأدت الثورة. ص: 122. ولذلك يستخلص المؤلف بعض الدروس والعبر مما مر به العراق، والقوى السياسية يطغي عليها بنظرة تشاؤمية بشكل عام.  صفحة: 12.

خلاصة القول

إن كتاب المناضل الصغير، هو الورم التاريخي في قلوب العراقيين الذين ما زالوا يأنـّون من قساوة الزمن التاريخي للبعث في العراق، وقد استطاعت ريشة الكاتب محمد حسين النجفي أن تنقل هذه الآلام بصدق طفولي لا يعرف الزيغ أو التلون تحت تأثير أي أيديولوجيا، لذلك كتبها بسليقة الوجدان الصادق، متتبعا وغـزاة الضمير، لمن قاسوا هذه المأساة المؤلمة مع حكم البعث الفاشي، ولذلك أراد الكاتب في المناضل الصغير أن يبقي إسقاطاته أو إسقاطات الواقع كما هي عليه في مطلع ستينات القرن المنصرم، وسطّرها بعفوية الذكرى لحداثة السِن دون قسرٍ أيديولوجي، بحيث إنه جعل الوقائع هي التي تتكلم وتعبّر وتحكي المأساة التاريخية لجيل مقهور، عاش كل تلك المأساة، وتحدث بها بصدق، جعل من التاريخ شاهدها الأبرز.

موضوعات المناضل الصغير، جعلها المؤلف محمد حسين النجفي أن تُساير وعي طفولته بكل تناقضاتها. حتى دون أن يخضعها إلى رؤية منهجية تخضع إلى مساراتها الزمنية، بل جعلها تساير وعي أقرانه الذين عايشوا تلك المِحَن والمأساة، ولذلك صنف كتابه هذا بـ (من أدب السيرة، لذكريات مؤلمة من أيام الزمن الجميل) فجعل الأحداث تروى بلسان أبطالهـا الصغار أولا، كي تسير وفق إدراكهم وتحديدهم لمجريات الأحداث وفق استيعابهم المرحلي، ومن هنا نفهم أن عمق الجرح وآلام مرحلة الستينات التي شاهدها العراق كانت غائرة في الروح، ورماد مأساتها، يتحرّك كلما جاء ذكر البعث، أو ذكر اسم شباط الأسود.

ومن هنا ندرك كثرة الرجوع إلى مأساة 8 شباط 1963. فهي تلح بحضورها في لاوعي الكاتب، وتتكرر بقوة بين فكرة وأخرى. كان يناقشها الكاتب ضمن هذه السيرة، هذا أولا، وثانيا كان الكاتب موفـّقا إلى غاية بعيدة، عندما كتب المناضل الصغير ليخص به تلك الأجيال المتعاقبة التي لم تدرك مأساة البعث في ردة شباط الأسود عام 1963. أراد أن يخاطب فئة الشباب والمراهقين أكثر من غيرهم، بغية أن يدركوا مقدار الألم والندوب التي خلفتها تلك الأحداث. ولذا خصّ إهدائه إلى: من له رأي في الحياة، وضحى في سبيل ما يؤمن به، إلى المناضل المجهول الذي عُذّب وصرخ، ولم ينحني، إلى من استشهد في سبيل قضيته، ولا نعرف له اسم أو صورة أو قصة تتحدث بها الأجيال، كما قال في صفحة: 6.

من هذه الزاوية الواضحة في الإهداء. ندرك مدى حرص الكاتب وصدقه على تدوين تلك الذكريات بعقلية طالب الإعدادية المراهق الذي يملك الحس الوطني في مرحلة مهمة من تاريخ العراق السياسي.

المناضل الصغير، وثيقة سياسية اجتماعية هامة، حملت نبض جيلٍ عاش مأساة، سحبت خلفها مأساة، هو ما زال يعيش في لجة الأحداث التي خلفتها تلك المرحلة.

المناضل الصغير: جدير بالقراءة، لأنه صوت الحارات الشعبية التي ما زالت صورها تتكرر في مخيال الذاكرة.

***

كتبه الدكتور خير الله سعيد في أوتاوا، 10-8-2023.

عن المركز الدولي لدراسة النزاعات غير العنيفة  صدر كتاب "حركات المقاومة المدنية ضد تغير المناخ"*. وشارك في تحريره نخبة من أساتذة علم الاجتماع والتحليل النفسي وهم روبين غوليفر وكيلي فيلدنغ ووينيفريد لويس. يبدأ الكتاب بمتابعة الإجراءات الراديكالية التي ظهرت منذ عام 2015 للتحذير من تغير المناخ. ثم يذكرنا بحركات سابقة تفاوتت بالتأثير والإمكانيات، ونشطت بين 1990-1999 للتنويه بتراجع منسوب المياه والغطاء الأخضر وخسارة التنوع البيولوجي وانقراض بعض الأنواع. وقد واكبت هذا الحراك أعمال فنية وأدبية تدخل إما في سياق الخيال العلمي أو الدايستوبيا (المدينة الفاسدة)، ومنها رواية "الطريق" لكورماك مكارثي و"أنا روبوت" لإسحاق عظيموف وغيرها. ولكن بدأت الرؤية في الأعمال الأدبية من النتائج، في حين بدأت حركات الاحتجاج من الأسباب وطرق الحد منها إن تعسر منعها. ففي أستراليا ونيوزيلاندا تناولت هذه الجماعات تأثير مشروعات الإنتاج العملاقة، ولكن في إنكلترا وألمانيا أدانت أثر الحروب وإنتاج المعدات العسكرية وما لها من نتائج على التوازن البيئي. في حين أنها حذرت في أمريكا من مشكلة التمييز العرقي والتفاوت في الحقوق المدنية. وهكذا يمكن تصنيف هذه النشاطات في ثلاث محاور: الأول طبيعي، والثاني إنتاجي، والثالث اجتماعي. ولا يمكن أن أرى السبب لهذه الفروقات وبالأخص أن ظروف أستراليا وأمريكا متشابهة. فهما كما ورد في دراسة لكريس ألباني: مجتمع بدأ من أعداد غفيرة من المهاجرين، وانتهى بأعداد غفيرة من اللاجئين. ولذلك تتداخل فيه الذاكرة العرقية مع ظروف الواقع الوطني. وكما ترى غوليفر وباقي فريق الدراسة إن هذا لا يمنع أننا نشترك جميعا بمواجهة نفس الخطر، ولذلك انضوت كل الحركات تحت مسمى واحد هو "حركة المناخ". ويشترط على هذه الحركة  ما يلي:

1- توفير هوية واحدة لجميع الأعضاء.

2- الانتماء لشبكة عريضة من المنظمات والهيئات الرسمية.

3- العمل الطوعي من أجل موضوع مشترك.

وتفهم غوليفر وفريقها أن العمل في خدمة المناخ هو بشكل أساسي حركة مقاومة مدنية تضم عدة تيارات وحركات تتعاون لتعبئة المجتمع ومنظماته من أجل تعديل أو حماية القوانين الخاصة، وللتأثير في السياسات وفي أصحاب النفوذ، وفي تركيب وبنية الدولة بما يضمن سلامة ورخاء المناخ. ومن الواضح أن النشاط المدني غير أساليب التعبير الفنية. ففي الأدب يكون التركيز على شخصية واحدة ذات رؤية ملحمية تساعد على تعميق إحساسنا بما ينتظر كوكبنا من كوارث. في حين أن جماعات المناخ تعمل على تجزيء الظواهر والأسباب تمهيدا لتوفير الحل المناسب. وتقسم غوليفر وفريقها الحلول إلى أساليب تقليدية وراديكالية. الأول يشمل نشاط المؤسسات لفرض تبدل اجتماعي وسياسي عن طريق جماعات الضغط وحملات التوعية الشعبية. والثاني يعتمد على أفعال تتحرك بمعزل عن المؤسسة مثل المقاومة المدنية والاحتجاجات واسعة النطاق كالمظاهرات والإضراب والمقاطعة على أن لا تتسبب بالعنف ولا تهدد سلامة المجتمع. وتضيف فيرونيك دودو الباحثة في المناخ شرطا آخر: وهو التحذير الاستباقي من عدو غير ظاهر وكامن.  وتتفرع الأساليب الراديكالية بدورها إلى ثلاث محاور هي:

-الاحتجاج والحوار بطرق سلمية ومنها الاجتماعات الجماهيرية والخطابات. 

- النشاط الاجتماعي والاقتصادي والسياسي مثل إضراب العمال وإغلاق الأسواق المركزية.

- وأخيرا الاحتجاج بطريقة الحرب الباردة كالإضراب عن الطعام والامتناع عن الحركة في البيوت وأماكن العمل.

ولكن مع التقدم غير المسبوق للتكنولوجيا والاتكال عليها في أداء الواجبات البشرية كان لا بد من توسيع قاعدة نشاطات المعارضة بحيث تشمل أساليب إضافية منها الأسلوب النفسي مثل كسر سرية نشاط المؤسسات والشركات (تحت مسمى الشفافية) لتوسيع الوعي بالمخاطر المتوقعة على المناخ. ويدخل في هذا المجال التوعية بخطر مركبات الكبريت المستعملة في إنتاج الحرير الصناعي (الرايون أو حرير الفقراء). فهو إلى جانب أنه منافس اقتصاديا يهدد جودة المياه السطحية ويزيد من تلوث الهواء وقد يتسبب بانفجارات وحرائق.

ويضيف بير الباحث في قضايا المناخ أسلوبا رابعا وهو الامتناع بالتشجيع. ويقصد به الحد من ممارسة نشاط عام عن طريق تقديم جوائز ومكافآت للمجتمع وليس عن طريق تطبيق عقوبة على الشركة ما دامت تعمل تحت مظلة  القانون.

ولكن منذ البداية يجب التمييز بين النشاط الهادف لإصلاح أو سلامة البيئة، والنشاط المعارض لتبدل المناخ. وإذا غلب على الأول هموم سياسية وإدارية فقد كان للثاني طابع اجتماعي. ولاحظت غوليفر وفريقها ثلاث آليات اجتماعية هي: المنعطف الحاسم (2007)، وثورة المناخ (2015)، والعلاج السياسي (وهو أقدم هذه الآليات، ويمكننا استبعاده لشموليته وعدم تخصصه بقضايا المناخ والبيئة، فقد تابع النشاط السياسي والاجتماعي وأثر كل منهما على مصير هذه الحركات، ولم يتدخل في مسائل البيئة مباشرة). 

تحدد جوانا مايس أهداف وطرق المنعطف الحاسم بثلاث معايير هي على التوالي: اتخاذ إجراءات تهدف لإبطاء تخريب البيئة. ورفع درجة الوعي بين الأفراد. والعمل على إنتاج أنظمة جديدة تقود لوعي مختلف يساعد في ابتكار حياة صديقة للبيئة، واتباع أساليب الاقتصاد المستدام، وبالنتيجة بناء مجتمع الحياة المستدامة. ومن الأمثلة على ذلك إقامة الضواحي البيئية (أحياء يُمنع اقتراب مصادر التلوث منها كالسيارات والمصانع).

أما ثورة المناخ فقد رأى بريشير أنها اهتمت بإجراءات تتحدى سلطة الدولة والشركات التي تتجاهل المناخ. وعملت على اتباع سياسات ونشاطات تحض على تبديل النظام الذي يرعى علاقات تضر المناخ، ولم تكن تكتفي بتغيير سلوك الأفراد فقط. بتعبير آخر منحت الأولوية لإقامة نظام أو بنية يحد من انبعاث الكربون، ويشجع الدولة على إصدار تشريعات تتكفل بهذا الهدف.

ولا يوجد شيء يرعب غوليفر وفريقها مثل تدهور المناخ في أستراليا. وتضرب عدة أمثلة على ذلك منها جفاف الألفية الثالثة بين 2001-2009 والذي تسبب بضرر فادح للنظام البيئي.  فقد ترتب عليه انخفاض منسوب الأنهار وتراجع الإنتاج الزراعي، بالإضافة إلى كارثة حرائق الغابات ولا سيما في موسم صيف 2009 وموسم 2019-2020. وقاد ذلك لاندلاع حروب المناخ بين الأحزاب المتنافسة على الحكم في أستراليا. ونجم عن هذا الصراع وعي بيئي أخذ عدة أشكال تطبيقية مثل إقامة المدن الصغيرة الانتقالية (التي تمهد للاستغناء عن مصادر التلوث بالتدريج)، والاهتمام بما يسمى "العدالة المناخية". ويعني توفير الحماية وحق التصحيح لمن هم عرضة لأكبر قدر من الضرر، مع إيلاء فئة الأعمار الصغيرة اهتماما مناسبا يضمن لهم حياة عادلة ومتساوية مع الآخرين.

وتنبه غوليفر بعدة فصول متتالية، وردت في آخر الكتاب، لسياسة الأذن الصماء التي تتبعها الحكومات مع حركات الاحتجاج وبالأخص في أستراليا. وتذكر أن الشرطة اعتقلت 536 ناشطا خلال 3 سنوات. وهو الرقم العلني الذي اعترفت به وسائل الدعاية والإعلام بين عام 2016 - 2019. وكانت التهم تتراوح بين انتهاك حرمة الأملاك الخاصة وتحريض الشرطة على استعمال صلاحياتها الدستورية.  ومع ذلك لم تنخفض نسبة نشاط هذه الحركات وربما زادت حدته. ويعود ذلك لسببين أساسيين: الأول زيادة عدد الجماعات الصغيرة المنادية بحماية المناخ، والثاني انتماء غالبية الناشطين لفئات ضعيفة التمويل في المجتمع. بمعنى أن وراء الاحتجاج عوامل إضافية تزيد من مشاعر السخط والضغينة. ولذلك أخذت الاحتجاجات السلمية عدة اتجاهات لعرقلة عجلة الحياة العامة ولشل قوة العمل في الشركات والسوق.

وتبنت حركات الاحتجاج عدة أساليب منها التحالف وتنسيق الجهود، وساعدها ذلك على تحمل وامتصاص سياسة القمع التي تتبعها الحكومة. بالإضافة إلى تنويع أشكال وتكتيك المقاومة وتحسين درجة الوعي ووضوح الأساليب.

ولكن للأسف تبدو هذه القراءة منحازة تماما وبعيدة عن الواقع الدولي. فهي لا تقدم لنا أي معلومات عن النفايات النووية. أين تذهب، وما هي الدول المسؤولة عنها. ولا تزيد من معلوماتنا عن التجارب النووية والمسؤولية الأخلاقية المترتبة عليها. مع أن باسكوت تونكاك خبير السموم في الأمم المتحدة نبه لمخاطر هذه التجارب على البيئة في كلمة ألقاها عام 2020. كما أن غوليفر وفريقها لم يعنوا بسياسة التمييز النووي التي تتبعها الدول القوية ضد الضعيفة، ولا سيما أنها تجري التفجيرات في مناطق بعيدة عن حدودها.  وبذلك تضيف لملفها التخريبي انتهاكات جديدة بدأت بسياسة عرقية في الداخل وانتهت بنهج احتلال عسكري في الخارج. وإذا انضمت للنادي النووي مؤخرا بعض الدول النامية فهذا لا يعني أنها تعمل دون وصاية أو معونة من قوة أكبر لديها الإمكانيات والخبرات مثل أمريكا التي تساعد الإمارات العربية في برنامجها النووي السلمي، والصين التي تساعد إيران. ولا ضرورة للتذكير أن من فتح طريق هذا السباق هو الترسانة النووية التي تحتفظ بها إسرائيل.  فحسب إحصائيات "معهد استوكهولم لأبحاث السلام" لدى إسرائيل 80 سلاحا نوويا بينها 50 رأسا حربيا جاهزا للتحميل على صواريخ أريحا 2 متوسطة المدى. بينما يقدر "جاينز إنتيليجينس ريفيو" أنها تمتلك ما يعادل 400 سلاحا نوويا.

ولا أعتقد أن البيانات التي تقدمها الأمم المتحدة صحيحة. وبالنظر لجدول الانبعاثات لا تستطيع أن تجد أي منطق في الأرقام المدونة. فالولايات المتحدة تتصدره بـ 22%، بينما لا تزيد روسيا على نسبة 5.6%. وكلاهما دولة منتجة ومخزنة للنفط، ولديهما برنامج نووي متطور. بينما تتساوى بهذا الخصوص كل من سوريا وإسرائيل بنسبة تبلغ  0.3%. في حين أن أندونيسيا تتساوى مع فرنسا برقم تلوث يبلغ 1.4% . وإذا اتفقنا أن هذا الرقم يراهن على استخدام النفط ومشتقاته فقط لا أفهم كيف تتساوى دورة الإنتاج والاستهلاك بين الطرفين، ولا سيما أن فرنسا أكبر منتج للطاقة النووية، وهي أقل الدول إنتاجا للكربون، في حين تحتل أندونيسيا المرتبة 15 في استهلاك الطاقة، وتعتمد على الفحم المحلي والنفط المستورد.  وبالمثل لا يمكن مقارنة سوريا مع إسرائيل. فهي بالمرتبة 24 في إنتاج النفط، وتستهلك النسبة الأكبر منه بالتدريبات العسكرية والآليات الحكومية الثقيلة. ببنما لدى اسرائيل برنامج إنتاج عسكري وصناعي متطور وتحتل المرتبة 16 في تقرير التنافس العالمي، وتستثمر 90% من منازلها الطاقة الشمسية.  وتنتج بالأساليب النظيفة 8% من الكهرباء اللازمة للتدفئة والإنتاج. كما أنها من البلدان التي وضعت المركبات الكهربائية قيد الاستعمال. ناهيك أنها تقدم خبراتها بهذا المجال لكل من أستراليا والدانمارك.

ولا أرى لماذا اعتمد فريق الكتاب على معيار واحد وهو الاحتباس الحراري وتناسى عدة معايير مسببة له، ومنها ظاهرة التشرد في المدن الميتروبولية مثل واشنطن. فقد بلغ عدد المحرومين من المأوى في منطقة وسط العاصمة فقط حوالي 8944 متشردا، بينما ارتفع الرقم في كل المدينة مع الضواحي إلى 25 ألفا.  أما موسكو فقد بلغ عدد المتشردين فيها 75 ألفا. ولا شك أن أساليب التدفئة البدائية كحرق الورق وأكوام النفايات والحطب وبقية المواد الجافة سيضيف المزيد من الألم والأوجاع للمناخ وسيضاعف من سحب الدخان الأسود التي تغطي السماء. وهذه مشكلة لا يمكن الانتهاء منها قبل حل مشكلة التشرد أولا.

وأغفل فريق الكتاب أيضا كل ما يتعلق بالأمطار الحامضية المسؤولة بشكل مباشر عن التعرية وتسمم المياه الجوفية وتراجع الغطاء الأخضر. ولذلك لن يكون لأرقام الانبعاثات أي معنى إن لم يتم مقارنتها بمعايير مكملة كالرطوبة الجوية ومعدل الأمطار ومواعيدها. وأن تتساوى السعودية بكمية الدخان مع بولندا (كلاهما يراوح عند الرقم 1.1%) لا يعني شيئا ما لم نعرف نسبة الهطول. فقد بلغ حسب معلومات قسم المناخ والتأقلم في الاتحاد الأوربي:  103 ملم في السعودية مقابل 500-800 ملم في بولندا.

ولم تنبه  غوليفر وفريقها لتأثير النزاع على مناطق النفوذ بين المعسكرين الشرقي والغربي، وحتى على اقتسام المناطق الاستراتيجية بين أعضاء النادي الغربي. فاحتدام المعركة بين أكبر ثلاث دوائر حضارية في الغرب وهي الجرمانية واللاتينية والأنغلو ساكسونية لا يساعد على نشر وعي بيئي في مساحات واسعة من إفريقيا وآسيا إن لم يتسبب بتدمير الموارد الطبيعية أو تخفيض درجة صلاحيتها للاستعمال البشري. وآخر مثال هو تدمير سد نوفا كافوخكا في خيرسون المتنازع عليها بين الروس وأوكرانيا.  وحتى لو اتفقنا مع غوليفر وفريقها أن النجاح حالف أصدقاء المناخ في القطاع التجاري والسوق أولا (بلغت نسبة النجاح 31%) مقابل 28% في المجال السياسي، وفقط 17% بين الأفراد، فهذا لا يوضح نوع المهن المستهدفة، وهل شملت تجارة الأسلحة أم الصناعات الكيميائية كالمطاط والبولي بروبلين وغيرها من المواد الكربونية التي تستعصي على إعادة التدوير. ويمكن أن نوجه نفس السؤال للقطاع السياسي، هل شملت البرامج العسكرية النووية أم فقط التشريعات العامة التي تسنها الحكومة ويصادق عليها البرلمان. وهي بالعادة لا تعدو أن تلاحق مشاكل الغابات والوقود الأحفوري، بينما يجري التكتم على المواضيع الحساسة باعتبار أنها سرية وتمس الأمن القومي. وكانت سفيتلانا أليكسييفتش قد تكلمت عن مثل هذه الموضوعات في روايتها "صلاة شيرنوبل"، وفيها تناولت بطريقة المونولوج وتيار الوعي وتكنيك الأصوات ما لحق بالغطاء النباتي والحياة الحيوانية من كوارث وذلك في غضون 14 يوما بعد تسرب الإشعاع. وإذا تحدثت هذه الشهادة لألكسييفتش عن الخطأ الذي لا يمكن إصلاحه، فقد أشارت لنكسة لا يمكن أن نعمى عنها في رواية "فتيان الزنك" وهي عن حروب أفغانستان. وكأن ألكسييفتش أرادت أن تعيد كتابة رواية تولستوي "الحرب والسلم" بطريقتها الخاصة لتكشف أخطاء تاريخية بحق الجغرافيا المحايدة والبريئة. وفي هذه الشهادة توجه الاتهام لكل أشكال الإدارة، سواء العسكرتاريا أو الجهاز البيروقراطي. وتضع أخطاء الحياة المدنية إلى جانب الأخطاء الأمنية التي تهدد وجود ومصير أي أمة، ويمكن أن تقول إنها تحلت بالشجاعة وأدانت المعسكر الذي تنتمي إليه. ومثلها فعلت أرونداتي روي مؤلفة "الدليل العادي إلى الإمبراطورية" وفضحت إفراغ الخزان الاجتماعي والعاطفي للهند التاريخية. فقد رأت أن السياسيين يطاردون خيالا أو وهما وهو القوة المتأتية من امتلاك أسلحة دمار شامل. وكما ذكرت في كتابها: ساهمت هذه الأسلحة في تدمير المناخ المحلي، وحرمان المواطن من حقه بالطبيعة وثرواتها، وضعت الهند أمام مرآة مصدوعة.  وننتظر من غوليفر وفريقها أن يتحلوا بنفس الجرأة والصراحة، ويقدموا لنا تقريرا مكملا يكشف عن أخطاء الغرب في سياسة التوسع وحل المشاكل الدولية بالقوة وما يتسبب به كل ذلك من تضحية بالبيئة وتدمير للهويات الوطنية الناشئة.

***

صالح الرزوق – أديب، ناقد ومترجم

................

* شارك في إعداد المونوغراف روبين غوليفر، كيلي س. فيلدنغ، ووينيفريد ر. لويس. وصدر ضمن منشورات المركز الدولي لدراسات النزاعات غير العنيفة في واشنطن. 2021 / 109 ص.

الكاتب العراقي الدكتور زهير ياسين شليبه يقدم دراسات جديدة عن الناقد الروسي ميخائيل باختين

- عن الناقد الروسي الكبير ميخائيل باختين صدر للدكتور زهير شليبه كتابه "ميخائيل باختين ودراسات أخرى عن الرواية". وتكمن أهمية هذا الكتاب كونه يتضمن دراسات رائدة عن هذا الناقد الكبير الذي يعتبر علماً رائداً عن أعلام النقد الأدبي الروسي، فضلاً عن احتواء الكتاب على الكثير من أفكار وأطروحات ومقولات باختين النقدية الأساسية، وهو ما كانت تفتقر إليه الدراسات النقدية التي تناولت عطاءات هذا الناقد الكبير.

في مقدمة الكتاب يقدم المؤلف نبذة عن حياة ميخائيل باختين المولود في عام 1895م والمتوفي في عام 1975 أصدر باختين في عام 1929 كتابه الشهير – قضايا إبداع دوستويفسكي – الذي جلب له شهرة كبيرة في أنحاء العالم كافة.

ثم دافع في موسكو عام 1940 عن أطروحته الموسومة – رابليه في تاريخ الواقعية – في معهد الأدب العالمي التابع لأكاديمية العلوم السوفيتية، إضافة إلى عشرات الأبحاث النقدية المبتكرة.

يقول باختين في بحثه "مسألة المضمون والشكل في الإبداع": "إن المقال الحالي محاولة لتحليل أهم مفاهيم نظرية الأدب ومسائلها تحليلاً منهجياً على أساس نظام على الجمال العام. وإن ما يهمنا في الدرجة لاأولى هو القيمة النظامية لأهم المفاهيم والمقولات النقدية".

ويعرض المؤلف لأهم مصطلحات باختين مثل (هرونوتوب) الذي يعرفه باختين بأنه (العلاقة المتبادلة بين المكان والزمان).

ويشرح المؤلف هذا المصطلح بقوله: "إن الهرنوتوب يحدد الوحدة الفنية للعمل الأدبي في علاقته مع الواقع. ولهذا فإنه يتضمن المقطع القيم الذي يمكن أن ينتقى من كل الهرونوتوب الفني في التحليل التجريدي فقط.

ترتبط كل التحديدات الزمنية المكانية في الفن والأدب ببعض وتصبغ بصبغة عاطفية قيمة، وإن التفكير التجريدي يستطيع أن يرى الزمان والمكان منفصلين عن بعضهما. إلا أن العمل الفني الحيوي لا يفصل شيئاً ولا يتجرد من أي شيء. وهو يحيط بالهرونوتوب بتكامله كله وتمامه الفني.

ويتناول الدكتور زهير ياسين شليبه دراسة باختين (الملحمة والرواية) بالشرح والتحليل والتفصيل ويخلص إلى أن باختين قد ميز الرواية عن سائر الأنواع الأدبية الأخرى بثلاث سمات هي : (1- تعدد أساليب الرواية المرتبطة بالوعي المتعدد المتنوع اللغات والمتحقق في الرواية. 2- التغيير الجذري في احداثيات الزمان للشخصية الأدبية في الرواية. 3- منطقة جديدة لبناء الشخصية الأدبية في الرواية مرتبطة إلى أقصى حد بالواقع المعاصر في عدم تكامله)

وتعتبر دراسة باختين (رابليه وغوغول) من أهم الدراسات النقدية المقارنة المبكرة : (بين الكتاب الرابع – رحلة بانتغرويول – للأول، وقصة – الأرواح الميتة – لغوغول حيث يلمس باختين طابعاً مشتركاً تتسم به القصتان ألا وهو طابع الهزل).

ويستشهد الدكتور زهير ياسين شليبه في دراساته عن فكر باختين بالكثير من آرائه.

يقول باختين في كتابه (جمالية الإبداع الكلامي) الذي صدر بعد وفاته: (لا وجود لبطل الفن في الحياة والعكس صحيح. ولا توجد بينهما وحدة وتغلغل داخلي متبادل في وحدة الشخصية وإن وحدة المسؤولية وحدها كفيلة بضمان العلاقة الداخلية لعناصر الشخصية).

وقد تضمن كتاب (جمالية الإبداع الكلامي) الأقسام غير المنشورة من كتاب باختين (قضايا إبداع دوستويفسكي) التي احتوت على آراء باختين عن علاقة دوستويفسكي بالحوار الأفلاطوني والإنجيلي وعن المثال الطوباوي عند أبطال الروائي).

وقد عالج باختين في كتابه عن دوستويفسكي مسألة الموضوع الجمالي والشكل المعماري لرواياته الموجهة نحو قيم الإنسان.

ويرى الدكتور زهير شليبه بأن هذا الكتاب يعد (من أبرز العلامات في النقد العالمي) حول منهجية علم الأدب.

تحت هذا العنوان ترجم الدكتور زهير شليبه مقالاً لباختين يتضمن بعض آراء الأخير في الرواية. يقول باختين عن مسألة البطل والكاتب في الرواية : (لا يمكن للكاتب الحقيقي أن يتحول إلى شخصية فنية لأنه خالق لكل شخصية أدبية ولكل ما هو فني في عمله الأدبي. وكثيراً ما يحاول علماء الأدب البحث عن الكاتب في مقطع معين منتقى من كل المضمون مما يؤدي وبكل بساطة إلى مطابقة البطل بالكاتب الذي هو في الحقيقة إنسان ينتمي إلى زمن معين ويمتلك سيرته الذاتية الخاصة، وله أفكار معينة أيضاً).

ويرى باختين أن إدراك الشخصية وإدراك الشيء يجب وصفهما كحدين : (ترتبط مسائل علم الأدب ونظرية الفن الملموسة بعلاقات متبادلة بين المحيط والمدارك – أنا – والآخرين. وتقترن عملية التوغل في الآخرين بالحفاظ على مكانها الخاص الذي يضمن وجود فيض الوعي. وينطبق هذا الأمر على تصوير الشخصية، الجماعية، الشعب، العصور والتاريخ نفسه، إضافة إلى مداركهم وممثليهم. وتدرس العلوم الإنسانية الوجود المتحدث والتعبيري ولا يتطابق هذا الوجود مع نفسه ولهذا بالذات تبقى أهمية كبيرة للغاية. إن مثل هذا الشيء الذي يفتقر إلى الباطن المناسب وغير المستعمل يمكن أن يكون مادة للاستخدام اليومي فحسب. أما الحد الثاني فيعني الفكرة عن الشخصية في حضورها هي بنفسها، أي التساؤل والحوار. ومن الضروري هنا أن تكشف الشخصية عن نفسها بنفسها).

وحول المحتوى كشكل جديد في الرواية والشكل كتقليد متبع يقول باختين : (يمكن اعتبار الشكل جسراً لابد منه للوصول إلى الجديد، إلى مضمون آخر، لا مثيل له. وكان الشكل معروفاً ومتفقاً عليه من قبل الفكر القديم الجامد، في عصور ما قبل الرأسمالية كأن توجد بين الشكل والمحتوى فترة انتقال تدريجية أقل حدة، ولم يكن الشكل مؤكداً ولا ثابتاً تمام الثبات ولا مضموناً تقليدياً، بل كان الشكل مرتبطاً بنتائج الإبداع الجماعي العام، وعلى صلة وثيقة بالأساطير والتقاليد. كان الشكل مضموناً ذاتياً منطوياً على نفسه، ولهذا فإن المضمون سبق إلى حد ما العمل الأدبي).

وفي القسم الأخير من الكتاب يقدم الدكتور زهير شليبه نصاً مترجماً للناقد بافل غرينتسر حول عصر الرواية.

ولعل جديد الدكتور زهير شليبه الأكثر أهمية هو إضاءته للجوانب المتنوعة للفكر النقدي الباختيني الصعب وجعله قريباً لفهم المتلقي.

***

عرض وتقديم : عيد محمد بركو

وثمة نقطة جديرة بالإشارة يؤكد عليها المؤلف في هذا المبحث، وهي أن للعقيدة أثر لا يمكن تجاهله في مجال الأخلاق، حيث تقدم إلى أتباعها جملة من القيم الأخلاقية، التي تطالبهم بالالتزام بها، وتحذرهم من الإهمال لها، وإذا أخذنا الإسلام مثلا فسوف نلاحظ أن ما دعا إليه من تشريعات، وما أوصى به من وصايا يرتبط بالأخلاق ارتباطا وثيقا، وينطبق هذا – كذلك- على جانب العقيدة فيه، ويمكن القول بأن درجة الالتزام تتناسب مع مكانة العقيدة في نفس المؤمن قوة وضعفا (41) .

وفي نظر المؤلف تتميز الأخلاق المنبثقة من العقيدة بمزايا عديدة من أهمها: أنها ترتكز على قاعدة راسخة من يقظة الضمير، وصحوة الشعور، بحيث تكون الرقابة على الفعل رقابة ذاتية داخلية، وعندئذ يكون الإقبال على الفعل أو الامتناع عنه متفقا مع اتجاه القلب، المحكوم بما تغرسه العقيدة فيه من مراقبة الله الذي يعلم السر والنجوى (42) .

وهكذا يأتي الدين في نظر المؤلف، ليكون كما كان دائما طوق النجاة الذي تبحث عنه البشرية، وهو رحمة الله إليها في كل حين، ولكنها قد تعرض عنه جهلا أو غرورا أو استكبارا، ولكنها ما تلبث أن تحس أنها محتاجة إليه، نتيجة لما تعانيه من حيرة وقلق واغتراب، واحساس بوحشة الوجود وكآبته، فإذا آبت إلى الدين وجدت في رحابه، من نور الوحي، وهدي النبوة، وسكينة الإيمان ما يهديها سواء السبيل، ولقد ظل هذا النور الإلهي المتمثل في الوحي والنبوة يتجدد: عصرا بعد عصر، إلى أن ختمه الله بالإسلام الذي أنزله على رسوله محمد – صلي الله عليه وسلم- وقد أكمل الله – تعالى – به الدين كله، وجعله وارثا لما في الرسالات كلها من الحق والخير والهدى . ومصححا لما ألحقه البشر بها من التغيير والتبديل، ولهذا جعله الله تعالي خاتما ومهيمنا على الكتاب كله (43).

أما المبحث الرابع وهو بعنوان " توحيد الله تعالي"، وهذا المبحث كما يرى المؤلف يعول على أنه إذا كان الإيمان بالله هو جوهر العقيدة ومحورها، فإن هذا الإيمان لا يكون صحيحا مقبولا إلا إذا صحبته عقيدة التوحيد، وهي تعني إثبات الألوهية لله وحده، ونفيها عمن سواه فهو – وحده – الإله الحق، رب كل شيء، ومالك كل شيء، ليس له ند ولا شريك (44)، وأن ما في الكون من سنن ثابتة، وقوانين مطردة، ونظام محكم يدل على وحدانية الإله الخالق لهذا الكون، لأنه لو اشترك في الخلق أكثر من إله لفسد الوجود، لأن من شأن الإله أن يكون تام العلم، نافذ الأمر، مطلق الإرادة، كامل القدرة . فإذا كان كل واحد منهم متصفا بهذه الصفات فلابد من أن تظهر آثارها في الوجود، وعندئذ يقع التنازع والاختلاف الذي يؤدي إلى الفساد، ويتفق هذا مع ما استقر فطرة البشر من أن تعدد الرئاسة للشيء الواحد يؤدي إلى تضارب الآراء واختلاف الأهواء، ومن ثم إلى الفساد والاضطراب، فإذا كان هذا من صفات البشر الذين يتصور انقياد بعضهم لبعض، فيكيف يكون الأمر بالنسبة للألوهية التي تقتضي الكبرياء والعلو والهيمنة والقيومية (45).

وهكذا يكون الإيمان بالتوحيد في نظر المؤلف مستقيما مع دواعي الفطرة التي غرسها الله تعالي في الإنسان عند خلقه له، ويعتقد هذا مع اعتقاد كثير من أصحاب الدراسات الإنسانية والاجتماعية الذين لاحظوا وجود عقيدة التوحيد لدى بعض القبائل البدائية المنعزلة عن الحضارة، وهي قبائل متفرقة في مواطن كثيرة من الأرض كأستراليا وأمريكا، وقد انتهت هذه الدراسات إلى أن الروح الإنسانية إذا كانت قادرة على أن تعرف الله فإنه يجب أن تكون قادرة على إدراك أنه لا يوجد إلا إله واحد، وهذا يؤكد أن الدين الأول الذي اعتنقه الإنسان القديم كان توحيديا وليس تعدديا (46)؛ وعلى الرغم من أن التوحيد هو الموافق للفطرة، فقد انحرفت عنه البشرية في فترات كثيرة من تاريخها، ولذلك كانت المهمة الأولى للأنبياء أن يقاوموا هذا الانحراف، وأن يعودوا بالناس إلى عقيدة التوحيد الخالصة (47).

وهكذا تكررت دعوة القرآن كما يذكر المؤلف إلى هؤلاء المشركين أن يراجعوا عقولهم، وأن يفيقوا من غفلتهم، وان يطيلوا التأمل والنظر في ملكوت السماوات والأرض، وفي أنفسهم، لأنهم سيجدون- عندئذ – أبلغ الدلالات على أنه لا يستحق وصف الربوبية إلا إله واحد هو الله الواحد القهار (48).

وإذا ما انتقلنا إلى المبحث الخامس وهو بعنوان " الإيمان بالوحي والكتب الإلهية"، فكل من أوحي إليه لا يستطيع أن يجادل نفسه هل هذا صدق أو غير صدق، ويحصل له اليقين الجازم الذي لا يقبل الشك، وهو أشد من يقينك بالمرئيات والمسموعات، وأنه يصل إلى بشاشة القلوب، والمسموعات والمرئيات يمكن أن تشكك فيها؛ لأن البصر يتفاوت والسمع يتفاوت، فلذلك كان الوحي أبلغ وسائل العلم (49).

والوحي قول الله فلذلك لابد أن يكون حقاً، وهو مأخوذ من القرآن؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ (يوسف:111)، فلا يمكن أن يختلقه أي واحد (51).

وأشار المؤلف إلى أن الإيمان بخاتمة الوحي على خاتم الأنبياء أساس الإيمان بقضية الوحي الكلية، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم بدعا من الرسل، بل كل واحد في مسيرة إخوانه الأنبياء الأكرمين، قال تعالى: ﴿قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ [الأحقاف:9]. وقال سبحانه: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا* وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ [النساء:163، 164).

والإيمان بالكتب السماوية في نظر المؤلف هو الركن الثالث من أركان الإيمان، والكتب السماوية هي الكتب والصحف التي تحتوي على كلام الله تعالى الذي أنزله على رسله عليهم السلام سواء في ذلك ما ألقاه مكتوباً بيده سبحانه وتعالى كمثل التوراة التي قال تعالى فيها «وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا»، (الأعراف: 145 وما أنزله عن طريق المَلَك وحياً ومشافهة ثم كُتِبَ فيما بعد في الصحف أو القراطيس كمثل القرآن الكريم الذي تمت كتابته في المصاحف في عهد الخليفة أبي بكر رضي الله عنه ، وفي عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه نسخ المصحف سبع نسخ جديدة وزعت على عواصم البلاد الإسلامية ، فقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محفوظ في الصدور وفي السطور(25).  وهذا الركن أصل من أصول العقيدة والدين، فمن أنكر شيئاً مما أنزل الله على رسله منها فقد بطل إيمانه، قال لآخر "، (النساء: 631) (35).

أما المبحث السادس فيدور حول الحوار المسيحي الإسلامي ؛ وتنطلق فكرة الحوار الإسلامي-المسيحي كما يرى المؤلف من أهميته في تبادل الأفكار والمفاهيم على المستويات المحلية والعربية والدولية، وفي أثره الواضح في بناء جسور الثقة بين المتحاورين، وتعميق التفهّم والتفاهم لديهم ومعهم، خاصة في هذا العصر الذي لم يعد باستطاعة أي بلد أو مجتمع في عالمنا - بفضل التقنيات الجديدة في وسائل الاتصال الجماهيري - العيش بمعزل عن التيارات الإقليمية والعالمية. والحوار إحدى الوسائل للتواصل بين هذه التيارات الفكرية والثقافية ومتابعتها. وكانت الغاية مـن هذا الحوار هي تقديم تصـور متكامل عن منظـــومة المثل والقيم والمبادئ والمعاملات في الإسلام، بحيث يتضح - من خلال هذا التصور - المشروع الثقافي الإسلامي، وبحيث تتاح الفرصة ليتفاعل ذلك المشروع مع الخطاب الحضاري العالمي ويؤثر فيه، بفضل ما له من أصالة وقدرة على النمو والتطور والعطاء، وبذلك يسهم هذا الحوار في تقديم الصورة الصحيحة عن الإسلام (54).

وفي رأي المؤلف إلي أنه لطالما اتّسمت العلاقات بين المسلمين والمسيحيين بالعنف تارة وبالسّلم تارة أخرى مدًّا وجزرًا، وإنّ هذه الصّورة بشقّيها –السّلبي والإيجابي- هي التّشكيلة الأساسيّة لتلك العلاقات، وإنّها لذات مفهوم واسع وشامل ومتشعّب يتقاطع فيه مجموعة كبيرة من الجوانب والمجالات التي تعبّر عن واقع الحياة وملابساتها، وإذا كان الشّقّ السّلبي من هذه العلاقة، مثله ذلك الصّراع المرير الذي دارت رحاه بين الفريقيْن ردْحًا من الزّمن، مُخلّفًا من جرّاء حُروبه آلافًا من القتلى والمشرّدين والمُنكّل بهم، إضافة إلى الخسائر المادّيّة في المُنشآت والمَعالم، وليس ذلك فحسب، بل إنّ الانهزام النّفسي كان الشّعور الأكثر خطورة وحضورًا في نفوس المتضرّرين والمُنهزمين من كلا الجانبين، فإنّ الشّقّ الإيجابي منها مثّله ذلك التّعايش والعيش المُشترك النّاتج عن تجاور المسلمين والمسيحيين، الذي غالبًا ما يؤدّي إلى إحداث حوارٍ فيما بينهما؛ تعبيـــــــرًا عن المودّة والأُلفة والتّسامح والتّعاون؛ لذلك أصبح هذا الحوار منسوبًا إليهما أكثر من غيرهما من الشّعوب والأُمم الأُخرى، فتشكّل من جرّاء ذلك مصطلح "الحوار الإسلامي المسيحي"؛ هذا المصطلح الذي يعبّر عن تلاقي أتباع الدّيانتين سلميًّا على طاولة واحدة أو في واقع الحياة لتقاسمها بحُلوِها ومُرّها بما يُعرف بالحوار العفوي، ولتبادل الأفكار والخبرات، ومعالجة كثير من القضايا؛ جزئيّة كانت أو كلّيّة، داخليّة أو خارجيّة، إقليميّة أو عالميّة، وقد تبلور هذا المُصطلح وصُنع صناعة تدريجيّة على مدار أزيد من أربعة عشر قرنًا، إلى أن أصبح حركة مكتملة في الوقت الحالي، قائمة بذاتها من جميع النّواحي، ومن أجل التّعرّف على مفهوم هذه الحركة ورصد نشأتها وتطوّرها (55).

وأخيرا يؤكد المؤلف على أن الإسلام لا يرفض من حيث المبدأ فكرة الحوار، بل إن الإسلام يفسح صدره منذ البداية للجدال بالتي هي أحسن، كما لا يصح أن ينهض بعبء هذا الحوار إلا من اكتملت فيهم العدة للقيام به، بأن يكونوا من أهل العلم الشامل الدقيق بالإسلام: عقيدة وشريعة وأخلاقا وتاريخا ومقاصد وغايات، وأن يكونوا من أهل العلم بالأديان الأخرى وما جرى حولها من دراسات، على يد المسلمين، أو على يد أصحابها . وينبغي في كل الأحوال ألا يخضع الحوار للمساومة على حساب أصول العقيدة وثوابتها، وأن يكون بعيدا عن مجاملات السياسة وضغوطها . وعلى المتحاورين أن يكونوا على بينة من الأهداف المرجوة من الحوار، وان يشتركوا بعناية في تحديد نقاطه ومسائله، وأن يحسنوا الاستعداد له، كما يفعل ذلك من يقومون بمحاورتهم، وألا يتركوا الأمر للارتجال والمفاجآت . لقد صار الحوار مطلبا إنسانيا عاما، وهو يقتضي أن تتعاون البشرية كلها من أجل تلبيته، تحقيقا لسعادة الإنسان وكرامته وسموه الروحي والأخلاقي، وليس هناك من هو أولى وأجدر بالقيام بذلك ممن نالوا شرف العمل في حقل الإيمان (56) .

أما المبحث السابع والأخير وهو بعنوان " الاستشراق"، وتعد قضية الاستشراق في نظر المؤلف ظاهرة علمية وثقافية غريبة ذات تاريخ طويل، يرجع لدي بعض الدارسين إلي ألف سنة . فهو من حيث الزمان نتاج امتداد زمني قديم، ثم هو من حيث المكان الجغرافي ذو جذور ممتدة في بلاد غريبة كثيرة، بحيث يمكن القول بأن كل الدول الغربية – تقريباً – قد أسهمت فيه وإن تكن بريطانيا وفرنسا ثم أمريكا وألمانيا في العصر الحديث هي صاحبة الجهد الأكبر فيه سواء علي مستوي المحتوي الحضاري والثقافي للشرق الذي اهتم به المستشرقون أو علي مستوي تنوع الجهود العلمية النظرية والعملية التي بذلها هؤلاء لتحقيق غايات متعددة (57).

ثم تتبع المؤلف التطور التاريخي لعلاقة الإسلام بالغرب، وصولاً إلى الاستشراق الحديث. فعلى طول الخط التاريخي كان الاتصال قائماً بين العالَم الإسلامي والغرب. ولقد كان لمناطق حيوية مثل الأندلس وصقلية وبلاد الشام نصيباً أوفر من غيرها في الاتصال بالغرب، فقد كانت بمثابة جسور تواصل ومناطق عبور بين الشرق الإسلامي والغرب الأوروبي. ولقد شكلّت مكتبات الأندلس مكاناً أثيراً لدى الكثيرين من العالم الغربي، إذ أكبّوا على تعلّم العربية وترجمة المؤلفات العربية إلى اللغة اللاتينية. أما صقلية فقد دخلها النورمان وحافظوا على ثقافتها العربية، فصارت نقطة التقاء مع المسلمين (58).

وفي مقاربة لطروحات الكاتب التي تناولت الاستشراق منظوراً إليه من ناحية تاريخية، فقد كلام الكاتب عن الاستشراق والتبشير ليُكمّل الصورة، لناحية أن الاستشراق بدأ أول ما بدأ كإرهاصٍ لبُعد ديني؛ فقد حاول الاستشراق أن يتغلغل في النسيج الإسلامي من خلال ممارسته للتأثير في حقل التربية والتعليم (58).

وبعد ذلك انطلق الكاتب ليكشف عن المستور في علاقة الشرق بالغرب. وقد عمد المؤلف إلى نقل بعض من وجهات نظر لِمَن كتبوا بشكل مسيء عن الإسلام، ولآخرين –تحديداً من البحّاثة الغربيين- ليفندوا بعض الطروحات التي أساءت للإسلام والمسلمين. وقد أتت أول هذه الهجومات على القرآن الكريم بصفته تأليفاً من قبل النبي محمد، وليس وحياً من الله (60).

وبرغم ذلك فلقد تناول المستشرقون التراث العربي والإسلامي كما يرى المؤلف بالكشف والجمع والصون، والتقويم والفهرسة، لكنهم لم يقفوا عند هذا الحد، بل تجاوزه إلي حيث دراسة هذا التراث وتحقيقه ونشره وترجمته والتنظير له والتصنيف فيه (61).

ولم تقف جهود المستشرقين عند حد الطبع والنشر، بل حاولوا كما يرى المؤلف أن يكشفوا معالم الحياة العلمية والعقلية في الإسلام، وأرخوا لها جملة وتفصيلاً، فكتبوا عن العلم والعلماء يشرحون الآراء والمذاهب أو يترجمون للأشخاص والمدارس، وقد يقصرون بحثهم علي بعض الأشخاص والنظريات والألفاظ والمصطلحات (62).

بيد أن حركة الاستشراق هذه بتياراتها المتلاحقة، قد أفرزت أحكاما تجنت فيها علي العرب والمسلمين تجنيا موغلا، وأثمرت تعصبا ليس له مدي، من حيث شاء بعض المستشرقين أن يبخسوا العرب والمسلمين حقهم في السبق والتقدم والابتكار في شتي مجالات العلم العربي، مع أنه – أي المستشرقين – كانوا أولي الناس وأحراهم بالاعتراف بهذا الفضل، وذلك بما صار لهم من صلة وثيقة بهذا التراث فهما وتمثلا واستيعابا في إطار دراساتهم العلمية التحليلية المقارنة (63).

لكن قليل القليل من رجال الاستشراق كانوا أمناء مع أنفسهم ومع الحقيقة والتاريخ، فقالوا بما أملته عليهم ضمائرهم الحية وروحهم العلمية الموضوعية، ومن ثم قرروا لعلماء ولفلاسفة العرب ما هم جديرون به ويستحقونه من فضل وعرفان (64).

5- خلاصة:

لعل كتاب عبد الحميد مدكور يجيب عن عدد من الأسئلة التي تتعلق بالعلاقة الأديان المختلفة انطلاقا من التجربة الإسلامية. وليس من باب المبالغة لو قلنا إن هذا الكتاب يسد ثغرة كبرية في الفكر العربي المعاصر المنفتح على الحضارات الأخرى؛ فقد أوضح المؤلف جملة التطورات التي عرفها الفكر الدين الإسلامي فيما يخص الحوار مع المسيحية والاستشراق، وانتهى بالقول إن التوحيد هو النواة الصلبة للعقائد.

وقد اعتمد الدكتور مدكور على ما يزيد من مئة مرجع ومصدر في غالبيتها عربية وإسلامية، إضافة إلى مجموعة لا يأس بها من المراجع الأجنبية التي دعم بها بحثه مشفوعة بشواهد من القرآن الكريم وكأحاديث نبوية وآراء الصحابة، وهذا ما أكسب الكتاب المنهج البحثي الدقيق والتتبع الموضوعي لحركات تاريخ الأديان.

بقى أن نقول إن الدكتور مدكور يتمتع بروح الباحث المنهجي بأسلوب علمي موضوعي بعيدا عن الانفصال والنظرة الجانبية، والكتاب يعد دراسة تدعو إلى البحث والتقصي وهو إسهام كبير في إظهار صورة الدين الإسلامي، وأثره في حياة الشعوب .

كذلك لا ننسى اعتماد الدكتور مدكور في كتابه هذا أسلوبا بحثيا مشوقا بلغة واضحة وأفكار محددة وجمل موجزة بعيدة عن الحشو والإطالة، ولذا جاء الكتاب خلاصة فكر وعرض توجهات وسردا لمبادئ.

وأختم سياحتي لهذا الكتاب في كلمة كلمة، فأقول إن هذه التساؤلات والإشكالات، إنما هي من جنس العمل الفلسفي للمفكر المبدع عيد الحميد مدكور الذي هو قيمة مضافة حقيقية إلى فكرنا العربي المعاصر .

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة بكلية الآداب - جامعة أسيوط

.............................

الهوامش

41- د. عبد الحميد عبد المنعم مدكور: دراسات في الأديان، المصدر نفسه، ص 77.

42- المصدر نفسه، ص 78.

43- المصدر نفسه، ص 82.

44- المصدر نفسه، ص 84.

45- المصدر نفسه، ص 87.

46- المصدر نفسه، ص 90.

47- المصدر نفسه، ص 92.

48- المصدر نفسه، ص 105.

49- المصدر نفسه، ص 109.

50- المصدر نفسه، ص 53.

51- المصدر نفسه، ص 112.

52- المصدر نفسه، ص 114.

53- المصدر نفسه، ص 115.

54- المصدر نفسه، ص 155.

55- المصدر نفسه، ص 155-177.

56- المصدر نفسه، ص 199-200.

57- المصدر نفسه، ص 205-206.

58- المصدر نفسه، ص 207.

59- المصدر نفسه، ص 208.

60- المصدر نفسه، ص 209.

61- المصدر نفسه، ص 210.

62- المصدر نفسه ونفس الصفحة.

63- المصدر نفسه، ص 211.

64- المصدر نفسه، ص 212.

يناقش هذا الكتاب أعمال الكاتب العراقي الراحل غائب طعمه فرمان، والكتاب في الأصل رسالة حصل بها زهير شليبة- وهو عراقي كذلك – على الدكتوراه من معهد الاستشراق العربي.

ويعود بك هذا الكتاب إلى أجواء الستينات التي انفتح فيها العالم العربي على مختلف الثافات العالمية، وقد أتاح هذا الانفتاح – الذي لم يُسبق ولم يتكرر مرة أخرى بكل أسف – حواراً مثمراً خلاقاً واختلافا في وجهات النظر، فأصبح من حق كل مبدع أن يجهر بما يؤمن به من آراء وأن يدافع عن أفكاره، وخاض كبار النقاد معارك أدبية لا يزال صداها يتردد إلى الآن. لقد كان زمناً عجيباً فتحت فيه النوافذ على كل الاتجاهات، وماج العالم العربي بحركة من النهضة الثقافية لم يسبق لها مثيل.

ولا نحتاج إلى دليل لإثبات ما نقول فقد عشنا هذه التجربة الثرية الفريدة التي لم يبعد بها الزمن كثيراً، ويكفي مثلا في مجال النشاط المسرحي ان تتجول في بعض شوارع القاهرة الجانبية لترى بقايا إعلانات عن مسرحيات كانت تقدم في هذه الفترة، وكانت الساحة تتسع لكاتب مثل براندللو الإيطالي وآرثر ميلر الأمريكي وتشيكوف الروسي.. فضلا عن إعادة عرض مسرحيات يوربيدس وشكسبير، ويذكر أبناء جيلي أن مخرجاً روسياً مرموقاً دُعى إلى مصر ليخرج مسرحية بستان الكرز لتشيكوف، وآخر يونانيا جاء ليخرج أعمال يوربيدس.. كل هذا كان يعرض في القاهرة وفي غيرها من العواصم العربية، إلى جانب عرض المسرحيات المحلية بالطبع.. ومثل هذا وأكثر منه يقال عن الكتب وحركه الترجمة ا لنشطة.

أقول هذا وأنا أقدم ذلك الكتاب عن الفنان العراقي غائب طعمه فرمان إذ أحسست أنني أقرأ كتاباً صدر في القاهرة أو في دمشق عن تلك الفترة المزدهرة ثقافياً في حياة العرب، فالمعارك الأدبية مشتعلة دائماً، والإعراض عن القديم أو المطالبة بتصفيته واختيار الصالح منه هو لغة تلك الأيام، والصدام مع جيل الرواد لا ينتهي.

وحتى قبل أن تعرف أن غائب طعمه فرمان كان يدرس في جامعة ا لقاهرة، وأنه كان يحضر بشكل دائم ندوة نجيب محفوظ في كازينو الأوبرا، وقبل أن تعرف أنه اشترك مع محمود أمين العالم في تقديم مجموعة قصص عربية .. قبل هذا ستحس أنك تستعيد التاريخ القريب للثقافة العربية الواحدة الحية بالنقاش والحوار والاختلاف.

ويبدأ الدكتور شليبة رحلته مع غائب طعمه فرمان منذ البداية فيناقش مجموعاته القصصية ا لأولى  ثم رواياته بعد نضج أدواته الفنية واتساع أفقه وشمول رؤيته كما يبدو واضحاً في الرويات بصورة خاصة.

ورغم ان الكاتب يقول إنه لا يكتب تاريخ فترة الخمسينيات والستينيات، وإنما يناقش أعمال فرمان، إلا أنه يذكر كثيراً من الأحداث التي وقعت في تلك الفترة وكان لها تأثيرها المباشر على الكتاب الشباب- الذين كانوا شبابا في تلك الأيام- ومن هذه الأحداث وقوف الأمة العربية بصلابة أمام الهجمات الاستعمارية الشرسة، ومحاربة الأحلاف التي كانت تهدف إلى تفتيت قوة الشعب العربي، ثم ذلك التقارب الشديد مع الاتحاد السوفيتي ودول الكتلة الشرقية بوجه عام، وقد أدى ذلك إلى ترجمة كثيرة من الأعمال الأدبية للكتاب الروس وعلى رأسهم مكسيم جوركي- الذي تأثر به غائب طعمه فرمان في شبابه كما قال- وأغلب هؤلاء الكتاب يجنحون إلى المباشرة والهتاف والوعظ. لذلك جاءت الأعمال الأولى لفرمان وغيره من كتاب الوطن العربي مفتقرة إلى كثير من الصدق الفني.

وقد ولد فرمان عام 1927 وهو العام نفسه الذي ولد فيه يوسف إدريس، ومن اليسير أن نلاحظ تشابه آرائهما، بل تطابقها أحياناً دون أن ندعى أن احدهما تأثر بالآخر.. لأن فترة الأحلام السعيدة تلك كانت تطرح أفكاراً واحدة، وأبرز هذه الأفكار التفاؤل والتبشير بمستقبل سعيد والاهتمام بالفقراء وغمار الناس الذين سيرثون الأرض.. هكذا نجد مثلا في قصة " بيت الخنافس" لفرمان وهي من مجموعة بعنوان حصيد الرحى التي كتب بعض قصصها في القاهرة وبعضها في العراق، وتحكي القصة أزمة شاب جامعي يسكن في بيت الخنافس هذا ويريد أن يترك حجرته القذرة في هذا البيت ليبحث عن حجرة أخرى مناسبة.. والمشكلة أنه لا يملك نقوداً فلابد أن سيتدين: وهكذا:

"..إستعرضَ -في ذهنه طبعا- جميع معارفه واحداً بعد آخر، وطاف خياله بين أصحابه فرداً فردا، حتى ركن إلى شخص لاح له كأرض خضراء في صحراء حيرته، فتصوره واقفاً بجسمه الغليظ وعمامته القذرة المتهدلة الى أذنيه، والابتسامة البلهاء تكشف عن أسنان سوداء.. فهمس في نفسه بمزيد من الرأفة والابتهاج : عباس.."

وعباس هذا بائع جوال بينه وبين الطالب صداقة صميمة، وهو إنسان بالغ الطيبة رغم عمامته القذرة وأسنانه السوداء.. وقبل أن يفاتحه الشاب برغبته في الاستدانة منه يفاجأ بأن عباس يشكو له أن صاحب البيت الذي يسكن فيه ضربه لأنه لم يسدد الإيجار .. فماذا يفعل الشاب؟ إنه يقدم لعباس الدينار الوحيد الذي كان يملكه .. ويظل مقيماً في بيت الخنافس.

هكذا فعل بطل يوسف إدريس الصغير في قصة "المحفظة" الشهيرة .. إن الولد يريد أن يدخل السينما، وقد اتفق مع أحد اصدقائه على أن يتم ذلك الليلة، ويحاول أن يأخذ النقود من أمه أو أبيه ولكن عبثاً .. ليس معهم نقود .. وهو لا يصدق هذه الأكاذيب خاصة من أبيه، فهل من المعقول أن هذا الرجل الطويل العريض لا يملك نصف جنيه يعطيه له حتى لا يخجل أمام صاحبه؟ ويمتد به السهر حتى ينام من في البيت جميعا، ثم تسيطر عليه فكرة ان يعرف مدى صدق أبيه في أنه لا يملك نقوداً، وبهدوء يستل المحفظة من جيبه ويبعثر ما فيها وإذا كان ما يعثر عليه ورقة مهترئة من فئة القروش العشرة.. ويبدو له أباه رجلا مسكينا ضعيفا، وكان من عادة اخته الصغيرة أن تستيقظ في الليل وتطلب ماء لتشرب، وكان هو يسمعها ويتجاهل صراخها حتى يقوم أبوه فيسقيها. أما في هذه الليلة فقد نهض قبل أن يقوم أبوه وقدم لها الماء.

ولن نسأل من الذي جاءته هذه الفكرة أولا ، ومن الذي جسد ذلك الموقف الانساني في البداية؟ لان تلك الأيم السعيدة كانت تسمح بتلك الاحلام المجنحة وكانت كما قلنا تبشر بالمستقبل السعيد القادم.

ومن غير المقبول ان نحاسب كتاب هذه الفترة حسابا عسيراً بعد ان تكشفت لنا الحقائق، وعرفنا أن هذا كله كان وهماً ؛ فهم ونحن معهم لم نكن ندرك ما سيحدث .. كانت أياماً مليئة بالترقب السعيد والثقة في المستقبل، وفي طول العالم العربي وعرضه تهدر أصوات الزعماء الأبطال. وتموج المدن بالهتافات الثورية. فمن يستطيع أن ينكر هذا ؟

ومع أن المؤلف أعطى غائب طعمه فرمان حقه حين تحدث عن رواياته إلا أنه أخذ يكيل التهم للقصص القصيرة التي كتبها فرمان في مرحلة الشباب وفي الفترة التي نعرفها جميعاً.. فهو يسخر منه قائلاً " ولابد للكاتب ان يزيد عن فداحة الأمر بطريقة مفتعلة وحماسية" أو يقول "لم يستطع القاص ربط احداث قصصه وتطويرها لكي تبدو طبيعية، بسبب تدخله في مجرى الأحداث كما يحلو له وحسب أهوائه ومزاجه السياسي وفهمه للظواهر الاجتماعية.."

وكيف يمكن ان يتم ذلك وقد كنا نعيش في زمن يرى ان مكسيم جوركي بطريقته المباشرة وبوعظه وتدخله لعرقلة الأحداث هو أعظم أدباء العالم؟ لقد احتجنا إلى زمن طويل حتى نرى هذا الكاتب في حجمه الطبيعي وهو حجم صغير.

على كل حال.. أهمية هذا الكتاب الذي لم نوفه حقه أنه يعيدنا إلى الزمن الجميل بقضاياه ومعاركه وأحلامه وأوهامه.

***

عبدالله خيرت - كاتب مصري

..................

* المقال منشور سابقا في مجلة إبداع المصرية، العدد الرابع، نيسان/أبريل 1998 القاهره

4- تحليل مباحث الكتاب:

في مقدمة الكتاب راح عبد الحميد مدكور يجول بنا عبر التاريخ الإنساني للكشف عن العلاقة بين الإنسان والدين من خلال مجموعة من التساؤلات عن الدين الذي جرى إقامة علاقة بينه وبين الإنسان، ومن أمثلة هذه الأسئلة: ما الدين؟ وما صوره؟، وما مقوماته؟ ومتى ظهر؟ وهل هو دين واحد أو أديان؟ وما علاقته بالعلم والفلسفة والأيديولوجيا؟ ثم ما علاقته بالظواهر التي سبقته أو عاصرته في بعض المجتمعات البدائية كالأساطير أو الخرافات أو السحر ونحوها، وما علاقة الدين بالتطور؟، ولماذا وقع فيه كل هذا التنوع والاختلاف؟، وما علاقة الدين بالحضارة؟، وهل هو دافع لها أو معوق لوجودها؟ وما مكانة الدين في ظل بعض الحضارات أو المذاهب والفلسفات التي تتجه وجهة مادية؟ وما مدى قدرة على الاحتفاظ لنفسه إذا قع في قلوب المتذبذبين به، أيا كان هذا الدين، وأيا كانت الحضارات التي يعيش في ظلها، وأيا كان الناس الذين يعارضونه ويقاومونه أو يتمسكون به، إلى آخر ما يمكن أن يثار من أسئلة أو تساؤلات، تكشف – في جملتها ومجموعها عن أهمية الدين – بصفة خاصة – بحيث لا يمكن تجاهله، أو التقليل من أهميته، حتى لو كان موضع اعتراض أو مقاومة (11).

وإذا كانت الأسئلة كثيرة – على هذا النحو – فإن الإجابات قد أسفرت عن انبثاق سبعة مباحث: فجاء المبحث الأول عن تعريف الدين، وفي هذا المبحث حاول المؤلف أن يصور الدين تعريفه على نحو يكشف عن جوهره، ويحدد مقوماته وعناصره وخصائصه بحيث يرتبط ارتباطا وثيقا بنوع الثقافة التي يوجد في ظلها، وبنوع الفكر الذي يعتنقه من يريد التعريف، ثم يرتبط كذلك في نظر الكاتب بالانتماء الديني، وبالظروف الاجتماعية، فالحديث عن الدين الوضعي في نظر الكاتب يختلف – في بعض العناصر المهمة – عن الحديث عن الدين الإلهي أو أديان الوحي، وكذلك الكلام عن الأديان التي شاعت لدى البدائيين يختلف عن الأديان التي صاحبت مستويات متقدمة من الحضارة (12).

ثم قام المؤلف في هذا المبحث بتقديم نماذج من تعريفات الدين التي تتفق أحيانا وتختلف أحيانا في الثقافة العربية الإسلامية (13)، وقد خلص منها إلى أن:" الدين هو الإيمان بذات عليا، يشعر المؤمن نحوها بالتقديس والتعظيم، ويؤدي إلى ما تستحقه من الخضوع والدعاء والخشية والرجاء، وسائر أنواع العبادة، وينتظر منها الجزاء على ذلك (14) .

ثم قام المؤلف بعرض تعريفات الدين في الفكر الغربي، (15)، ويتوصل إلى حقيقة مهمة، حيث يقول:" وهكذا تتعدد التعريفات وتتنوع وتتناقض، وقد يصل بعضها إلى حد التوقف عن تعريف الدين، اكتفاء بدراسته من حيث النشأة لدى البشرية، أو من حيث مظاهر التدين، ويذكر بعضهم لذلك أسبابا منهجية منها: أن التعريف العام للدين لا يكون إلا لا يكون إلا بصفته محاولة تقريرية غير وافية بالغرض، أن الكلمة حمالة أوجه، ولأن أي عرض لما هو ميتافزيقي هو تشويه وزيغ، لأنه لا يتيسر للباحثين الإلمام بتجربة الإنسان الدينية إلا من خلال الطقوس والرموز التي يُعبر بها عن " المقدس" وهى لا تمثل جوهر التجربة الدينية (16).

ثم يستطرد المؤلف فيقول:" وعلى ضوء هذا كله نجدنا بحاجة إلى الوقوف على أرض ثابتة، ونحن نبحث في الدين . وعلينا أن نعود مرة أخرى إلى ما سبق تقريره في كلام الدكتور محمد دراز الذي قال فيه إن الدين الحق هو الإيمان بذات إلهية جديرة بالطاعة والعبادة، وإنه يجمع بين الحالة النفسية، أي الاعتقاد والشعور والتدين والحالة النظرية التي تحدد –من جهة – صفات تلك القوة الألهية، وتحدد – من جهة – جملة القواعد العملية التي ترسم طريق عبادتها (17).

أما الفصل الثاني فهو بعنوان " الدين بين الفطرة والاكتساب "، وفي هذا الفصل يبين لنا الدكتور عبد الحميد مدكور هل الدين فطرة في النفس الإنسانية، وأن الإنسانية ولدت على الدين، والتوجه إلى إله خالق، أو أنها نشأت هكذا نشأة طبيعية ليست لها صلة بالأديان ولا بالوحي ولا بالألوهية، ثم اجتهدت في أن تكتسب هذه الصفة التي تليق بالإنسان بوصفه كائن متدين وكائنا أخلاقيا (18) .

وهنا يعرض المؤلف الرأيين فيبين الظروف التي تحيط بكل منهما، ثم ينتقل إلى الرأي الذي يراه في اعتقاده صائبا بما يدل عليه من الأدلة الواقعية والتاريخية والعلمية والنفسية التي تزكي وتؤيد هذا الرأي (19) .

وفي نظر الدكتور مدكور في حقيقة الأمر أن هناك رأيين مختلفين، الرأي الذي يقول إن الدين فطرة في النفس الإنسانية، وأن البشر ولدوا على التدين، والإقرار بالألوهية، والاعتراف بالعبودية لهذه الألوهية، وبعض الناس من الاجتماعيين والأنثربولوجيين الذين يدرسون النشِأة الإنسانية بحسب تصورات وتخيلات (20).

ويختار المؤلف الرأي الأول والذي يعضد فكرة الفطرة للنفس الإنسانية، ويدلل على ذلك (21) ؛ أما الفريق الذي يرى أن الإنسان لم يكن متدينا، وأنه ولد ولاة طبيعية ليس فيها معنى الإيمان بالألوهية، فإن بعض هؤلاء يقولون إن الدين لم يكن مغروسا في أعماق النفوس، وأن البشر توصلوا إلى الدين عموما، وأن الدين يلتقى شيئا فشيئا إلى الإيمان بإله واحد بعدة آلهة أولا، ثم بإله واحد بعد أطوار من مراحل امتدت أزمانًا طويلة، ومرت بتجارب عديدة ؛ خاصة أن العلماء قدموا تصورات وتفسيرات حول هذه المسالة، وان المحاولات ارتبطت بثقافة أصحابها وبمعارفهم، وظهرن مذاهب تغوص في أعماق التاريخ والنفوس وتهتم بالجوانب الاجتماعية، لكى تبين لنا كيف نشأت ظاهرة التدين في النفس الإنسانية، وقد استعانوا كذلك بالمشاهدات التي قام بها بعض الرحالة والمستكشفين في العصر الحديث للقبائل البدائية، وحاولوا أن يفهموا نشأة الإنسان القديم، مستعينين بما رأوه من القبائل البدائية، فذهبوا إلى قبائل بدائية في أفريقيا، والولايات المتحدة الأمريكية قبل اكتشافها،و قبل تطورها الحديث الذي وصل بالإنسان إلى بقاع الأرض كلها بما تمتلكه من أدوات وآلات (22).

ثم يبين المؤلف رأى هؤلاء (23)، وأول رأي من القائلين بالتطور يقول بأن الناس بدأوا التدين باعتقادهم في الأرواح، والأرواح بمعنى أنه كان لهم أجداد، وأنهم ينتمون إلى هذه السلالة التي ينتمي إليها الأجداد، وأن أجدادهم عاشوا عيشة ما، ثم انتقلوا إلى الحياة الأخرى، وأن أرواح هؤلاء تأتي إلى الناس في مناماتها، وهذا دليل على تلك الصلة التي توجد بين الأرواح وبين هؤلاء الناس، وأن ما يراه البدائي في نومه، إنما هو تعبير عن حياة حقيقية لها كل مقومات الحياة، كأن جده مازال حيا، وأنه يأتي إليه ليتصل بروجه، وهذا يعني إذا رآه في مكان بعيد فكأن الإنسان نفسه ذهب إلى هذا المكان البعيد، وأن هذه الروح التي تأتي إليهم تتميز بالشفافية والقدرة على الحركة،و أنها تملك القدرة على التأثير في حياة الناس بالنفع أو بالضر، ولذلك عبّد البدائي هذه الأرواح، فبدأت العبادة عند اصحاب الرأي كما يرى الكاتب بعبادة الأرواح، وتوجه إليها بطقوس يبتغى بها أن يصرف شرها، لأن الأرواح هي التي تؤثر في حياة الإنسان الحي، وأنه إذا قدم لها قرابين، فسوف تسوق إليه النفع، وأنه إذا أعرض عنها فسوف تعود عليه بالضر، وأن هذه الأرواح تأتي إليه في صور متعددة، وأنه يمكن أن يجلب هذه الأرواح عن طريق السحر وعبادة الأوثان، ولكن الإنسان قليلا قليلا، وشيئا فشيئا تدرج إلى الإيمان بعدد من الآلهة، وانتهى أخيرا إلى التوحيد (24) .

هذا التصور الذي وجد عند الفريق كما يرى المؤلف الذي يقول إن العبودية احساس بالألوهية، والوصول بآلهة، ثم بإله واحد وصل عن طريق هذه الأرواح، وهذا الكلام في نظر المؤلف غير صحيح لأنه قائم على مجرد تصورات ليس لدينا عليها أدلة، والعلم لا يتعرف إلا بالأدلة، ونحن لم نكن مع هؤلاء الذين نشأت عليهم الحياة، وهؤلاء ليس لهم أدني علاقة بآدم ولا غيره، ولكنهم يتصورن بأنهم كائنات وجدت هكذا، ومروا بتجارب وبمراحل من التطور التي وصلت بهم أخيرا من الأرواح إلى الآلهة، ومن الآلهة إلى إله واحد (25).

إذن ليس لدينا أدلة حسب قول المؤلف لأنه لم يكن أحد كما قال الله تعالى في القرآن الكريم " مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا " (الكهف، أية 51)، والتصور لا ينفع في مثل هذا الأمر، لأنه بيننا وبين هؤلاء آلاف وآلاف من السنين، ومن ثم لا نستطيع أن نتصور الحياة التي كان عليها هؤلاء (26).

وهناك من قال أن ظاهرة التدين وجدت في النفس الإنسانية بسبب علاقة الإنسان بالطبيعة، فالإنسان يوجد في كونا كبير فيه كائنات كثيرة وكبيرة، تؤثر في حياته، ولكنه يرى ظواهر كثيرة من الطبيعة الغامضة، والقاسية التي تؤثر في حياته تأثيرا مباشرا، ولا يستطيع مقاومتها، فمثلا الزلازل، فلا أحد يستطيع مثلا أن يقاوم الزلازل، وقد يعرف الآن بعد العلم أنه لا محالة زلزال قادم لا محالة، ولكنه لا يستطيع أن يمنع هذا الزلزال، والزلزال يأتي فيقلب الحياة رأسا على عقب، ويدمر مساكن وتنخسف به قرى ومدن .. إلخ ؛ والبراكين نفس الشيء فالناس تعرف، ولكن لا تستطيع أن تمنع، لأن هذا يمثل ثمرة لظواهر موجودة في باطن تؤدي إلى خروج هذه البراكين الصاعقة والمدمرة، والتي لو تسلطت على بيئة من البيئات فإنها تبيدوها، ولدينا الصواعق الكهربائية، والبرق، والرعد، والفيضانات، والجفاف، والأوبئة، وهذه تمثل ثمرة لوجود كائنات طبيعية قهارة موجودة في الطبيعية، تُشعر الإنسان بالضعف وبالعجز، ولذلك لجأ إلى أشكال من العبادة البسيطة لهذه الظواهر الخارقة، وهي نفس الحكاية حيث يرى أن هذه الظواهر القاهرة الذي لا يستطيع أن يتعامل معها، ثم يتقدم إليها بأنواع من العبادة، حتى يمنع شرها عنه، لأن قوتها قاهرة، كاسحة، ومدمرة،ولذلك عبد البدائيون في أماكن مختلفة من العالم الشمس، والنجوم، والقمر، والرعد، والثعابين، وقدموا قرابين لأحجار وصخور ونباتات، وهكذا ربما عبد البدائيون بعض هذه المظاهر التي كانت تمثل لديهم بشير خير كالشمس على سبيل المثال (27).

وهناك نوع ثالث من التفسير يذكره المؤلف، وهو التفسير الماركسي، والذي يفسر كل شيء بظواهر مادية، ولهذا فالتفسير الماركسي ليس فيه إيمان بإله، وكان أصحابه وفلاسفته يقولون إن الدين أفيون الشعوب، وأنه لا يوجد إله، ولا توجد آخره، ولا يوجد بعث، وحتى النفس كانت تُفسر تفسيرا ماديا، حيث يقولون أن النفس شيء موجود في الجسم، وتعمل كما يعمل القلب في البدن في ضخ الدم، أو المخ في اكتساب المعلومات، أو البصر في النظر، فليس لها وجود حقيقي مستقل، وليست جوهرا روحيا يعلوا على هذا الجسد، وهو الذي يحرك الجسد والأجهزة، ولذلك يرى المؤلف أن الماركسيين لم يصلوا إلى إثبات التدين ولكنهم انتهوا إلى رفض التدين والتخلص حتى من الدين، واللجوء إلى الإلحاد، وهنا كما يرى المؤلف تفسير عجيب الشأن لأنه لا يحل المشكلة،ولكنه يعقد المشكلة، لأن هناك ظواهر تدل على استجابة وعلى تواصل بين الإنسان وهذه القوى الموجودة في الكون (28).

وهناك رأيا آخر يقول عنه المؤلف وهو رأيا نجد فيه بعض الصعوبة، وهو ما يتعلق بأوجست كونت، وهذا رجل فيلسوف من فلاسفة المدرسة الاجتماعية الفرنسية، واتجاه مادي أيضا، ولكنه لا يذكر المسألة على النحو الذي سبقت الإشارة إليه في التفسيرات الثلاثة السابقة، ولكنه يتحدث عن أن الإنسان قد مر بمراحل، وأن العقل الإنسان قد مر بهذه المراحل، وهذه المراحل الثلاثة: حالة لاهوتية، وحالة ميتافيزيقية، وحالة واقعية علمية (29) .

ويخلص المؤلف في هذا المبحث إلى أن الموقف الديني يرتضي الرأي الذي يذهب إلى أصالة الدين في النفس الإنسانية، وأنه ليس طارئا عليها، أو أجنبيا عنها وقد جاء في كلام الله عز وجل ما يعضد ذلك منها قوله:" فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" (الروم الآية 30)، وكان من حديث رسول الله – صلي الله عليه وسلم -:" ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" (30) .

أما المبحث وهو بعنوان " حاجة الإنسان إلى الدين الإلهي"، وفيه يرى الكاتب بأنه إذا كان الإنسان – من وجهة النظر الدينية – كائن متدين، بل إنه شيء كامن فيه، فإن الحاجة إلى العقيدة – إذن – حاجة فطرية أصيلة، تدفع الناس إلى الاستجابة لها دون إحساس بالنفور أو الكراهية، ويظل الأمر على هذا النحو، ما دامت النفس على فطرتها الأصلية التي هي عند المؤمنين أثر من أثار الميثاق الأول الذي أخذه الله تعالي البشرية (31) .

بيد أن الحاجة إلى العقيدة في نظر المؤلف ليست منحصرة في هذا الدافع الفطري وحده، بل إن هناك دوافع وأسبابا أخرى تقدم للإنسان حوافز التدين، بما تقدمه له من خيرات وكمالات تتعلق بحياته وأخلاقه، وخصائصه النفسية وأحواله الاجتماعية، ونهضته الحضارية، بحيث بجد العقل نفسه مدفوعا إلى التدين، إن لم يكن لحكم الطفرة وحدها، فبحكم هذا الخير الذي يتحقق له – فردا أو جماعة – من وراء التدين والاعتقاد الصحيح (32).

ثم يشير المؤلف لبعض هذه الدوافع، فيذكر منها الجانب العلمي وهو الجانب الذي يعول على أنه من الأمور المهمة التي تمنحها العقيدة الصحيحة للإنسان أنها تعطيه تفسيرا لوجوده، ولوجود الكون من حوله، وهو تفسير لا يقع أسيرا للنظرة الجزئية، ولا ينحصر في إطار اللحظة الحاضرة، ولا يقف عند ظواهر الأشياء، وإنما هو تفسير يتسم بالشمول للماضي والمستقبل، للمبدأ والمصير، الظاهر وما وراءه من العلل والأسباب (33).

بيد أن العلم في نظر المؤلف لا يكفي بسبب مفهومه التجريبي عن بداية الوجود، لأنه لم يشهد تلك البداية، ومن ثم فإن تصوراته تمثل نوعا من الاحتمال الذي لا يرقي إلى اليقين (34)، علاوة على ما يتصف به العمل من نسبية، حيث يعد التطور سمة من سماته، وفي هذا التطور تتم مراجعته النتائج والنظريات والأفكار السابقة، كما يتم العدول عما يكشف العلم عن صوره أو خطئه منه (35).

وإذا كان العلم –نتيجة لما سبق – لا يستطيع – وحده – أن يمنح الإنسان ما هو محتاج إليه من يقين وسكينة، ومعرفة محيطة شاملة، فإن الفلسفة ففي نظر المؤلف، ليست أفضل حالا في هذا الشأن، مع جهودها الدائبة لارتياد آفاق ومجالات لا يستطيع العلم – بسبب منهجه – أن يصل إليها، ومنها مجال الميتافيزيقا وهو مجال تسعى الفلسفة منذ قديم إلى دراسته ومعرفته، وقد رفعته بين علومها إلى الدرجة العليا، كما نجد ذلك لدى أفلاطون وأرسطو ومن سار على نهجهما من الفلاسفة قديما وحديثا (36).

ولكن الفلاسفة – على الرغم من هذه الجهود والمحاولات، وعلى الرغم مما وصلت إليه من آراء ونظريات – لا تصلح لكي تكون بديلا عن الدين في نظر المؤلف ؛ ذلك أن الفلسفة – بصفة عامة – لا تخلو – هي نفسها – من تأثير الدين، حتى إنه ليمكن القول بأن الدين هو أصل كل تفكير فلسفي بما في ذلك الفكر الإغريقي، فهو يزوده بمجموعة من الصور،يختار من بينها تمثلا أوليا للكون، وهو يزود الفلسفة بمعنى اللامتناهي، والعدل والظلم، والفاني والخالد، وهذه كلها معان تتجاوز مستوى الملاحظة الوضعية البسيطة (37).

علاوة على أن الفلسفة في نظر المؤلف تتسم بأنها ذات طابع نظري، يبدو فيما يقوم به الفلاسفة من نشاط عقلي في تحديد المشكلات الفلسفية، وبذل الجهود للوصول إلى حلول لها، وقد لا يتمكن الفيلسوف من تحقيق ذلك، بسبب صعوبات المشكلات ـو تعقيدها، ويظل الأمر – في جملته – مقتصرا على هذا النشاط العقلي المجرد الذي لا يلمس الإرادة الإنسانية ولا يحركها، ولذا كانت الفلسفة – في أكثر الأحيان- عاجزة عن التأثير والتغيير للواقع، وهي لا تفعل ذلك إلا إذا تحولت عند أصحابها إلى عقيدة أو أيديولوجيا، أما الدين فإنه قادر على مخاطبة عقل الإنسان ووجدانه، والـتأثير في شعوره وإرادته، ومن ثم فإنه قادر على تغيير فكره وسلوكه . وهذا واضح في الحركات الدينية الكبرى التي استطاعت – على عكس الفلسفة – أن تغير الأفراد، وأن تبدل الجماعات، وأن تنقلها من حال إلى حال (28).

والحال هنا يتمثل في المجال النفسي كما يرى المؤلف، فإذا كانت العقيدة الصحيحة هي التي تقدم للإنسان ذلك التفسير الصحيح الشامل للوجود الكوني والإنساني – كما سبق القول- فإنها تؤثر – كذلك – في النفس تأثيرا عميقا وتهيئتها للتزود بعدد من الخصائص الإيجابية التي تؤثر في نظرتها للحياة، وفي موقعها من الآخرين، وفي سلوكها إزاء ما يعرض لها من أحداث، أو ما يقع لها من ابتلاء، وتتميز النفس المؤمنة – في العادة – أو بحسب ما ينبغي أن يكون – بالسكينة والطمأنينة النفسية . وتبرأ – بسبب إيمانها – من الوقوع في هاوية القلق والحيرة والإحساس بالشقاء . وسر ذلك أن الإيمان بالعقيدة الصحيحة يجعل النفس موصولة بالله تعالي، خالق كل شيء وربه ومالكه المهيمن (39) ؛ وهكذا يستظل المؤمن في حياته بظل العقيدة، التي تجعل قلبه موصولا بالله تعالى، بما يتصف به من علم محيط وإرادة شاملة، وقدر نافذ، ورحمة عامة جامعة، فيحول الإيمان ضعفه إلى قوة، وخوفه إلى أمن، وحيرته إلى سكينة وهدى، ويكتسب من الخصائص النفسية ما يتطابق مع هذه العقيدة التي استقرت في ضميره (40).

وثمة نقطة جديرة بالإشارة يؤكد عليها المؤلف في هذا المبحث، وهي أن للعقيدة أثر لا يمكن تجاهله في مجال الأخلاق، حيث تقدم إلى أتباعها جملة من القيم الأخلاقية، التي تطالبهم بالالتزام بها، وتحذرهم من الإهمال لها، وإذا أخذنا الإسلام مثلا فسوف نلاحظ أن ما دعا إليه من تشريعات، وما أوصى به من وصايا يرتبط بالأخلاق ارتباطا وثيقا، وينطبق هذا – كذلك- على جانب العقيدة فيه، ويمكن القول بأن درجة الالتزام تتناسب مع مكانة العقيدة في نفس المؤمن قوة وضعفا (41) .

وفي نظر المؤلف تتميز الأخلاق المنبثقة من العقيدة بمزايا عديدة من أهمها: أنها ترتكز على قاعدة راسخة من يقظة الضمير، وصحوة الشعور، بحيث تكون الرقابة على الفعل رقابة ذاتية داخلية، وعندئذ يكون الإقبال على الفعل أو الامتناع عنه متفقا مع اتجاه القلب، المحكوم بما تغرسه العقيدة فيه من مراقبة الله الذي يعلم السر والنجوى (42) .

وهكذا يأتي الدين في نظر المؤلف، ليكون كما كان دائما طوق النجاة الذي تبحث عنه البشرية، وهو رحمة الله إليها في كل حين، ولكنها قد تعرض عنه جهلا أو غرورا أو استكبارا، ولكنها ما تلبث أن تحس أنها محتاجة إليه، نتيجة لما تعانيه من حيرة وقلق واغتراب، واحساس بوحشة الوجود وكآبته، فإذا آبت إلى الدين وجدت في رحابه، من نور الوحي، وهدي النبوة، وسكينة الإيمان ما يهديها سواء السبيل، ولقد ظل هذا النور الإلهي المتمثل في الوحي والنبوة يتجدد: عصرا بعد عصر، إلى أن ختمه الله بالإسلام الذي أنزله على رسوله محمد – صلي الله عليه وسلم- وقد أكمل الله – تعالى – به الدين كله، وجعله وارثا لما في الرسالات كلها من الحق والخير والهدى . ومصححا لما ألحقه البشر بها من التغيير والتبديل، ولهذا جعله الله تعالي خاتما ومهيمنا على الكتاب كله (43).

أما المبحث الرابع وهو بعنوان " توحيد الله تعالي"، وهذا المبحث كما يرى المؤلف يعول على أنه إذا كان الإيمان بالله هو جوهر العقيدة ومحورها، فإن هذا الإيمان لا يكون صحيحا مقبولا إلا إذا صحبته عقيدة التوحيد، وهي تعني إثبات الألوهية لله وحده، ونفيها عمن سواه فهو – وحده – الإله الحق، رب كل شيء، ومالك كل شيء، ليس له ند ولا شريك (44)، وأن ما في الكون من سنن ثابتة، وقوانين مطردة، ونظام محكم يدل على وحدانية الإله الخالق لهذا الكون، لأنه لو اشترك في الخلق أكثر من إله لفسد الوجود، لأن من شأن الإله أن يكون تام العلم، نافذ الأمر، مطلق الإرادة، كامل القدرة . فإذا كان كل واحد منهم متصفا بهذه الصفات فلابد من أن تظهر آثارها في الوجود، وعندئذ يقع التنازع والاختلاف الذي يؤدي إلى الفساد، ويتفق هذا مع ما استقر فطرة البشر من أن تعدد الرئاسة للشيء الواحد يؤدي إلى تضارب الآراء واختلاف الأهواء، ومن ثم إلى الفساد والاضطراب، فإذا كان هذا من صفات البشر الذين يتصور انقياد بعضهم لبعض، فيكيف يكون الأمر بالنسبة للألوهية التي تقتضي الكبرياء والعلو والهيمنة والقيومية (45).

وهكذا يكون الإيمان بالتوحيد في نظر المؤلف مستقيما مع دواعي الفطرة التي غرسها الله تعالي في الإنسان عند خلقه له، ويعتقد هذا مع اعتقاد كثير من أصحاب الدراسات الإنسانية والاجتماعية الذين لاحظوا وجود عقيدة التوحيد لدى بعض القبائل البدائية المنعزلة عن الحضارة، وهي قبائل متفرقة في مواطن كثيرة من الأرض كأستراليا وأمريكا، وقد انتهت هذه الدراسات إلى أن الروح الإنسانية إذا كانت قادرة على أن تعرف الله فإنه يجب أن تكون قادرة على إدراك أنه لا يوجد إلا إله واحد، وهذا يؤكد أن الدين الأول الذي اعتنقه الإنسان القديم كان توحيديا وليس تعدديا (46) ؛ وعلى الرغم من أن التوحيد هو الموافق للفطرة، فقد انحرفت عنه البشرية في فترات كثيرة من تاريخها، ولذلك كانت المهمة الأولى للأنبياء أن يقاوموا هذا الانحراف، وأن يعودوا بالناس إلى عقيدة التوحيد الخالصة (47).

وهكذا تكررت دعوة القرآن كما يذكر المؤلف إلى هؤلاء المشركين أن يراجعوا عقولهم، وأن يفيقوا من غفلتهم، وان يطيلوا التأمل والنظر في ملكوت السماوات والأرض، وفي أنفسهم، لأنهم سيجدون- عندئذ – أبلغ الدلالات على أنه لا يستحق وصف الربوبية إلا إله واحد هو الله الواحد القهار (48).

وإذا ما انتقلنا إلى المبحث الخامس وهو بعنوان " الإيمان بالوحي والكتب الإلهية" ، فكل من أوحي إليه لا يستطيع أن يجادل نفسه هل هذا صدق أو غير صدق، ويحصل له اليقين الجازم الذي لا يقبل الشك، وهو أشد من يقينك بالمرئيات والمسموعات، وأنه يصل إلى بشاشة القلوب، والمسموعات والمرئيات يمكن أن تشكك فيها؛ لأن البصر يتفاوت والسمع يتفاوت، فلذلك كان الوحي أبلغ وسائل العلم (49).

والوحي قول الله فلذلك لابد أن يكون حقاً، وهو مأخوذ من القرآن؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ (يوسف:111)، فلا يمكن أن يختلقه أي واحد (51).

وأشار المؤلف إلى أن الإيمان بخاتمة الوحي على خاتم الأنبياء أساس الإيمان بقضية الوحي الكلية، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم بدعا من الرسل، بل كل واحد في مسيرة إخوانه الأنبياء الأكرمين، قال تعالى: ﴿قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ [الأحقاف:9]. وقال سبحانه: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا* وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ [النساء:163، 164).

والإيمان بالكتب السماوية في نظر المؤلف هو الركن الثالث من أركان الإيمان، والكتب السماوية هي الكتب والصحف التي تحتوي على كلام الله تعالى الذي أنزله على رسله عليهم السلام سواء في ذلك ما ألقاه مكتوباً بيده سبحانه وتعالى كمثل التوراة التي قال تعالى فيها «وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا»، (الأعراف: 145 وما أنزله عن طريق المَلَك وحياً ومشافهة ثم كُتِبَ فيما بعد في الصحف أو القراطيس كمثل القرآن الكريم الذي تمت كتابته في المصاحف في عهد الخليفة أبي بكر رضي الله عنه ، وفي عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه نسخ المصحف سبع نسخ جديدة وزعت على عواصم البلاد الإسلامية، فقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محفوظ في الصدور وفي السطور(25).

  وهذا الركن أصل من أصول العقيدة والدين، فمن أنكر شيئاً مما أنزل الله على رسله منها فقد بطل إيمانه، قال تعالى "ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر "، (النساء: 631) (35).

أما المبحث السادس فيدور حول الحوار المسيحي الإسلامي ؛ وتنطلق فكرة الحوار الإسلامي-المسيحي كما يرى المؤلف من أهميته في تبادل الأفكار والمفاهيم على المستويات المحلية والعربية والدولية، وفي أثره الواضح في بناء جسور الثقة بين المتحاورين، وتعميق التفهّم والتفاهم لديهم ومعهم، خاصة في هذا العصر الذي لم يعد باستطاعة أي بلد أو مجتمع في عالمنا - بفضل التقنيات الجديدة في وسائل الاتصال الجماهيري - العيش بمعزل عن التيارات الإقليمية والعالمية. والحوار إحدى الوسائل للتواصل بين هذه التيارات الفكرية والثقافية ومتابعتها. وكانت الغاية مـن هذا الحوار هي تقديم تصـور متكامل عن منظـــومة المثل والقيم والمبادئ والمعاملات في الإسلام، بحيث يتضح - من خلال هذا التصور - المشروع الثقافي الإسلامي، وبحيث تتاح الفرصة ليتفاعل ذلك المشروع مع الخطاب الحضاري العالمي ويؤثر فيه، بفضل ما له من أصالة وقدرة على النمو والتطور والعطاء، وبذلك يسهم هذا الحوار في تقديم الصورة الصحيحة عن الإسلام (54).

وفي رأي المؤلف إلي أنه لطالما اتّسمت العلاقات بين المسلمين والمسيحيين بالعنف تارة وبالسّلم تارة أخرى مدًّا وجزرًا، وإنّ هذه الصّورة بشقّيها –السّلبي والإيجابي- هي التّشكيلة الأساسيّة لتلك العلاقات، وإنّها لذات مفهوم واسع وشامل ومتشعّب يتقاطع فيه مجموعة كبيرة من الجوانب والمجالات التي تعبّر عن واقع الحياة وملابساتها، وإذا كان الشّقّ السّلبي من هذه العلاقة، مثله ذلك الصّراع المرير الذي دارت رحاه بين الفريقيْن ردْحًا من الزّمن، مُخلّفًا من جرّاء حُروبه آلافًا من القتلى والمشرّدين والمُنكّل بهم، إضافة إلى الخسائر المادّيّة في المُنشآت والمَعالم، وليس ذلك فحسب، بل إنّ الانهزام النّفسي كان الشّعور الأكثر خطورة وحضورًا في نفوس المتضرّرين والمُنهزمين من كلا الجانبين، فإنّ الشّقّ الإيجابي منها مثّله ذلك التّعايش والعيش المُشترك النّاتج عن تجاور المسلمين والمسيحيين، الذي غالبًا ما يؤدّي إلى إحداث حوارٍ فيما بينهما؛ تعبيـــــــرًا عن المودّة والأُلفة والتّسامح والتّعاون؛ لذلك أصبح هذا الحوار منسوبًا إليهما أكثر من غيرهما من الشّعوب والأُمم الأُخرى، فتشكّل من جرّاء ذلك مصطلح "الحوار الإسلامي المسيحي"؛ هذا المصطلح الذي يعبّر عن تلاقي أتباع الدّيانتين سلميًّا على طاولة واحدة أو في واقع الحياة لتقاسمها بحُلوِها ومُرّها بما يُعرف بالحوار العفوي، ولتبادل الأفكار والخبرات، ومعالجة كثير من القضايا؛ جزئيّة كانت أو كلّيّة، داخليّة أو خارجيّة، إقليميّة أو عالميّة، وقد تبلور هذا المُصطلح وصُنع صناعة تدريجيّة على مدار أزيد من أربعة عشر قرنًا، إلى أن أصبح حركة مكتملة في الوقت الحالي، قائمة بذاتها من جميع النّواحي، ومن أجل التّعرّف على مفهوم هذه الحركة ورصد نشأتها وتطوّرها (55).

وأخيرا يؤكد المؤلف على أن الإسلام لا يرفض من حيث المبدأ فكرة الحوار، بل إن الإسلام يفسح صدره منذ البداية للجدال بالتي هي أحسن، كما لا يصح أن ينهض بعبء هذا الحوار إلا من اكتملت فيهم العدة للقيام به، بأن يكونوا من أهل العلم الشامل الدقيق بالإسلام: عقيدة وشريعة وأخلاقا وتاريخا ومقاصد وغايات، وأن يكونوا من أهل العلم بالأديان الأخرى وما جرى حولها من دراسات، على يد المسلمين، أو على يد أصحابها . وينبغي في كل الأحوال ألا يخضع الحوار للمساومة على حساب أصول العقيدة وثوابتها، وأن يكون بعيدا عن مجاملات السياسة وضغوطها . وعلى المتحاورين أن يكونوا على بينة من الأهداف المرجوة من الحوار، وان يشتركوا بعناية في تحديد نقاطه ومسائله، وأن يحسنوا الاستعداد له، كما يفعل ذلك من يقومون بمحاورتهم، وألا يتركوا الأمر للارتجال والمفاجآت . لقد صار الحوار مطلبا إنسانيا عاما، وهو يقتضي أن تتعاون البشرية كلها من أجل تلبيته، تحقيقا لسعادة الإنسان وكرامته وسموه الروحي والأخلاقي، وليس هناك من هو أولى وأجدر بالقيام بذلك ممن نالوا شرف العمل في حقل الإيمان (56) .

أما المبحث السابع والأخير وهو بعنوان " الاستشراق" ، وتعد قضية الاستشراق في نظر المؤلف ظاهرة علمية وثقافية غريبة ذات تاريخ طويل، يرجع لدي بعض الدارسين إلي ألف سنة . فهو من حيث الزمان نتاج امتداد زمني قديم، ثم هو من حيث المكان الجغرافي ذو جذور ممتدة في بلاد غريبة كثيرة، بحيث يمكن القول بأن كل الدول الغربية – تقريباً – قد أسهمت فيه وإن تكن بريطانيا وفرنسا ثم أمريكا وألمانيا في العصر الحديث هي صاحبة الجهد الأكبر فيه سواء علي مستوي المحتوي الحضاري والثقافي للشرق الذي اهتم به المستشرقون أو علي مستوي تنوع الجهود العلمية النظرية والعملية التي بذلها هؤلاء لتحقيق غايات متعددة (57).

ثم تتبع المؤلف التطور التاريخي لعلاقة الإسلام بالغرب، وصولاً إلى الاستشراق الحديث. فعلى طول الخط التاريخي كان الاتصال قائماً بين العالَم الإسلامي والغرب. ولقد كان لمناطق حيوية مثل الأندلس وصقلية وبلاد الشام نصيباً أوفر من غيرها في الاتصال بالغرب، فقد كانت بمثابة جسور تواصل ومناطق عبور بين الشرق الإسلامي والغرب الأوروبي. ولقد شكلّت مكتبات الأندلس مكاناً أثيراً لدى الكثيرين من العالم الغربي، إذ أكبّوا على تعلّم العربية وترجمة المؤلفات العربية إلى اللغة اللاتينية. أما صقلية فقد دخلها النورمان وحافظوا على ثقافتها العربية، فصارت نقطة التقاء مع المسلمين (58).

وفي مقاربة لطروحات الكاتب التي تناولت الاستشراق منظوراً إليه من ناحية تاريخية، فقد كلام الكاتب عن الاستشراق والتبشير ليُكمّل الصورة، لناحية أن الاستشراق بدأ أول ما بدأ كإرهاصٍ لبُعد ديني؛ فقد حاول الاستشراق أن يتغلغل في النسيج الإسلامي من خلال ممارسته للتأثير في حقل التربية والتعليم (58).

وبعد ذلك انطلق الكاتب ليكشف عن المستور في علاقة الشرق بالغرب. وقد عمد المؤلف إلى نقل بعض من وجهات نظر لِمَن كتبوا بشكل مسيء عن الإسلام، ولآخرين –تحديداً من البحّاثة الغربيين- ليفندوا بعض الطروحات التي أساءت للإسلام والمسلمين. وقد أتت أول هذه الهجومات على القرآن الكريم بصفته تأليفاً من قبل النبي محمد، وليس وحياً من الله (60).

وبرغم ذلك فلقد تناول المستشرقون التراث العربي والإسلامي كما يرى المؤلف بالكشف والجمع والصون، والتقويم والفهرسة، لكنهم لم يقفوا عند هذا الحد، بل تجاوزه إلي حيث دراسة هذا التراث وتحقيقه ونشره وترجمته والتنظير له والتصنيف فيه (61).

ولم تقف جهود المستشرقين عند حد الطبع والنشر، بل حاولوا كما يرى المؤلف أن يكشفوا معالم الحياة العلمية والعقلية في الإسلام، وأرخوا لها جملة وتفصيلاً، فكتبوا عن العلم والعلماء يشرحون الآراء والمذاهب أو يترجمون للأشخاص والمدارس، وقد يقصرون بحثهم علي بعض الأشخاص والنظريات والألفاظ والمصطلحات (62).

بيد أن حركة الاستشراق هذه بتياراتها المتلاحقة، قد أفرزت أحكاما تجنت فيها علي العرب والمسلمين تجنيا موغلا، وأثمرت تعصبا ليس له مدي، من حيث شاء بعض المستشرقين أن يبخسوا العرب والمسلمين حقهم في السبق والتقدم والابتكار في شتي مجالات العلم العربي، مع أنه – أي المستشرقين – كانوا أولي الناس وأحراهم بالاعتراف بهذا الفضل، وذلك بما صار لهم من صلة وثيقة بهذا التراث فهما وتمثلا واستيعابا في إطار دراساتهم العلمية التحليلية المقارنة (63).

لكن قليل القليل من رجال الاستشراق كانوا أمناء مع أنفسهم ومع الحقيقة والتاريخ، فقالوا بما أملته عليهم ضمائرهم الحية وروحهم العلمية الموضوعية، ومن ثم قرروا لعلماء ولفلاسفة العرب ما هم جديرون به ويستحقونه من فضل وعرفان (64).

5- خلاصة:

لعل كتاب عبد الحميد مدكور يجيب عن عدد من الأسئلة التي تتعلق بالعلاقة الأديان المختلفة انطلاقا من التجربة الإسلامية. وليس من باب المبالغة لو قلنا إن هذا الكتاب يسد ثغرة كبرية في الفكر العربي المعاصر المنفتح على الحضارات الأخرى؛ فقد أوضح المؤلف جملة التطورات التي عرفها الفكر الدين الإسلامي فيما يخص الحوار مع المسيحية والاستشراق، وانتهى بالقول إن التوحيد هو النواة الصلبة للعقائد.

وقد اعتمد الدكتور مدكور على ما يزيد من مئة مرجع ومصدر في غالبيتها عربية وإسلامية، إضافة إلى مجموعة لا يأس بها من المراجع الأجنبية التي دعم بها بحثه مشفوعة بشواهد من القرآن الكريم وكأحاديث نبوية وآراء الصحابة، وهذا ما أكسب الكتاب المنهج البحثي الدقيق والتتبع الموضوعي لحركات تاريخ الأديان.

بقى أن نقول إن الدكتور مدكور يتمتع بروح الباحث المنهجي بأسلوب علمي موضوعي بعيدا عن الانفصال والنظرة الجانبية، والكتاب يعد دراسة تدعو إلى البحث والتقصي وهو إسهام كبير في إظهار صورة الدين الإسلامي، وأثره في حياة الشعوب .

كذلك لا ننسى اعتماد الدكتور مدكور في كتابه هذا أسلوبا بحثيا مشوقا بلغة واضحة وأفكار محددة وجمل موجزة بعيدة عن الحشو والإطالة، ولذا جاء الكتاب خلاصة فكر وعرض توجهات وسردا لمبادئ.

وأختم سياحتي لهذا الكتاب في كلمة كلمة، فأقول إن هذه التساؤلات والإشكالات، إنما هي من جنس العمل الفلسفي للمفكر المبدع عيد الحميد مدكور الذي هو قيمة مضافة حقيقية إلى فكرنا العربي المعاصر .

***

أ. د. محمود محمد علي

...........................

الهوامش

11- د. عبد الحميد عبد المنعم مدكور: دراسات في الأديان، ص 6.

12- المصدر نفسه، ص 20.

13- المصدر نفسه، ص 21-29.

14- المصدر نفسه، ص 28.

15- المصدر نفسه، من ص 28 إلى ص34.

16- المصدر نفسه، ص 34.

17- المصدر نفسه والصفحة نفسها.

18- المصدر نفسه، 35.

19- المصدر نفسه والصفحة نفسها.

20- المصدر نفسه، ص 36.

21- المصدر نفسه والصفحة نفسها.

22- المصدر نفسه، ص 37.

23- المصدر نفسه والصفحة نفسها.

24- المصدر نفسه، ص 38.

25- المصدر نفسه، ص 39.

26- المصدر نفسه والصفحة نفسها.

27- المصدر نفسه، ص 40.

28- المصدر نفسه، ص 41.

29- المصدر نفسه والصفحة نفسها.

30- المصدر نفسه، ص46.

31- المصدر نفسه، ص 51.

32- المصدر نفسه، ص 52.

33- المصدر نفسه والصفحة نفسها.

34- المصدر نفسه، ص 53.

35- المصدر نفسه، ص 54.

36- المصدر نفسه، ص 55.

37- المصدر نفسه، ص 58.

38- المصدر نفسه، ص 60.

39- المصدر نفسه، ص 63.

40- المصدر نفسه، ص 66.

41- المصدر نفسه، ص 77.

42- المصدر نفسه، ص 78.

43- المصدر نفسه، ص 82.

44- المصدر نفسه، ص 84.

45- المصدر نفسه، ص 87.

46- المصدر نفسه، ص 90.

47- المصدر نفسه، ص 92.

48- المصدر نفسه، ص 105.

49- المصدر نفسه، ص 109.

50- المصدر نفسه ، ص 53.

51- المصدر نفسه، ص 112.

52- المصدر نفسه، ص 114.

53- المصدر نفسه، ص 115.

54- المصدر نفسه، ص 155.

55- المصدر نفسه، ص 155-177.

56- المصدر نفسه، ص 199-200.

57- المصدر نفسه، ص 205-206.

58- المصدر نفسه، ص 207.

59- المصدر نفسه، ص 208.

60- المصدر نفسه، ص 209.

61- المصدر نفسه، ص 210.

62- المصدر نفسه ونفس الصفحة.

63- المصدر نفسه، ص 211.

64- المصدر نفسه، ص 212.

وصلتني نسخة من كتاب الأخ والصديق أحمد الناجي الموسوم (الوطن.. ذاكرة لا تغفو) وهو عبارة عن قراءة جميلة ودقيقة ورائعة للباحث الناجي لكتاب السيد عدنان الحسيني (مائة عام من ذاكرة وطن) الجزء الأول. الكتاب عبارة عن كراس من الحجم المتوسط، وقد تضمن (132) صفحة، بعنوانات متعددة، قد سلط الناجي الضوء فيها على الفتاوى التحريمية وعلاقة المرجعية بالسياسة لحقبة القرن العشرين، ومن تلك العنوانات:

- فتوى تحريم التنباك.. الدين أداة لتوجيه الرأي العام.

- الجهاد ذد الاحتلال البريطاني.

- الجمعيات السياسية والدينية في العراق.

- ثورة العشرين.

- التدافع السياسي يفضي إلى تحييد دور المرجعية الدينية.

- المرجعية الدينية تعود إلى الخوض في غمار السياسة.

- فتاوى التكفير.. اهدار دماء الخصوم السياسيين.

- انقلاب 8 شباط الدموي.. ثمرة مُرة لفتاوى التكفير.

- عودة البعث للسلطة وتجليات زيف تحالفه مع المرجعية الدينية.mde

ما اعرفه عن مميزات حوزة النجف عن غيرها من الحوزات الدينية هو نهجها العلمي الاصيل وابتعادها عن الفعل السياسي المباشر، حيث تعتمد على نظرية الأمة الحاكمة وليس المرجعية الحاكمة، فمن تقاليد النجف المعروفة لا يجوز لطالب العلم أن ينتمي لأي حزب سياسي، ولا يجوز له أن يحمل أي افكار فئوية أو قومية أو عنصرية، من أجل تحصينها لكي لا تنقل الصراعات إلى داخل اروقة الحوزة وتؤثر بذلك على الأجواء العلمية في النجف.

لكن بعد اطلاعي على كتاب الصديق العزيز السيد عدنان الحسيني (مائة عام من ذاكرة وطن) بثلاثة أجزاء، الصادر عن مؤسسة الصادق في بابل عام 2022، ذات الطباعة الراقية والاخراج الجميل، وجدته مثابراً بتسليط الضوء على مجريات الأمور الحياتية والسياسية والاجتماعية والدينية في العراق، بتقديم دلائل تاريخية عن العلاقة بين السلطة السياسية والمرجعية، فضلاً عن استخدام الدين في الشأن السياسي بين أواصر المدنس والمقدس، لكن كتاب الباحث أحمد الناجي، وهو يسلط الضوء على الجزء الأول من كتاب السيد الحسيني، بقراءة جديرة بالاهتمام، حيث وضع النقاط على الحروف، مشيداً بالكتاب، وواضعاً ملاحظاته الدقيقة عن الاخفاقات التي وقع بها المؤلف، علماً أن كتاب الأستاذ الناجي فيه بعض الأخطاء المطبعية والإملائية البسيطة، إلا أن الأستاذ الناجي قد اجمل دراسته هذه بحصرها في الاجابة عن خمسة أسئلة (من؟ ماذا؟ متى؟ أين؟ لماذا؟) التي تزداد مهام الباحث بالاستقراء لجوانح التدوين التاريخي، والتوسع في مضان البحث عبر الحفريات التنقيبية التي تغور في أعماق الأزمنة، وقد وجد الناجي المؤلف عدنان الحسيني قد أدرك هذا الجانب، لكن الناجي أكد على أن المؤلف (راح يغالي بلا مبرر، حينما يشير إلى مصادره في المتن والهامش، ربما تحسباً من الظنون التي تنطلق من مصالح ذاتوية تلغي الآخر بتجسيد صرامة المعتقد الديني وهي بعيدة كل البعد عن الدين والقداسة) ص15. فضلاً عن أن المؤلف الحسيني قد عرض في كتابه حيثيات موقف المرجعية الدينية ومواقفهم السياسية على عدة عقود دون السكون جانباً والابتعاد عن التدخل السياسي.

وقد قدم السيد الحسيني في كتابه نبذة عن كافة المراجع الدينية ممن سبقوا الشيرازي وكان لهم دورٌ بارز في التصدي للزعامة الشيعية، كما حرص المؤلف على تقديم لمحة وافية حول مجمل أحداث ثورة العشرين وفتاوى بعض المراجع الدينية وابرز تلك الفتاوى فتوى الشيخ محمد مهدي الخالصي، حيث بدأ باستعراض مجموعة من الآراء التي تناولت أسباب الثورة وتحليلها. كما استعرض المؤلف الحسيني تدهور العلاقة بين الزعيم قاسم والشيوعيين، واطال النظر نحو المرجع الديني الأعلى السيد محسن الحكيم الذي قد بارك لثورة تموز بتاريخ 27 تموز 1958، لكن العلاقة بين الزعيم قاسم ومرجعية الحكيم قد تباينت بين الشد والجذب إلى أن انتهت عند حدود القطيعة ومباركتها لانقلاب 8 شباط 1963، واهدار دماء الشيوعيين بتحريم الانتماء للحزب الشيوعي، وكان للحكيم حسب ما صرح به عبد الرزاق محيي الدين الدور في اسقاط حكومة الزعيم قاسم ومجيء البعث للسلطة (الاعمال الكاملة لعبد الرزاق محيي الدين ج4، ص376). فانتشرت اعراس القتل الجماعي، ويصفها الاستاذ الناجي في ص88 (أصبحت تلاوين تلك الأيام مصبوغة بلون الدم).

فقد سلط السيد الحسيني في كتابه ج1 الضوء بعناية فائقة على بعض الحقائق في تلك الحقبة الزمنية، ومن المراجع الدينية الشيعية والسنية التي استحصل منها على فتاوى جديدة بقتل الشيوعيين بعد حركة حسن سريع 3 تموز 1963 كلٍ من: السيد محسن الحكيم والشيخ محمد مهدي الخالصي والسيد نجم الدين الواعظ والشيخ أمجد الزهاوي والشيخ قاسم القيسي (راجع ص94/95 من كتاب الوطن.. ذاكرة لا تغفو- احمد الناجي). لكن الراوي لم يجرِ الأخذ بها وتنفيذ احكام القتل الكارثية آنذاك بفضل تشاور عبد الغني الراوي مع طه جابر العلواني إمام جامع حسينية الباجه جي بمحلة أبو أقلام في الكرادة الشرقية، الذي اسدى نصيحة إليه، وأشار عليه أن لا يذهب لتنفيذها (انظر: د. رشيد اخيون، فتاوى قتل آلاف السجناء تموز 1963، مقال بجريدة الزمان اللندنية، 4 تموز 2021).

مؤلف الكتاب اجده قد اهتم بكل معلومة صغيرة أو كبيرة وفي تفصيلات الحوادث، حتى أنه سلط الضوء على فتوى التكفير الكاذبة الصادرة من قبل السيد الحكيم تفيد بحرمة مقاتلة الأكراد، كان أول من روج لها ونشر خبراً عنها دون أن تورد نصاً لها هي جريدة التآخي، التي كانت تصدر في العاصمة بغداد، بعددها الصادر بتاريخ 17 حزيران 1965، ويؤكد على أن الحقيقة ما نشر حينها كان تزويراً بقصدية مغرضة. مع العلم أن السيد مهدي الحكيم قد وزع عن طريق وكلاء المرجعية فتوى لا تبيح لأحد قتال الحركة الكردية (ص102 الناجي). مع العلم أن السيد محسن الحكيم رفض اصدار فتوى تدين جرائم الانقلاب البعثي التي تمثلت في ممارسات الحرس القومي من تعذيب واعدامات عام 1963، إلا أن السحر قد انقلب على الساحر بعد انقلاب البعث في 17 تموز 1968 حيث اصدر الانقلابيون قرار بعدم اعفاء طلبة العلوم الدينية من الخدمة العسكرية، واتهام السيد مهدي الحكيم بالتجسس من خلال سلاح الفتاوى الدينية التي سوقت من خلال السيد محمد الحسني البغدادي بالضد من نجل السيد محسن الحكيم التي جاء فيها: هؤلاء جواسيس تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف(ص112 الناجي).

مع هذا نجد الباحث أحمد الناجي في كتابه قد سلط الضوء على اغفال السيد عدنان الحسيني في كتابه (مائة عام من ذاكرة وطن) ما يلي؛ مع العلم أن الكتاب منجز تاريخي ابداعي يحسب للسيد الحسيني كونه كان حيادياً وموضوعياً مستقلاً في آراءه:

- اغفل النظر نحو بعض تداخلات المرجعية الدينية والتحولات الحاصلة في زعامتها، وفي تداخلات مجيء السيد ابو القاسم الخوئي، الذي برز دوره بقوة عقب رحيل السيد محسن الحكيم ص114.

- الفرصة قد فاتت على المؤلف بتبيان العلاقة بين السلطة السياسية والمرجعية الدينية عام؛ وهي موضوعة الكتاب ص117/118.

- عدم الاهتمام بالسياق التاريخي من حيث التسلسل الزمني للأحداث ص121.

- التنقل تارة بين استعمال التاريخ الهجري وتارة أخرى الميلادي ص121.

- هناك بعض الاختلافات بين ثنايا الكتاب في التعابير والاسماء والامكنة ص121

- هناك حالة مكررة لا داعي لها، تنطوي على ذكر المصدر نفسه وبالصفحة نفسها في المتن والهامش.

- اغفل المؤلف عن موقف المرجعية الدينية من قرارات التأميم للشركات الخاصة في 14 تموز 1964 ص106.

- اغفال المؤلف لما يتعلق بالمرجع الديني الايراني السيد الخميني وعلاقته بالمراجع الدينية وخاصة مرجعية الحكيم، فضلاً عن اهمال دور الخميني وموقفه من العلاقات العراقية الايرانية، وموقفه من نكسة حزيران 1967، وموقف الخميني من انقلاب 1968، وموقف الخميني من ترحيل الطلبة الايرانيين المقيمين في العراق عام 1969، وموقف الخميني من حملات التسفير نيسان 1969، وموقف الخميني من بيان 11 آذار 1970، وموقف الخميني من حرب تشرين وما بعدها 1973، وموقف الخميني من اتفاقية الجزائر 1975، وموقف الخميني من الزيارة الاربعينية واحداث خان النص شباط 1977، ص119/120.

مع هذا اشد على يد الأخ السيد عدنان الحسيني على منجزه (مائة عام من ذاكرة وطن)، فضلاً عن القراءة الدقيقة للصديق الباحث أحمد الناجي في كتابه الرائع والجميل والحيادي دون مجاملة (الوطن.. ذاكرة لا تغفو).

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

1- تقديم: عرف الإنسان الدين منذ بدء الحضارة الإنسانية، وهناك دراسات حديثة تقول أنه حتى الأجناس السابقة للإنسان العاقل، عرفت أشكالًا بدائية من الشعائر والممارسات الدينية، لذا فإن دراسة تاريخ الأديان من الدراسات الهامة في دراسة التاريخ القديم ـ لأنها تعكس نمو وتطور المجتمع الإنساني منذ بداياته الأولى، وتضعنا في صورة الأفكار والتصورات والقيم السائدة في كل عصر من العصور.

وتاريخ الأديان متغير ومتطورًا تبعا للكشوفات الآثارية على أنواعها، سواء الحجرية أو الخزفية، أو الوثائق التاريخية، وفي كل فترة تعيد كشوفات جديدة تشكيل التصور الشائع لتاريخ دين من الأديان، بينما الرواية التاريخية الدينية ثابتة لا تخضع لمراجعة أو تعديل، وقدم علم الأديان في السابق على أنها بدائية وغير بدائية، وسماوية ووضعية، لكن علم التاريخ الحديث تجاوز تلك التصنيفات، ونفى صفة البدائية عن الأديان القديمة كونها حملت تراكم تجربة بشرية امتدت لآلاف السنين، والتصنيفات الأكثر قبولا في الأروقة العلمية اليوم أديان أخلاقية، وأديان لا أخلاقية، وأديان ألوهية، وأديان غير ألوهية، وأديان توحيدية وأديان غير توحيدية،  ورغم التباين الواضح والجلي لعلم تاريخ الأديان والرواية التاريخية الدينية، إلا أنه لم يحدث صدام بينهما، فكل منهما يسير في سياق منفصل، لا يؤثر أو بتأثر بالآخر.

وقد حفلت النصوص الدينية بالعديد من الروايات التاريخية التي تتحدث عن ممالك قديمة ازدهرت وأخرى هوت نحو مدارج النسيان، وملوك جابوا الأرض من مشرقها إلى مغربها، ومعارك وصراعات هنا، وهزائم وانتصارات هناك، لتطوف بنا بين ممالك فرعون وسليمان وهامان وبلقيس وذي القرنين، وهي تطرح جملة من المعايير الأخلاقية المراد لها أن تتحقق في الواقع، وما بين الرمزية الدلالية للقصص الديني، والحقيقة العلمية للتأريخ المنهجي القائم على دلائل أركيولوجية، ووثائق وكتابات معاصرة للحدث، ظهر نوع من التباين بين روايتين؛ الأولى مقدسة يطمئن إليها القلب المؤمن، والثانية موثقة يعتمدها العقل العلمي .

ويثير التفاوت بين الرواية الدينية كما جاءت في الكتب المقدسة الثلاثة وبين نظيرتها التاريخية التي يتحدث عنها علماء الآثار ومؤرخو الأحقاب القديمة تساؤلاً مشروعاً لدى كثير من فلاسفة التاريخ وعلماء السياسة، ناهيك عن رجال الدين الذين يرون، ومعهم حق، أن الإيمان الذي يتسلحون به ويصدرون عنه هو إيمان مطلق لا يقبل الانتساب لغيره ولا يحتمل تأويلاً يختلف عن سواه، ولقد عاصرت شخصياً حوارات طويلة حول سؤال محدد عمن هو فرعون موسى؟ بل وازداد البعض شططاً بالقول من هو موسى ذاته؟ هل هو نبي اليهودية؟ أم هو أخناتون أول من بشّر بالتوحيد في مصر القديمة؟ خصوصاً أن الفارق الزمني بين الروايتين لا يزيد على ستين عاماً في ذلك الزمن السحيق (1).

ولعل الذي يثير كل هذه التساؤلات هو الرغبة بتمحيص الرواية التاريخية وتطويعها للمنطوق الديني، بينما يرى آخرون أن الهدف من ذلك هو تطويع النص الديني للحدث التاريخي الملموس وهم يرفعون؛ أي أولئك الذين يدافعون عن الرواية التاريخية، بأن ما ليس له أثر باقٍ لا وجود له ويكون التشكيك في روايته قائماً، فالكعبة المشرفة قائمة، إذاً فكل ما قيل حولها منذ أن بناها إبراهيم وقدسها العرب قبل الإسلام وبعده يظل دائماً ذا مصداقية لأن وجودها حتى اليوم يدل على صدق الحوادث التي ارتبطت بها أو دارت فيها، كما أن حروب الفراعنة وطقوس معابدهم هي شاهد آخر على صدقية الحضارة المصرية القديمة، وهل يخفى على أحد أن اكتشاف مراكب الشمس يدل على فهم المصري القديم لمعنى الإبحار والاختلاط بالأمم الأخرى! وهل لا يعني ذلك أيضاً أن الأهرامات والمعابد وصولًا إلى "حجر رشيد" وفك طلاسمه منذ مئتي عام ألا يُحسب كل ذلك للحضارة الفرعونية ويشير بوضوح إلى أصالة ما رُوي عنها وسلامة ما كتب حولها؟ .أما لماذا أثير هذا الأمر الآن، فهو بسبب ما أشيع أخيراً عن المحاولات الغربية بل والأمريكية تحديدًا لدمج الديانات الإبراهيمية الثلاث في منظومة واحدة تقترب أحياناً من النزعة الماسونية وتبتعد غالباً عن المصلحة المشتركة لأصحاب الديانتين المسيحية والإسلامية (2).

قصدت أن أقدم هذه المقدمة عن " تاريخ الأديان " لأمهد للحديث عن تحليلي للكتاب الشيق الذي بين يدي، وهو كتاب بعنوان " دراسات في الأديان " للدكتور عبد الحميد مدكور (ويقع في (245) صفحة من القطع الكبير)،  وفي رأيي أن هناك نمطان من الأساتذة الجامعيين،نمط تقليدي تتوقف مهارته عند تقليد الآخرين والنقل عنهم وضبط الهوامش، والحرص علي أن يكون النقل أميناً، وكلما كان من مصادر ومراجع أجنبية كان أفضل، وكلما قل فيما يقولون فإن ذلك هو الصواب عينه، ونمط مبدع يسخر قراءته لإبداء الرأي أو للتدليل علي صواب الاجتهاد العقلي الشخصي، وبالطبع فإن النمط الثاني هو الأقرب إلي النمط الفلسفي الحق، فالتفلسف ينتج الإبداع ولا يتوقف عند النقل وإثراء الهوامش .

ولا شك في أن أستاذنا الدكتور " عبد الحميد مدكور " من هؤلاء الذين ينتمون إلي النمط الثاني، فهو صاحب موقف فلسفي ونقدي واضح من كل ما يقرأ ولا يكتب إلا في حول أو في قضايا معاصرة  بغرض بلورة موقف مبدع ومستقل عن كل المواقف ومختلف عن كل الآراء المطروحة حول نفس الموضوع سواء قيل من قبل.

وقد تعلمت من خلال كتابتي في السير الذاتية، أن حياة المفكر مليئة بتفاصيل صغيرة وكبيرة، وعندما أكتبها أجد نفسي مستعبدا أمور كثيرة في حياته، فهي ليست مهمة بالنسبة لي أو لا تهم الناس كما اعتقد، وبالتالي فإن مثلي هنا كمثل النحات الذي ينحت قطعة من حجر، ينحتها كمن يكشف عن سر في منحوتته لاستخراج ما هو مهم بالنسبة لي، ثم أزيل الأجزاء غير المهمة كما أتخيل .

وعندما أتحدث عن الدكتور عبد الحميد مدكور فإنما أتحدث عن اسم ذا جرس موسيقي، له وقعه على الأذن، وعلامة فارقة في تاريخ الفكر العربي الحديث، وباحث لا يباريه فيه مباري، ولا ينازله فيه أحد ؛ وقديماً قال فيلسوف العرب "أبو يعقوب الكندي" (250هـ) عن الفلسفة بأنها هي " علم الأشياء بحقائقها، ويحتاج طالب العلم إلي ستة أشياء حتي يكون فيلسوفاً، فإن نقصت لم يتم: ذهن بارع، عشق لازم، صبر جميل، روح خال، فاتح مُلهم، مدة طويلة (3).

وأحسب أن  عبد الحميد مدكور (مع حفظ الألقاب) قد تحققت له، وفيه هذه الشروط التي فرضها فيلسوف العرب، في دارس الفلسفة وطالبها؛ إذ كان النبوغ هو المقدرة علي تحمل الجهد المستمر، علي حد قول تشارلز ديكنز، فإن بإمكاننا القول إن المفكر المصري" عبد الحميد مدكور " كان واحداً من النابغين المعاصرين الذين أضافوا كثيراً إلي الثقافة الإنسانية، فهو أحد المفكرين المصريين المعاصرين الذين يتمتعون بمواهب لا تنكر، وبطاقة فلسفية حقيقية؛ لقد استطاع أن يفرض علي الجميع، وذلك في أن يكون أحد الأسماء المصرية الهامة واللامعة في فكرنا المعاصر، وأن يسهم بسقط وافر في بناء هذا الصرح، بحيث تكون اللبنات الفكرية والأدبية والسياسية التي يضعها بمثابة الأساس الذي يبنى عليه الكثيرون (سواء من تلاميذه في حلقات الدرس، أو من مشاهديه في الإعلام المرئي) مشاريعهم الفكرية، ورؤاهم الفلسفية في الفكر العربي المعاصر.

2-أهمية الكتاب:

إن البحث الفلسفي في نظر الدكتور "عبد الحميد مدكور " تعبير خالص عن الموقف الفكري المستقل الخالص بالباحث وليس مجرد مجموعة من النقول والشروح والتعليقات المفتعلة . وعلاوة علي ذلك فإن جدية " عبد الحميد مدكور " وأصالته تتكشف عندما يطرح القضايا الفكرية، حيث نجد الغاية من هذا الطرح ليست مجرد تكرار للأفكار، وإنما يسلط الضوء علي أفكار وقصايا بعينها، من أجل أن يكشف عن المجتمعات العربية عموما، والمجتمع المصري خصوصا، وكذلك من أجل أن يستقي القارئ العربي منها مصادر خلاصة من مشكلاته التي تؤرقه وخاصة مشكلة وجوده كإنسان له كرامته الأصلية.

وعبد الحميد مدكور ذلك الباحث الرصين القليل الظهور، بل الذي غالبا ما يقترن ظهوره للجمهور بظهور أحد تحفه من الكتب والدراسات، التي عودنا أن تكون متدثرة بعباءة التاريخ ومكسوة بتحليل فينومينولوجي يستخرج المعنى من بطون الحوادث سواء كانت فكرا وظواهر ينسحب عليها نسيم القداسة، تلك هي ميزة كتب عبد الحميد مدكور التي غالبا ما تسر الباحثين وتحفز القارئين عن الغوص في البدايات، وفي سبيل الاقتراب من هذه البدايات سنحاول في هذه الورقة أن نسيح على أهم كتب عبد الحميد مدكور،  وهو كتابه " دراسات في الأديان ".

والسؤال الذي أود أن أسأله  لأستاذي " عبد الحميد مدكور:  لماذا اختار لكتابه عنوان "دراسات في الأديان "، ولم يختار له اسم “ دراسات في فلسفة الأديان "، أو " مدخل لفلسفة الأديان " أو ” فلسفة الأديان بين المحنة والمنحة، أو " دراسات في فلسفة الأديان في ضوء مستجدات واقعنا المعاصر ".. إلخ.

وهنا يجيبنا عبد الحميد مدكور  ضمن ملاحظة سجلها ضمن تلخيصه للكتاب فقال: إذا كان الدين مصاحبا للبشرية منذ عصورها الأولى، وإذا كان له كل هذه الأهمية، وكل هذا التأثير فإن لنا أن نتوقع أن الدين سيحظى بدراسات كثيرة تتناوله من جوانب كثيرة يختص كل فرع منها بجانب من جوانبه، ثم تتكامل جميعها في إعطاء صورة شاملة للدين (4).

ثم يؤكد قائلا:" وهكذا تتشعب الدراسات، وتتعدد الاتجاهات، ويضاف إليها الكثير المتجدد الذي يدل على تلك الأهمية البالغة للدين، ويصطحب هذا كله بدراسات ترى بعض مدارس البحث في علم الأديان أنها سابقة لها أو مصاحبة لها كالأساطير والسحر والكهانة، ودراسة المؤسسات الدينية العاملة في حقل الأديان بسبب ما لها من جهود في الحفاظ على نشرها والدفاع عنها، والإعلان عن رأي الدين في مسائل التشريع، أو إبداء الرأي في مسائل العلاقة بين الأديان، وما يجد في مجال الحوار أتباع الأديان الذي أصبح يستحوذ على جانب كبير من الاهتمام في السنين الأخيرة، واتجه جزء من هذا الاهتمام إلى التعاون في مجالات الحياة الاجتماعية، أو في مقاومة الألحاد الذي يرفض الأديان جملة، ومن ثم أصبح من الضروري أن يتعاون أهل الأديان على مقاومته، وبذل الجهود لوقف انتشاره، والتقليل من مخاطره، التي تسعى إلى إخراج الأديان من نطاق التأثير في العقل والوجدان والسلوك، على مستوى الأفراد والجماعات " (5) .

ولهذا فالكتاب الذي أمامي، ليس رواية من نسيج الخيال، ولا سرد لأحداث تاريخية في علم الأديان، وإنّما هو عبارة عن مراجعة لمئات المصادر والمراجع، وكذلك البحث بصورة نقدية للدراسات الفلسفية والأبحاث الاكاديمية في محاولة للكشف عن الجوانب الانثولوجية والسيوسيولوجية والسيكولوجية للأديان.

ولهذا قد لا نكون مبالغين عندما نقول مع الكاتب :" إذا كان لنا أن نشير – في إيجاز- إلى علم واحد من علم تاريخ الأديان، فإنه يمكننا القول إننا سنجد أنفسنا أمام عامل فسيح الأرجاء، متعدد الجوانب، فلدينا تاريخ طويل لحضارات عريقة استطلت بديانات كثيرة كالهندوسية والجينية والبوذية في الهند، والكونفوشيوسية والطاوية في الصين، والشامانية في اليابان، ويطلق على هذه الديانات اسم الأديان الوضعية أو الطبيعية التي لا تعود إلى مصدر إلهي، وقد رحلت بعض هذه الأديان كالبوذية مثلا من مواطن نشأتها إلى مواطن أخرى، واكتسبت في تلك المواطن الجديدة عناصر ومظاهر مخالفة لما كان لها من مواطنها الأصلية، بل إنها خضعت في مواطنها الأصلية لأنواع من التجديد والتهذيب الذي أضفى عليها أنواعا من التنظيم، والتقعيد للأصول التي كتبها المتبعون إليها . ويظهر مثل هذه الأديان في حضارات أخرى كالحضارة اليونانية، والحضارة الفارسية، والحضارة المصرية القديمة، وتحتاج هذه الأديان، لمجرد الإلمام بها، ومعرفة شيء عنها إلى جهود كبيرة ودراسات كثيرة يقوم بها أهل الاختصاص في دراسة الأديان (6).

3- أهداف ومنهج الدراسة:

إذا كان كلّ بحث يتحدّد بموضوعه وأغراضه، فإنّ دراسة الدكتور مدكور التي بين أيدينا تسعي إلى التمسك بالحياد والموضوعية، والتخفف من العصبية للمذهب أو الدين، والتخلي عن الرفض أو العداوة للآخر، وما يدين به من دين (7) .

كذلك تكمن روح هذت الكتاب في محاولة تقديم نماذج من الحوار والتسامح بين المسيحية والإسلام، ومن التساكن الذي غلب تجاوز القيم الدينية المتنافرة والمنتمية لشعوب وجماعات إثنية متباينة . ويبين لنا الكاتب هذا الإقبال الكبير على الثقافة واللغة العربيتين من قبل الجامعات غير العربية، التي أتقنت اللغة العربية ولبست اللباس العربي وأقبلت على العلوم والفنون الإسلامية  وكان لهذا نتائجه على النهضة الأوربية الحديثة.

ويقدم الدكتور مدكور دراسا قويا لمت لم يحسن استخلاص الدروس حول الدور الذي لعبته " الفطرة الدينية " في نمو الوازع الديني فيرى الكاتب أن ، فيرى "أن دليل الفطرة، وإن لم يكن عقليا، يأخذ صورة من صور الاستدلال العقلي المتنوعة، كالسبر والتقسيم وقياس الأولى، إلا أن المعرفة الفطرية هي الأصل والأساس للأدلة العقلية .

وهكذا ينتهي بنا الدكتور عبد الحميد مدكور في كتابه الذي بين أيدينا إلى ضرورة الالتزام بما يستلزمه البحث العلمي النزيه الرصين من أخلافيات ينبغي التخلق بها في البحث العملي عموما، وفي الدراسات الإنسانية على وجه الخصوص، وفي الدراسات التي تتعلق بالأديان والمذاهب الاعتقادية على وجه أكثر خصوصية (8) .

ثم يضيف المؤلف الدكتور مدكور إلى ذلك أمر ثان لا يقل أهمية، وهو أمر أجرائي يتمثل في ضرورة الاستناد في عرض العقائد على المصادر المعتمدة عند أصحابها، لا على ما يقول الخصوم عنها، فصاحب الدين أولى أن تكون له الكلمة العليا في تقرير ما يؤمن ويعتقده، وفي تفسير النصوص الدالة على مذهبه، ما دامت تحتكم إلى قواعد البحث العلمي ومتطلباته (9).

ثم إن هناك أمرًا لا يقل أهمية وهو كما يقول الدكتور مدكور:" أن يكون الاعتماد في إثبات العقائد أو في نفيها مستندا إلى وثائق مؤكدة النسبة إلى أصحابها حتى يكون ما فيها حجة لهم أو عليهم، ولا يكفي الاعتماد على الظن في مثل هذه الأسس والأصول التي تقوم عليها الأديان، ثم لا يكفي الاعتماد على وثائق مختلف عليها، ما بين إثبات ونفي، لأن ذلك الاختلاف يتعارض مع اليقين الذي يجب أن يتحقق للمصادر الأصلية التي هي المرجعية العليا في شئون الأديان (10) ... وللحديث بقية..

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة بكلية الآداب - جامعة أسيوط

......................

الهوامش

1- مصطفي الفقي: الرواية التاريخية والرواية الدينية، الاندبندنت عربية، الاثنين 27 سبتمبر 2021 0:00

2- المرجع نفسه.

3-أبو يعقوب الكندي: رسائل الكندي الفلسفية، ترجمة الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة، دار الفكر العربي، القاهرة، 1950، ص 15-16.

4-د. عبد الحميد عبد المنعم مدكور: دراسات في الأديان، المعهد العالي للدراسات الإسلامية، القاهرة،  2006، ص 8.

5-المصدر نفسه، ص 10.

6- المصدر نفسه، ص 11.

7- المصدر نفسه، ص 14.

8- المرجع نفسه، ص 15.

9- المصدر نفسه، ص 16.

10- المصدر نفسه، ص 17.

كان السبب الرئيسي في اصدار كتابي هذا (معايير التفاوض عند الإمام علي بن أبي طالب) هو اطلاعي على كتاب القيادي الفلسطيني د. صائب عريقات (عناصر التفاوض بين علي وروجر فيشر) الصادر عن دار النصر في بيروت، مما ساعد على دراسة عناصر التفاوض لدى الأمريكي روجر فيشر، وما اضاف السيد عريقات من عناصر أخرى؛ لتسليط الضوء على معايير التفاوض للإمام علي بن أبي طالب.

وقد سلطت الضوء على الكتاب من خلال المعايير أو (العناصر) التي اعتمدها الدكتور عريقات في مفاوضات الإمام علي الإثنى عشر، كما جاء في صفحة (26/27) من كتابه، وكان الفصل الثالث من كتابي هو التوسع في المفاهيم الفلسفية والإدارية لكل معيار من تلك المعايير المعتمدة في المفاوضات، فالإمام علي لهُ السبق في تحديد العقد بين السلطات والفرد، ومفهوم الدستور والحريات على أساس الدستور. فقد حدد الإمام معايير المفاوضات التي بلغت اثنى عشر معياراً، وسنبين هذه المعايير في هذا الفصل، ونبين تحديداتها وتعريفاتها. كانت قوة الإمام هي بالتمسك بحقوقه وليس بالتنازل عنها.

فمعايير التفاوض الأثنى عشر التي تتمثل بالمصالح والشرعية والاتصال، والالتزام، والعلاقات، والخيارات، والبدائل، والعلم والمعرفة، والقيادة والمسؤولية، والمتغيرات، والصبر والثبات، والعدل. وإن كانت المقارنة لا تستقيم بين إنسان مهما كان وبين الإمام علي بن أبي طالب، وجدت لزاماً أن أُبين ما كان قد أرسى الإمام على اثنى عشر معياراً في التفاوض مع خصومه ومع الآخرين، ولا ننسى الراحل الدكتور صائب عريقات كبير المفاوضين الفلسطينيين وعضو اللجنة المركزية لحركة فتح، وكتابه الجديد معايير التفاوض بين علي بن أبي طالب وروجر فيشر، فكان كتاباً مهماً لتوضيح معايير التفاوض، وهو الكتاب الريادي في هذا المجال.3585 معايير التفاوض عند الامام علي

بشكل مفصل شرحاً حول آليات تطبيق المعايير أعلاه، وهي معايير مهمة لمكونات المفاوضات كما ارتأيت من خلال متابعتي لمراحل التأريخي الإسلامي وخلال خِلَافَةُ عَلي بنُ أَبِي طَالِب، هي امتدادٌ للخلافة الراشدة عَقِبَ مقتل ثالثِ خُلفاءِ المُسلمين عثمان بن عفان في يوم الجمعة الموافق لـــ 18 من شهر ذي الحجة سنة 35هـ. بايعهُ في اليوم التالي لقتلِ عُثمان كل من بقي من أصحاب الرسول محمد بن عبد الله في المدينة المنورة لإيمانهم بأحقيتهِ في الخلافة. ولم يكن أبو السبطين ليقبل بالخلافة لولا خشيته على الدين وحرصهِ على درء الفتن وتوحيد صفوف المسلمين. انتقل علي إلى الكوفة ونقل عاصمة الخلافة إليها وحكم في حِقبةٍ عُرِفَت بعدم الاستقرار السياسي وبالأحداث والمواقف الصعبة والمعقدة التي احتاجت إلى الحِكمة والدراية الفقهية التي كان هو أهلاً لها. استمرت مدة خلافته خمس سنوات، (من السّنة الخامسة والثّلاثين للهجرة إلى العام الأربعين للهجرة.

البحث في أسس ركائز السلوك التفاوضي لدى الإمام علي نتيجة تجاربه العظيمة عندما دخل الإسلام غلاماً، وكان في مدرسة الرسول محمد، ومستشاراً للخلفاء، ثم أميراً للمؤمنين في ظروف عصيبة، عصفت بالدولة الإسلامية ووحدتها، قد حدد مجموعة من المعايير التفاوضية، وهي اثنى عشر معياراً. وهي معايير لصناعة القرارات وإدارة الأزمة والمفاوضات لدى الإمام، من خلال تطبيقاتها وفقاً لهذه المعايير.

أما عملية التفاوض، فهي عملية يتفاعل فيها طرفان أو أكثر نتيجة لوجود مصالح مشتركة بينهم يتعذر تحقيقها دون الحوار حول الموضوعات المرتبطة بها، وقد يكون ذلك بمناقشة الأهداف والآراء تعبيرياً أو سلوكياً أو حوارياً لتقديم الحجج والأدلة من كل طرف للتوصّل الى اتفاق نهائي يُحقق المصالح المشتركة والتخلص من النزاع.

إذن يُلاحظ أنَّ التفاوض يتسّم بالموقف النزاعي والصراع، والعملية الحركية المستمرة لكل طرف يهدف لمصلحته، والطرفان المتصارعان، والسلوك الطبيعي لدى الفرد أو الجماعة، والحل الأمثل لحل الصراع والتوصل لاتفاقٍ مُرضٍ، وأداة الحوار لحل المشكلات.

أما أُسس عملية التفاوض؛ فمن الضروري وجود طرفين أو أكثر لديهم حاجة حقيقية للتفاعل فيما بينهم لتحقيق ما ينفعهم، منها؛ وجود هدف لدى كل طرف يهتم بتحقيقه من خلال تضحيات الآخر وتفهّمه، ووجود مصالح مشتركة رغم اختلاف وجهات النظر حول قضايا الآخر، وتوفر القدرات لدى كل طرف لإقناع الآخر بتعديل موقفه إذا لزم الأمر، فضلاً عن الاستعداد بتعديل المواقف الأصلية إذا ظهر دليل يؤيد حُجَجْ الطرف الآخر، وتوفر الوعي بأن عملية التفاوض فطرية وليست مكتسبة، وإنما تُنمّى مهاراتها وإن اختلفت الأهداف والأساليب والأدوات.

وعملية التفاوض تعتمد على مبادئ عملية في المفاوضات بين الطرفين، منها: أن يكون المفاوض على استعداد دائم للتفاوض في أي وقت، وألا يتفاوض أبداً دون أن يكون مستعداً، فضلاً عن عدم الاستهانة بالطرف المفاوض معه، وعدم التسرع في اتخاذ القرار، وأن يكسب وقتاً للتفكير، وأن يستمع أكثر مما يتكلم، وعند الكلام لا يقل شيئاً له قيمة خلال التفاوضات التمهيدية. ويجب أن يتحلّى المفاوض بالمظهر الأنيق، والوقور، والمحترم في جميع عمليات التفاوض وفي الجلسات الرسمية كافة، وكثيراً ما يحدث أن يتردّد المفاوض في اتخاذ القرار لأسباب شتى منها: حداثة المفاوض بالعمل: مما يجعله ميالاً لتأجيل القرار الناتج عن التفاوض عسى أن تستجد ظروف قد تعفيه نهائياً من هذا العبء، وعدم كفاءة المفاوض ونقص تدريبه، مما يجعله عاجزاً عن معرفة البدائل أو تقييمها ومعرفة العيوب والمزايا لكل بديل، وعدم وضوح النصوص المنظمة لسلطات التفاوض وحدودها، بما يترتب عليها من الاهتمام عند اتخاذ قرار أو التردد فيه، والخوف من اتخاذ القرار النهائي حتى لا يتحمّل تبعات المسؤولية وحده، فضلاً عن ضيق الوقت اللازم لإتمام التفاوض، فلا يستطيع الإحاطة بالبيانات اللازمة لعملية بدء وإنهاء التفاوض، ومن ثم اتخاذ القرار الإداري المناسب لأنه يصبح غير مدروس بشكل يتيح له تقييم البدائل المطروحة واختيار أنسبها.

أما أهم أركان التفاوض فهي تعتمد على التفاعل والتأثير النفسي والإقناع والحث من خلال تبادل وجهات النظر الهادفة والحوار الفعّال بين طرفين أو أكثر يعانون من تباين الآراء والأهداف والتي تتعلق بقضية أو خلاف أو صراع مسألة معينة ترتبط بها المصالح المشتركة بينهما بفرض التوصل لحل أو اتفاق مقبول ومُرضٍ لجميع الأطراف.

وتتضّح أركان التفاوض من خلال الموقف التفاوضي، فالتفاوض يُعدّ موقفاً ديناميكياً يقوم على الحركة والفعل ورد الفعل ايجاباً وسلباً وتأثراً وتأثيراً، وهو موقف مرن يتطلب قدرات عالية للتكيف السريع والمستمر والمواءمة مع التغيرات المحيطة بالتفاوض وتتمثل معايير الموقف التفاوضي بالترابط؛ بحيث يصبح الموقف التفاوضي كلٍ مترابط وإن كان يسهل الوصول لجزئياته، والتركيب؛ حيث يتركب الموقف التفاوضي من جزئيات يسهل تناولها في اطارها الجزئي ويسهل أيضاً تناولها في اطارها الكلي، وامكانية التمييز؛ أي يمكن التعرّف على الموقف التفاوضي وتمييزه دون غموض أو دون فقد لبعد من أبعاده أو معالمه، والاتساع المكاني والزماني؛ ونقصد بذلك المرحلة التاريخية التي يتم فيها التفاوض والمكان الجغرافي الذي تشمله قضية التفاوض، والتعقيد؛ فالموقف التفاوضي معقد حيث تتفاعل عوامله الداخلية بحيث يتشكل منها الموقف التفاوضي، والغموض: ونقصد به الشك، حيث يُحيط بالموقف التفاوضي ظلال من الشك والغموض النسبي الذي يدفع المفاوض إلى تقليل دائرة عدم التأكّد، والشك دائماً يرتبط بنوايا ودوافع واتجاهات الطرف الآخر.

أما أطراف التفاوض؛ فيتم التفاوض عادة بين طرفين وقد يتسع ليشمل أكثر من طرفين، نظراً لتشابك المصالح وتعارضها بين الأطراف المتفاوضة، ومن هنا فإن أطراف التفاوض يمكن تقسيمها أيضاً إلى أطراف مباشرة وهي التي تجلس وتمارس فعلاً عملية التفاوض، وأطراف غير مباشرة وهي التي تُشكّل قوة ضاغطة لاعتبارات المصلحة أو التي لها علاقة بعملية التفاوض.

أما القضية التفاوضية فلا بد أن يدور التفاوض حول قضية معينة تُمثّل محور العملية التفاوضية وميدانها الذي يدور حوله التفاوض، وقد تكون قضية إنسانية عامة، أو قضية شخصية خاصة، أو اجتماعية، أو سياسية أو تربوية وما إلى ذلك، ومن خلال ذلك يتحدّد الهدف التفاوضي وغرض كل مرحلة من مراحل التفاوض، وكذلك النقاط والمعايير التي يتعيّن تناولها في كل مرحلة والأدوات المستخدمة في ذلك.

ومن المعروف أن أي تفاوض لا يتم بدون هدف أساس يسعى لتحقيقه أو الوصول إليه وتوضع من أجله الخطط والسياسات، وبالتالي في ضوء هذا الهدف يتم قياس مدة تقدّم الجهود التفاوضية في جلسات التفاوض، ويتم تقسيم الهدف التفاوضي العام أو النهائي إلى أهداف مرحلية وفقاً لمدى أهمية كل منها، ومدى اتصالها بتحقيق الهدف الاجمالي أو النهائي. وفي ضوء ما تقدّم نرى أن أي نوع من أنواع التفاوض لابد وأن تتوافر فيه الأركان الآتية: وجود طرفين على الأقل، ووجود قضية أو نزاع حدث بالفعل بين الأطراف المتفاوضة، ولا يُفرض التفاوض وإنما يقنع الأطراف بأنه نابع منهم، والاعتقاد بأن التفاوض هو أفضل الوسائل المتاحة للتوصل لحل مقبول حول مسألة النزاع أو الخلاف، والحوار الهادف بحيث يتم الحث المتبادل على التوصّل لاتفاقات مقبولة ومُرضية للطرفين.

ويمكن إظهار شروط العملية التفاوضية بالقوة التفاوضية، وترتبط بحدود أو حديّ السلطة والتفويض الذي يتم منحه للفرد للتفاوض واطار الحركة المسموح له بالتحرك فيها، وعدم اختراقها فيما يتصل بالموضوع أو القضية المتفاوض بشأنها، ولذلك يجب أن يتمتع المفاوض بمجوعة سمات شخصية. فضلاً عن الحصول على المعلومات التفاوضية، وتلك المعلومات تتيح لفريق التفاوض الاجابة على الأسئلة التالية: من نحن الذين نتفاوض؟ من الطرف الآخر الذي نعتبره خصماً لنا؟ ما البرنامج المقترح قبل وبعد التفاوض للحصول على وثيقة نهائية مضمونة التحقيق؟ ما وسائل الدعم المتاحة والأفراد المدربون للوصول لتلك الأهداف؟ ما الأهداف المرحلية التي ستسير عليها وكيفية استغلالها؟ هل تستطيع أن تُحقق ما نُريده جملةً واحدةً أم على مراحل؟ كيف تستطيع ان تُحقق ما تريده من التفاوض من الطرف الآخر؟ ماذا تُريد من عملية التفاوض من الطرف الآخر أن يُحققه لنا؟

أما ما يخص القدرة التفاوضية، فيجب على الفريق التفاوضي أن يتمتع بمدى براعتهم ومهاراتهم، وتتأتى في عملية الاهتمام بالقدرة التفاوضية على الاختيار الجيد لفريق التفاوض، وتحقيق الانسجام والتوافق والتلاؤم والتكيّف المستمر بين أعضاء فريق التفاوض، وتحفيز وإعداد فريق التفاوض تحفيزاً عالياً، والمتابعة الدقيقة لأداء فريق التفاوض، وعدم الاستهانة بما سيحققونه من عملية التفاوض والاشادة بها.

ويوجد في عملية التفاوض غالباً طرفين لديهما نيّة حقيقية قبل الدخول في التفاوض لتحقيق المصلحة المشتركة والمنفعة المتبادلة وحلّ القضية التي من أجلها سيتفاوضون، وبالتالي يجب أن تكون لديهما قناعة بأن الاتصال المباشر والتفاعل الملائم مع الطرف الآخر هو الوسيلة الفعّالة لتحقيق نتائج مُرضِية، وتوازن المصالح والقوى بين الأطراف المتفاوضة حتى يأخذ التفاوض دوره وتكون نتائجه أكثر استقراراً وتقبلاً وعدالة واحتراماً بين هذه الأطراف، وإذا لم يتحقق هذا التوازن فقد يفقد التفاوض معناه وسيضحى استسلاماً وتسليماً وظلماً لأحد الأطراف الذين لا يملكون القوة اللازمة للتدليل على حقهم وإجبار الآخر على تقبّله.

أما أهم معوقات التفاوض؛ فهناك محظورات يجب أن يتجنبها المفاوض وتظهر في المبالغة في الحديث والاسترسال، واخفاء جوانب الضعف، والأسلوب الصعب والمُعقّد، وعدم الاهتمام بسماع الطرف الآخر، والمُكابرة في الخطأ، وفقدان الأعصاب والتوتّر، والقصور في مهارة التحدث والتفكير المنطقي، وتشويه المعلومات بقصد أو بدون قصد، وسوء العلاقات بين المفاوض وجماعته وبين الأطراف الأخرى.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

في مقاربة للنصوص الادبية للشاعر سعد جاسم ومعرفة دلالاتها وابعادها الجمالية اقف عند تيمته الاساسية في هذه المجموعة هو المرأة الأم، المرأة الوطن والحبيبة  يسعى الشاعر الكشف عن احاسيسه الدفينة ومشاعره الذي انعكس هذا كله على قصائده بكل معاني الانوثة والحب وكل ما يحيط بالمرأة جسدا وروحا والعلاقة القائمة بينهما واتخاذه كرمز يوظفه الشاعر في بناء قصيدته الحداثية..

للمرأة  لها حضور كبير في قصائد الشاعر حتى غدت وجوداً غنياً خصباً بالدلالات والمعاني والخواطر والانفعالات  نراه قد استهل مجموعته بالإهداء الى امه (المرأة الأم) لما لها مكانة في قلبه وروحه:

الاهداء1

الى روح أمي السومرية الخالدة

في قلبي وروحي وذاكرتي الى الابد...

والى جميع العاشقات  والعاشقين

في هذا العالم الذي لايزال محتشداً بالحب والاحاسيس

النبيلة والجميلة، برغم كل الحروب والمجاعات والاوبئة والكوارث الطبيعية .

المرأة الانثى

ان أهم سمة حداثية تبناها الشاعر في مجموعته (قلبي وطن وجسدك غابة) هي تعدد الدلالات فالمرأة مثلا أعلنت حضورها  في هذا الديوان من زوايا ورؤى متعددة، فالحب دون شك اكثر الدوافع في الشعر شيوعاً، يزخر ديوان (قلبي وطن وجسدك غابة) نجده يحلق في سماء الحب بعيدا ونرى تأملاته وذكرياته جلية وواضحة في اغلب نصوصه الشعرية فللمرأة حضور قوي في قصائده فهي مصدر الحياة والالهام ..

يلمس القارئ وبشكل واضح ذكر مفردة الانوثة في عنونة لعدد من قصائده) في مديح الانوثة)، (ثنائية الفحل والانثى)، (انوثة عطر)

اتجهت الكتابة الابداعية وبخاصة في مرحلة ما بعد الحداثة الى التجريب حيث لا ابداع بلا تجريب،نلمس في هذه المجموعة اتجه الشاعر الى التجريب بالموضوع وبرزت في ذلك اتجاهات منها:

- خبرات الحياة الشخصية واهتمامه بالتفاصيل اليومية القيقة وتحويلها الى موضوعة شعرية .

-الخبرات الجسدية أو مفهوم الجسد، معتمدا اللغة المباشرة للجسد "بوصفه شكلا تجريبيا"2

-المفارقة بوصفها الانحراف الدلالي الذي يوظفه الشاعر لكسر الألفة المعتادة ومن ثمة الخروج الى اللامألوف كون شعرية الحداثة تعتمد على التجريب والتجريب هو نوع من انواع التمرد على الاساليب اللغوية .

-الوعي الفكري والانساني الذي تمتع به الشاعر والهم البشري وبتفاعل الذات مع الحس يؤدي الى حصول الموضوع الذي توجده الذات  اتضح جليا في الموضوع الشعري الذي نهجه في مجموعته (قلب وطن وجسدك غابة) واشتغاله على التأثير في الوعي.

نجد الشاعر في مجموعته  في (قلبي وطن وجسدك غابة) يجسد لنا تصور معين لأنثاه  فهو يصور لنا المرأة الانثى بجاذبيتها وانوثتها يتجلى ذلك في مقطع له من قصيدة (حالات غرائبية) ص12

يا لحضورك الكرنفالي

الذي يجعل المساءات ِ

تكتظُّ بالأنوثة والرغبات والعطور

سلاماً لكِ

حيث لا مسافات للرحيلِ

والمنافي والهجرات

وحيث لا غياب افتراضيّ

ولا وجعَ معتق

ولا دموع تذرفينها

على مناديلك القزحية

المرأة العشق(الرمز الصوفي)

اعتمد الشاعر في توظيف ثنائية(الجسد/ الانثى) التي تلعب تلك الثنائية دورها في ابراز هذه الرمزية وتوطيدها فكما معروف ان التجربة الصوفية هي تجربة روحية تبتعد عن المادي الجسدي لذا ان الشاعر لا يتعامل مع الامر كونه جسد وأنثى وانما يتعامل معها في نسق وجودي شامل يقرن الجسد بالأرض، حيث انه يضع الانثى كل عالمه هي الأرض الباذخة بالعذوبة والخصوبة والمطر، يتجلى ذلك في مقطع من قصيدة (سركِ في مراياه) ص8

هو الآن

يسكن روحك

وقلبك البهيّ بين يديك الحانيتين

وفي أراضيك الباذخةِ

بالعذوبةِ والخصوبة والمطر

وهو يغزوك ويحتلك

طفلا وعاشقاً وشاعراً ومجنوناً

وشاعرنا سعد جاسم يؤثث لفضاء الكتابة بـ(الانوثة/ الجسد)  كدالة خاصة تحافظ على جاذبية القصيدة وان الذات الشاعرة تراهن على الانفتاح على العالم والوجود بجسدها، وجعل من الانثى مفتاح يمنح القصيدة طاقة هائلة من الحب والعشق، انها الانثى المالكة لكل شيء يتجلى ذلك في قصيدة (اشراقات عشقية) ص 32  

أخذتني أنثاي

الى مملكتها  القزحية

عاشقا... مسحوراً

وقالت لي :

ادخلها بسلام

يا ضوء روحي

وأميري الرهيف

ادخل مملكتي الشاسعة

ادخلها ..وادخل في

شمّني ... احضنّي

اغمرني.. واحوني

وقلبك  البهيّ الناصع

كما نرى جليا  في مقطع من قصيدة (امرأة تشبه القصيدة) ص16 ان الشاعر يصور" المرأة بوصفها   روح الارض وحقولها وهي الوجود الحي:

كما لو أنّكِ

روح الارض وحقولها

وأنهارها ومباهجها

ومفاتنها المشتهاة

وكما لو أنّكِ

أنت الوجود الحي

وروح الكونِ

في معناه وجوهره

وكما لو أنّكِ

أنت شجرة الحياةِ

التي تشبه هذه القصيدة

فالقصيدة اذا جسد، ولكنه مرسوم بالكلمات، انها انتاج تتداخل فيه الذوات والاجساد .

ثنائية الذكر والانثى

ان التاريخ الادبي قد اخبرنا عن مدى اختزال الجسد الانثوي وتقزيمه، وتفشي بشكل واسع ثقافة الذكورية والتمييز ضد النساء بناء على جنسهن  ونوعهن  وتنبع هذه الامتيازات من الايمان بتفوق  أصيل لجنس على الآخر ومن ثم حقه في السيادة وهو عادة ما يكون الرجل في هذه المجتمعات.. وبالتالي هذا المجتمع ينتج بيئة ومناخا للجرائم مثل التحرش الجنسي والاغتصاب والعنف الجنسي والجسدي والنفسي ضد المرأة.

الا ان  شاعرنا ينحو بصورة انثاه بعيدا عن النزعة القبلية والنظرة الذكورية للمرأة الذ ي ورد في التراث الشعري، يتجلى  كما في مقطع من قصيدة، (ثنائية الفحل والانثى) ص44

ثمة امرأة وأعني

روح العالم

وانثاه الكونية

التي تتجلى وتزهر وتتكوكب

كي تجعلكً تحلمُ

وتفكّرُ بالطيران

حتى أقاصي المطلق الكوني ّ

والرؤية بعيون وحواسٍ

مفتوحةٍ على فضاء الغيبِ

والغامض والمجهولِ

والرؤى القزحية الباذخة.

تتداخل الضمائر والاصوات في المجموعة في حالة تماهي ثنائية (أنا = أنتِ) تعبير عن اتحاد  وحلول العشقي والذوبان في عالم الغيرية فيرتقي الى درجة الكونية ليصبح وجودا متماسكا ذا ابعاد رمزية  كما في مقطع من قصيدة (عاشقان في طوفان)ص14

أنا بارعٌ في الحب

وأنتِ بارعةٌ في الغواية

وأنا شاسعُ القلب

وأنت كثيرة الأحلام

وكلانا  عاشقان بسيطان

فتعالي كي نطير

بعيداً.. بعيداً

وعليه فالرمز الانثوي في مجموعة( قلبي وطن وجسدك غابة) يهدي الى حالة العشق والحاجة الى الانثى، فحالات ومناخات ورود (الانثى / الجسد) حالات ومناخات تضفي على قصائده  البعد الصوفي التي تعمل على تقديم صورة غرائبية لأنثاه المانحة لعوالم الخصب والحب والحياة جاعلا اياها آلهة الخصب.

والشاعر سعد جاسم  له تقنياته في تشكيل السمات الاسلوبية لشعره الذي يشكل الانزياح ملمحا بارزا باعتباره حدثا لغويا يبتعد بنظام اللغة عن السائد والمألوف  في اظهار رؤاه وأفكاره ويكشف عما وراء الالفاظ من معنى ومغزى ليبرز  القيم التعبيرية والجمالية ومنحه القدرة على حمل رسالته الانسانية  وتوصيل المعنى وتحقيق الشعرية في نصوصه. فالشاعر هو الذي يمنح اللغة شعريتها وتميّزها .

***

طالب عمران المعموري

...................

المصادر

1- خليل موسى: قراءات في الشعر العربي الحديث والمعاصر، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 2000 .

2- سعد جاسم، قلبي وطن وجسدكِ غابة، ط1،لوتس للنشر والتوزيع، القاهرة،2023  .

3- الضبع، محمود، غواية التجريب حركة الشعرية العربية في مطلع الالفية الثالثة، الهيئة المصرية العامة للكتاب،القاهرة،2014 .

بحثٌ عن الذات.. وعقود حافلة بالأحداث والتجارب

بحميميةٍ وصفاء، ينقلنا الشاعر عقيل منقوش، إلى تجربة دافقة بمشاعر الاغتراب الوجودي والإنساني، عبر سيرة اقترب نسيجها الإبداعي كثيراً من النسيج السردي الروائي، بغض النظر عن اختلاف الأمكنة وتباعد الأزمنة.

حملت هذه السيرة، التي كان الشعر يتنفس في كثير من سطورها عنوان "الضفة الخضراء البعيدة"، وصدرت عن دار قارات للنشر والتوزيع في بغداد بـ 230 صفحة من القطع الوسط.

وابتداءً من إهدائه للكتاب والتمهيد الأولي الذي وضعه له، يجرّنا كاتب السيرة إلى قاربه لنبحر معه، مشاركين إيّاه التفاعل مع الآخرين، والتأثر بإفرازات الواقع المعاش والمفترض والمتخيل، عبر عقود من الزمن، كانت حافلة بالأحداث والتجارب التي تحمل أجواءها الخاصة، ورؤاها المتميزة، والتي توزعت بين العراق والمملكة العربية السعودية وأستراليا.3591 عقيل منقوش

بعد أن يهدي كتابه " إلى الأرواح القريبة منه، تلك التي غادرت دونما وداع يليق بها"، نجده في تمهيده للكتاب، يحمل اسم "تموز بن عربي" الذي يستيقظ من نومه المعتاد فلا يجد نفسه، فيبحث عنها في كلّ مكان، في بطانة الفراش، تحت المخدة، أسفل الشراشف، قرب سريره الخشبي، في زوايا الغرفة، خلف الستائر، في الخزانات، على الرفوف، لكن بلا جدوى. لم يستطع أن يعثر عليها. ومع استمراره في البحث، يتذكّر صديقته زلفة الأسمر فربّما تعرف شيئا عن اِختفاء نفسه فهما يقضيان معظم الوقت معا، فتفاجئه بالقول: ماذا جرى لكً يا تمّوز أما زلت تبحث عنّها؟ ربما تجدّها حيث تركتها. بقي على هذا الحال أيّاماً، شهوراً، سنواتٍ، حتى اختفى.

ومن هذه الأجواء الغرائبية ينقلنا إلى الحديث عن منابعه الأولى، عن ذكريات طفولته وصباه وشبابه، فينقل لنا الجميل والمبهر من الحكايات والصور، التي تجسد خصوصيات لا يعرفها الكثيرون عن مدينة كربلاء، كما يحدثنا عن الأوضاع التي مرت بها في ظل عهود سياسية متتابعة، بشكل إنسيابي دافق عصي على الإيجاز والإختصار، ولكنه يفيض بدلالاته وإيحاءاته.

ومع تسلسل الأحداث وتلاحقها، يروي لنا حكايات لافتة عن مراحل عسكرة المجتمع العراقي في ثمانينيات القرن المنصرم، ومرارات الحرب العراقية الإيرانية، التي وصفت بأنها حرب مجنونة، مخلّفة، كما يؤكد منقوش في الكتاب " أكثر من نصف مليون قتيل ومليون جريح وعشرات الآلاف من الأسرى والمفقودين وخسائر ماديّة لا تقدّر بأثمان، دون أن تحققّ أي من المكاسب للطرفيّن".

ولكن هذه الحرب المدمرة أريد لها أن تلد حرباً أخرى، فتم غزو الكويت، وجرت أحداثٌ قاسية متتالية، انتهت بإخراج القوات العراقية، ثم التوقيع على اتفاقية خيمة صفوان. وبهذا الصدد يقول المؤلف :" بكل بساطة أصبح العراق وعمره الذي يزيد على ثمانيّة آلاف سنة تحت وصايّة الأمم المتحدة وعمرها الذي لا يزيد عن ست وأربعين سنة، بموجب الفقرة السابعة من قانون العقوبات الذي يحتّم على العراق التخلي عن سيادته وثرواته".

ويذكرنا بمرارة كيف أن جمهوريّة العراق وعاصمتها ومدنّها جميعا، كانت قد تعرضت لأكبر إعتداء عسكري في التاريخ الحديث، حيث أُسقط في ليلتين فقط على عاصمة البلاد بغداد ستون ألف صاروخ. كما دُمّرت الجسور والبنايات والمصانع، ولم تنجُ حتى الملاجئ كملجأ العامريّة في بغداد والذي راح ضحيّته عشرات المدنيين من القتلى.

ويشير المؤلف إلى انه كان عيّن ذلك الوقت، مدرّسا في إعداديّة الطليعة في محافظة السماوة في العراق بسبب الحاجة الماسة لمدرسي إختصاص لغة عربيّة ورياضيات ولغة إنكليزيّة. ويخبرنا كيف انه استيقظ مع نزلاء فندق القشلة الواقع في الصوب الكبير، الذي كان يسكنه، على أصوات طائرات أف 16 الأمريكيّة، وهي تشعل هدوء السماء في ذلك الصباح الصيفي الساخن بدويّ محرّكاتها الهائلة، وصواريخها التي بدأت تتساقط على المدينة الفقيرة متهالكة البناء.

ثم يحدثنا كيف وجد نفسه بين لاجئي ومحتجزي مخيم رفحاء بالمملكة العربية السعودية، ويقدم صوراً عن معاناته ومعاناة الآخرين هناك، ثم يحدثنا عن انتقاله إلى أستراليا وما مرت به حياته الجديدة هناك.

إنّ هذه السيرة – الرواية، هي عصية على الإيجاز والإختصار، كما أشرنا سابقاً، وقد مرت بنا ونحن نقرأها بعض الأحداث والذكريات والانطباعات الموثقة مع ذكر أسماء حقيقية وتواريخ محددة بين ثناياها، وهذا ما يمكن أن يلمسه القارئ بشكل واضح وانسيابي لدى قراءته إيّاها.

***

خالد الحلِّي 

يتألف كتاب: (سنوات التحدي والإصرار) لرياض عبد الكريم، من مقدمة المؤلف وتقديم جاسم المطير وعشرة فصول مع خاتمة بعنوان مسك الختام.

أكتب تقييما لكتاب العزيز أبو طيبة ليس من وجهة نظر صحفية أو اعلامية ولكن من وجهة نظرالاقتصاد الصناعي، لأن تنظيم وتصميم وانتاج واصدار الصحف والمجلات والكتب والملصقات والبوسترات..الخ يتطلب خبرة مهنية كبيرة وهذا الذي اكتسبه رياض ليس من العراق فقط ولكن من خلال زياراته الى بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وإطلاعه على سيرعملية تنظيم الانتاج في دور النشر الضخمة في واشنطن في مركز كندي ومطابع الكونغرس وصحيفة الواشنطن بوست ومجلة ناشيونال جيوغرافي في نيويورك وزيارته الى بوسطن، دنفر، شيكاغو، لوس انجلوس أوهايو، وسان فرنسيسكو وكذلك زيارة الكثيرمن ىور النشر والمطابع وتعرفه على أساليب وطرائق العمل في بريطانيا ولبنان ومصروهنغاريا.

لم يدر في خلدي في يوم من الأيام أن أكتب عن سيرة صديق من مدينتي الناصرية التي ولدنا وترعرعنا فيها. كان يسكن في نفس المحلة التي سكنت وولدت فيها ويبعد بيتهم عن بيتنا قرابة 150 مترا ليس أكثر. درست في مدرسة الجمهورية الابتدائية للبنين، في حين درس رياض في المدرسة المركزية للبنين ولكن هذا لا يعني من أن نكون اصدقاء حتى على اختلاف مدرستينا المتوسطة، حيث أكملت متوسطة الناصرية للبنين التي أسست في العام 1963، في حين أكمل رياض متوسطة الجمهورية للبنين.

وعلى الرغم من اختلاف اختصاصينا في الدراسة الجامعية الاولية في جامعة بغداد، اختار رياض قسم الصحافة بكلية الآداب في حين اخترت أنا دراسة الاقتصاد في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية (تغير اسمها الى كلية الإدارة والاقتصاد في العام 1969).

يعتبر الكثيرمن الناس أن علم الاقتصاد هو علم جاف ويستند على الرياضيات والاحصاء فقط، ولذلك فهو بعيد عن العلاقات الانسانية والإجتماعية. ولكني أعتقد على العكس انطلاقا من تعريف فلاديمير إيليتش لينين للإقتصاد بأنه ذلك العلم الذي يدرس علاقات الانتاج الاجتماعية أو العلاقاات الاجتماعية في الانتاج. ومن هنا انطلقت وبدأت بدراسة وتتبع مراحل تطور صديقي العزيز أبو الروض كما كان يطلق عليه أصدقائه في العمل.

يتمتع كتابه الموسوم: سنوات التحدي والإصرار باسلوب روائي سلس وغير ممل، إذ يتمتع القاريء بتسلسل الأحداث من سنة الى أخرى وهو في نفس الوقت يعكس تجربته وتدرجه في العمل المهني كاسبا رضا روؤسائه ومرؤوسيه، ومحافظا على رباطة جأشه حينما يناقش مصاعب العمل وهو يقترح حلوله الناجعة ولا يفرضها على الآخرين. وهذا ما نجده اثناء طرحه لآراء عملية صحيحة اثناء عمله مع الدكتور محسن الموسوي والدكتور عبد الرحمن منيف. وهو كثيرا بل حتى دائما ما يفكر مليا حينما يطلب منه ابداء رأيه في موضوع ما يتعلق بتطوير العمل ومناقشة صيغ جديدة لتطوير سير أعمال المطابع وتوفير المواد الضرورية من أحبار وورق وكارتون...الخ. وكذلك ما يتعلق بتوفير أماكن عمل مريحة للموظفين جميعهم سواء كانوا يحتلون درجات وظيفية عليا أو دنيا. وهذه مسائل مهمة انطلاقا من تنظيم وادارة وتخطيط الانتاج الصناعي لعمل دور النشر والمطابع المرتبطة معها بعقود أو التابعة لها بحكم نظام المؤسسات الانتاجية لأن جميعها تساهم في رفع انتاجية العمل للجميع، من مدراء اقسام وموظفين اداريين ومحررين وعمال فنيين...الخ.

الفصل الأول: قصتي مع الشيوعيين

بدأ أبو الروض العمل وهو لايزال طالبا في السنة الثانية بقسم الصحافة في العام 1971 (انتقل رياض من قسم اللغة الانكليزية الى قسم الصحافة الذي افتتح بعد أقل من شهر من بدء الدراسة في قسم اللغة الانكليزية) في جريدة الراصد حيث كان صاحب امتيازها مصطفى الفكيكي ورئيسة التحرير الكاتبة والروائية عالية ممدوح. ويعود الفضل في ذلك الى عزيز السيد جاسم.

عمل رياض بصفة متدرب في قسم الأرشيف وتعرف على جاسم المطير الذي كان يشغل وظيفة سكرتبرالتحرير وقتذاك. ومن خلال التقرب اليه حاول التعرف على أسلوب الكتابة الصحفية، وقراءة كل ما تنشره جريدة الراصد وبقية الصحف والمجلات كونه يعمل في أرشفتها وتنظيم حفظها مع بقية الوثائق المهمة.

تعرف رياض عبد الكريم اثناء فترة عمله في جريدة الراصد على مجموعة من الصحفيين اليساريين ذوي الإتجاه الماركسي مثل ابراهيم زاير وساهرة يعقوب، جمعة اللامي، مؤيد الراوي ورياض قاسم،اللذين تعلم منهم الكثير فيما يخص العمل الصحفي. كان يزور جريدة الراصد عدد غفير من الصحفيين ذوي الميول التقدمية ومنهم من كان ينتمي الى الحزب الشيوعي العراقي.

بعد أن أمضى رياض أكثر من تسعة أشهر على عمله في جريدة الراصد يسجل التالي:

" كانت تستوقفني مجلة الإذاعة والتلفزيون التي يرأس تحريرها المرحوم زهير الدجيلي، كنت أجدها الأقرب الى نفسي كونها مجلة نخبوية شبابية مهنية ويعمل فيها خيرة صحفيي البلد" (ص32). ولهذا السبب طرق باب عزيز السيد جاسم مرة أخرى طالبا منه المساعدة في ايجاد عمل له في هذه المجلة التي يرأس تحريرها زهير الدجيلي.

لقد وجد أبو الروض ضالته في مجلة الاذاعة والتلفزيون وكالعادة بدأ العمل في أرشيف المجلة حتى يتعرف على العمل الصحفي في المجلة منذ مراحله الأولى وقراءة كل واردة وشاردة في المقالات والتحقيقات والأخبار وإيلاء انتباهه الى تصميم واخراج صفحات المجلة..الخ ومن ثم يقوم بكتابة تقرير يقدمه الى زهير الدجيلي.

كان يتردد الكثير من الصحفيين على مقر المجلة وهم أكبر سنا وخبرة منه في مجال العمل الصحفي وكان الدجيلي يقدمه لهم على أنه يدرس الصحافة في جامعة بغداد. ولهذا كانوا يكنون له الاحترام.

كان رياض يصغي لجميع محادثاتهم مع رئيس التحرير وفيما بينهم أيضا والتي وجد فيها منفعة كبيرة له وهم يكنون له الاحترام، وهذا بسبب اندفاعه في العمل وتواضعه في نفس الوقت، لاسيما وانه كان في العشرين سنة من عمره. بمرور الزمن توطدت علاقته بهم وصار يحضر جلساتهم ولقائاتهم واتضح فيما بعد بأنهم شيوعيون. والغريب في الأمر بأنهم لم يفاتحوه بأن ينتمي الى الحزب الشيوعي.

ورد في الصفحة 35 ذكر مقهى العباقرة الواقع في بداية شارع السعدون ببغداد (كانت تسمى آنذاك بمقهى المعقدين أيضا كما أتذكر) حيث كانت ملتقى عدد كبير من الشباب ذات الاتجاهات السياسية المختلفة من يساريين وماركسيين وشيوعيين وبعثيين ووجوديين من أنصار الكاتب الفرنسي جان بول سارتر. وكان من روادها الشاعر والأديب فاضل العزاوي الذي كتب بيان مجموعة المجددين الشعرية. كان المقهى تحت مراقبة الامن العراقي ولهذا أصدر الحزب الشيوعي العراقي توجيها لجميع أعضاء وأصدقاء الحزب بعدم الجلوس في هذه المقهى وخصوصا بعد حدوث مشاجرات بين اليساريين الماركسييين والبعثيين في بداية سبعينيات القرن الماضي والتي وصلت الى حد الضرب بالكراسي والتشابك بالأيدي.

في بداية سبعينيات القرن الماضي كان الساحة السياسية والشارع العراقي وشغيلة الفكرواليد مشغولين بمناقشة تشكيل الجبهة الوطنية والقومية التقدمية بين الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث العربي الاشتراكي الذي كان يقود السلطة ومدى تأثيرها على مستقبل العراق.

وبالتأكيد سوف ينعكس ذلك على ما ينشر في الصحافة العراقية والعاملين في هذا الحقل الثقافي المهم الذي بواسطته يمكن ايصال ما يدور في أروقة البيوتات الثقافية من جمعيات ونوادي ومعارض فنية تشكيلية، وخصوصا وأن تلك الحقبة الزمنية نشطت فيها الحركة الفنية العراقية وتشكلت الكثير من الجمعيات التشكيلية مثل جماعة المجددين وجماعة الأربعة بالإضافة الى الموجودة مثل جماعة الرواد وجماعة بغداد للفن الحديث...الخ

ومن أشهر الفنانين في تلك الفترة الزمنية مثل شاكر حسن آل سعيد، خالد الرحال، خليل العزاوي، ضياء العزاوي، اسماعيل فتاح الترك، فائق حسن، فائق حسين، رافع الناصري، جميل حمودي، نوري الراوي، محمد مهر الدين، محمد عارف، ماهود أحمد، صالح الجميعي، محمد غني حكمت، فؤاد جهاد، حسن عبد علوان، والقائمة تطول.

هذا وبالإضافة الى نشاط الفرق المسرحية في العراق بشكل عام. ومن الفرق المسرحية المشهورة آنذاك فرقة مسرح الفن الحديث وفرقة الستين كرسي والفرقة القومية للتمثيل..الخ. وبالتأكيد أن يتأثر رياض بهدذ الاجواء الثقافية ويتعرف على شخصيات ثقافية عراقية ساهمت في رفع شأن الموقف الثقافي العراقي.

الفصل الثاني: بداياتي الفعلية في العمل الصحفي

بعد مرور أربعة سنوات من العمل في مجلة الاذاعة والتلفزيون وبناء على التقارير الأمنية التي كتبت من قبل أمن الاذاعة والتلفزيون والبعثيين نقل رياض مع جاسم المطير الى مصلحة السينما والمسرح. بقي هناك لمدة سنتين دون عمل سوى حل الكلمات المتقاطعة في الصحف والمجلات التي ترد الى المكتبة.

يلخص المؤلف ابتداءا من الفصل الثاني تجربته العملية في الصحافة واكتسابه الحرفة من لدن وعلى يد كبار الصحفيين وأساتذته في الجامعة. ويذكر عدد من أسماء الإعلاميين اللامعين في مجلة الاذاعة والتلفزيون وكذلك حينما أصدر قسم الصحافة في كلية الآداب بجامعة بغداد صحيفة نصف شهرية بإشراف الأستاذة حميدة سميسم حينما كان في السنة الثانية وكانت تعتبر جزء من متطلبات الدراسة والتدريب، تولى رياض تصميمها والكتابة فيها وتابع طباعتها في مطبعة الجاحظ.

وخلال فترة العمل في مجلة الاذاعة والتلفزيون تعرف على صحفيين مشهورين في العراق تميزوا بمهنيتهم العالية وخبرتهم الطويلة مثل: زيد الفلاحي وعباس البدري وفالح عبد الجبار ورشيد الرماحي وسؤدد القادري ومريم السناطي وسهيل سامي نادر وزهير الجزائري وحسين علي عجة وغيرهم.

تعلم رياض التصميم من عارف علوان الذي كان يصمم صفحات المجلة. "تطورت علاقتي بعارف وتطور فهمه لي فبدأ يعطيني الموضوعات كي أقرأها وأحضر لها الصور وبعض العناوين الفرعية،كنت أرتاح لعملي معه لأني فهمت كيف يعمل وكيف يفكر لذلك فإن الصور التي أحضرها له من الارشيف كانت مطابقة تماماً لروح الموضوعات ومنسجمة مع خياله الفني" ( ص45).

توسع نشاط رياض الصحفي في الجامعة حتى صار يغطي وبتوجيه من زهير الدجيلي النشاطات الطلابية في جامعة بغداد بالاشتراك مع فاطمة المحسن وسؤدد القادري. ثم توسع نشاطه حتى صار يشمل متابعة نشاطات الإذاعة والتلفزيون بكتابة التحقيقات الصحفية عن جميع الفعاليات والحوارات مع الممثلين والفنانين العراقيين والعرب اللذين يزورون العراق.

أصبح رياض مسؤولا عن تصميم مجلة الاذاعة والتلفزيون بعد عارف علوان الذي غادر العراق. كان رياض يستفاد من نصائح وملاحظات سهيل سامي نادر في مجال التصميم واختيار الشكل المناسب ومما زاد من خبرته هو مشاركته في دورة تدريبية في معهد التدريب الاذاعي حاضر فيها أستاذ ألماني حول سايكولوجية الصورة الصحفية وانتقاء الصورة من حيث الأهمية لمدة ثلاثة أشهر حصل في نهاية الدورة على درجة امتياز(ص50). " كانت دورة مهمة جعلتني أفهم معنى فلسفة الصورة الصحفية قبل أن يبهرني جمالها ونجحت في ما بعد في التعامل مع الصورة من حيث الإنتقاء والأهمية " – هكذا عبر رياض عبد الكريم عن مدى استفادته من الدورة التدريبية (ص51).

تطور العمل في مجلة الاذاعة والتلفزيون من حيث الشكل والتصميم والطباعة في مطبعة متطورة (مطبعة ثنيان) حتى أصبحت تصدر اسبوعيا بعد أن كانت تصدر مرتين في الشهر.

شقت مجلة الإذاعة والتلفزيون طريقها بنجاح في عالم الصحافة العراقية والعربية كونها تنشر مقالات لاتمجد بحزب معين ولا بقائد ما، على العكس من مجلتي ألف باء ووعي العمال. وطرحت مواضيع مهمة عكست فيها مايجري في الجامعة والمجتمع وانتشرت بشكل واسع حتى كانت تطبع وتوزع بعشرة ألأف نسخة اسبوعيا بدون مرجوع (ص55).

وبعد فترة من الزمن اقترح زهير الدجيلي اصدار مجلة تعني بشؤون السينما والمسرح. تمت مفاتحة الكثير من الكتاب والمختصين بالسينما والمسرح عربيا وعراقيا. وقع الاختيار على رياض الذي قام بتصميمها بشكل يلائم مواضيعها وحتى تصدر بشكل جيد في زمن شهد المسرح والسينما مستوى عال. ساهم الكثير من الكتاب والأكاديميين الكتابة فيها مثل يوسف عبد المسيح ثروت وياسين النصير وعبد المرسل الزيدي وأحمد فياض المفرجي وسامي عبد الحميد وغيرهم. كانت المجلة تعني بالواقع المسرحي والسينمائي ونشر المقالات المتخصصة في هذا المجال.

لعب زهير الدجيلي دورا كبيرا في اصدار هاتين المجلتين – الإذاعة والتلفزيون والسينما والمسرح لما يتمتع به من خبرة صحفية ومهنية ومتفانيا في العمل وتمتع بعلاقات طيبة مع جميع الكادر الصحفي وكان محبوبا من قبل الجميع. ويجزم رياض عبد الكريم بأن زهير أسس مدرسة صحفية قل ما تجد لها مثيل في تاريخ العراق. وكان يحمي ويدافع عن كل من يعمل معه وبالرغم من أن معظم الكادر الذي يعمل معه كانوا محسوبين على الحزب الشيوعي العراقي.

اختتم أبو الروض الفصل الثاني من الكتاب وذلك بأن أصبح يقدم برنامجا اذاعيا من صوت الجماهير، كانت الحلقة الأولى مع الفنان المسرحي يوسف العاني والثانية مع زهير الدجيلي.

والاهم من ذلك هو أنه تم تعيين لطيف نصيف جاسم مديرا للإذاعة والتلفزيون بدلا من محمد سعيد الصحاف. أراد المدير الجديد تبعيث المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون ولهذا اختلف معه زهير الدجيلي وقدم استقالته من العمل.

الفصل الثالث: تجربتي مع الر احل الكبير عبد الرحمن منيف ومجلة النفط والتنمية

يتمحور الفصل الثالث بالعمل مع الدكتور منيف عبد الرحمن في مجلة النفط والتنمية "التي أنيطت مهمة اصدارها الى جريدة الثورة مع تغطية كل مستلزماتها المادية " (ص63) وجاسم المطير الذي رشح رياض له. وعلى الرغم من وجود علامة استفهام على رياض من قبل ادارة المجلة كونه ليس بعثيا وعليه شبهة شيوعية ولكن بعد عمل مسابقة بين المتقدمين الى وظيفة المصمم، فاز الماكيت الذي تقدم به رياض. ولهذا تم تنسيبه للعمل في المجلة. " وتمكن الدكتور منيف من الحصول على موافقة وزير الثقافة للتفرغ وتنسيبي للعمل في مجلة النفط والتنمية ولكن على أن أبقى على تواصل مع مؤسسة السينما والمسرح عندما يقتضي العمل ذلك " ( ص66).

توطدت علاقة رياض أبو طيبة بالدكتور منيف من خلال العمل الدؤوب في اصدار مجلة النفط والتنمية وشكلت السنوات الستة التي جمعتهما معا انعطافة كبيرة في حياته العملية وعلاقاته الانسانية وأثرت على سلوكياته وطباعه. كذلك حرص منيف على أن يكون رياض في معظم لقاءاته وحضوره الندوات والاجتماعات الفكرية والسياسية والأدبية التي تعقد في بغداد ومعارض الفن التشكيلي (ص77).

وفي السنوات الأولى من ثمانينيات القرن الماضي شعر الدكتور منيف بضعف في حالته الصحية بسبب ارتفاع السكري والضغط مما اضطرالى البقاء في البيت ومتابعة أعمال اصدار المجلة من هناك. كان رياض يذهب الى بيته مع التصاميم لعرضها عليه وأخذ الموافقته على نشرها. اثناء زيارة رياض لمنيف لم يتطرقا الى الحرب العراقية الايرانية التي طال أمدها كما توقع منيف الذي ساءت صحته مما اضطره الى مغادرة العراق الى باريس. وهكذا انتهى العمل معه الذي استمر لستة سنوات ولكن بقيت ذكرى تجربة العمل معه والتعلم منه محفورة في الذهن لحد الآن.

يبدأ الفصل الرابع المعنون: مؤسسة السينما والمسرح مرحلة قصيرة لكنها غنية ! بتسريح رياض من خدمة الاحتياط في الجيش في بداية العام 1985، تزامناً مع تعيين الشاعر عبد الأمير معله مديراً عاماً للسينما والمسرح، مستحدثاً قسما للدراسات ترأسه علي ضياء الدين ومعه رياض وجاسم المطير. تكللت هذه الفترة الزمنية بإصدار مجلة شهرية بإسم السينما والمسرح. أتاحت فرصة العمل في المجلة بالتعرف على كبار المخرجين المسرحيين والسينمائيين والممثلين العراقيين ومن الدول العربية. قام رياض بتصميم الكثير من البوسترات والبروشورات للأفلام السينمائية والمسرحيات مع العروض الفنية للفرقة القومية للتمثيل. وكإجراء جديد فقد خصص لكل عمل مسرحي إصدار بروشور وبوستر وكان من واجبات رياض هو تصميم تلك المطبوعات ويشرف على طباعتها لأنها كانت توزع على المشاهدين مجانا اثناء العروض المسرحية (ص86).

"وضمن برامج عبد الأميرمعلة لدعم وإسناد الفرقة القومية للفنون الشعبية التي حققت في ذلك الوقت نجاحات واسعة محلياً وعربياً وعالمياً فقد اقترح إصدار مجموعة مطبوعات ترويجية وتسويقية وبشكل فني يضاهي الأعمال العالمية حيث تم إصدار كتاب مصور تعريفي بالفرقة وشرح أصول الرقصات وقصصها الشعبية والفولكلورية ومجموعة فولدرات إضافة الى تصنيع لوحات ضوئية كهربائية وبقياسات مختلفة توضع في مداخل الأماكن والمؤسسات السياحية" (ص88). وقد تم تحقيق ذلك بمساعدة من المؤسسة العربية للدراسات وبالأخص مديرها الفني حلمي التوني ومديرها العام الدكتورعبد الوهاب الكيالي. سافر رياض الى بيروت ولندن حتى ينجز كل شيء على ما يرام.

يأتي الفصل الخامس من الكتاب تحت عنوان: قمة النجاح وتألق الشهرة في مجلة آفاق عربية ودار الشؤون الثقافية ليعكس المستوى المهني والحرفي الذي وصل اليه رياض من المبادرات واستغلال طاقات العمل المعطلة سواء كانت الطاقات البشرية والطاقات الانتاجية بما فيها المطبعة والجرأة في مجال التصميم وكذلك تعرفه على كوادر فنية ذات خبرة عالية تساعده في انجاز الأفكار التي يريد تنفيذها في اصدارمجلة آفاق عربية وفي دار الشؤون الثقافية التي يقترحها على الدكتور محسن الموسوي مثل ناظم رمزي وفخري خليل والمترجم كامل عويد وفلاح حسن العتابي الخطاط ووائل المرعب وغيرهم من المحررين والكوادر الفنية والإدارية.

واشتمل هذا الفصل على اقامة التعاون المشترك مع الهيئة المصرية العامة للكتاب التي كان يرأسها الدكتور سمير سرحان آنذاك " تقوم الفكرة عىل أساس أن نعطي كتاباً للهيئة وتقوم هي بطبعه وتوزيعه وتغطية النفقات من عائداته بعد البيع، وتعطينا الهيئة كتاباً بالشروط ذاتها، على أن تخضع نصوص الكتب لموافقة الطرفين قبل التنفيذ، وأن لا يكون كتاب الهيئة موزعاً مسبقاً في العراق، ولا كتابنا موزعاً في مصر" (ص121). نجحت التجربة وبلغ عدد الاصدارات 70 كتابا. وهذا نجاح باهر في ذلك الوقت.

ويحتوي هذا الفصل على معلومة مهمة ومفرحة هي أن أبو الروض أكمل دينه ودخل في عش الزوجية والقفص الذهبي بزواجه من نادية كريمة اللواء المتقاعد حسين مصطفى العمري التي بدأت بالعمل معهم في آفاق عربية (ص122). ومن هنا فصاعدا وبعد ولادة المحروسة طيبة سوف نخاطبه بأبو طيبة.

بعد عمل حثيث وجهود مضنية واستخدام الطاقة التصميمية لمكائن الطبع والتنضيد والتصحيف من أجل انجاح رغبة الدكتور محسن الموسوي بالمشاركة في مهرجان المربد الذي يقام في النصف الثاني من شهر تشرين الثاني 1986 أثمرت جهود العاملين في آفاق عربية ودار الشؤون الثقافية باصدار 500 كتاب. كان هذا حدثا ومنجزا كبيرا في ذلك الوقت.

" أذكر ماقاله الدكتور سمير سرحان رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب وهو يتجول بالمعرض برفقة حلمي التوني المدير الفني لمؤسسة الدراسات العربية اللبنانية - عندما أخبرني دكتور محسن يوم أمس إن المعرض سيضم 500 عنوان، حصيلة إنتاج أقل من سنة اعتبرت ذلك خرافة، لكن واقع الحال الذي أشاهده الان يمثل معجزة حقيقية -، وأيده حلمي التوني بقوله » معجزة فعلا، سألت الدكتور سرحان عن حجم إصدارات الهيئة، فأجاب 200 كتاب هو أعلى ماوصلنا إليه في السنة " (ص128).

ومما زاد في خبرات الأخ أبو طيبة العملية وعمق تجربته المهنية هو مشاركته في عدة دورات تدريبية واستطلاعية وورشات عمل في العديد من بلدان العالم: الولايات المتحدة الأمريكية – لمدة شهرين، متنقلا ما بين وشنطن، ونيويورك، ودنفر وشيكاغو ولوس أنجلس وأوهايو وسان فرنسسكو. حيث اطلع على أساليب العمل والمطابع..الخ. وكذلك ألمانيا، بريطانيا، هنغاريا، لبنان، مصر والمغرب.

الفصل السادس: التوجه للقطاع الخاص وتأسيس مطبعة إبداع

بدأ رياض بالتفكير في تأسيس مكتب للتصميم والخدمات الصحفية حينما كان يتهيأ للتقاعد من الوظيفة الحكومية. وهذا ما قام به، إذ أطلق على المشروع اسم إبداع للتصميم والطباعة. استأجر مكتبا في شارع السعدون وقام بتجهيزه بحاسبات الكترونية ومكاتب للتصميم. (ص156). ومن الأشخاص اللذين اعتمد عليهم أبو طيبة في عمله هم هيثم فتح الله وهو ابن صاحب مطبعة الأديب فتح الله اسطيفان عزيزة وكنيته أبو ليث. " كان هيثم الأقرب الى اختصاصى وتفكيري وكان يتفهم أفكاري في التصميم التي تحتاج إلى قدرة بارعة أثناء التنفيذ في مرحلة التصوير وغالباً ما كنت أدخل معه الاستوديو أثناء تنفيذ صفحات المطبوعات، فهو في الواقع يمتلك خبرة كبيرة ولديه طرائق غير تقليدية في العمل وهذا ماميزه عن باقي المصورين الطباعين" (ص158).

كان أول عمل مشترك مع هيثم هو تصميم غلاف رواية" اللعبة " للراحل يوسف الصائغ وبعد ذلك تصميم الطبعة الثالثة لغلاف رواية " شرق المتوسط " للراحل عبد الرحمن منيف ثم المصمم والفنان الراحل ناظم رمزي وكذلك مريوش أبو رمزي. صاحب مطبعة أسفار. كان أول عمل لمشروع ابداع هو طلب من جاسم المطير صاحب المكتبة العالمية بتصميم وطباعة القرآن الكريم بقدر 30 ألف نسخة (ص160).

بعد صدور أمر إحالة رياض على التقاعد، تفرغ للعمل كلياً في مكتب إبداع، وبعد إنجاز طباعة القرآن الكريم، حصل عىل موافقة رسمية تجيز له التعامل مع منظمات الامم المتحدة العاملة في العراق، فقام بإبرام عدة عقود لتصميم وطباعة الكثير من المطبوعات،مثل اليونسيف، الصحة العالمية، برنامج الامم المتحدة، منظمة كير، ومنظمة اللاجئين. ولجودة الطباعة والتصميم انتشراسم إبداع بين هذه المنظمات الأمر الذي أدى إلى زيادة التعاقدات وتوسع حجم العمل (ص 165).

أن نوعية ونزاهة العمل والانتاج ساهما في انتشار اسم ابداع واقامة علاقات اجتماعية وطيدة مع الكثير من المؤسسات الاعلامية والصحفية، أدى كل هذا الى اتساع العمل والتعاون مع مطبعة الأديب بإقامة وحدة انتاجية صغيرة تقوم بطباعة السكرين اليدوي بمساعدة كبير طباعي مطبعة الأديب أرشد أبو سعد الذي كان يملك خبرة كبيرة في هذا المجال وادخال العنصر النسائي في العمل الانتاجي بعد تدريبهم لفترة قصيرة.

هناك ظاهرة موجودة في العالم وهي الحسد والغيرة وأخذ نسبة من الأرباح والمنافسة غير الشريفة. وهذا الذي حدث مع أبو طيبة في عقد مناقصة طبع لمنظمة اليونسيف والذي فاز مكتبه به. فجأة يرن عليه جهاز الهاتف من طرف المخابرات ويطلبون حضوره الى مكتبهم. وحينما أراد أن يعرف السبب جاوبوه بأن هذا ليس حديث في الهاتف. اتضح الأمر ان المخابرات أرادت ان يرسي العقد على مكتب تابع لهم ولذلك عليه أن ينسحب من المناقصة حتى ترسي المناقصة على المكتب التابع للمخابرات ولكنهم وعدوه بأنهم: "نضمن لك إحالة المناقصة لك بالسعر الذي قدمته، لأننا نريد ضمان استمرار التعامل مع هذه المنظمة، حينها لم يكن أمامي من خيار سوى الموافقة طالما ضمنت حقوقي التي كان يمكن بقوة وبطش هذا الجهاز أن يصادرها كما يمكن أن يصادرني أيضاً بتهمة كيدية". استلم رياض المبلغ المتفق عليه من الجهة التي قامت بتنفيذ العقد (ص166).

بعد العمل في منظمة الاسكوا التابعة للأمم المتحدة في عمان بالاردن لفترة قصيرة، قفل أبو طيبة عائدا في منتصف العام 1996 الى بغداد. وهنا طرأت فكرة في رأسه وهي التعاون مع أخيه الصغير محمد في تأسيس مطبعة ابداع. وطالما أن محمد توجد لديه خبرة تجارية وسبق وأن عمل في الصحافة وتصميم مجلة النفط والتنمية بعد أن تركها رياض. استأجر رياض بناية في الشارع الواقع في كرادة داخل ومقابل ساحة كهرمانة. وبدأ بترميمها وتصليحها حتى تناسب العمل ومن ثم بنقل وشراء ماكنة الطباعة وأدوات العمل. وكالعادة فقد حرص رياض على أن تكون جودة العمل ونوعية المطبوعات وتنفيذ العمل بدقة حسب المتفق عليه مع الزبائن والمؤسسات التي تطبع عندهم مثل منظمة كيرالاسترالية ومجلة عشتار التي ترأست تحريرها زميلته من أيام الدراسة في جامعة بغداد مريم السناطي.(ص173).

توسع العمل في ابداع بعد أن شاع اسمها من حيث المهنية والحرفية والنوعية والدقة في مواعيد انجاز المطبوعات في العام 1999 مما حدى برياض وأخيه محمد بشراء ماكنتي طباعة "سولنا وميللر" لإنجاز الاتفاقيات المبرمة مع الصحف والمجلات (ص175).

كان وفاة والدة ووالد رياض صدمة قوية له مما اضطره للغياب عن العمل لمدة شهر تقريبا والسكن مع عائلته في دارأبيه لمواساة اختيه (ص177ٍ).

عاد رياض وأخيه محمد الى العمل وتمكنا من الحصول على عقد طباعي كبير من منظمة الصحة العالمية. وحينها قررا توسيع الطاقة الانتاجية بشراء ماكنة طبع جديدة ومعداتها وكذلك توسيع مكان العمل وذلك بإيجار بيت مجاور قاموا بتصليحه وترميمه ونقلوا قسم التنضيد والتصميم والمونتاج والتصوير إليه. كما اعتمد رياض اسلوب التنمية والتطوير انطلاقا من الموارد المتاحة والمتحققة من العمل وليس عن طريق القروض أوالتمويل المالي من جهات مختلفة لأن هذا يؤثر على استقلالية دارالنشر. كما أن احتساب تكاليف الانتاج بشكل صحيح معتمدا أساليب الجدوى الاقتصادية كان يوفر له 20% من القيمة السعرية (ص178).

وبسبب ظروف الحصار على العراق وظروف المعيشة الصعبة قامت بعض المطابع بطباعة النقود المزورة والكتب الممنوعة والهويات والجوازات المزورة...الخ من الطرق غير المشروعة في الاحتيال على الرقابة الحكومية. لم يقوما الاخوان رياض ومحمد بهذه الاعمال بسبب الحفاظ على سمعتهما والتعرض الى العقاب القانوني.

ينتهي الفصل السادس من الكتاب بالإشارة الى تصعيد الاعلام الأمريكي في نهاية العام 2002 والتحضير لغزو العراق. ظروف العراق الاقتصادية تتدهور مع شحة المواد الغذائية وانخفاض حركة النقل بنسبة 80% والهلع والخوف منتشرعند جميع الناس وفي كافة محافظات العراق (ص179).

الفصل السابع: آذار 2003، سقوط نظام قمعي وولادة نظام ميت

تبدأ في هذا الفصل مرحلة جديدة من تاريخ العراق السياسي والاقتصادي والاجتماعي ولهذا اطلقت تسمية " العراق الجديد" على هذه المرحلة من قبل الاحزاب التي سيطرت على ادارة البلاد.

يكتب رياض في مذكراته بأنه ما أن حل العام 2003 حتى توقف كل شىء وركن الناس في بيوتهم بانتظار ساعة الصفر. قرر رياض في نهاية شهر شباط ايقاف العمل واغلاق المطبعة والتوجه نحو مدينة هيت بالسيارات،عائلته مع عائلة أخيه محمد وعائلة أخته وزوجها.

بدأت الحرب في اليوم الثاني من وصولهم الى هيت، حيث بدأ القصف الجوي في 19 آذار 2003 واالهجوم البري في 20 آذار من نفس السنة. مكثوا في هيت حوالي الشهرومن ثم قرروا العودة الى بغداد حيت سكنوا في دارهم بالداووي في المنصور. حالة يرثى من الخراب والدمار في بغداد وفلتان الوضع الأمني وحتى المروري حيث تطوع عدد من الناس وشرطة المرور اللذين عندهم نخوة على شعبهم ومدينتهم التي يرثى لها من جميع الجوانب بتنظيم السير في بغداد، أتذكر ذلك جيدا من القنوات الفضائية العالمية والعربية. أما توفر الماء والكهرباء فلا يوجدان. كان الناس يذهبون الى نهر دجلة لجلب الماء وفي الليل يشعلون الشموع. قام الناس بوضع جذوع النخيل في مداخل الطرق والأزقة حتى لا تدخل العصابات الاجرامية لنهب البيوت كما تحدث لي أخي المرحوم سعد وماعانت منه منطقة الأعظمية والكثيرمن مناطق بغداد.  

عاود رياض نشاطه العملي بعد استتاب الأمن في بغداد وتمكن من الحصول على عقود طباعة وتصميم كان أولها عقد طباعة الدفاتر الامتحانية من منظمة اليونسيف، وثانيها حصل اتفاق عىل طباعة جريدة العدالة التي كان يرأس تحريرها آنذاك عادل عبد المهدي، وكان إصدارها إسبوعياً. جرى اصدار سبعة أعداد ومن ثم بعدها تم تأسيس مطبعة خاصة بها وانتقلت اليها، كانت التجربة الأولى في طباعة جريدة سياسية صحفية (ص187).

خلال تلك الفترة الزمنية توالى تأسيس أحزاب ومنظمات سياسية كانت تطبع منشوراتها المختلفة الغرض شملت مطبوعات دعائية وبرامج سياسية وفولدرات تعريفية وترويجية عند رياض وعند الإطلاع على محتواها وجدها فارغة المعنى والمحتوى ولا تعبرعن طموحات الشعب العراقي الحقيقية.

من أهم فقرات هذا الفصل هو اصدار صحيفة الوفاق الديمقراطي في مطلع العام 2004 وهي صحيفة إسبوعية سياسية منحازة للوطن والشعب، رئيس التحرير صالح عمر العلي وبمشاركة عدد من الصحفيين العراقيين المعروفين (ص190). وكذلك صدور مجلة تواصل التي تصدرها هيئة الاعلام والاتصالات شهريا، كانت سلوى زكو حينذاك رئيسة للتحرير (ص196). والحدث الثالث والمهم أيضا هو فوز دار ابداع في العام 2005 بمناقصة مطبوعات المفوضية العليا المستقلة للإنتخابات وهي أول إنتخابات تجري في العراق بعد العام 2003 (ص200). كان عبء العمل كبيرا، فبعد تصميم كافة الملصقات والبوسترات والفولدرات والكتيبيات...الخ وتوفير كافة مستلزمات العملية الانتاجية من الورق والكارتون والأحبار...ألخ، بدأ العمل ليلا ونهارا في ثلاثة مطابع. وحتى اضطرا رياض ومحمد المبيت والنوم في المطبعة لعدة أيام من أجل الانتهاء من هذه المهمة على أحسن ما يرام. وبعد الانتهاء من هذا العمل المضني سافر رياض مع العائلة الى سوريا حيث قضيا هناك شهرا كاملا للراحة والاستجمام (ص203).

في نهاية العام 2005 انتشرت حوادث التفجير في بغداد أكثر من بقية مدن العراق، إذ دخل العراق في معمعة الحرب الطائفية التي استمرت لأكثر من سنتين وأصبح الانسان لا يشعر بالأمان بسبب حوادث القتل والاختطاف وطلب الفدية. أصبح الانسان اذا خرج من داره متوجها الى العمل أو للتسوق أو لأمر ما كان عليه أن يفكر بالعودة سالما الى البيت بسبب حوادث التفجير التي انتشرت في العاصمة بغداد.

الفصل الثامن: العودة إلى الكتابة والهرب من الاختطاف.. أو القتل!

اشتدت الأوضاع سوءا في العراق وخاصة في بغداد، فالحرب الطائفية مستعرة وعلى قدم وساق كما يقول المثل العربي وخصوصا بعد اعلان النتائج الانتخابية وتشكيل البرلمان..الخ.

" انتشر القتال في الشوارع وأصبحت مناطق عديدة في بغداد ساحات للمعارك مثل العامرية، الأعظمية، حي الجهاد، حي الجامعة، أبو غريب، اليرموك " (ص206). وكذلك كان القتال في مدينة الشعب القريبة من حي القاهرة ببغداد وأطراف بغداد في الطارمية التي كانت قوات الشرطة والجيش يخافون من الدخول اليها لتواجد قوات المقاومة فيها. وكما حدثني أخي المرحوم سعد بأن جثث القتلى كانت منتشرة في شارع الامام الأعظم في منطقة النصة أو راس الحواش التي كان الأمريكان يخافون منها، الى أن توصلوا الى اتفاق مع وجهاء أهالي الأعظمية بأنهم سوف ينسحبون منها. قام أهالي الأعظمية بدفن القتلى في حديقة تابعة لجامع الامام الأعظم أبو حنيفة النعمان وسميت بمقبرة الشهداء.

وبسبب هذه الظروف التي يمر بها البلد من الطبيعي أن يقوم رياض بإيقافل العمل في المطبعة والمكوث في البيت وقضاء الوقت بمتابعة الأخبار والرسم والتصميم. وكان نادرا مايخرج من البيت إلا في حالة التسوق من الأماكن القريبة من السكن ومشيا على الأقدام خوفا من المفخخات التي تنفجر فجأة.

كما واجه الأمريكان مقاومة عنيفة في شارع حيفا حيث كان أبو طيبة وعائلته يسكنون في احدى العمارات والتي كان يطلق عليها اسم المشربيات لأن تصميمها يشبه المشربية. استخدم الأمريكان شقة أبو طيبة لحمايتهم بعد أن كسروا قفل الباب وعاثوا بالبيت كما شاؤوا. " كل زجاج البالكونات والشبابيك محطم، معظم الأجهزة الكهربائية قد أصابها الرصاص. وكذلك أجهزة التبريد،المكتبات الخشبية التي كانت تحوي كتبه نقلت إلى واجهة البالكونات والشبابيك لإستخدامها سواتر للحماية كما يبدو، بعد أن رميت الكتب عىل الأرض بطريقة بشعة ما أدى إلى تمزق وتلف معظمها، معظم التحفيات قد سرقت..الخ (ص208).

قام مريوش أبو رمزي صديق رياض بترتيب "موعد مع أحد أعضاء الجمعية الوطنية لغرض مقابلته وشرح معاناة أصحاب المطابع وكيفية إيجاد آلية لتوزيع حصص طباعة كتب التربية بطريقة منصفة" (ص209). وبعد شرح الطرق الملتوية وتقديم الرشاوي...الخ. قال لهم: " سنحل كل هذه االمشاكل إن شاء الله، لكن أريد منكما أن تعدوا لي قائمة دقيقة بأسماء أصحاب المطابع من السنة ومايقابلهم من الشيعة، لكي نعمل عىل جعل الامور متوازنة وننصف إخواننا الشيعة بعد تعرضهم لظلم صدام، في وقت كان الطرف الثاني منتفعا منه !!. " (ص209). خرج الرجلين مندهشين من كلام هذا الرجل الطائفي حتى النخاع.

بعد خروجهم من الاجتماع وافتراقهم تعرض مريوش أبو رمزي الى عملية خطف من قبل جهة غير معروفة. وبعد تدهور الوضع الأمني في البلد بسبب الصراعات السياسية والطائفية قرر رياض وعائلته السفر الى الاردن في منتصف شهر حزيران من العام 2006.

الفصل التاسع: الغربة في زمن يقتل فيه وطن

أهم أحداث هذا الفصل (ص214-239):

- الوصول مع العائلة الى عمان عاصمة الأردن الشقيق بخير وسلام وانبهاره بتطور المدينة من النواحي العمارنية واتساعها وتنظيمها.

- كتابته المقالات الصحفية العديدة التي تعكس حالة العراق المتدهورة من جميع النواحي: السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والتي لاقت استحسانا كبيرا من قبل القراء لأنها عبرت عن الوجع العراقي وهو يعتبر ذلك واجبا وطنيا يجب أن يقوم به.

- بدأ برسم لوحات تعبر عن ألمه وحزنه اتجاه ما يجري في الوطن العراقي.

- انتقال محمد أخ رياض من سوريا الى الأردن والحصول على عقود طباعة كتب وتجهيز وزارة التربية بحاسبات الكترونية لوزارة التربية العراقية.

- انعقاد المؤتمر التأسيسي للمجلس العراقي للثقافة في عمان بالاردن في الربع الأول من العام 2007 بمبادرة ورعاية من ابراهيم الزبيدي. حضرالمؤتمر الكثيرمن الشخصيات العراقية والعربية المعروفة في الاوساط الفكرية والثقافية والأدبية وكان أبو طيبة من ضمن المدعويين.

- إجراء عملية القسطرة لشريانين في القلب مع زرع شبكة في كل شريان

- التعرف على جواد البولاني (أبو مصطفى) وزير الداخلية في مكتب عامر أبو الحكم.

- اعجاب جواد البولاني وأعضاء حزب الدستور الذي ينتمي اليه البولاني وعامر أبو الحكم بالمقالات التي يكتبها وينشرها أبو طيبة في موقع كتابات الذي أسسه ويديره اياد الزاملي.

- العمل في مقر حزب الدستور بالمنصور بصفة مستشار اعلامي وتغطية الحملة الانتخابية لجواد البولاني.

- العمل مع فيصل الياسري في قناة الديارالتي يملكها الياسري على اعداد برامج دعائية لقائمة ائتلاف وحدة العراق التي قام البولاني بتشكيلها.

- لم يتمكن البولاني من الفوز ولاحتي بعضوية مجلس النواب العراقي بسبب تصريحه بأنه سيكون رئيس وزراء العراق بعد الانتخابات.

- أمضى رياض خمس سنوات في اعداد وتقديم برنامج " صورة عن قرب " من قناة الديار حاور فيه رؤساء كتل وأحزاب وشخصيات أكادميية مستقلة. كانت أول حلقة في التاسع من شهر تموز 2012. وكذلك برنامجين: "حوار الديار" و"من قلب الحدث ".

- عمل بصفة سكرتير تحرير صحيفة " الصباح الجديد".

- في منتصف العام 2018 تعرض الأخ أبو طيبة الى أزمة قلبية حادة أدخل على أثرها الى مستشفى البيطار وتم زرع جهاز نابض لعضلة القلب. ولهذا السبب غادر رياض بصحبة زوجته وابنته ميسة بغداد الى عمان للراحة والنقاهة وحتى يكون تحت رعاية العائلة. وكان هذا في شهر كانون الأول من نفس السنة.

الفصل العاشر: بعض من كتاباتي في قضايا الوطن والأمور الحياتية

يختتم أبو طيبة كتابه في الفصل العاشر الذي يكرسه لمختارات من مقالاته القصيرة ولكنها ذو وقع كبير على القارىء حيث تعكس أهم مشاكل الشعب العراقي منذ بداية الاحتلال الأمريكي للبلاد وحكمه من قبل قوى سياسية جاءت مع المحتل لتقود البلاد نحو نفق مظلم ومصير مجهول ونظام محاصصة طائفية مقيتة. أن العراق في مهب الريح وفي أزمة اقتصادية وسياسية واجتماعية وحتى أخلاقية ولايمكن الخروج من هذا النفق إلا بزوال هذه الفئات التي تسلطت على رقاب الشعب العراقي وهي فئات البروليتاريا الرثة.

الخاتمة

عجبتني الجمل التالية من الخاتمة وهي تعكس ملخص وعصارة تجربة الانسان وكفاحه في الحياة حيث يقول العزيز رياض:

" أدركت أن رحلة العمر الطويلة قد انتهت، ولم يبق أمامي إلا رحلة قصيرة لا أعراف كم ستطول، فقد مضى زمن لم يكن للندم فيه وجود، وزمن قادم، أأمل أن يكون للعمر فيه وجود، لقد احتواني خريف العمر، لكنني مازلت أعيش ربيع الأماني، وما تبقى، أتمنى أن يكون عمرا مضافا لسعادة زمن مضى ".

أطال الله في عمرك صديقي العزيزأبو طيبة.

بعض الملاحظات البسيطة التي لا تقلل من قيمة الكتاب:

بعض الملاحظات البسيطة التي لا تقلل من قيمة الكتاب:

- شيوع خطأ نحوي، مثلا في عام 1980. من الأفضل أن تكون في العام 1980 (مضاف ومضاف اليه). وهذا الخطأ النحوي متكرر في عدة صفحات.

- فجأة في عام 1917 غاب الحافظ عن العراق دون علمي. (ص236). الصحيح هو فجأة في العام 2017.....الخ

- جملة في صفحة 283: التي تعلمتها في وهي في (ص283.). الصحيح: التي تعلمتها وهي في..الخ

- سنوات التحدي والإصرار

- رياض عبد الكريم

- عدد الصفحات: 306،

- سنة النشر 2020،

- طباعة ونشر شركة الأديب عمان – الأردن.

- توزيع مكتبة النهضة العربية بغداد

***

د. سناء عبد القادر مصطفى

يشهد موضوع العقل والعقلانية نقاشات ومقاربات كبيرة على مستوى المجالين العربي والإسلامي، والتداول البحثي لهذه العناوين في راهن العرب والمسلمين جاء ضمن سياق تحديات ثقافية وحضارية فرضها الغرب عبر اهتمام مؤسساته الفكرية والسياسية والدينية بالمنظومة الثقافية والحضارية للعرب والمسلمين منذ عدة قرون.

فهناك من يُرجع هذه القضية إلى عصر الخلافة بالأندلس، أو نسبة للرشدية التي ألهمت الغرب المسيحي خرائط النظم التغييرية والنهضة الحضارية، كل هذا يضعنا أمام مفارقات معرفية تاريخية معاصرة، جعلت من فكرة العقلانية محل إشكال وجدل لدى النخب العربية والإسلامية عبر الأزمنة «القديم، الحديث والمعاصر».

ولمعاينة هذه القضية، سنسلط الضوء على دراسة مهمة بعنوان: «الإسلام والعقلانية.. ضد الجمود وضد الاستلاب»، والتي تندرج ضمن حلقات المشروع البحثي للباحث والمفكر الإسلامي الأستاذ زكي الميلاد، الخاص بالمفاهيم الحديثة وماهيتها في الفكر الإسلامي المعاصر، وطرحها كثنائيات يهدف من خلال دراستها وسبر أغوارها إلى بعث حراك فكري ذاتي جديد في عمق المجال العربي والإسلامي.

تحتوي هذه الدراسة على مقدمة للمؤلف، وخمسة فصول، كل فصل يحتوي على عناوين فرعية تبحث بُعدًا من أبعاد الدراسة التي رسم معالمها الأستاذ الميلاد في مقدمة الكتاب، والتي تجيب في عمومها عن فروع إشكال البحث العام الذي صاغه المؤلف بتدرج، وفي محاولة منه لتبسيط وتقريب الهدف الاستراتيجي للدراسة، فالسؤال الشمولي أو الأولي والذي جاء بصيغة التعجب الاستفهامي الذي يتصوره القارئ للوهلة الأولى عند مصادفة العنوان: هل هناك عقلانية إسلامية في قبال العقلانية الغربية؟

بينما القيمة الأساسية لهذه الدراسة، أن مهندس خطتها الأستاذ الميلاد حاول من الفقرة الأولى لمقدمته، رفع اللبس عند القارئ العربي والمسلم بكل تعددياته الفكرية والثقافية، بأن رسم محددات الدوافع والمحفزات لبحث هذه الفكرة، كطريق ثالث في قبال طريقي الإفراط والتفريط.

إذ يرى الميلاد في مفتتح الدراسة أن فكرة العقلانية «شهدت تقلُّصًا وتراجعًا في مجتمعات المسلمين، وكادت تتحول إلى فكرة منبوذة وغير محبذة لا أقل عند شريحة من الناس؛ لأنها تحرض على نقد تقاليد ومواقف وسلوكيات اجتماعية وتربوية وثقافية، باتت مألوفة وراسخة ومتوارثة، لكنها ليست حميدة بالضرورة، وليست فعّالة في ميادين التنمية والنهضة والتقدم».

هذا عن التفريط بفكرة العقلانية لدى التيارات الجامدة، أما عن التيارات المحتكرة لفكرة العقلانية، يرى الميلاد في السياق ذاته أن الاتجاهات المغايرة حاولت مصادرة فكرة العقلانية «وإعلان تملكها وبطريقة حصرية، والتباهي بها والتفاخر، وسحبها من ساحة الاتجاهات الدينية، وذلك على خلفية أن الدين بطبعه وطبيعته يفرض قيودًا على العقل ولا يطلق له العنان، ويخشى منه ومن تفلُّته، وله سيرة طويلة في النزاع معه» - ص7.

من خلال هذا الطرح، يؤشر المؤلف إلى وجود أزمة معرفية في الواقع العربي والإسلامي بخصوص استحضار فكرة العقلانية - حتى لا أقول اكتشافها -، ولعل هذه الأزمة المعرفية ترجع بالأساس إلى طرح الأسئلة الكبيرة في الغرف الصغيرة، وليس في الهواء الطلق.

والمهم في الإشكاليات التي طرحها المؤلف أنها جاءت على شكل تراتبية لإثارة الاهتمام المعرفي لدى القارئ الباحث، حيث انطلق من ماهية فكرة العقلانية في الدين ونصوصه وطبيعة العلاقة بينهما؛ ليقف على إشكالية الواقع والخطاب والسلوك لدى عامة المسلمين بنسبة ما، وبنسبة أكبر وأخطر عند الخاصة حين تساءل: أين المثقفون عن هذا العقل وهذه العقلانية في الفكر الإسلامي؟

- 2 -

هذه الإشكالية صاغها الأستاذ الميلاد، ليقف بدقة في الفصل الأول على صور مأزق فكرة العقلانية في المجال الثقافي العربي المعاصر، أي إشكالية التعامل مع هذه الفكرة، حيث رصدها في اتجاهين متشابكين، اتجاه التنكُّر والإهمال لفكرة العقلانية من جهة، واتجاه التبعية والافتنان من جهة ثانية، بينما منشأ هذه الإشكالية في نظر المؤلف له علاقة بعاملين ذاتي مرتبط بالأفراد، وموضوعي متعلق بمعادلات التقدم والتراجع وفق التحليل الخلدوني.

والعامل الذاتي، مرتبط بطريقة التكوين الثقافي والذهني والنفسي لشريحة المثقفين في المجال الثقافي العربي المعاصر، هذه الشريحة التي انفتحت على الغرب وأوروبا «تعلُّمًا وتعليمًا، مطالعة وبحثًا، إمتاعًا ومؤانسة»، ومعظمهم ممن درس في الجامعات الغربية «أوروبا، أمريكا»، حيث اكتسبوا ثقافتهم على يد باحثين ومستشرقين، ومنهم من بقي هناك بدواعي التدريس أو بسبب ضيق هامش الحريات في البلاد العربية والإسلامية، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى، قطع هؤلاء المثقفون الصلة بالثقافة الإسلامية، بين من انسلخ عنها، وانقلب عليها، ومن جهل بها، كل ذلك يستوضحه المؤلف، من خلال مكاشفات البعض، التي عكست مدى ارتباطهم بالثقافة الأوروبية، وانقطاعهم عن الثقافة العربية والإسلامية في زمن ما، أمثال الدكتور زكي نجيب محمود في مصر، والدكتور محمد الطالبي في تونس.

ثم يعرض الميلاد في هذا الفصل نفسه، من خلال عنوان: العقلانية والثقافة الأوروبية، ذرائع من اتصلوا بالعقلانية في الثقافة الأوروبية، لإكساب موقفهم تقبُّلًا ومشروعية لديهم، وذلك بالاستناد إلى ثلاثة مبررات هي:

أولًا: أن فكرة العقلانية تمثل العقل الكوني، وفي هذا النطاق يشير المؤلف لأطروحة الدكتور المغربي عبد الإله بلقزيز بخصوص الفرق بين العقل الديني في الثقافة الإسلامية والعقل الكوني في الثقافة الأوروبية، وانتصاره للأخير ممتدحًا المثقفين العرب الذين انتظموا في العقل الكوني [1]

ثانيًا: أن فكرة العقلانية تمثل العقل الحديث، أي العقل الذي تشكَّل في الأزمنة الحديثة، وانبهار هؤلاء المثقفين بسحر كلمة حديث في قبال كلمة قديم!

ثالثًا: اعتبار العقلانية ابتكارًا غربيًّا حديثًا، أشار إلى ذلك الناقد اللبناني علي حرب في كتابه «الماهية والعلاقة.. نحو منطق تحويلي».

بعد هذا العرض، انتقل المؤلف لمناقشة جانب آخر في علاقة المثقفين بفكرة العقلانية، وذلك ضمن عنوان: «العقلانية وموجة النقد»، حيث نبَّه إلى أن هذه العقلانية التي انبهر ودافع عنها وتبنَّاها هؤلاء المثقفون داخل المجال العربي، تعرَّضت إلى موجة نقد عنيفة في داخل معقلها الغربي وصل إلى درجة الشك، وخاصة ذلك النقد الذي جاء من تيار ما بعد الحداثة «ميشال فوكو، جاك دريدا، جيل دولوز وآخرين»، ما وضع المثقفين العرب - المنتظمين تحت مظلة العقلانية والفكر الحداثي الغربي - في حرج وتيه، ولسان حالهم: هل العقلانية بحاجة إلى نقد وهي منبع النقد؟!

ثم يعرج الأستاذ الميلاد لتحديد مواقف المثقفين العرب في ظل هذه الموجة النقدية الغربية للعقلانية، ويرى أنها تحددت وتفاوتت ما بين المواقف الآتية:

أولًا: هناك من فضَّل البقاء في أحضان مذهب العقلانية الغربية، وذلك بالنظر لطبيعة اللحظة التاريخية التي يمر بها الغرب، دافع عن هذا الموقف الباحث السوري هاشم صالح عند مراجعته لكتاب بيير فوجيرولاس «تحولات الفلسفة».

ثانيًا: بخلاف الموقف السابق وضمن السياق ذاته، هناك من يرى أنه لا ضرر على الثقافة العربية من الانفتاح على موجة نقد العقلانية في الخطاب الغربي، وأبرز القائلين بهذا الرأي الكاتب علي حرب والدكتور هشام جعيط.

ثالثًا: ما بين الموافقة والمخالفة هناك من يرى أن الإشكالية في المجال العربي ليس في رفض أو قبول نقد العقلانية الغربية، وإنما هي في أصل العلاقة بالعقلانية، ويذهب إلى هذا الموقف الدكتور عبد الإله بلقزيز، وهنا نلحظ مشاطرة المؤلف الرأي للدكتور بلقزيز مستشكلًا: كيف نبتكر عقلانيتنا؟

في الفقرة التالية انتقل المؤلف للحديث عن وجه آخر لإشكالية العلاقة مع فكرة العقلانية، يتمثل في محاولة التأسيس للإجابة عن الإشكال الذي طرحه في خاتمة الفقرة السابقة، تحت عنوان: فكرة العقلانية ومنابعها في الإسلام والثقافة الإسلامية.

وعلى النهج ذاته يسلط المؤلف الضوء على المواقف تجاه هذه الإشكالية وخلفياتها وأبعادها، والتي يمكننا التعبير عنها بالآتي:

1 - رؤية فلسفية تفاؤلية «د. طه عبد الرحمن».

2 - رؤية فلسفية تشاؤمية «عبد الكريم أبو حلاوة».

3 - رؤية فلسفية توافقية «د. عبد الإله بلقزيز».

4 - رؤية فلسفية اندماجية «د. عبد الله العروي» وفق مقولته: الانتظام فيما هو متاح للبشرية جمعاء.

بعد ذلك حاول المؤلف مناقشة دعوة الدكتور عبدالله العروي إلى الانخراط في العقلانية الأوروبية، من خلال مناقشة ما قام به الدكتور العروي من عرض ونقد لابن خلدون ومحمد عبده وانتصاره لابن رشد.

الفقرة الأخيرة من الفصل الأول اعتبرها الميلاد، مقدمة للفصل الثاني حيث خصّصها لعرض الرؤى النقدية لفكرة العقلانية في ساحة الفكر العربي المعاصر، وذلك بالاستناد إلى آراء أربعة نقاد عرب هم: عبدالإله بلقزيز، علي حرب، طه عبدالرحمن، هشام جعيط.

والملفت للانتباه في هذه الفقرة، أن المؤلف لم يتطرق من قبل في الفقرات السابقة للضبابية في مواقف الدكتور عبدالإله بلقزيز، تاركًا ذلك لفقرة النقد، وهذا يعتبر من الموضوعية والإنصاف في مقاربة المواقف الفكرية وتمحيصها.

- 3 -

في الفصل الثاني، تتسع دائرة إشكالية العلاقة بفكرة العقلانية وتنتقل من المجال العربي المعاصر إلى المجال الإسلامي المعاصر، ودون تقديم وبأسلوب الصدمة، يلج المؤلف هذا الفصل بفقرة أولى خصصها لموقف الخشية من العقل، ناقش فيه الجذور الفكرية والتاريخية، حيث تطرق له عبر ثلاث بوابات فكرية وتاريخية هي:

1 - تقدم وتراجع المعتزلة في القرن الثاني الهجري.

2 - أزمة إغلاق باب الاجتهاد في القرن الرابع الهجري.

3 - تقدم الغزالي وتراجع ابن رشد في القرن السادس الهجري.

ومن خلال هذه البوابات استعرض المؤلف بامتياز المواقف الكامنة وراء تشكُّل تصور مريب عن العقلانية في المجال الإسلامي المعاصر، وبروز الخصومات المفتعلة بين العقل والدين، ليختم ذلك العرض كله بتمنيات ثلاث مقابلة لما أسماه الدكتور محمد عابد الجابري تكريس وضعية العقل المستقيل.

بعد ذلك في الفقرة الثانية من الفصل الثاني، يقرّب المؤلف الصورة للقارئ الباحث عبر عرض صور وتجليات ظاهرة الخشية من العقل، والتي اختزلها في نموذج كتاب شيخ الأزهر الدكتور عبدالحليم محمود «الإسلام والعقل» الذي انتصر فيه للغزالي وحمل على ابن رشد، حيث اعتبر الدكتور عبدالحليم محمود الفلاسفة العقليين الإلهيين خلفاء إبليس، وفي هذا العرض ذاته يشير المؤلف لموقف الكاتب البحريني الدكتور محمد جابر الأنصاري الذي شنَّ هجومًا لاذعًا على الشيخ عبد الحليم محمود وموقفه تجاه العقل، وبالنسق نفسه لم يعلّق المؤلف على موقف الدكتور عبدالحليم محمود في كتابه «الإسلام والعقل».

وانتقل إلى الفقرة الثالثة بعنوان: «الخشية من العقل والتراجع الحضاري»، والذي يعكس العلاقة الطردية بين التراجع أو التقدم الحضاري وتغيّر الموقف تجاه العقل والعقلانية، مستشهدًا بأقوال ثلاثة مفكرين هم: الدكتور محمد عابد الجابري، الدكتور محمد عمارة، والدكتور عبد المتعال الصعيدي.

في حين أن الفقرة الرابعة خصصها المؤلف لأنصار العقل والعقلانية، حيث عرض لنموذج الشيخ محمد عبده من خلال آراء كل من الدكتور محمد عمارة، والدكتور إبراهيم مدكور، والدكتور عبد الله العروي.

- 4 -

في هذا الفصل المخصص لخطاب العقل في القرآن، نهج المؤلف نهجًا خاصًّا حيث انطلق في الفقرة الأولى من تفرّد هذا الخطاب من خلال عرض ثلاث وجهات نظر فكرية أشار لها عباس محمود العقاد، والدكتور طه جابر العلواني، والدكتور محمد الطالبي، ليعرج نحو الفقرة الثانية إلى المفارقات المتغايرة في عدة نطاقات: الجمهور، الفكر الإسلامي المعاصر، الفكر العربي المعاصر.

ثم يناقش في الفقرة الثالثة أهمية الصيغة الفعلية في خطاب العقل في القرآن بين مقلّ ورافع، ليعكف في الفقرات الثلاث التالية على دراسة نموذجين قللوا من أهمية الصيغة الفعلية في خطاب العقل في القرآن، وهما: أركون والجابري، ونموذج رفع من أهمية هذه الصيغة مثال العقاد. وفي نظر المؤلف استطاع العقاد أن يوسّع أفق خطاب العقل والعقلانية في القرآن مقابل ضيق الأفق لدى كل من أركون والجابري.

- 5 -

هذا الفصل جعله المؤلف عرضًا مفصّلًا لكل ما سبق من فصول، حيث تطرق لنظرية ختم النبوة عند المفكر الإسلامي الدكتور محمد إقبال، التي حاول عبرها تبيان دور العقل في الإسلام من خلال حقل فكري تجريبي خاض غماره في كتابه: «تجديد التفكير الديني في الإسلام»، هذه التجربة العقلانية أثارت زوبعة فكرية عاتية في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر في إيران، بعدما روج لها وتضامن معها الناقد الإيراني علي شريعتي.

- 6 -

الفصل الخامس والأخير أراده المؤلف للاقتراب من حقل من حقول المنظومة المعرفية الإسلامية المتمثل في علم أصول الفقه، لكنه اكتفى بالتجربة الإمامية التي جعلت من العقل دليلًا رابعًا إلى جانب الكتاب والسنة والاجماع.

كما تطرق المؤلف لمسألة تحتاج إلى بحث أوسع، والمتمثلة في مدى علاقة أصول الفقه بالعقلانية؟ أو ماذا عن فكرة العقلانية في ساحة أصول الفقه؟

والمهم في هذا الفصل تتبع المؤلف للمقولات العقلية في التراث الإمامي، ولم يجدها خارجة عن مجال أصول الفقه، كما أشار إلى عدم اهتمام علماء هذه المدرسة الإسلامية ببحث فكرة العقلانية في أصول الفقه أو غيرها من حقول المعرفة الإسلامية في تراثهم.

- 7 -

في الختام ومن خلال هذه الجولة في فصول هذه البحث المهم، يمكن رؤية حزمة من الإشكاليات المهمة في تحقيق الخطوة الإصلاحية والتجديدية الاستراتيجية في الفكر الإسلامي المعاصر، فالمؤلف استطاع إلى حد ما، فتح بعض الملفات غير الإشكالية المتعلقة بالعقلانية في المجالين العربي والإسلامي المعاصرين، وتسليط الضوء على ظواهر خطيرة من قبيل الخشية من العقل.

كما أضاف وأغنى بحثه بدراسة الخطاب القرآني حول العقلانية، ومدى أهمية ذلك في التأسيس لفكرة العقلانية الإسلامية الرصينة، مع اعتماده على نموذج نظرية ختم النبوة وصولًا إلى مقاربة علاقة العقلانية بساحة الفكر الإسلامي عبر حقل أصول الفقه لدى الإمامية.

هذه المقاربة رأيتها نوعًا ما بحاجة لإعادة صياغة الفهم للعقلانية وعلاقتها بحقول المعرفة الإسلامية؛ لأن إشكالية مقولة «العقليات الإسلامية» كما أسماها المفكر الإسلامي اللبناني الشيخ محمد جواد مغنية، عبر تاريخ الفكر الإسلامي بأزمنته الثلاثة، تتحدد بطبيعة الحال ضمن حجم الأثر السلبي المترتب على ضعف حقول الفكر المقارن؛ لذلك فمشكلة تعطيل فكرة العقلانية الإسلامية ذاتها، سوف تبقى قائمة، لأن الفكر الإسلامي المعاصر يحتاج للمعرفة الشمولية الموضوعية للإشكاليات وليس للمعرفة الوضعية الذاتية.

بتعبير آخر: إننا بحاجة للدراسات الجماعية المتنوعة والفعّالة مثل تلك التي عرفها الأزهر الشريف في حقبة ما خلال القرن الماضي كتجربة رائدة انعكست في مقالات مجلة «رسالة الإسلام» لكنها أجهضت بسرعة، هذا النهج من شأنه أن يكون عصيًّا على التعطيل عبر التمترس وراء شروط العقلانية الإسلامية النابعة من الفكر الإسلامي المقارن الذي نجده حاضرًا بقوة في العديد من دراسات وأبحاث المؤلف.

من هذا المنظور يمكن القول: إن دراسة أزمة العقلانية في الفكر الإسلامي المعاصر، التي تم تداولها بحكمة وانضباط من قبل الأستاذ زكي الميلاد في كتابه هذا، تفتح مرحلة جديدة في الفكر الإسلامي المعاصر، لم يعد بمقدور أهل الفكر والمعرفة في المجال العربي والإسلامي السماح لأنفسهم بالابتعاد عن أمواج العقلانية؛ لأن سياسة الحداثة أو ما بعدها لا تعرف الخصوصيات والانغلاق، لأن مخاطر الاستلاب التي تعصف بجغرافيتنا الثقافية بشكل فعلي منذ قرون، لا يمكن التخفيف من أعبائها سوى عبر الإجابة عن إشكال: ما الذي يجب فعله ولم ينجز حتى الآن فيما يتعلق بالمسألة الحضارية؟!

الكتاب: الإسلام والعقلانية.. ضد الجمود وضد الاستلاب.

الكاتب: زكي الميلاد.

الناشر: نشر مشترك منشورات ضفاف - بيروت، وأطياف - القطيف، وملتقى ابن المقرب - الدمام.

سنة النشر: 1435 هـ / 2014م.

الصفحات: 178 قياس الوسط.

***

أ. مراد غريبي – كاتب وباحث

.......................

 [1] في هذا الإطار لمناقشة أطروحة عبد الإله بلقزيز يمكن العودة إلى الكتابات النقدية للحداثة التي يقول عنها ألان تورين: «من المتعذر أن نفصل الحداثة عن العقلانية»، والحداثة حسب تعبير ميرلو بونتي «كما مورست في الغرب هي كونية بخط مائل». وعند تحليل العلاقة بين العقلانية والكونية نجدها عقلانية مبتورة عن القيم، وتستبطن التحكّم وتهدف لتدمير الخصوصيات الثقافية، وعليه من منظور الفيلسوف اللاديني إدغار موران «العقلانية كمذهب هي بحاجة لترميم».

دوامات التدين ليوسف زيدان

الكاتب المصري والمؤرخ والفيلسوف والباحث في التراث والمخطوطات المثير دائما للجدل قال: بحسب المصادر اليهودية المبكرة والمتأخرة، وحسبما اتفق عليه غالبية المؤرِّخين والباحثين، فإن التوراة كتبها (عزرا الكاتب) إبان القرن الخامس قبل الميلاد .

وحكى فيها عن بدء الخليقة ووقائع حياة آباء الأنبياء من أمثال إبراهيم ويعقوب الذى غلب الله (إيل) فصار اسمه إسرائيل! وتفاصيل الخروج من مصر وتخريبها يوم (الفصح) أيام موسى التوراتى الذى كان يعيش بمصر حسبما قال عزرا الكاتب، قبله بقرابة الخمسمائة عام.

وحسبما يقول اليهود، كانت كتابتها فى أورشليم (القدس) بعد انتهاء السبى البابلى الذى قام به «نبوخذنصّر» حين سبى شعوب الهلال الخصيب (فلسطين، سوريا، لبنان، العراق) كى يعملوا بالسُّخرة فى بابل.

المدينة التى كان بها البرج، الذى اغتاظ منه الربُّ فنـزل من السماء، حسبما تقول التوراة، ودمَّرها...! وبلبل ألسنة الناس من يومها، فصاروا يتحدثون لغات مختلفة (وذلك هو التفسير التوراتى لاختلاف لغات البشر).

ولأن عزرا الكاتب كتب التوراة بعد قرون من الوقائع التى حكاها فيها، كان لابد من واسطة إلهية تجعل ما كتبه مقبولاً.. وهكذا صار الروح القدس (هرُّوح هقُّودِش) هو الذى أملى التوراة على عزر.. ا!

يقول الدكتور يوسف زيدان: التوراة هى أسفار موسى الخمسة (التكوين، الخروج، اللاويين، العدد، التثنية) وقد لحقت بها أسفار أخرى للأنبياء الكبار من أمثال "إشعيا وإرميا"، والأنبياء الصغار من أمثال "عاموس وحبقوق".. ومن مجموع هذه الأسفار كلها، يتألف (العهد القديم) الذى يقدسه اليهود والمسيحيون معاً. لكنهما ينفصلان من بعد ذلك فى تقديس المسيحيين للأناجيل، وتقديس اليهود للتلمود.

أحيا البطالمة الديانة اليهودية التى كانت مؤهلة للاندثار، حين استقدموا من أورشليم (إيليا، القدس) اثنين وسبعين عالماً من أحبار اليهود، واستضافوهم فى المدينة كى يترجموا التوراة من اللغة العبرية التى ما كان يعرفها آنذاك إلا قلَّةٌ قليلة، إلى اللغة اليونانية التى كانت لغة العلم والمعرفة والفكر والتجارة الدولية.. !!

وقد عُرفت هذه الترجمة السكندرية باسم (الترجمة السبعينية للتوراة) فى إشارة إلى عدد الأحبار الذين أنجزوها! ولم تُدعى بالترجمة السكندرية، ولا الترجمة البطلمية، ولا الترجمة المصرية، ولا الترجمة الناصرية!!.. فتأمل ذلك، تفهم الكثير ....!!:  ليوسف_زيدان ...!!

 وفي نفس السياق في دوامات التدين: أثار الدكتور يوسف قضية أخري حيث قال: ..المسيحيون، من وجهة النظر اليهودية مجرد (ضالين). يتوهمون أن المسيح (الماشيح) المنتظر، جاء.

من حيث اللفظ والدلالة الاصطلاحية، فإن (الأرثوذكسية) هى كلمة يونانية الأصل، تعنى لغة (الاستقامة)، وتعنى اصطلاحاً (الإيمان القويم) وهى تستعمل فى التراثيات المسيحية للتفرقة بين الذين يرون فى أنفسهم أصحاب الدين الصحيح والإيمان القويم والأمانة المستقيمة (الأرثوذكس)، ويرون مخالفيهم فى العقيدة (هراطقة)

 وعلى المنوال ذاته، ترى الجماعات اليهودية السلفية، أى الأرثوذكسية، ذاتها.. وترى الجماعات الإسلامية الأرثوذكسية، أى السلفية، ذاتها... ! فتأمَّلْ هذا التقابل، و تذكر الحديث النبوي: (لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُم شِبْرًا بشبْر، وذراعًا بذراع، حتَّى لو سَلَكُوا جُحْر ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ))؛ قالوا: يا رسول الله؛ اليهودُ والنَّصارى..؟! قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: (فَمَن؟!)

ويبدو أن النزعة الأرثوذكسية عموماً (السلفية) تعطى اهتمامها الأول للنص الثانى فى كل ديانة. يظهر ذلك فى اهتمام الأرثوذكسية اليهودية بالتلمود، واهتمام الأرثوذكسية المسيحية بالأعمال الآبائية المسماة فى التراث المسيحى (اعترافات الآباء) واهتمام الأرثوذكسية الإسلامية بالحديث الشريف.

ولعل ذلك النزوع الأرثوذكسى (السلفى) يعود فى المقام الأول إلى خصوصية (النص الثانى) وارتباطه بهذه الجماعة الدينية أو تلك، بالإضافة إلى التحديد الدلالى وصرامة المعانى فى النصوص الثوانى (التلمود- تراث الآباء- الحديث الشريف)

 فى مقابل الاتساع الدلالى وقابلية التأويل فى النصوص الأولى (التوراة- الأناجيل- القرآن الكريم)، وهو الأمر الذى يناسب حدة وصرامة النزوع السلفى الأرثوذكسى، ويقيه فى الوقت ذاته من التماهى مع غيره من الاتجاهات الدينية فى هذه الديانات الثلاث، التى أرى أنها فى واقع أمرها «ديانة واحدة» ذات تجليات ثلاثة، حسبما أوضحتُ فى كتابى الأخير: اللاهوت العربى وأصول العنف الدينى .

وكان اكتمال كتابة التلمود (المشناة، والجمارا) فى القرن الخامس الميلادى، وظل بعدها فترة محجوباً بأيدى الجماعات اليهودية، حتى انتبه إليه مسيحيو أوروبا، وغاظهم ما فيه من تهجم على السيدة العذراء (مريم) وابنها المسيح (هَمَّشيح) فكانوا يحرقون التلمود كلما بلغ بهم السيل الزُّبى، أو الغيظ المنتهى.

واستمر الحال، على هذا المنوال، بين شدٍّ وجذب، حتى تعرَّف الناس على التلمود وترجموه إلى اللغات الأوروبية المختلفة، من دون أن يقدِّسوه بالطبع، لأنهم مسيحيون يقدسون العهد القديم أو التناخ (التوراة وأسفار الأنبياء والأسفار الكتابية) والعهد الجديد (الأناجيل وأعمال الرسل)

فانفرد عنهم اليهود بتقديس التلمود، وتزايدت أهميته عندهم، لأنه يكمل شريعتهم الموسوية، ويميِّزهم عن المسيحيين الذين هم من وجهة النظر اليهودية مجرد (ضالين). يتوهمون أن المسيح (الماشيح) المنتظر، جاء.

ومع تزايد أهمية التلمود، أى المشناة وشروحها المسماة (الجمارا) صارت التلمودية صفة أساسية لليهود، ولذلك سميت اليهودية المعاصرة باليهودية التلمودية وباليهودية الحاخامية.. وصار التلمود أهمَّ عند اليهود من التوراة، لأنه ينظم تفاصيل الحياة اليومية، ويؤكد الشريعة التى صاغها أجيالُ الفقهاء (الحاخامات) خلال ما يقرب من ألف سنة.

 ولما قامت دولة إسرائيل مؤخراً، أعنى فى منتصف القرن العشرين، صار التلمود أكثر أهمية لأنه بمنـزلة الأساس الذى تستمد منه الدولة اليهودية ملامحها الدينية .وفي نهاية  المقال أطرح سؤال علي الدكتور يوسف زيدان:- هل الأحداث الجارية في إسرائيل من حكومة نيتنياهو واليمين المتطرف بتغيير بعض مواد المحكمة العليا هي بداية إعلان إسرائيل دولة دينية ..؟! علما في فترات تولي نيتنياهو رئاسة الحكومة طالب الكنيست الإسرائيلي بمشروع يهودية الدولة ومشروع أخر ..بالتصويت في الكنيست أن تصبح إسرائيل دولة قومية . نرجوا طرح رؤيتة مع هذة التغييرات ... ؟!

***

محمد سعد عبد اللطيف

كاتب وباحث مصري في الجغرافيا السياسية

صدر مؤخرا عن "مؤمنون بلا حدود للدّراسات والأبحاث" بالشّارقة كتاب لسماحة السّيّد كمال الحيدريّ بعنوان: "العقل الفقهيّ بين الإطلاق والتّاريخيّة: نقد قاعدة الاشتراك"، والكتاب بقلم حيدر اليعقوبيّ، وما أكتبه في هذه المقالة ليس وصفا للكتاب وتلخيصا له، وليس نقدا له أيضا، وإنّما لمحة سريعة عن الكتاب وفق النّظريّة التّأريخيّة، أو السّنّة التّدبيريّة، أو الظّرفيّة كما جاءت بإسهاب في الكتاب، لهذا التّأريخيّة قد تحدث شيئا من اللّبس وفق القراءات المعاصرة؛ لأنّها لا تتوقف عند المفهوم أو المصداق فقط؛ بل تتعدّى إلى النّصّ ذاته، غير ممايزة في الأصالة من حيث بشريّته ولاهوتيّته، بيد أنّ الكتاب من الابتداء جاء مناقشا للعقل الفقهيّ أكثر من النّصّ الدّينيّ ذاته، موردا الزّمنيّة والظّرفيّة في العديد من المصاديق الّتي أسهب حولها، في قراءة داخليّة من التّراث الإسلاميّ – خصوصا المدرسة الإماميّة -، ومدى دوارن المصاديق وأصولها بين الاشتراك والتّأريخيّة.

عموما القراءة التّأريخيّة من أكثر القراءات الجدليّة اليوم، ومع حضور بعض أجزائها علليّا في التّراث الفقهيّ الإسلاميّ إلّا أنّها محل جدل عند التّقليديين خصوصا، ومع حضورها معرفيّا في الدّراسات المعاصرة؛ إلا أنّ حضورها لا زال يصاحبه توجس كبير في الدّراسات الإسلاميّة عموما، خصوصا حول اجتهادات نصر حامد أبو زيد (ت 2010م)، ومحمّد أركون (ت 2010م)، وعبد الكريم سروش وغيرهم، وهناك من يمايز بين التّأريخيّة والتّاريخانيّة، وسبق أن كتبتُ مقالة في هذا في جريدة عُمان بعنوان: "النّصّ الدّينيّ والقراءة التّأريخيّة"، أشرتُ إلى التّمايز بينهما، فليرجع إليها بُعدا عن التّكرار.

الّذي يهمني هنا الفريق الّذي لا يمايز بينهما ككمال الحيدريّ، فيطلقون التّأريخيّة بمعنى التّأريخانيّة من بعض الوجوه، فكلاهما كما يرى الحيدريّ "يُراد بها الموقّت والمقيّد بالظّرف التّاريخيّ الّذي تحقّق فيه، فالتّاريخيّ هو المرتهن أو التّابع للظّروف التّاريخيّة الّتي تحقّق فيها وصدر خلالها"، وإن كان كما يرى شفيق جراديّ في كتابه: الوحي ونقد النّصّ الدّينيّ أنّ "الحدّ الفاصل بين المنهج التّأريخيّ القائم على الوثيقة والتّحقيق، والمنهج التّاريخانيّ بما هو منهج معرفيّ خاصّ ينفي أي مستوى غير بشريّ في المعرفة، وأنّ اهتمامات المنهج التّأريخانيّ ليست التّاريخ بما هو تاريخ، بل المعرفة الّتي يمكن أن نلحظها في تولداتها ومسيرها التّطوّريّ، ونسبياتها البشريّة البحتة"، بيد أنّ الحيدريّ يوضح مراده بالتّأريخيّة "في هذه الدّراسة [بمعنى] الموقّت والمقيّد بالظّرف التّاريخيّ الّذي تحقّق فيه، فعندما يُقال مثلا إنّ السّنّة النّبويّة تاريخيّة؛ معناه أنّها مقيدة بالظّروف والأحوال المحيطة بها، ولازم ذلك أنّه لا ينعقد لها إطلاق أحواليّ وأزمانيّ لتشمل العصور اللّاحقة، والبيئات الّتي تختلف عن تلك البيئة الّتي تحقّقت فيها، وصدرت من خلالها".

فالتّأريخيّة عند كمال الحيدري أبعد عن التّأريخانيّة بمفهومها الفلسفيّ الشّموليّ، "الّذي يوحي بأنّ للسّنة مثلا تاريخ صلاحيّة معيّنا، وأنّ دورها قد انتهى بانتهاء ذلك التّاريخ، بل المقصود منها الظّروف الفكريّة والثّقافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة والعادات والتّقاليد الّتي تحيط بالنّصّ"، فهو أقرب إلى العلليّة المصاحبة للعلّة والقرائن والظّروف والاستصحاب والمصالح والمقاصد، بمعنى "أنّ العناوين الواردة في النّصّ الرّوائيّ سواء كانت فقهيّة أم عقائديّة أم أخلاقيّة أم اقتصاديّة أم اجتماعيّة عندما رتّب النّصّ عليها محمولا ما؛ أخذ فيها الظّروف الزّمانيّة والمكانيّة".

ابتداء يرى الحيدريّ أنّ "الدّين ... أساسه النّصّ الدّينيّ، المتمثل بكتاب الله عزّوجلّ والسّنّة"، بيد أنّه في غالب الكتاب يركز على السّنّة أو الرّواية، فقد "كان [النّبيّ] يعيش بين النّاس، وصدرت عنه مجموعة من الأقوال والأفعال والإمضاءات شكلت بمجموعها ما عرف بعد ذلك بالسّنّة"، هذه لا تخرج عن التّأريخيّة بالاتّفاق؛ لأنّها "مقيّدة بالظّروف والأحوال المحيطة بها، ولا ينعقد لها إطلاق أحواليّ وأزمانيّ لتشمل ما بعد عصره، وخاصّة العصور اللّاحقة، والبيئات الّتي تختلف عن تلك البيئة اجتماعيّا وثقافيّا واقتصاديّا"، وهذا خلاف القرآن من حيث الوصول، والقول بتأريخيّة أي تأريخيّة القرآن قديما "بمعنى الخلق أي الحدوث في التّأريخ"، وهذا حسب الخلاف الكلاميّ هل هو حادث أم قديم، إلّا أنّه مرتبط علليّا في العديد من أحكامه الّتي تدور فهوماته حول الظّرفيّة لا الاشتراك.

ومراد الاشتراك "أنّ مشهور علماء الإماميّة ذهبوا إلى أنّه إذا ثبت حكم شرعيّ لمكلّف، سواء كان مخاطبا به أم لا، وسواء كان بدليل لفظيّ فيه إطلاق، أم بدليل لبيّ كالإجماع الّذي لا إطلاق له، فهو شامل لجميع المكلفين في الأزمان والأحوال"، وهذا عكس التّأريخيّة الّتي ينتصر لها الحيدريّ في الكتاب، بل حتّى من حيث غاية النّصّ ذاته، "فكلّما استقرأنا الأوامر والنّواهي الشّرعيّة وجدنا أنّ كلّ ما أمر به ففيه صلاح العباد، وكلّ ما نهي عنه فلا حاجة للعباد إليه، ووجدناه مفسدا داعيا إلى الفناء والهلاك، وهذا يعني أنّ الأصلا أنّها شرعت لا لأجل الانقياد والطّاعة فقط، بل أيضا لتدبير شؤون الحياة البشريّة".

وبما أنّه جاء لتدبير شؤون الحياة البشريّة فلا يمكن نزع التّأريخيّة عنه، ولا يعني بالتّأريخيّة حسب هذه الصّورة نزع الثّوابت، فالدّين فيه "ثوابت غير قابلة للتّحوّل والتّبدل، لكن على مستوى المفهوم لا المصداق .. هذه الثّوابت تشكل مساحة صغيرة، وموارد قليلة من منظومة المعارف الدّينيّة"، ولهذا كان الأصل التّأريخيّة وليس الاشتراك أو الإطلاق.

ولهذا يطرح الحيدريّ تساؤلات: هل للنّصّ الدّينيّ قراءة واحدة أم متعدّدة؟ وحال التّعدّد هل جميعها حجّة أو بعضها فقط؟ وإذا قلنا جميعها فهل جميعها مطابقة للواقع؟، فهنا في الابتداء يمايز بين الإلهيّ المتمثل في الدّين، والبشريّ المتمثل في فهم الدّين، والّذي يترتب عليه تراتبيّة الواقع السّابق أو الّذي جاء فيه النّصّ، ثمّ النّصّ الدّينيّ، ثمّ فهومات النّصّ الدّينيّ، وبما أنّ "الواقع سابق للنّصّ، والنّصّ كاشف له، وإذا كان الواقع ثابتا؛ إلّا أنّ فهم الواقع من خلال النّصّ متغيّر ومتعدّد"، بيد أنّ الحيدريّ يرجّح "أنّ الواقع متعددّ إمّا باختلاف الأزمنة أو باختلاف درجات وطبقات النّاس".

ثمّ إنّ التّعامل مع النّصّ لا يمكن فصله عن زمن النّصّ من جهة، وزمن مؤول النّصّ من جهة ثانية، ثمّ تأثير المؤول ذاته في النّصّ، بمعنى غلبة ذات الفقيه على موضوع النّصّ ذاته، فزمن النّصّ لا يمكن للفقيه أن يكون فقيها "إلّا إذا عرف زمان صدور النّصّ؛ بمعنى أنّه يأخذ الظّروف الزّمانيّة والمكانيّة المحيطة بعين الاعتبار في الاستنباط".

وزمن مؤول النّصّ لأنّ "المفسّر للنّصّ الدّينيّ ... يعيش ضمن ظروف زمكانيّة معيّنة، فيكون فهمه وقراءته متأثرين بالظّروف الّتي يعيشها، إذ لا يمكن لأيّ عالم أن يتجاوز زمانه ومكانه، ولازم ذلك أنّ آراء صحابة النّبيّ، وأصحاب الأئمّة، واجتهادات الأعلام هي تاريخيّة إلّا إذا ثبت العكس"، لهذا "قد يكون للنّصّ الدّينيّ فهم في زمن وصوله يختلف عن فهم رجال عصر صدوره".

وأمّا تأثير المؤول ذاته في النّصّ لأنّه "عندما يواجه الإنسان نصّا ... فهو إنّما يفهم النّصّ من خلال ما يحمل من موروث فكريّ وثقافيّ واجتماعيّ وسياسيّ ودينيّ في ذهنه، ومحال عادة أن يتجرّد عن موروثه، إذ لو تجرّد عنه لما أمكنه فهم النّصّ".

لهذا لا يمكن قراءة النّصّ الدّينيّ بعيدا عن الزّمكانيّة، والزّمان في نظر الحيدريّ "ليس هو معناه الفلسفيّ، أو مجموعة الآنات الّتي تقاس بها الحركة على نحو تغيير الأوقات من الصّباح إلى المساء، وعليه تتقرّر واجبات على المكلّف يجب عليه أن يؤديّها ... وليس المقصود كذلك تغيّر العرف والعادة، وإنّما المقصود هو تغيّر الظّروف الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة الّتي تحكم الحياة الإنسانيّة، مضافا إلى تطوّر الحياة بمختلف أشكالها"، وارتباطه بالمتغير أي "بالظّروف الّتي تؤدي إلى تحوّلات اجتماعيّة وسياسيّة واقتصاديّة، وتحوّلات في طريقة حياة النّاس، فقد يكون بلد ما محكوما بنظام سياسيّ واقتصاديّ واحد ثابت، لكنّ العادات والأعراف فيه مختلفة من محلّة إلى أخرى"، وتغيّر الظّروف "هو تغيّر الواقع، أو الأوضاع والنّظم الاجتماعيّة الّتي تربط بين أفراد المجتمع وعناصره، وما يعقب من ذلك من تغيّرات في موضوعات الأحكام، وسلوكيّات الأفراد ومعاملاتهم"، وعلى هذا يُقرأ النّصّ الدّينيّ.

بطبيعة الحال الكتاب مليء بالمصاديق والمضامين الّتي لا يمكن الإشارة إليها في مقالة قصيرة، إلّا أنّه يؤخذ عليه ا لإسهاب الممل في شرح المصطلحات والقضايا الأصوليّة والفقهيّىة الّتي في العديد منها أقرب إلى هامش أصل الكتاب، بيد أنّه دراسة مهمّة للاتفاتة إلى التّأريخيّة من خلال العقل الفقهيّ ذاته، بنصوصه الدّينيّة، ومصاديقه الإنزالية، وقراءنه الظّرفيّة، وعلله المقاصديّة، وتأثيرات الزّمكانيّة عليه.

***

بدر العبري – كاتب وباحث عُماني

العنف بين النقد والتبرير

تأليف: الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

تقديم: الدّكتور نابي بوعلي

***

تقديم: يشهد التاريخ أن ظاهرة العنف رافقت الإنسان منذ وجوده الأول، وظل العنف بأشكاله المختلفة حقيقة وجودية ملازمة للإنسان، ولذلك يبرز الانشغال المعرفي بمقتضى سؤال العنف. يواجه العالم اليوم عنفا غير مسبوق في التاريخ، حيث تدشن البشرية ألفية موسومة بالتأزم الشديد، وهذا يتطلب أن لا يعتمد تفكيرنا في أسباب ونتائج هذا العنف على تراث من تقاليد سياسية ومقولات أخلاقية فقط. وبعد كسر تلك التقاليد والمقولات لم يعد لدينا نقاط ثابتة نتكئ عليها، ومن هنا نُجبر على افتتاح طرق جديدة ومفاهيم مختلفة للتفكير. أصبح العنف أعظم بلاء مهيمنا اليوم، فهو يتزايد ويتخذ من المراوغة أوجها معقدة ومتعددة ويتخفى ليتفجر بين الناس بطرق غير متوقعة، ويكشف عن درجات الصراع، وغالبًا ما يتفجر عندما تصل حرارة الصراع إلى درجة معينة. فيؤدي المستوى العالي من الصراع إلى مستوى عالي من العنف في معظم الأحيان. يمتلك العنف ديناميكية خاصة، أي له قوته وفعاليته ومحركاته الذاتية، وبالتالي فإن تحول الصراع إلى عنف يُعد في حد ذاته تغييرا في طور ودور ودرجة الصراع.هناك افتراضات تكمن خلف أي تحليل للعنف دائما، افتراضات حول ماالعنف؟ما مظاهره؟ ما محركات الفعل البشري، وكيف ندرسه، وحول المصالح والحاجات والغرائز والبُنى والاختيارات التي تفسر لماذا وكيف يلجأ الناس إلى العنف؟

تدعو مثل هذه التساؤلات إلى الحديث عن العنف المشروع في مقابل العنف غير المشروع. وبشكل عام، العنف البشري ضد العقل لافتقاره إلى الشرعية إلا في حالات العنف المضاد التي يضطر فيها شخص ما للدفاع عن نفسه، وهذا أحد أشكال العنف. ومما لا شك فيه أن البشر لا يستعملون العنف فحسب بل يحاولون أيضا شرعنته؛ إن لم يكن تماما، فعلى الأقل جزئيا. فلا يمكن إضفاء الشرعية على أي شيء بطريقة كاملة. وإذا حاول المرء مع ذلك ترشيد هذا العنف، فسوف ينشأ شكلا جديدا من أشكال العنف يستخدم باسم العقل وينجم عن نوع من المبالغة في الشرعية. يمكننا أن نتكلم عن "العنف المزدوج"، كما نتكلم عن الحقيقة المزدوجة. خذ على سبيل المثال، الحرب العادلة، والعنف الثوري، واحتكار الدولة للعنف المشروع، أو الاستخدام الشخصي أو الخاص للعنف في حالات الدفاع عن النفس. إن مقولة العنف المشروع تثير قلقنا لأن العناصر التي تأتي معا للوهلة الأولى لا تتوافق مع بعضها ولا يزال من غير المعقول الجمع بينها، أو تبقى من اللامفكر فيه. ومحاولة "التفكير في هذا اللامفكر فيه أو ما لا يمكن تصوره"، كما وصفته حنة أرندت يجهد العقل ويضغط عليه، ولسنا متأكدين، أيضا، من ادعاء  كانط أن الأخلاق تقاوم العنف. تتعقد مسألة العنف في محاولة إضفاء الشرعية عليه. وفي مواجهة جميع أشكال هذه الحلول الزائفة، سيكون من الأفضل التعامل مع العنف على أنه سؤال مفتوح.3531 علي رسول الربيعي

وعن مسألة صراع العقل مع العنف ومحاولة عقلنة العنف، يبدأ الادعاء المحض بالعنف المشروع من طلاق كبير. وتأتي مشكلة الطلاق الكبير بين العقل والعنف من حقيقة أن العقل والعنف لا يعيشان في عوالم مختلفة. تتصادم ادعاءات الحق والعقل وآثار العنف في هذا العالم الواحد. إذا كان العقل لا يريد أن يكون صالحا وقانونيا فحسب، بل أن يبقى حيا ويدرك نفسه، فإنه لا يستطيع، أن يقيد نفسه بالقوى الناعمة الخاصة به، إن لجأ بكل قوة إلى العنف فذلك ليس من العدالة في حد ذاتها ويجب تبريره. علاوة على ذلك، فإن هذا الصراع لا يفصل عالمنا عن عالم الآخرين ولكن يمر من خلال وجود شخص ما. وبالتالي، فإن العقل، الذي يقوم بدحض العنف، يصل إلى العنف عندما يتعرض للتهديد. كونه غير قادر على تبرير العنف كعنف من أجل مصلحته، فإنه مضطر إلى تبريره في الإشارة إلى العنف الحاصل بالفعل. عندما يكون العنف مبرراً، يصبح مؤهلاً كـ "عنف مضاد".

ما أهمية أو راهنية هذه الدراسات عن العنف في عالمنا؟ ما أهمية التفكير تجاه ظاهرة العنف المتفجر في عالمنا العربي والإسلامي وما تعاني منه هذه الشعوب من تبعات هذا العنف؟ ما مظاهر العلاج والوقاية لمقاومة العنف على المستوى الثقافي، الديني، السياسي،الاقتصادي...  

يتناول هذا الكتاب ظاهرة العنف، ويحتوي مجموعة دراسات منفصلة عن بعضها البعض، أي كل دراسة تمثل وحدة قائمة بذاتها ومكرسة لمناقشة مسألة العنف من زاوية معينة، لأن دراسة العنف يمثل حقل دراسات واسعة وليس أحد فروع المعرفة. هناك اعتقاد سائد على نطاق واسع بأن العنف ظاهرة اجتماعية معقدة لا يمكن فهمها وتفسيرها إلا من خلال مقاربة متعدد التخصصات. لذلك جاءت فصول هذا الكتاب تتناول العنف من وجهة نظر تخصصات عديدة في العلوم الاجتماعية والفلسفة.

يخوض المؤلف في هذا الكتاب مغامرة في تحليل ظاهرة العنف وعلاقته بالإنسان في جانبه النفسي والمادي والرمزي، وفي تحولاته وأبعاده الفردية والجماعية والأخلاقية والسياسية والاجتماعية والدينية والرمزية والإيديولوجية والفلسفية، ومحاولة تفكيك أسبابه الذاتية والموضوعية، والوقوف على أشكاله ونتائجه المدمرة من غلو وتطرف وكراهية وحروب، وعلاقة ذلك بالانتماء أو الاختلاف العرقي والمذهبي والطائفي ومن منظور الأنا والآخر، والتركيز على فعل التدمير الذي نقف على آثاره الملموسة كمحتوى أساسي للعنف، وحمولة المقولات الإيديولوجية المرافقة للعنف مثل مقولة الحرب الاستباقية ضد مجهول مفترض، والحرب العادلة التي صارت ذريعة لعقاب جماعي لا يميز بين الضحايا والمذنبين. ولرسم الإطار الإشكالي لهذا الموضوع من خلال مقاربته من زوايا مختلفة وتقديم طرائق مختلفة لتطوير فهم ظاهرة العنف المعقدة، حملت فصول الكتاب العناوين التالية:3530 علي رسول الربيعي

يتناول الكاتب في الفصل الأول: العنف الجماعي،أي العنف الذي يتخذ طابعا جماعيا، وتديره جماعات تحكمها روابط مشتركة ضد جماعات أخرى تختلف عنها عرقيا أو ثقافيا أو دينيا... غالبا ما يتعذر الحوار بينها بالطرق السلمية، أو يمكن أن تمارسه دولا بطريقة ممنهجة. وقد يكون العنف محليا أو متداخلا وعابرا للحدود. ولذلك كان من الناحية المبدئية التمييز بينه وبين العنف الفردي. إلا أن أهم سمة تميز العنف الجماعي هي مشكلة الاستعصاء. وخطر تبرير العنف الجماعي وتغليفه بغطاء إيديولوجي كما هو الحال في التصدي للإرهاب وما يترتب عن ذلك من ضحايا لا علاقة لهم بالإرهاب، أو كما يحدث داخل المجتمعات التي تسلطت عليها آفة الطائفية والتي لم تقم مجموعاتها على التوافق والتعايش المشترك القائم على فقه الاختلاف واحترام الخصوصيات في إطار الوحدة. ليخلص إلى أن دحض وتفنيد مسلمات العنف الجماعي يتطلب الكثير من العمل والاجتهاد.

في الفصل الثاني الموسوم بـ"الهوية والعنف" يقوم الكاتب بكشف العلاقات البنيوية التي تحكم تشكل الهوية كحد بين الكينونة والصيرورة ضمن أنساق اجتماعية،بمعنى أن الهوية تقوم على التفاعل بين الفرد وبيئته الاجتماعية، ثم تحليل العلاقة بين الهوية والصراع الذي تغذيه هيمنة الخطاب الإقصائي خاصة في زمن العولمة التي تجتاح العالم بعنف قد يصل إلى درجة الإلغاء للهويات والخصوصيات الثقافية التي لا تتحمل التصادم مع تيار العولمة الجارف الذي يسعى إلى تنميط العالم وفق قيم الغرب الوحيدة الهدف والنمط. كما قد تنشأ وتفسر الصراعات العنيفة من وجهة النظر هذه من خلال الحاجة إلى فك التضييق عن حرية التعبير عن الهوية باعتبارها حاجة فطرية لدي الأفراد، وتقرير مصير الشعوب التي تنتهك هوياتهم من قبل المعتدين عليها. فيجد الفرد هويته المهددة هي ذاتها هوية الجماعة المحاصرة التي ينصهر فيها وينتمي إليها، ومن هنا تعتبر الهوية قوة كبيرة للتعبئة والحشد الجماهيري للقوى المشاركة في الصراعات.

في الفصل الثالث: العنف والعدالة الاجتماعية يتساءل الكاتب عن مشروعية استعمال العنف من حيث هو مطلبا وواجبا جوهريا لتعزيز جهاز العدالة، مع العلم أن العنف قبيح في جميع صوره؟ ثم يتناول الموضوع من وجهتي النظر السياسية والقانونية اللتان تبرران استعمال العنف، من حيث أنه يكون ضروريا لحفظ الأمن والنظام وفق قوانين محددة ومعروفة للجميع، ومن دون أن يكون ذلك ذريعة لبناء نظرية فلسفية تشرعن العنف وتبرر استعماله بالمطلق. يمكن التعامل مع هذا الشكل من العنف في إطار النظام القائم بدعوى الدفاع عن النظام ضد الفوضى بمقتضى ما تسمح به الشرعية وحدود القانون.

في الفصل الموالي يطرح الكاتب إشكالية تبرير العنف من الناحية الأخلاقية على اعتبار أن الأخلاق تشكل جذر العدالة، التي تضمن ـ عبر التزام أخلاقي وقانوني ـ حقوق الإنسان الأساسية في المجتمع مثل الحق في الحياة والحق في الكرامة وفي الحرية...، ومن ثم هل تبرير العنف نتيجة تدخل الدولة سيرفع من منسوب هذه الحقوق أم يعمل على تدميرها؟ ربما يكون الإنسان ضحية ماضيه نتيجة عوائق اجتماعية أو تاريخية أو نفسية ذاتية تمنعه من ممارسة حقوقه وحريته بسبب جهله، وليس بسبب عنف مسلط عليه من الخارج، وهو ما يكرس معاناته ويضاعف اغترابه في الحياة. كما يحلل الكاتب وجهات النظر المتعارضة، أي بين تلك التي تنفي تبرير العنف وبين تلك التي تقره استنادا إلى اعتبارات أخلاقية، ليؤكد في هذا الصدد على تبرير العنف في حالات محددة بوصفه علاجا ضروريا في حالة انعدام البدائل السلمية لتصحيح أخطاء أخلاقية قد تضر بمبادئ العدالة والحرية والرفاهية الإنسانية.

في الفصل الخامس: العنف الجانب المظلم من القانون يعالج الكاتب قضية ملحة تتمثل في علاقة العنف بالقانون، وهل يوجد قانون إنساني خال من استعمال العنف أم أن العنف سمة أصيلة في القانون الإنساني، وما دور القانون في كبح ظاهرة العنف والتقليل من مخاطره؟

لكن هناك مفارقة تتمثل في أن ردع العنف بالقانون يفرض على القانون الانخراط في استعمال العنف لتثبيت أركان الأمن وسلطة العدالة. والحال هذه لا بد من ضرورة التمييز بين الإكراه المشروع الذي يتطلّبه تطبيق القانون، والعنف المنفلت من أي رقابة قانونية. وهنا تبرز إشكالية أخرى أكثر حدة وهي مدى قدرة القانون على احتواء العنف حتى لا يتجاوز العنف حدوده القانونية ليعفن القانون ويفرغه من محتواه.

إن تناول الأستاذ علي  رسول الربيعي للعنف والقانون ربما يذكر القارئ بالطروحات الطريفة لدريدا،الذي نظر في العلاقة بين العنف والقانون والعدالة في سياق انتقالي في مقالة "إكراه القانون". فذهب إلى ما بعد نقد العنف من خلال كشف التأثيرات الخارجية والبنية الفوقية الإيديولوجية كما هو سائد، أي إتجه نحو تفكيك القانون بالتركيز على العلاقة الجوهرية أو الداخلية بين العنف والقانون من خلال كشف الأساس الخفي،الرمزي،الباطني،الغامض والملغز لسلطةالقانون، لاستكشاف العنف في سياق القانون والصراع السياسي. يتسم الموقف الذي تظهر به العدالة الانتقالية بوجود العنف السياسي الذي يمثل تحديا لشرعية الدولة ولسلطة صنع القرار فيها. سيواجه هذا العنف من قبل الدولة بالتأكيد برد حاسم، المطلوب أن يكون هذا الرد على العنف وأسبابه قانونيا، أي من خلال النظام القانوني للدولة. وعلى كل حال غالبا ما ينخرط هذا الرد على العنف من قبل الدولة في استعمال الإكراه المادي الفعلي المباشر للدفاع عن سلطتها. تؤدي هذه العناصر المكوًنة من العنف والرد على العنف إلى ظهور خطاب تقابل وتعارض بين الاستعمال الشرعي وغير الشرعي للإكراه. يوضح استعمال مصطلحات العنف (غير شرعي،غير قانوني) والإكراه (شرعية، قانونية) الطريقة التي يُطرح فيها العنف والقانون كظاهرتين متعارضتين ومنفصلتين. لكن، بالنسبة لدريدا، يلقي العنف الثوري ضوءأ جديداً على العلاقة بين العنف والقانون. فبدلاً من القبول بأنهما ظاهرتين منفصلتين يكشف تحليل دريدا عن أثر العنف داخل القانون نفسه.

لقد طرح ضمنا السؤال ما إذا كان العنف والقانون يمكن أن يكونا منفصلين. إنه يأخذ بنظر الاعتبار ادعاء الدولة بحق احتكار العنف والآثار المترتبة على ذلك الادعاء بالنسبة لقدرة الدولة على تبرير القرارات التي تتعلق بالحياة والموت. إن العنف ضد الدولة عندما ينجح في إطاحة النظام السياسي فإن إمكانية أن يكون شرعيا تصبح لا مفر منها بوصفه وسيلة لإنجاز هدف التحول الاجتماعي والقانوني. وعليه فإن تفكيك العلاقة بين القانون والعنف يوفر رؤى نقدية حاسمة للطريقة التي يتحدى بها العنف الدولة واستجابة الدولة أو ردها على هذا العنف.

الفصلالسادس: نقدتبريرالعنف يتناول الكاتب ظاهرة العنف من وجهة نظر مفكرين معاصرين من أمثال كارل شميت (Carl Schmitt)،والتربنيامين (Walter Benjamin)،حنّةأرنديت (Hanna Arendt)،وفرانزفانون (Franz Fanon).ليس فقط من أجل التعريف بأفكارهم ومواقفهم ودراساتهم لظاهرة العنف، وإنما من أجل صياغة نظرة تركيبية تسهم في تقديم مقاربة أصيلة ومتماسكة عن العنف.

الفصل السابع: حوارحول العنف

في هذا الحوار الذي أجراه الدكتور عبد الله بربزي بمؤسسة مؤمنون بلا حدود مع الدكتور علي رسول الربيعي تطرق المتحاوران إلى إثارة أسئلة مهمة ومتنوعة، مثل محاولة تحديد أو تقديم تعريف للعنف وعلاقته بمحيطه المفاهيمي وبالمفاهيم المجاورة مثل: الكراهيّة،الاستبعاد،الاستغلال،الاستعمار،الانتقام،القتل،العدوانيّة والتّدمير... وكيف تفسّر العلوم الإنسانيّة ظاهرة العنف؟ ثم هل العنف ظاهرة طبيعية فطرية مغروزة في الطوية البشرية أم هي نتيجة أسباب اجتماعية وسياسية وثقافية وما علاقتها بالهوية والسلطة والقانون؟ وهل يمكن تبرير العنف من وجهات نظر سياسية أو أخلاقية أو قانونية، وما دور الفلسفة ورسالتها في فضح الوجه القبيح للعنف؟

في الأخير، يمكن القول إن طموح هذه الدراسة لا تستهدف الإجابة عن كل الأسئلة التي تطرحها ظاهرة العنف، بل ستتركنا مع الكثير من التساؤلات الملحة وعلامات الاستفهام التي تفرزها هذه الظاهرة. ومع ذلك، ورغم انتشار العنف في عالمنا الذي تمزقه التناقضات والخلافات الحادة والنزاعات والحروب، يبقى حلم السلام الدائم وإمكانية التعايش بين الهويات المتباعدة، والثقافات المتنوعة التي تشكل فسيفساء العالم فرضية قائمة، ومطلبا مشروعا كل المشروعية. أم أن هذه الفرضية لا تصمد أمام الالتباس الذي يلف ظاهرة العنف التي تتفجر في أي مكان وفي أي زمان وحيثما وجد الإنسان وأوجد أسبابها، وهيأ لها المناخ المناسب والذي يتحمل مسؤوليتها وتبيعاتها الخطيرة؟

***

د. نابي بوعلي

الفنتازيا هي رؤية غير مألوفة للواقع، ما يعني أن هنالك شكاً في عالم الرواية إن كان ينتمي إلى الواقع أم يرفضه، وفي الوقت ذاته يمثل معالجة إبداعية خارجة عن المألوف للواقع المعاش، إذ تُعد الفانتازيا نوعاً أدبياً يعتمد على السحر وغيره من الأشياء الخارقة للطبيعة كعنصر أساسي للحبكة الروائية، والفكرة الرئيسية، ويرى تودروف أنها ذلك الواقع المتردد الذي يصيب المتلقي الذي اعتاد على معرفة قوانين الطبيعة، ثم يجد نفسه فجأة أمام وضع فوق طبيعي حسب الظاهر.

وكتاب رؤى فنتازية للدكتور صالح الطائي الذي طرح فيه قضايا فكرية واجتماعية وسياسية، ليعالج القضايا الخارجة عن المألوف في حالاتها الاستثنائية بطرق فكرية فنجده منتقداً لها مرة مقوماً مرات. فجاء كتابه على شكل مقالات تطول وتقصر حسب الموضوع الذي يطرحه، لكن بثراء ثقافي متنوع مازجاً الفكر الغربي مع الشرقي، مُنتجاً معاني إنسانية جديرة بالاهتمام.

ويبدو أنَّ الواقع الذي نقله لنا الدكتور صالح الطائي في أكثر وقائعه اليوم هو واقع فانتازي جعله يقرؤه برؤيته الخاصة، فقد تطرق الى عدة موضوعات منها: قضية نضوج العقل مستندا الى اعتقاد انيشتاين الذي يقول "إن تفكيرنا لايبقى على حاله، إذ لايمكننا حل مشاكلنا باستخدام نوع التفكير الذي استخدمناه عند إنشائها، ولعل الطائي يطرح قضية الإنسان، فيرى أن قناعاته لاتكتمل تجاه الواقع والحياة إلا بنضوج عقله.

وقد اوجب في الكتاب مصالحة الإنسان لنفسه قبل أن يتصالح مع الآخرين فيرى أن في ذلك وفي رؤيته الفانتازية أن المصالحة للنفس، هي ما تمده بقوى غيبية تجعله سوبر إنسان يمكنه أن يجتزئ المعجزات بل ويمكنه أن يتجاوز العوائق التي تضعها الحياة أمامه؛ ليتسلق القمم ويتحول الى نجم ساطع، ولم يتوقف ذلك على جنس أو فئة أو قومية أو جماعة بشرية ، فهو يرى أن الحياة أعطت للجميع فرصاً كثيرة، وأتاحت لهم تحقيق الأمنيات، فالبشر متساوون في هذه القسمة بخلاف من يستغلها منهم، فيمكنه بذلك تحقيق الفوز بشرط أن يحسن الاختيار، فضلا عن ذلك أن لا يضع الإنسان بيضه كله في سلة واحدة، بل إن المنافسة تتأتى من الاستباق نحو النجاح.

وقد حمل الكتاب دعوة الطائي إلى السلام في أكثر من مورد، ولم نراه يتفرد في آرائه إنما استوحى ذلك من قول امير المؤمنين علي (عليه السلام) وهو ينصح أصحابه حين كانوا يسبون أهل الشام، إذ قال لهم : "إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وضعتم أعمالكم، وذكرتم حالهم كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر وقلتم أمام سبِّكم إياهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، وأهدهم من ضلالهم حتى يعرف الحق مَن جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به".

أما نزعته في اجتلاب السعادة فكانت من الأولويات ويضرب لها أمثلة فانتازية ومنها ما ابتكره الأمريكان فكان طريقاً لسعادتهم وهو احتفالهم كل عام بشجر الكرز الذي أهداه لهم اليابانيون عام 1912م، والتي بلغت ثلاثة آلاف شجرة، إذ صار يؤمّها الكثير من سكان الولايات؛ ليحتفلوا بها بمناسبة يوم غرسها ... ما جعل الطائي يدعو إلى ابتكار سبل السعادة مثلما هم الأمريكان وهم يصنعون سبلها، جاعلين من الحياة أليفة صديقة معهم.

ويبدو أنَّ الطائي ينزع نزعة وجودية، فهو يستشعر شيخوخته ما جعله يرى الاشياء بنظره محض تفاهات، وهي أقل أهمية من أن يشغل المرء نفسه بها، ويبدو أن سياسات الحكام تلعب دوراً في تغيير الأمزجة، فتميل النفس في أحيان للمشاريع التخريبية في داخلها، ولاسيما لدى ضعاف النفوس، فهو يقول: "مهما حاولنا الاعتدال تأتي عواصف الغبار الهوجاء؛ لتدفعنا إلى الميلان، يا لتعس حظنا، فنحن حتى في شيخوختنا التي تطالبنا بالاعتدال نجد من يرى في اعتدالنا تعويقاً لمشروعه التخريبي، من هنا تجد في قلبي آهةً، أعتقد أن السماء كلها لاتسعها، وأظنها قاتلتي، أنا الذي اعتاد على قول كلمة حق في وجه سلطانٍ جائر فاجر فرعون، والمصيبة أنَّ جميع حكامنا هم فراعنة في كل الأزمان، وأنا لم أعتد المداهنة، فامتطيت بعير هواي منذ سبعين عجاف، وسرت في درب المتاهات بحثاً عن يقين" وهو إلى الآن لم يهتد إلى ضالته ولم يعثر على يقينه بسبب السياسات العمياء التي تلقي بكلاكلها على أبناء شعوبها.

وللطائي فلسفة حين كان يأمل بالتغيير الذي حدث عام 2003م في بلده العراق؛ ليعيد ترتيب حياته المضطربة جدأ من خلال ترسيخ التوافق بين الموروث الاجتماعي والتاريخي، والمعتقد الديني والسلوك المجتمعي، وبين المعطى الحضاري، لكنه فوجئ بعدم نجاح ذلك، فزادت الهوة أكثر؛ مما كان عليه الحال يقول: "لم ننجح في الحفاظ على موروثنا، ولا في الاندماج بالحضارة المعاصرة وصرنا مثل غراب أضاع المشيتين، من هنا تراني كلما يتقدم بي العمر تزداد قناعتي بأنَّ الإنسان هو الوحش الأخطر في الكون كله" ، مشيراً إلى المجازر الدموية التي ارتُكِبت عبر التأريخ وإلى يومنا، فلم يتحرر الإنسان من هذا الطبع، وكأنه فطِر على ذلك فلم يغير من هذا السلوك "ولازال مهما تقدم وتحضر، يحمل مواريث أجداده الهمج، وهو الخطر الأكبر الذي يهدد أبناء جنسه بالفناء".

وفي جانب آخر من الكتاب تتضح لنا رؤاه الفانتازيه حين نراه يعلِّم الجيل عن طريقة كتابته في التأليف، وفي اصطياد الأفكار وتدوينها حتى ولو في علب السجائر وهو اليوم قد أنتج أكثر من ثمانين كتاباً وما يزال ينتج . يقول: " وأكتب كل ما يخطر على ببالي من أفكار، أنشر بعضه للعلن، وأخفي بعضه الآخر سراً، ولاسيما وأني أشعر أحياناً بقوة كهروكيميائية تحرك قلمي، فتجعله يسير بعيداً عن سطوة عقلي، وكم يعجبني حينها ما قد كنت كتبته، فهو يبدو وكأنه ليس مني، وإنما مرَّ من خلالي، وهذا ما جعلني أضع قاعدة قلت فيها: حينما تأتي الفكرة لابدَّ أن تقتنصها في أي مكان وزمان وحال كنت، قبل أن تضيع منك، بادر لكتابتها حتى لو اضطررت إلى كتابتها على غلاف علبة السكاير، أو محارم ورقية، أو على حجر، أو على قميصك، أو ربطة عنقك، فهي أغلى من أن يطويها النسيان" .

وقد دعا الإنسان إلى فهم جوهر وجوده، فتناول القطيعة وأسبابها، ومنها كثرة المخاطر التي تهدد الإنسان، وهي السبب في التغيير المنشود بعد أن فقدت الإنسانية رغبتها وفاعليتها في التغيير، ولعل السير التقليدي من أقبح القطيعة، وهو ما يصادر حريته، داعياً البحث عن التغيير لا أن يتمرد على التلاقي الاجتماعي العقلاني، وعلى الإنسان أن يكون ذا رأي مسموع ومؤثر بين الجموع ، وأن يكون قائداً فاعلاً لا مُقاداً يستغفله الآخرون، فمن كان مهزوماً حتى من خياله، فعليه أنْ يعلم أنَّ الحياة بطبيعتها أصعب مما يتصور، والوصول إلى مرحلة الانتصار على الضعف والخنوع ليس صعباً، فمحاربة النفس والانتصار عليها تمكِّن من محاربة العالم بأسره والانتصار عليه .

والذي نقرؤه أنَّ الطائي يدعو إلى بلوغ الغايات والمآرب ليس في مقاطعة الحياة والانزواء في مسارب الظلمات والطقوس والأفكار البالية، بل على الإنسان أن يخرج من الكهف الفكري الذي يجعل من أفكار الكهوف تقوده، بل عليه أن يفكر ويرعوي وأن ينهض فكرياً بل وعليه أن يواجه، ويتخطى العقبات، وأن يقترح مشاريع سواء أكانت مادية أو فكرية، لأنَّ أصحاب الضلالات يسعون في كل الأوقات إلى تخدير من يبقى في عالم القطيعة ويظل يتعاطى أفيونهم ما يجعلون منهم (زمبلكاً) يدار، أو (عربةً) تدفع أينما شاءوا دفعها. فالفكر والتعقل والإرادة والتصميم للخروج من الكهف هو مجتَلَب النجاة والتقدم والازدهار.

أما أسلوب الطائي في رؤى فانتازية يختلف عن معظم كتبه، ولاسيما الدينية كونه رسالة وجهها إلى قرَّائه؛ لما فيه من مادة نهضوية تقدح فيهم حقائق تكاد تكون مجهولة لدى الآخرين فأتت عباراته سهلة واضحة بأسلوب خطابي مُعلَنٍ، فضلاً عن استيحاء الشخصيات العالمية والعربية من فنانين وعلماء وأدباء ومفكرين، كما أنه دعم نصوصه بأحاديث شريفة للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ولأولياء صالحين لينطلق من أقواهم لفكرة أو يعزز بها رأياً. فضلاً عن ذلك تناص مع نصوص كثر يدلل على ثقافته الموسوعية.

ولابد من الإشارة، إذ ليس كل ما طُرح في الكتاب جاء في هذا المقال، إنما هو غيض من فيض، فالكتاب جاء بثلاث مائة وست وأربعين صفحة بقِطْع كبير جمع فيه أربعين مقالاً بعناوين متعددة الرؤى في أسفلها (هاشتاكات) تمهد لعرض أفكاره، وخطاباته، وطروحاته على متلقيه.

وأخيراً نتمنى للطائي المزيد من النتاجات الفكرية النافعة. والله المستعان

***

بقلم د. رحيم الغرباوي

في وقت ما كانت القبلية a priori – وتعني المعرفة المكتسبة بمعزل عن التجربة في العالم – مبسطة. الميتافيزيقا كانت هي الأكثر نبلا تليها الابستيمولوجي او نظرية المعرفة. فمثلا، افلاطون ادّعى ان كل الأشياء في عالمنا اليومي هي صور ناقصة لأشياء في عالم المُثل. هذا العالم المجرد التام يمكن معرفته فقط بنوع من المعرفة المقدسة "التحديق في الشمس"، وخاصة عند التفكير بشكل "الخير". الطريقة القبلية في التفكير الخالص كانت هي نور العقل المقدس. انها كانت منفصلة ومتميزة عن الإدراك الحسي لأنها يجب ان تكون كذلك.

في هذه الأيام، يجري وعلى نطاق واسع الافتراض بان قدرتنا على المعرفة الفلسفية والرياضية والمنطقية وكل أشكال الحقائق المجردة ذات التفكير الخالص، هي انسانية أكثر مما هي دينية. الشك في اننا نستطيع معرفة كل شيء بمعزل عن التجربة الأرضية يبرز مباشرة من الشك في طبيعة التجريد الذي نحتاجه للقيام بهذا (مثل الله او الأشكال). ولنأخذ مثالا آخر، افتراض هندسة غير إقليدية يجعلنا مباشرة نتسائل كم هندسة هناك لكي نعرف القبلية. حتى اثنين يبدو كأنها مشكلة – ليس للهندسة ذاتها وانما لمعرفتنا بها.

القبلية حرفيا تعني "من قبل". عمانوئيل كانط اعتقد ان نوعا معينا من المعرفة القبلية يوفر الاطار المطلوب لأي معرفة ولجميع المعارف الاخرى. مبادئ معينة للفهم يجب ان توجد في أذهاننا، لأنه بدونها لن تكون هناك أي معرفة ممكنة بالعالم حسب قوله. انها شروط مسبقة لنا للإحساس بالتمثيلات الحسية للعالم المادي الذي نقطنه، بما في ذلك العلاقات المنطقية والكميات. من كانط الى الطبيعية التامة (الاعتقاد بان قوى الطبيعة وحدها هي التي تعمل في الكون)، المبادئ، الأحكام، الطرق، هي من الصعب التفرد بها، وبالنهاية كل ذلك يفسح الطريق الى شمولية ابستمية صعبة المنال كما يبدو، تكون فيها التبريرات المترابطة داخليا لعقائدنا حول العالم مشتبكة مع عقائد تعود رجوعا ليكون موضوعها المخطط المجرد الذي يربط عالم المعتقدات مجتمعا. كذلك، في العالم الطبيعي للآليات التي تنتج عقيدة صادقة في الذهن الانساني، فان القبلية، كما في كل المعرفة، وُجدت  متصلة بالسياق الاجتماعي لكل مفكر. آخرون يمكن احيانا ان يشيروا للأخطاء في تفكيرنا أحسن مما نستطيع نحن. لكن مسارنا السايكولوجي المعقد الى العقائد القبلية يتضمن الخبراء والزملاء الذين يمكن لجهازهم الادراكي ان يتقاسم المعلومات معنا  فقط ما بعد a posteriori – أي، من خلال التجربة، التي هي أساسا تجربة بمهما كان وأي كان اختيارهم للاتصال بنا. تلك هي مشاكل للصورة الافلاطونية المبسطة للمعرفة القبلية التي نبدأ بها.(علاوة على ذلك، أليس التحديق في الشمس ذاته هو نوع من المعرفة الحسية؟).

الكاتبان بول بوغوسيان و تيموثي ويليامسون في كتابهما يأخذان بكل هذا ويتحركان قدما في النقاش بطرق تنويرية. الكتاب تطوّر من سلسلة من الأوراق امتدت لأكثر من عقدين. عنوان الفصل الافتتاحي، "التحليلية إعادة نظر"، يقول لنا الى أين نحن ذاهبون. المؤلفان يعرضان اتجاها لقضية المعرفة القبلية بالإرتكاز على اللغة والمعنى. القول التحليلي القبلي هو الذي يكون صادقا فقط بمقتضى معنى الكلمات المنخرطة في الجملة، مثلا، "كل العزّاب غير متزوجين"، او "2+2 =4". في القول التحليلي، المعرفة تعتمد على فهم المفاهيم بدلا من رؤية ما يجري حولنا. لكن من هذا الاتجاه المنطقي واللغوي نحن في موقف لتحليل ماذا يعني ان نفهم القول، ومن ثم وفقط من ثم، نعرف حقيقة وضرورة ذلك القول. فهم المحتوى الافتراضي بهذه الطريقة هو نوع من لمحة سريعة للحقيقة لا تتطلب ميتافيزيقا كبيرة ولا ما يشبه ادراك الإله كما في نظرية الأشكال لافلاطون.

على طول الكتاب نحن نبقى في عالم اللغة. انت سوف تلاقي جمل كارناب و metasematics. (الدراسة الفلسفية للمعنى)، وشمولية كواين Quine’s holism . الابستيمولوجي المباشر ايضا يظهر بشكل مفاجئ، عندما يحلل الكاتب بوغوسيان حدسا فكريا قديما جيدا كطريقة لمعرفة الأقوال التركيبية. هذه هي أقوال تكشف او تحدد افكارا جديدة لنا – مثل مثال كانط الكبير،"أقصر مسافة بين نقطتين هي الخط المباشر".

من التحليل واليه ومن التحديات يبرز اطار للنقاش بين نظريتنين متنافستين تسميان الداخلية والخارجية. بوغوسيان كخارجي ومدافع عن القبلية، يدعو لدمج الميتافيزيقا والابستيمولوجي بموجبه تكون صلاحية الاستدلال هي الدليل لمعرفه انه صحيح. الحجة المنطقية الجيدة تبيّن تبريراتها، حسب قوله. ويليامسون يتخذ رؤية مضادة: وهي انه بينما نحن لانستطيع انكار وجود كلا الطريقتين من اكتساب المعرفة التي لا تستلزم خبرة حسية، وتلك التي تستلزم، فان هذا التمييز هو ليس الذي كنا نعتقده. انه أجوف. ذلك هو الموقف الذي يجادل به ويليامسون على طول الكتاب. في الفصل "كم هو عميق التمييز بين المعرفة القبلية والبعدية؟" هو يعطينا طريقا برجماتيا أصليا لإستنتاجه الشكوكي حول الطبيعة المتميزة للقبلية. هو يتعامل مع سؤال المعرفة القبلية  من خلال تجربة فكرية تذهب كالشكل التالي: كيف تعرف بان "الشمس مشرقة؟" أنت تحدق خارجا. ولكن كيف تعرف انه "اذا كانت الشمس مشرقة عندئذ الشمس مشرقة؟" في القول الأخير انت لا تحتاج النظر الى أي مكان. انت يمكنك إبقاء عينك على الشاشة او على الصفحة ولاتزال تعرف انها حقيقة. هناك بالتأكيد مواقف حقيقية للمعرفة القبلية لكن ذلك فقط نصف القصة. عندما نلتفت الى المحتوى الداخلي في مصطلح القبلية – المعنى الباطني للمفهوم – نحن لا نجد اساسا يستحق الانتباه، حسب رأيه.

لكن سواء كان الشكوكي ويليامسون ام المدافع بوغوسيان، ان ما يهم هو تحليل القبلية باعتبارها مستقلة عن التجربة. نحن تحدثنا عن الاختلاف بين الخبرة التي لها دور إثباتي من جهة ودور تمكيني من جهة اخرى. نحن ننظر في الداخلي مقابل الخارجي للخبرة او التجربة. آخر محطة في سفرة ويليامسون هو فصل "معرفة بواسطة التصور". هنا هو يعطي تحليلا شاملا للتصور كمصدر للقبلية. التصور فلسفيا هو مُتجاهل مقارنة بالحدس الفكري، لكنه له وظيفة ابستمية في توقّع واستشفاف ما هو ممكن.

الكتاب ومهما كان استكشافه في اللغة والمعنى، ينتهي فعلا بالعودة الى نوع مألوف من تحليل الأسئلة حول المعرفة. هل نحن خارجيون، الحقيقة بالنسبة لنا تعتمد على الحقائق الخارجية للذهن، ومستعدون للسير وراء تفكير بوغوسيان "الأعمى ولكن دون لوم"؟ ماذا نعتقد بالموثوقية reliabilism ؟وهي النظرية بان عملية اكتساب المعرفة يجب ان تُحكم طبقا لمقدار الثقة الذي تُنتج به عقائد صادقة. هل ويليامسون يرى ما يمكن اعتباره جوهر المشكلة وهو: ان النقاش حول طبيعة المعرفة القبلية هو بالنهاية حول رؤيتنا للمعرفة ككل. اذا كانت المعرفة ليست فقط عقيدة صادقة وانما حالة يمكن ان يفقدها المرء في ضوء تغيير في السياق او تحدّي من عارفين آخرين، فان المعرفة القبلية ستكون ايضا كذلك. اذا كان الأمر هكذا، عندئذ ستكون القبلية حساسة للتحديات والتعقيدات من الخبرة الحسية.

اتجاه الكاتبين المرتكز على اللغة يعمل بشكل جيد في تحليل الشكوكية حول القبلية، لكننا لا نزال نريد النظر الى صورة أكبر لفهم الطرق المنطقية او الرياضية او الفلسفية في تحصيل المعرفة القبلية.

التصورات والإستدلالات كلاهما أشياء نستطيع عملهما وعيوننا مغلقة، وبالتالي هما مرشحان ليكونا طرقا قبلية في توليد بيانات معروفة. لكن ألا نريد ايضا دراسة كل أنظمة المعرفة  وليس فقط الأسس؟ على الرغم من معرفة أقوال تحليلية مبسطة مثل "العزاب غير متزوجين"، لكن تحليل مفاهيمي على نطاق أكبر يجب ان يذهب وراء تكوين العقائد الفردية. ومن بين أشياء اخرى، انه يستلزم التنظير، المحتوى الداخلي للكلمة intension  والاعتماد على افكار ومعاني مرتبطة بالكلمة extension (1)، توازن انعكاسي، وتطور المفاهيم ضمن خلفية مفاهيم متنافسة. كيف يمكننا ربط العقيدة القبلية بأنظمة أكبر تنشأ من هذه الاسس؟ المزيد من العمل مطلوب انجازه كما يبدو.

في النهاية، المشاكل في الكتاب هي بالضبط متصلة بهدنة مؤقتة غير سهلة بين الابستيمولجيا الحديثة والاعتماد على ضوء الفكر المشرق  لنظام ميتافيزيقي كبير. المؤلفان يصلان لذلك. ولكن بدون تلك الصورة الكبيرة الواضحة، نحن دائما نشعر كما لو كنا نتجول في ظلال نظريات المعرفة المرتكزة على العلوم، نتحدث كثيرا عن تأثير إصابات العين على الإدراك البصري أكثر مما عن ضوء العقل الأصلي. الشمولية والسياقية ونقاش الداخلية والخارجية هي تعبير عن الفكرة النهائية للجدال. الشيء الجيد في هذا الكتاب الممتاز هو انه نجح فعلا في ان يأخذنا الى أي مكان نحتاج الذهاب اليه في هذا المشهد الابستيمولوجي الحديث والصعب المنال، وهو دائما يتجه في الاتجاه الصحيح - الى المفاهيم والمحتوى ومنطق الإفتراضات المعروفة. الكتاب ليس خلاصة وافية وانما بسبب تحليلاته المتأنية بشق الأنفس، هو لايزال يستحق القراءة كخارطة كاملة ودقيقة للقبلية في الابستيمولوجيا الحديثة.

كتاب نقاش القبلية للكاتبين بول بوغوسيان و تيموتي ويليامسون صدر عن مطبوعات جامعة اكسفورد بتاريخ 14 ديسمبر 2020 في 288 صفحة.

***

 حاتم حميد محسن

...................

الهوامش

(1) تشير مفردة intension  الى المحتوى الداخلي للمصطلح او المفهوم . اما مصطلح extension يشير الى نطاق من التطبيقات له بتسمية اشياء محددة يدل عليها. فمثلا  المحتوى الداخلي لـ "سفينة" هو مركبة للنقل على الماء، بينما الـ extension الخاص بها يشمل اشياءً مثل سفينة شحن، سفينة مسافرين، سفن حربية، سفن بحرية.

ليس جديداً القول بأن أمين الريحاني، الأديب والروائي والمؤرخ ابن بلدة الفريكة الجبلية اللبنانية والذي يُعد أيضاً من ادباء المهجر، هو أفضل من أرَّخ لملوك العرب وشبه الجزيرة العربية وامراء الخليج وشيوخه من المؤرخين العرب، وكتب تفاصيل مهمة عن سيرهم الشخصية وعن طباعهم وسلوكياتهم وسماتهم الخلقية وعاداتهم اليومية، فضلاً عن أفكارهم وتطلعاتهم وتوجهاتهم في حقبة تاريخية مهمة من تاريخ العرب شهدت بدايات تشكل الوعي القومي، ونشوء البلدان العربية المعاصرة على انقاض البداوة، والنعرات العشائرية، والغزوات القبلية، والاحتلالات الأجنبية.

وفي كتابه « فيصل الأوّل» الذي دونه في الفريكة نهاية العام 1933 يرصد الريحاني بحكم اهتمامه بملوك العرب وشيوخهم، ولقاءاته بهم وحضوره مجالسهم، ومنهم فيصل الأوّل حاكم الشام، وملك سوريا والعراق، وممثل العرب في مؤتمر فرساي، وحامل لواء الوحدة العربية في أوروبا، الذي تتبعه الريحاني وهو في نيويورك، معرباً عن أسفه لأنه لم يجتمع به في باريس أو في لندن أو في الشام، تفاصيل شخصية قد تبدو غير ذات شأن، لكنها في حقيقة الأمر تعكس جوانب مهمة عن طريقة تفكيره ورؤيته وفلسفته وهو يَقْدِم على تأسيس كيان جديد يطمح إلى التخلص من النفوذ والهيمنة البريطانية، والاعتماد على قواه البشرية وثرواته، وجهود أبنائه من مختلف الأطياف الاجتماعية في تشكيل هويته الوطنية، والوصول إلى مرحلة الإستقلال والاعتراف الدولي بالانضمام إلى عضوية عصبة الأمم المتحدة. ومما يرويه الريحاني الذي كان يخاطب الملك في رسائله بعبارة أخي فيصل، بهذا الصدد: « كان فيصل يروي الأخبار، إن كان عن نفسه أو عن سواه، بسذاجة جميلة وصراحة صادقة، لا يعتريهما شيء من التحفظ والاستدراك، فيجيئ كلامه عفو القريحة»، ويذكر من ذلك على سبيل المثال التأنيب الذي وجهه له والده الشريف الحسين بن علي حين كان يفتش حملة يشرف عليها فيصل فوجد بين المؤونة كيساً من العدس، «وسألني: ما هذا ؟ قلت: عدس. فقال: وهل أكْل البدو العدس. قلت: لا. فقال : وهل أنت أحسن من البدو؟ وأمر بأن يعاد الكيس إلى بيت المال»، ويواصل فيصل كلامه « وهذا محروث – يقصد الشيخ محروث الهذال أمير العمارات – يشهد على ما أقول. كنا نأكل الخبز معجوناً بالتراب، والله، ومخبوزاً بالرماد، ولا نبالي، بل كنا نلتذ به كأنه الكعك بعينه».

ويربط الريحاني ما بين اتخاذ فيصل الوسطية منهجاً لعمله، وبين « اختراعه « للسدارة التي سميت على اسمه» الفيصلية» غطاءً للرأس، فهذه السدارة لا هي قبعة ولا قلبق- قبعة تستخدم عند شعوب آسيا الوسطى والقوقاز- ولا برنيطة، هي احتجاج على الطربوش يقول الريحاني، ثم يشرح : «وماهي في الصيف أخف من الطربوش، ولا هي صحياً أحسن منه. إن في خطوطها، في شكلها، شيئاً من الظُّرف، ولا تخلو طريقة لبسها من شيء يتحداك. ولكنها في المواقف الرسمية، على الأقل، رمز الخفة والدعابة- هي صبيانية. أراد الملك فيصل عَمارة جديدة لأهل العراق، أو للعصريين من أهله، وأبى أن يقّلد الأمة التي نبذت الطربوش كما نبذه، فيختار مثل مصطفى كمال البرنيطة كاملة. لذلك اضطر أن يقف عند الحد الوسط، اكتفى بنصف برنيطة « !. ولا يبدو أن الريحاني معجب بغطاء الرأس هذا الذي « اخترعه « فيصل على حد تعبيره، وهو لا يظن أن السدارة تدوم طويلاً، لأنها مبتورة ناقصة « قد تكون بليغة في ما تقوله وطنياً، ولكن الوطن إذا ما توطدت أركانه يستغني عن الرموز»، كما أن فيصل نفسه لم يكن متحمساً كثيراً للسدارة، والدليل أنه « تعدّى هذا التقليد في صورته الأخيرة، وهو فيها مكشوف الرأس، جهْم المحيا، بعيد غور الفكر، تعلو سيماءَه مسحة من الكآبة». وهذا عكس المفهوم السائد حالياً من قبل بعض الباحثين التراثيين والبغاددة في التمسك بارتداء السدارة غطاءً للرأس، لكونها عَمارة فيصل الأول، وتمثل الهوية البغدادية. لكنها لم تكن أكثر من حل ذكي بين الطربوش العثماني، والبرنيطة الأوروبية، أوجدها فيصل استجابة لنزوعه الشخصي وطبيعته الوسطية المعتدلة، وهو يؤسس لدولة أرادها أن تكون مدنية وحديثة.

لقد سبق للريحاني أن خصص قسماً بعنوان «الملك فيصل والعراق» في موسوعته الكبرى «ملوك العرب» التي أصدرها في العام 1924 وهي كما أسماها «رحلة في البلاد العربية تشمل على مقدمة وثمانية أقسام مزينة بالخارطات والرسوم»، وكتابه هذا انما هو استلال من موسوعته والقسم الذي تحدث فيه عن فيصل والعراق، موضحاً حدوده وألويته وعدد سكانه ومساحته وشعوبه وأهم قبائله ومذاهبه، وكان عدد سكان العراق آنذاك نحو مليونين وتسعمائة ألف نفس .

كان غطاء الرأس يشغل الملك فيصل الأول، وهو في خضم التجاذب بين الإرادة الوطنية العراقية، والانتداب، والوعود البريطانية المتلكئة التي قطعها ونستون تشرشل ووقع عليها  بخصوص استقلال العراق وحريته وسيادته، بل وهو يعيش مع الغم الذي يسميه الريحاني « رفيق جلالته الدائم، وان توارى احياناً عن الأبصار، هو الغم الروحي الذي يتضاعف في علو المناصب واهميتها فيكون في الملوك، وان ندر، أشد منه في غير الناس».

 « ثم سألني سؤالاً آخر ظننته مضحكاً ولكنه لم يضحك أحداً.

- ما رأيك يا أمين في العمامة والبرنيطة. وأي شكل تظنه يصلح لنا في العراق؟

***

د. طه جزّاع

الصفحة 3 من 6

في المثقف اليوم