قراءات نقدية

أغنيةُ (بنادم) وإشكاليّةُ إيقاعِها

abdulreda aliكما أنَّ الحكمةَ اليونانيّةَ القديمة تقول: (إنّكَ لا تنزل النهرَ مرّتينِ) لأنّ الماءَ نفسَهُ لن يتكرّرَ، فإنَّ موسيقى أُغنية (بنادم) لن تتكرّرَ ثانيةً كما نظنُّ، وسيتّضح ظنّنا، أو زعمُنا هذا في القادمِ من الكلام.

كاتبُ هذه الأغنية أبو سرحان/ ذياب كزار (1946 – 1982) كان شاعراً شعبيّاً غنائيّاً من نمطٍ خاص، فهو وإن كان يلتزمُ بالإيقاع الوزني للبحر الذي يختاره لقصيدته الغنائيّة، إلا أنه لا يلتزمُ بتشكيلٍ معيّنٍ منه، إنّما يبيح لنفسه حريّة الحركة في أكثر من تشكيل ما دام يشتغل في الإيقاع ذاتِهِ، لهذا لا يتقيّد بضربٍ واحدٍ في القصيدة الواحدة، إنّما ينتقل من ضربٍ إلى ما سواه بتلقائيّة تقودُه إليها ذائقته المرهفة، على أنّنا راغبون في الإشارةِ إلى أنَّ هذا الفتى الذكيَّ كان واحداً من أبناء البصرة ومناضليها الغيارى الذين سجنتهم جمهوريّةُ الخوفِ، ثمَّ لاحقتهم منظّمتها السريّة بالتقارير حين خرجوا من السجنِ، فلم يجدوا بدّاً من مغادرة العراق إلى المنافي، فهاجرَ أبو سرحان إلى لبنان ملتحقاً بصفوف المقاومة الفلسطينيّة، وظلّ هناك حتّى سنة 1982 حين حاصرت القوات الإسرائيلية بيروت، فحاول الهروب نزولاً إلى سوريا، لكنَّ ميليشيات حزب الكتائب التي كانت متحالفةً مع الإسرائيليين اختطفته (كما يذكر رفاقه) عند أحد الحواجز مع رفيقيه: المسرحي كاظم الخالدي، والفنّان صباح ستراك، وغيّبتهم جميعاً، ولا أحد يعرفُ (حتى هذه الساعة) أيَ خبر عنهم.

أمّا كوكب حمزة، فلعلّه الملحّن الوحيد الذي يختلف عن بقيّة جيل العمالقة من الملحنين العراقيين الذين ظهروا منتصف الستينيّات، وأواخرها في التكوين الموسيقي العام، لهذا لا تنطبق عليهِ مقولةِ الفرنسي بيفون من أنَّ: (الأسلوب هو الرجلُ نفسهُ)، ومن يستمعُ إلى أغنية (هُمَّه ثلاثة للمدارس يروحون) التي غنتها مائدة نزهة، وأغنية (يا طيور الطايرة) التي غناها سعدون جابر، وأغنية (بنادم) التي غنّاها حسين نعمة، وكلّها من ألحان كوكب حمزة (على سبيل المثال) سيتأكّد له ما ألمعنا إليه من أنّ أسلوبه عصيٌّ على التحديد، لأنَّ جمله لا تميلُ إلى تكرار النمط التراتبي، إنّما تُعنى بالتنوّعِ الذي يعمدُ إلى المغايرة، وتقديم المختلف المدهش، وهو يسعى بذائقته الموسيقيّة المرهفة إلى اختيار اللحن المناسب لأثر النصِّ عليهِ، وليس لأثرِهِ على شاعره، مع اهتمامه قدر الإمكان بما للنصوص من حالات نفسيّة مختلفة، فتجيءُ ألحانُ أغانيهِ مختلفةً بعضها عن بعضٍ على نحوٍ لافت، فضلاً عن أنّه يوظفُ بعضَ ما اختزنته الذاكرة من إيقاعات الفولكلور العراقي الديني، والأسطوري باقتدار في جملهِ الموسيقيّة حين يرى ضرورة التعبير عن تلك المضامين باستلهامها.

فأغنية (بنادم) وإن كانت قد اتخذت من الذات الشاعرة العطشى محوراً لها، فإنَّ ما فيها من ذاتيٍّ خاصٍّ قد عبّرَ عن إنسانيٍّ عام من حيثُ الشجن الحزين الحاد في تكرار مفردة (بنادم)، لهذا التفتَ كوكب حمزة ببصيرتهِ الذكيّة إلى أقسى ما يمكنُ توظيفهُ من التراث العراقيّ الحزين هنا، ونعني به إيقاعات الطبول المفزعة، وضربات الصنج المخيفة، وأصوات المزامير الكئيبة المنكسرة (التي استبدلت بالأبواق العالية) المصاحبة لمواكب عزاء المطبِّرينَ رؤوسَهم بالقاماتِ العريضةِ وهم يستعرضون بأكفانهم المدمّاة آلامهم أمام الناس في العاشر من محرّمٍ الحرام في كلِّ عام في كربلاء، وغيرها من المدن المقدّسة، وكأنّهم قد عادوا من الحرب توّاً ـ وهم مضرّجون بدمائهم ـ ويتضحُ هذا التوظيف في فاصلته الموسيقيّة التي تسبقُ مقطع (بجي الشموع الروح يبنادم) تحديداً، مع أنّ الملحّن قد هيّأ لهذه الإفادة تدريجيّاً خلال ما سبق من جمله الموسيقيّة بأداءٍ مملوءٍ بحزنٍ مطبق، وألمٍ مُمِضٍّ، لهذا كان هذا الحزن الشديد الذي تعكسه أغنية (بنادم) وراء منع إذاعتها من دار الإذاعةِ العراقيّة مدّةً ليست قصيرة من الزّمن، ولولا تدخّلُ بعضُ الأكاديميين الذين استمعوا إليها بصوتِ الملحّن كوكب في لقاءاتٍ خاصّة، لما سمح وزير الإعلام (آنذاك) شفيق الكمالي بمحدوديّةِ إذاعتها من دار الإذاعة العراقيّة، لذلك لم يُكتبْ لها الانتشار كما ينبغي، فضلاً عن أنّها لم تحظَ بموافقة تسجيلها بالفيديو كليب.

في خزين ذاكرة كوكب حمزة الكثير من المردّدات الشعبيّة النائمة، فما أن تحسَّ ذائقتُهُ الفنيّةُ بحاجةٍ إلى ملء بعضِ فراغات الجمل اللحنيّة بمفردات كلاميّة تُعينُ على استكمال اللحن حتى تسرعَ تلك المردّدات النائمة إلى الظهور، فيضيفُ بعضاً منها إلى النصِّ دون أن يحسَّ المتلقي بتلك الإضافات، ولمّا كان حديثنا عن أغنية (بنادم) فإنَّ كوكباً كان وراء استدعاء مفردات مثل: داده، و بنادم، وتكرارها حيثُ لزم ذلك.

*****

أمَّا الفنّان حسين نعمة فلن يختلف في صوتهِ الشجيِّ العذب اثنانِ، فصوتُهُ المتمرّسُ بأداءِ أغاني الأعماق الملأى حزناً يشدُّ سامعَهُ إلى تموّجاتِ آهات أهل الجنوبِ ـ الذين تئنُّ قلوبهم ولا تغنّي ـ شدّاً، ولعلَّ اختيار كوكب حمزة له ليؤدّيَ (بنادم) كانَ اختياراً مدروساً بعنايةِ العارفِ الملهمِ الخبير، علماً أنَّ كوكب حمزة لا يتورّعُ من تغيير المطرب إذا ما رأى أنَّ صوته عند الأداء التجريبي لا يخدمُ الأغنية كما ينبغي، مثلما فعلَ حين استبدل سعدون جابر برياض أحمد ليؤدّي أغنية(يا طيور الطايرة) بعدَ أن كانَ رياض يمنّي نفسه بها، وقد بكى في حينها رياض كثيراً.

*****

إيقاع بنادم:

ثمّةَ إشكاليّةٌ في إيقاع (بنادم) تتجلّى في كونها داخلت بين وزنينِ اثنين لايمكنُ تبرئة كوكب حمزة من هذا التداخل كما نظنُّ، كما لا يمكن اتّهام أبي سرحان به، أو تحميلُهُ هذه الإشكاليّة وحدَهُ ؛ ولعلَّ ما جعلَ هذا التداخل الوزنيَّ مستساغاً هو الميلُ الشديدُ إلى السواكنِ في اللهجةِ الشعبيّة العراقيّةِ على حسابِ المتحرّكات، ولتوضيح الأمر نقولُ:

ابتدأَ مطلعُ أغنية (بنادم) بإيقاع السريع المحوّر في العروض والضرب شعبيّاً، أي أنَّ الشاعر لم يلتزم بإيقاع السريع المستعمل:

مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ فاعِلُنْ ××× مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ فاعِلُنْ

إنَّما جعلَ العروضةَ والضرب مصابينِ بعلّةِ القطعِ (فَعْلُنْ) بسكون العين كما في مستهلِّها:

بهيدة عله بختك لا تعت بيـها....روحي انحلت والشـوكَ ما ذيها

/0/0//0 - /0/0//0- /0/0 .... /0/0//0 - /0/0//0 - /0/0

مُستَفْعِلُن   مُستَفْعِلُن   فَعْلُنْ.... مُستَفْعِلُن   مُستَفْعِلُن   فَعْلُنْ

 

ما جنها ذيـج الروح يبنادمْ.... لا جنها كلـها اجروح يبنادمْ

/0/0//0 - /0/0//0- /0/0 ... /0/0//0 - /0/0//0 - /0/0

مُستَفْعِلُن   مُستَفْعِلُن   فَعْلُنْ..... مُستَفْعِلُن   مُستَفْعِلُن   فَعْلُنْ

هذا إذا لم تكن مفردة (بنادم) من وضعِ كوكب حمزة، لأنّنا لو رفعناها من البيت الثاني والثالث، لكان الإيقاع قد جرى على البسيط المحوّر أيضاً، أي على وزن:

مُستَفْعِلُن   فَعْلان............ مُستَفْعِلُن   فَعْلانْ

أي أنَّ الشاعر لم يلتزمْ بإيقاع البسيط المستعمل ذي الوزنِ:

مُسْتَفْعِلُنْ فاعِلُنْ     مُسْتَفْعِلُنْ فَعِلُنْ

إنّما جعلَ العروضة والضرب مصابين بعلّة القطعِ ¹ مرّةً كما في:

والشوكَ ماذيها .......... شمالك تعت بيها؟

/0/0//0- /0/0...... /0/0//0- /0/0

مُستَفْعِلُن   فَعْلُنْ...... مُستَفْعِلُن   فَعْلُنْ

وبعلّتي القطع والتذييل² في أخرى:

تسيورةْ عُمري اوياكْ........غفلةْ واخذني الطيفْ

/0/0//0- /00/0........... /0/0//0- /00/0

مُستَفْعِلُن   فَعْلان............ مُستَفْعِلُن   فَعْلانْ

 

لنها بحلاة النـــومْ...روحي اعله روحك طيفْ

/0/0//0- /00/0........... /0/0//0- /00/0

مُستَفْعِلُن   فَعْلان............. مُستَفْعِلُن   فَعْلانْ

وهذا الوزنُ المحوّر من البسيط في تشكيليه كان قد ابتدعه احمد شوقي (1869- 1932م) في مسرحيّةِ (مجنون ليلى) كما في قولِهِ:

هلا هلا هيّا.....اطوي الفلا طيّا

مَفَاعِلُنْ   فَعْلُنْ...... مَفَاعِلُنْ   فَعْلُنْ

وقرّبي الحيّا.......... للنازحِ الصـبِّ

//0//0   /0/0     /0/0//0   /0/0

مَفَاعِلُنْ فَعْلُنْ......مُسْتَفْعِلُنْ   فَعْلُنْ

 

جلاجِلٌ فـي البيدْ...... شَـجيَّةُ الترديدْ

//0//0   /00/0  //0//0   /00/0

مَفَاعِلُنْ   فَعْلان...... مَفَاعِلُنْ   فَعْلان

منوّهينَ إلى أنَّ التقطيع في الشعبي يقتضي ليَّ بعضِ الأصوات، أو إدغام صوتين في واحد، أو حذفَ بعضِ الحروف من بعضِ المفرداتِ عند التطبيق التحليلي، فمثلاً يجب ليّ حرف الباء في أوّل مفردة (بهيدة) وإدغامهِ بالهاء في التحليل، كما يجب حذف حرف الواو من (ولا جنها) ومن (ولنها)، ومن (وراكد) ومن (ورفّة)، وحذف حرف الشين من (شمالك)، فضلاً عن أنَّ تفعيلة (فاعلاتن = /0//0/0) تتداخل أحياناً بتفعيلة (مُستَفْعِلُن=/0/0//0) حين لايتمُّ الإدغام، أو الليّ.

 

وإليكم الأغنية والتطبيق:

بهيدة عله بختك لا تعت بيـها....روحي انحلت والشـوكَ ما ذيها

/0/0//0 - /0/0//0- /0/0 .... /0/0//0 - /0/0//0 - /0/0

مُستَفْعِلُن   مُستَفْعِلُن   فَعْلُنْ.... مُستَفْعِلُن   مُستَفْعِلُن   فَعْلُنْ

 

ما جنها ذيـج الروح يبنادمْ.... لا جنها كلـها اجروح يبنادمْ

/0/0//0 - /0/0//0- /0/0 ... /0/0//0 - /0/0//0 - /0/0

مُستَفْعِلُن   مُستَفْعِلُن   فَعْلُنْ..... مُستَفْعِلُن   مُستَفْعِلُن   فَعْلُنْ

والشوكَ ماذيها.......... شمالك تعت بيها ؟

/0/0//0- /0/0...... /0/0//0- /0/0

مُستَفْعِلُن   فَعْلُنْ...... مُستَفْعِلُن   فَعْلُنْ

ــــــــــــــــــــــــ

تسيورة عمري وياك........غفلةْ واخذني الطيفْ

/0/0//0- /00/0........... /0/0//0- /00/0

مُستَفْعِلُن   فَعْلان............ مُستَفْعِلُن   فَعْلانْ

 

لنها بحلاة النـــومْ...روحي عله روحكْ ضيفْ

/0/0//0- /00/0........... /0/0//0- /00/0

مُستَفْعِلُن   فَعْلان............. مُستَفْعِلُن   فَعْلانْ

 

واغفه بهواك اسنينْ...........كيّفْ تراني بكيفْ

/0/0//0- /00/0........... /0/0//0- /00/0

مُستَفْعِلُن   فَعْلان............. مُستَفْعِلُن   فَعْلانْ

 

راكد بروحي الماي..........ثاريها غيمة صيفْ

/0/0//0- /00/0........... /0/0//0- /00/0

مُستَفْعِلُن   فَعْلان............ مُستَفْعِلُن   فَعْلانْ

ـــــــــــــــــــــــــ

بجي الشموع الروحْ......بسْ دمع مامشْ صوتْ

/0/0//0- /00/0........... /0//0/0- /00/0

مُستَفْعِلُن   فَعْلانْ............. فاعلاتن   فَعْلانْ

رفّة جنحْ مكسور..............كَلبي يرفْ بسكوتْ

/0/0//0- /00/0........... /0/0//0- /00/0

مُستَفْعِلُن   فَعْلان............. مُستَفْعِلُن   فَعْلانْ

 

لاهي سنة وسنتين...........لاهيَّه صحوة موتْ

/0/0//0- /00/0............. /0///0- /00/0

مُستَفْعِلُن   فَعْلان............... مُفتَعِلُن   فَعْلانْ

 

حسبة عمر عطشانْ..........والماي حدره يفوتْ

/0/0//0- /00/0............ /0/0//0- /00/0

مُستَفْعِلُن   فَعْلان............. مُستَفْعِلُن   فَعْلانْ

 

وهذا رابط أغنية بنادم التي لن تتكرَّرَ موسيقاها كما نزعم:

https://www.youtube.com/watch?t=14&v=m19ndPIpCwA

 

أ.د. عبد الرضــا عليّ

.....................

إحالات

(1) القطعُ عِلّةٌ، وهي حذفُ ساكنِ الوتدِ المجموع ِ في (فاعلن) وإسكانُ ما قبله، فتصير التفعيلة (فاعِلْ = /0/0) بسكون اللام، وتنقل إلى (فَعْلُنْ) بسكون العين المساوية لها.

(2) التذييلُ علّةٌ، وهي أنْ تُضيفَ حرفاً ساكناً على ما آخرهُ وتد مجموع . ففي (فاعِلُنْ) تُصبحُ (فاعِلانْ)، وفي (فَعْـلُن) تُصبحُ (فعْـلانْ = /0/00).

            

 

 

 

في المثقف اليوم