قراءات نقدية

استطيقا الرؤيا الشعرية والروائية في قصائد (أولئك أصحابي) لحميد سعيد (2-2)

2- أستطيقيا الرؤيا الشعرية والروائية في قصيدة (صمت البحر) لحميد سعيد:

لابد من الإشارة بداية إلى أن قصيدة (صمت البحر) لحميد سعيد تعد درة قصائد (أولئك أصحابي) رؤيوياً، من حيث كثافة أحداثها، وتعدد رؤاها، وغنى موحياتها ومؤثراتها الفاعلة في توجيه الرؤى صوب مركز رؤيوي محدد يصب في دائرة الاحتجاج والرفض الصامت، فالقصيدة تطرح رؤيتها بجسارة إبداعية، وقوة تصويرية بالغة العمق، والفاعلية، والتحفيز الجمالي، ولذلك، فإن قارئ هذه القصيدة لا يخفى عليه عمق الطرح، وقوة الحدث، وتنوعه في حقل الوعي، والإثارة، esam shartahورشاقة الأسلوب، وغناها بالرؤى، والمواقف الاحتجاجية الرافضة في الموقف والسلوك، ولعل أبرز مفاتيح الدخول فضاء هذه القصيدة ما أضاء نقاطها الكثيرة حمدي مخلف الحديثي، إذ يقول: رواية – صمت البحر – للكاتب والرسام الفرنسي جان بريلير المولود في باريس عام 1902، وفيركور اسم مستعار عرف به أيام مقاومة الاحتلال النازي لفرنسا، وظل معروفاً به حتى وفاته في باريس عام 1992 .كتب – صمت البحر – في العام 1942، أيامها كانت فرنسا تحت الاحتلال النازي، ووزعت كمنشور سري، ضمن سلسلة منشورات " نصف الليل" التي أصدرتها المقاومة، ومما قيل عنها وعن تأثيرها، إنها كانت مثل شعلة نار في كومة قش؛ تتناول الرواية حياة المجتمع الفرنسي خلال الاحتلال الألماني، وكانت من أشهر روايات المقاومة، ومكان أحداثها قرية فرنسية، يأتي جنديان ألمانيان إلى منزل ريفي يسكنه رجل كهل وابنة أخته الشابة، يتفحصان الغرفة من أجل أن يقيم فيها ضابط ألماني، لأن الضباط الألمان كانوا يقيمون في بيوت الفرنسيين .جاء الضابط إلى المنزل واختار غرفة فيه، وقدم نفسه، كان اسمه فرنرفون.ويتحدث الخال قائلاً: كان الضابط يجيد الفرنسية، ويتحدث بإسهاب، لكنه وابنة أخته قابلا أحاديثه بالصمت، فشعر بأنه انتهك خصوصية المنزل وساكنيه، إذ كان الصمت سيد الموقف .بمرور الأيام أحب الخال الضابط، واعتاد وجوده، وكشف الضابط عن وجه آخر له، ثقافة واسعة، وموهبة في العزف على البيانو.كان الفرنسيون يرفضون الاحتلال ورموزه والمتعاونين معه، وكان الضابط الألماني في عذاب نفسي، حتى أعلن يوماً إنه راحل إلى الجحيم مختاراً أن يكون فرداً في معركة بدلاً من أن يكون ضابطاً يواجه بالكراهية، وكان يدرك أن الصمت قد قهره، صمت الخال والفتاة وصمت المنزل والبلاد، وأخيراً قالت له الفتاة كلمة واحدة هي : وداعاً" (16) .

تطرح القصيدة رؤيتها بجسارة، من خلال البنى، والمتعلقات، والإسقاطات الرؤيوية، فهو يعلن من خلال قصيدته (صمت البحر) صرخته الاحتجاجية على الممارسات الأمريكية في حقه من مداهمة منزله، وكسره، ونهب مقتنياته، برؤى صارخة كاشفة، من خلال ربط الواقعين معاً، (الواقع الروائي-والواقع الشعري) ؛ولهذا، يحاول الشاعر أن يرسم ملامح الحدث، برصد مشهدي بالغ الدقة، والحساسية، والرهافة الشعورية، وهو كعادته دوماً يبدأ قصائده بداية سردية توصيفية بالتمهيد لصوغ الحدث الشعري، أو التمهيد للدخول بواطن النص من فضاءات الحدث، ومتعلقاته من وصف الأماكن أو الأحداث، أو وصف المشاعر الصاخبة التي تجول في خاطره في لجوة الاحتدامات والصراعات الداخلية، كما في هذه البداية الموفقة التالية:

"ظلَّ يدفَعُ عنه مخاوِفَهُ.. بالتذكُّرِ

ماذا تَبَقّى له؟

والبلادُ تُفارِقهُ.. وسيرحلُ بعدَ قليلٍ..

إلى أين؟" (17) .

إن الرصد الشعوري لبواطن الذات والخوف الذي ينتاب الذات الشاعرة قبل مغادرة البلاد جعله مفتاح المتخيل الشعري لدخول فضاءات القصيدة، وبواطن الشخصية الروائية، فهو يرصد ما يغلي في داخله من توجسات واصطراعات؛ إلى أين المسير في ظل هذا الجو العاصف بالرصاص، والخراب، والدمار، وهذا السؤال جاء ليثير الحدث الشعري، ويمهد الطريق لبوابة الرؤيا الشعرية، وفضائها المفتوح، وكأن الشاعر يعلن بداية رصد التوجسات والمشاعر المحتدمة، والقلق الذي ينتاب الذات لحظة فراقها الوطن إلى أين المسير، وما هي الطرق المفضية إلى الهرب بأمان:

"توقظهُ رشقةٌ من رصاصٍ..

يرى كلَّ ما كانَ في بيته..

قبلَ أن يدخل الجنودُ إليهِ..

على غيرِ ما كانَ

إذْ لمْ يَجِدْ ساعة الجدار التي طالما شاركَتْهُ الليالي..

إلى الفجرِ

لا صورة المتنبّي.. التي رافقته من زمن القرنفل البابليِّ

إلى اللحظة الأخيرةِ..

هذا الحُطامُ الذي يملأُ الأرضَ" (18) .

هنا، يعبر الشاعر أستطيقياً تعبيراً مشهدياً عن الواقع الذي عاناه في زمنه الواقعي إزاء الاحتلال الأمريكي وممارساته الإجرامية من تدمير أثاث منزله، والسطو على ممتلكاته، والعبث بدواوينه، وأوراقه، ومكتبته، وكأن الذي حدث بالأمس، يحمل من الوجاعة، والأسى، والحزن ما يجعل حطامه راسخاً في ذاكرته لا يمحي أثره أو يزول، وهكذا، تتلون الدلالات والرؤى المريرة، بجامع الالتحام بين واقعه الذي حدث له في العراق وشخصياته الروائية التي عانت الاضطهاد، والاحتلال الألماني، فكما انتهك الجندي الرسام بيت الرجل العجوز وابنة أخته التي تعيش معه في نفس المنزل، فاحتجا عليه بالصمت، فهو كذلك احتج على الممارسات الأمريكية ليس بالصمت الكظيم، والتنديد بالواقع، وإنما بالغليان الداخلي، وتعرية مواقفه الوحشية، ورصد المشاهد الإجرامية بعين لاقطة لا تنسى أي لقطة من تلكم اللقطات، أو مشهداً من تلك المشاهد، كما في قوله:

كان فضاءُ القصيدةِ

تُقبِلُ من كوكبٍ بعيدٍ .. إليهْ

تُغافِلُهُ

ثمَّ تدنو مُشاكِسَةً .. لتُريه مفاتِنها

تُشعل النار في ما تبقّى من الوقت..

وتتركُ جمرتَها في يديهْ" (19) .

فكما عانى الشاعر الاضطهاد عانت شخصيته الروائية الواقع ذاته، وأعلنت طقس حدادها المرير، وهذا يعني كثافة الرؤى المريرة، وكثافة المدلول الحارق على الذات، وفداحة الرؤيا واتساع وقعها المرير (تُشعل النار في ما تبقّى من الوقت..وتتركُ جمرتَها في يديهْ"؛وهكذا تتلون الرؤى، وتتداخل الأحداث الروائية بالشعرية، والواقع الاغترابي الكظيم بالواقع الحالي، كما في قوله:

قبلَ أنْ تبدأ القصيدةُ.. طقسَ الحِدادِ

رأى الضابطَ الأمريكيَّ .. مُرتبِكاً

ضائعاً في تضاريسها..

مثلما ضاعَ في ما يرى..

رجلٌ غائبٌ وظلالُ ابنةٍ غائبهْ

رجلٌ واحدٌ..تتدافعُ في ذهنهِ صورٌ شاحِبهْ

لماذا يجيءُ إلى بيته الضابطُ الأمريكيُّ ؟!

ماذا جرى..

ليرى أصابعَ العريفِ الملوَّنِ..

تعبثُ بالمُعجَمِ العربيِّ؟!

يدوسُ ببسطاله كتبَ الجاحظِ وابنَ المقفَّعِ وابن هشامْ

وما ضمَّتْ المكتبهْ

من فرائدَ.." (20) 0

هنا، يرصد الشاعر الممارسات الإجرامية التي حدثت معه في العراق من مشاهد، وصور عالقة في الأذهان، وكأن ثمة إحساساً مريراً متصدعاً تعاني منه الذات في اغترابها وأساها المرير، إزاء المشاهد الوحشية المترامية التي تجول في خاطره، وتركت وقعها المرير ماثلاً في مخيلته، قبل مغادرته العراق، وهذا يعني أن الحركة النصية مفتوحة على رؤى ممتدة تشي بوجاعتها، وإحساسها المرير، وتصدعها المؤلم، وهذه المشاهد عبر عنها بقسوة بالغة وجارحة، كما في قوله: (يدوسُ ببسطاله كتبَ الجاحظِ وابنَ المقفَّعِ وابن هشامْ وما ضمَّتْ المكتبهْ من فرائدَ.) ؛ وهكذا، تتلون الدلالات، والرؤى، والمداليل الشعرية الباعثة على التأمل، والإثارة والتأزم الداخلي، كما في قوله:

"هل كان بين العريف الملوَّنِ والطبرّي..

عداءٌ قديمْ؟

لماذا تَخَيَّرَ تاريخَه واستباحَ الفصولْ ؟

لوحةٌ من سمرقّند .. حيث المدينة حشدُ قَبابْ

وأخرى..

عجوزٌ يدبُّ على الثلج من أصفهانْ

كلُّ ما كانَ في البيتِ.. غطّى شذاه الدخانْ" (21) .

وما ينبغي الإشارة إليه بداية أن القيمة الجمالية التي تنبني عليها القصيدة، تتأسس على الانتقال المفاجئ من التجريد على التجسيد، والانتقال من الحدث الروائي إلى الحدث الشعري بمناوشة دلالية مفتوحة تنفتح على فضاءات الرواية، بتعرجاتها الكثيرة، وفضاءات الرؤيا الشعرية بأطيافها الرؤيوية الواسعة، وهذا يعني أن ثمة مناوبة بين إثارة الصورة المشهدية في مدها الدلالي، وإثارة الحدث الشعري، بجوامع كاشفة عمق الحدث، وعمق تمثل الرؤية الروائية-الشعرية، وتأسيساً على هذا، تتفاعل الرؤى، والمؤثرات الشعرية حاملة مجموعة من الدلائل، والمشاهد الشعورية المترامية، متسائلاً على سبيل السخرية، والتهكم: ("هل كان بين العريف الملوَّنِ والطبرّي..عداءٌ قديمْ؟)، وهذا يعني احتدام الرؤى المتداخلة بين الواقع الروائي، والوقع الشعري، وكأن هذا المد الشعوري المترامي، يرصد الحالة بكل وجاعتها وإحساسها التعروي الصارخ، كما في قوله:

كأنَّ الذي كانَ.. كلّ الذي كانَ..

صارَ سؤالاً..

أما زلتَ بعد الذي كان.. كلّ الذي كانَ..

تَزعمٌ إنَّ الجمالَ

يرفعُ راياته في مواجهة القوّة الغاشمه ْ؟!

منذُ سقراط والفلسفهْ

تَتَخَيَّلُ فردوسها.. وتُسَيِّجُهُ بالملاحم والشعر والمعرفهْ

وفي كلِّ عصرٍ يجيْ الغزاةُ . . بما تحملُ الآزِفَهْ !!

فتمحو السطورَ التي خطّها الحكماءُ ..كما تفعل العاصفهْ" (22) .

هنا، ينقل المأساة الوجودية إلى رقعة التساؤل الرؤيوي المفتوح، هل الجمال ينتصر على القبح؟! وهل الإيجاب ينتصر على السلب؟ وهل يصمد الجمال أمام قوة الحرب وآلياته المدمرة، ووحشيتها البشعة؟!!، فالإجرام مازال هو المسيطر على التاريخ، ومازالت القوى الغاشمة تفرض نفسها على جميع معالم البراءة، والصفاء، والجمال، بقوة وتبيد الحضارات، وتمحى أمام قوى الشر الغاشمة وآلياتها المدمرة: (وفي كلِّ عصرٍ يجيْ الغزاةُ . . بما تحملُ الآزِفَهْ !!فتمحو السطورَ التي خطّها الحكماءُ ..كما تفعل العاصفهْ") .، وهذا يعني أن رؤيا الشاعر تساؤلية مفتوحة على آفاق مدلولية لاتحد، وذلك بالانفتاح على جو الرواية، وجو المآسي الوجودية التي تحدث في جميع العصور، وفي كل الأزمان، فالآلة المدمرة هي هي دائماً رغم اختلاف العصور، وامتداد الأزمنة هي التي تمحو البطولات والأمجاد، وتعلن الخراب والدمار وتمحو معالم الثقافة والحضارات التي شهدتها الأمم، كما في قوله:

"بينَ صحوٍ وغيبوبةٍ..

جاءَ – ورنر فون – من صفحاتٍ مُمَزَّقَةٍ

وطروسٍ مُحَرَّقَةٍ..

وأناشيد َ بيضْ

هادئاً ونحيلاً

وغابَ العريفُ الملوَّنُ والضابطُ الأمريكيُّ

كأنَّ الرُكامَ الذي كان بيتاً جميلاً..

يعودُ إلى البيتِ

يستقبلُ الهادئ النحيلَ الذي فاجأته الدماءْ

أيّها الهادئ النحيلُ.. كيفَ وصلتَ؟!

وكيفَ ارتضى صاحباكَ.. باخ وموزارتْ ..

أَنْ يشهدا ما شهِدتَ ؟

يَمُدُّ الرصاصُ مخالبهُ في النشيد الألهي..

أو في المقامِ العراقيِّ..

في ما تُغَنّي النساءُ .. لأطفالهنَّ

وينزلُ سيلُ دمٍ من ربابي

تغصُّ به صفحاتُ كتابي"" (23) .

لاشك في أن انفتاح الرؤيا على آفاق الرواية، يكثف من مردودها الإيحائي؛فالشاعر لا يقيس زمنه بزمان شخصيته الروائية، وإنما يستقطب الشخصية الروائية لتعيش زمنه الراهن وإحساسه المأزوم، وكأن الشاعر ينقل إحساسه الرؤيوي عبر مناوشة الأحداث الروائية تارة، ومناوشة عوالمه الماضية، بكل مرارتها، وأساها المفجع، على قلبه تارة أخرى، كحنينه الدامع إلى منزله، ورغبته في العودة وحنينه إلى الوطن، ولعل هذا التفصيل في شخصيات الرواية (ونر فون) وصاحبيه (باخ وموزارت)، يقرب الواقع الرؤيوي إلى الواقع الشعري، ويجعل الرؤيا الروائية والشعرية تصب في خانة واحدة هي الرفض والاحتجاج على وجود المحتل، (الرواية بالاحتجاج الصامت) والقصيدة (بالاحتجاج الصارخ) والتعرية الكاشفة؛ وهكذا يحاول الشاعر أن يؤسس رؤيته التفاؤلية رغم الغربة الداخلية، والاحتراق الشعوري، كما في قوله:

بين صحوٍ وغيبوبةٍ.. جاءَ

الفضاءُ الرماديُّ أغلقَ باب الصباحِ..

من أينَ جاءَ؟

الطريق إليه يَمُرُّ قريباً من الشجرِ المستباحِ..

من أينَ جاءَ ؟

رآهُ.. يُجَمِّعُ أوراقَهُ

ويمسحُ عنها الدماءْ" (24) .

هنا، يحاول الشاعر أن يمثل دور العائد إلى أحضان الوطن، مغيباً شخصيته الروائية، لتحل شخصيته، بديلاً عنها، وتتراكم الرؤى والتساؤلات إيذاناً بعودة قريبة يلملم من خلالها شعث آلامه، وجراح غربته، وهكذا، تتأسس هذه القصيدة على رؤى عميقة، تصب جلها في رحم الرؤيا الاستطيقية (غربة الذات والشخصية الروائية)، ورصد المشاهد الدموية الراسخة في الأذهان إبان الاحتلال الأمريكي للعراق؛وتأسيساً على هذا تحقق القصيدة موجوديتها الفاعلة، ومتحققها الرؤيوي، وطاقتها الإبداعية الخلاقة، ودليلنا على ذلك أن الشخصية الروائية لم تكن سكونية، ولم تكن رهينة حدثها الروائي الملتصق بها في زمنها الروائي المعتاد؛ فكما رحل الجندي النازي إثر الاحتجاج الصامت، فالعدو الأمريكي رحل باحتجاجه الصارخ، وصرخته الاحتجاجية المدوية؛وهكذا استطاع الشاعر أن يشكل رؤيته الفنية، بالاعتماد على الحدث الروائي، والارتقاء به إلى الحدث الشعري، من خلال نقل الحدث الروائي إلى الواقع الراهن، وتكثيف مردوده الراسخ في الذهن، وكأن ما حدث للشاعر بالأمس ماثل في حاضره وزمنه الراهن واقعاً معاشاً الآن لا ذكريات ولت في زمنها وقضي أمرها.

وصفوة القول: إن شعرية الرؤيا في قصائد (أولئك أصحابي) لحميد سعيد تبني عالمها الشعري-الروائي بقالب فني متغير، بتضافر كتلة من الأحداث والمواقف والرؤى المتغيرة، والإحالات الجديدة التي تتضافر فيما بينها في تعزيز الموقف الشعري والحدث الروائي المرتبط به.

 

3- أستطيقيا الرؤيا الشعرية والروائية في قصيدة (لم تشرق الشمس ثانية) لحميد سعيد:

يحاول الشاعر في هذه القصيدة تمثل رواية (ثم تشرق الشمس) لآرنست همنغواي، وتتناول أحداث الرواية مجموعة من المغتربين الأمريكيين في أوربا، وتحديداً في فرنسا، خلال عشرينيات القرن العشرين، وقد عاش همنغواي في باريس من 1921 إلى 1926 والتقى بشخصيات أدبية أمريكية، منهم إزرا باوند وفتزجيرالد سكوت .فالرواية سيرية في مكون من مكوناتها، والراوي صحفي مغترب يعيش في باريس يدعى – جاك برنز – وهو معوق بسبب إصابته في الحرب.يلتقي بأصدقائه في باريس ثم يسافر إلى مدينة بنبلونا الإسبانية ويقضون أوقاتهم بين الصيد والسهر الليلي وحضور عروض مصارعة الثيران، والصراع على امرأة، تتلاعب بهم .وما يؤكد إن الرواية سيرية في مكون من مكوناتها، إن همنغواي سافر إلى بنبلونا في صيف سنة 1925 برفقة مجموعة من أصدقائه المغتربين الأمريكيين وأعجب بالسيدة دوف، وأحس بالغيرة عندما عرف أنها قضت أسبوعاً مع لويب في باريس، فحدث شجار بينه وبين لويب" (25) .

تحاول القصيدة أن تطرح رؤيتها من خلال جسارة المنظور الشعري وإبراز جو الاصطراع، ونقله من جو التصادم والتصارع على امرأة عشقها ثلاثة أصدقاء في الواقع، إلى حلبة الصراع مع الثيران، إلى الفضاء الروائي والشعري؛وهنا، تبرز لغة القص الشعري، أو لغة الراوي الذي تمرس في سرد الأوصاف، والتعبير عن المشاهد بحرفنة سردية شائقة، ورؤية فنية مفتوحة، كما في قوله:

"في النزل الريفيِّ تعارفنا

رسامٌ بوليفيٌ ومصارعُ ثيرانٍ معتزلٌ..

وأنا وامرأةٌ سمراءْ

تقولُ..

رأيتكَ من قبلُ بمقهى في الدار البيضاءْ

وتُشيرُ إلى طاولَةٍ في أقصى الصالةِ..

كان هنا يجلسُ همنغواي.. ليكتبَ في كلِّ مساءْ

صفحاتٍ..

تَتَشَكَّلُ فيها قاراتٌ.. يتخيَّلها

مدنٌ صاخبةٌ .. حاناتٌ وفنادقُ..

أنهارٌ.. غاباتٌ وجبالٌ وموانئُ..

بحارّونَ .. نساءْ

ذاتَ ضحىً.. يستقبلنا بدرو روميرو.. فتحدَّثْنا عن بدرو روميرو" (26) .

هنا، يبدو المشهد الشعري توصيفياً سردياً يقع ضمن دائرة سرد السيرة، وكأن الروائي اختار هذه اللغة (السير-ذاتية) لإبراز الواقع التصادمي الذي يعيشه الأصدقاء الثالثة، وولعهم بالمرأة ذاتها التي أحبها كل واحد منهم على طريقته، وهنا؛ يكثف الأحداث، والمشاهد المحتدمة، ليرصد الحراك التصادمي بين أولئك الثلاثة، كما في قوله:

كُنتُ قريباً منهُ.. فيسألُني

هلْ صَدَّقت الأمريكيَّ المتَطَفِّلَ .. في ما قالَ؟

أحقاً.. تعنيكَ مصارعةَ الثيران؟!

وتلكَ المُدمنةُ العجفاءْ

يتقاسمُها في الليلِ سكارى فقراءْ

فيجعلُ منها امرأةً..

تتهادى بينَ رجالٍ ورجالٍ .. في خُيَلاءْ" (27) .

إن القارئ للقصيدة يتضح له البعد الدرامي في تصوير ملامحها، خاصة عندما يستغرق في ترسيم الأوصاف والاصطراع على تلك الفتاة من قبل الأصدقاء الثلاثة، وهنا؛ تتضح الحبكة القصصية، وتتسع الأطياف الدالة في رؤاها، ومتغيراتها النسقية، وكأن الشاعر يبث رؤاه الصاخبة بقلق، وانكسار، وتأزم شعوري عميق، كما في قوله:

إنَّ امرأةً أُخرى..

تظهرُ لي بين ذؤابةِ سيفٍ مسلولْ

وضَراعةِ ثورٍ مخذولْ

ترقصُ في غابات النارْ

فيجثو.. كبناءٍ ينهارْ

كنتُ أراها مُفردَةً في الجمعِ..

تُناديني

وكما النجمةُ تصعدُ من خلف الأسوارِ..

تُحَييّني

فإذا انفضَّ المُحتفلونْ

أَفَلَتْ.." (28) .

إن القارئ للقصيدة يلحظ التوصيف الدقيق لكل شخصية في الرواية، وهذا التوصيف المشاعري يكتظ بالرؤى الدقيقة التي ترصد الواقع الروائي، بكل ما فيه من أحداث، ورؤى، ومشاهد تعود إلى الوقع الروائي، بكل مسبباته ورؤاه، خاصة بإدخال المرأة المعشوقة حيز الصراع وحلبة السيرك، وكأنه يروض الشخصية الروائية لتنطق بمتغيره الشعوري ورؤاه الصاخبة، كما في قوله:

وأنا مُذْ غادرتُ الميدانْ

أَبحثُ عنها في كلِّ مكانْ

هلْ كنتُ أراها؟!

أمْ كانتْ روحاً تحميني..

من خطرٍ يتراءى لي.. أتفاداهُ

وتدفعُ عنّي الموتَ.. وكنتُ أراهُ" (29) .

هنا، يحوِّر الشاعر بالشخصيات الروائية، ليكون مربي الثيران البوليفي البطل الروائي لأحداثها والشخصية المحركة لكل أجواء الرواية؛ليس فقط عاشق الفتاة الحسناء التي يتصارع مع أصدقائه من أجلها، بل هو الذي يبرهن أن الصراع على الحياة أقسى وأمر من الصراع مع الثيران، لأن الحياة أوسع في الميدان، وأكثر قوة وصعوبة في مواجهتها، إذ يقول:

"يقولُ الرسامُ البوليفيُّ..

وكنتَ محاطاً بالرسامينَ وبالشعراءْ؟

فيصمتُ.. ثمَّ يقولُ..

لا أَتذكَّرُ إنّي كنتُ محاطاً بالرسامين وبالشعراءْ

أنا رجلٌ.. أعرفُ كيف أربي الثيرانَ..

وأعرفُ كيفَ أقاتلها

فيقول الرسام البوليفيُّ.. تربّي الثيرانَ وتَقتلُها

أقتُلها..

أقتُلُها..

إنْ لم أقتلها تقتلني .. أو يقتُلُها غيري

أوْ يقتلها القصّابُ .. لتأكلها" (30) .

هنا، يحكي الشاعر على لسان الرسام البوليفي واقعه الروائي في الصراع مع الثيران، وهذا الصراع هو أشبه بصراع الحياة، فكما أن الصراع مع الثيران إمَّا أن تكون قاتلاً، وإما أن تكون صريعاً، فكذلك صراعك مع الحياة قد تضعك الحياة في هذه المواقف في كثير من الأحيان، ولهذا، يرى في صراع الثيران، صراع الواقع بكل مرارته المؤلمة، وأساه المرير، إذ يقول:

في الليلِ نرى امرأةً.. ولّتْ شمسُ أنوثتها..

في بار النزل الريفيِّ..

وحدَّثنا النادلُ عنها.. إذْ تأتي حين يحلُّ الصيفُ

وتسألُ عن رجلٍ كان هنا..

تحكي عنه إذا سكرتْ

فإذا قيلَ لها لنْ يأتي.. امتعضتْ

تُخرجُ من طيّاتِ حقيبتها.. صوراً وقصاصات من صحف الأمسِ..

تُحَدِّثُ مَنْ فيها..

أتكونُ المرأةُ تبحثُ عما كنّا نبحثُ عنهُ (31) .

هنا، يصور لنا المرأة المعشوقة كيف بقيت لوحدها في الحلبة، وانتهى الصراع وبقيت وحيدة في الحانة تنتظر عشاقها المتصارعين من أجلها، تحاول أن تستعيد زمنها القديم، وواقعها الذي كان، لكن دون جدوى انتهى كل شيء، وبقيت مجرد ذكريات، وبقايا صور، تتلقفها بالدموع، والحسرات، والأنات المريرة.وهكذا، انتهت الرؤية الشعرية لتحط رؤاها، على مدلولات عميقة، فكما أن المحبوبة قد فقدت بريق أيامها، ولياليها الخصبة الغناء، فكذلك هو فقد فضاءاته البغدادية وأزمنته الماضية التي كانت تموج بالخصوبة والجمال؛فكلاهما فقد الجو الذي يحب، وكلاهما فقد العالم المزدهي الذي يرغب؛وهكذا، تتلون الرؤى والدلالات في القصيدة لتصل في النهاية إلى الفكرة الرؤيوية المبئرة للحدث الشعري:

"تُغَنّي السيِّدةُ السمراءْ

كانَ هنا بدرو روميرو.. ومضى يبحثُ عمّن كانَ يُحبُّ

سيأتي يوماً ليرى " باريت"

تصحو المرأةُ..

وتقولُ.. أنا باريت.. أنا باريتْ

سيأتي من أجلي وأنا مَن كان يُحبْ

تتوارى الشمسُ بعيداً .. وتضيء أعالي الأشجارْ

تعمُّ العتمةُ..

في ما يهرع من كان هناك.. إلى الحاناتْ

نواصلُ سهرتنا..

وتشاركنا في الليل الأحلامْ" (32) .

هنا، يدخلنا الشاعر فضاء الرواية بمتخيل شعري يبث الأمل في نفس العاشقة المهجورة التي فقدت زمنها وأهميتها، وفقدت سحرها الذي كان، وهكذا، تتلون الرؤى، وتدخل غمار الحدث الشعري، وتزداد قوة الحدث تعبيراً عن الواقع الروائي، الذي تتنوع أحداثه، ورؤاه بكثافة الرؤى الشعرية، والإحالات الجديدة المكتسبة إلى الشخصية، وبناءً على ما تقدم يمكن القول: تتمحور قصائد (أولئك أصحابي) على التفعيل الفني للشخصيات الروائية، لتنطق بواقع رؤيوي جديد، يمنح الشخصيات الروائية متنفساً إبداعياً جديداً؛ وهذا ما يحسب لها في تكوين تشكيلها الرؤيوي، ورؤيتها الجمالية الخلاقة؛وهذا يقودنا إلى القول: إن زبدة الحدث الروائي تتأسس على مرجعية فنية خلاقة، تثير الحدث الشعري، وتحقق متغيره الجمالي، لاسيما عندما يضفي الشاعر على الشخصية والأحداث من لمساته الشيء الكثير، وهذا ما يمنحها أهميتها في النسق الشعري المتضمنة فيه.

وصفوة القول:

إن ارتياد فضاء قصائد (أولئك أصحابي) من بوابة الرؤيا الاستطيقية وفاعليتها في توجيه الأحداث وتنامي التجربة، لمغامرة في حد ذاتها لأن توهج الرؤيا، وتعدد مساربها الدلالية، يفرض على القارئ تعدد الرؤى والأساليب في الدخول متنها؛ وهذا ما حاولنا الارتكاز عليه في الكشف عن الكثير من الرؤى والدلالات التي ترتكز عليها هذه القصائد في مسارها الرؤيوي المفتوح.ولا نبالغ في قولنا: إن جوهر الرؤيا الشعرية في هذه القصائد يعود إلى إبراز المتغير الوجودي في الحياة؛وإبراز جوانب الصراع بين الخير/ والشر، والحق/والباطل، والوعي/والجهل، والقوة /والضعف، فكل واحدة من شخصياته الروائية تظهر الجانبين معا، وربما تظهر السلوكين معاً، ولهذا، تشكل وجهي الحياة المتناقض أو المحتدم، لأنها متغيرة، ومنفتحة على الحياة بكل إيجابياتها، وسلبياتها، واستكانتها، وتمردها،، ويخطئ من يظن أن هذه القصائد لعبة شاعر تجريبي، وإنما قدرة شاعر إبداعي رائي أراد أن يُضَمِّن قصائده نبض الحياة، ليكون هو شخصية خفية ضمن شخصياته الروائية، يعيش تجربته كرواية، يرويها من خلف الكواليس، مظهراً غربته، وحرقته الداخلية، وجوانب مهمة من غربته الروحية.وهذا لا يدركه إلا من تغور عمق الدلالات وحراكها على المستوى الباطني.

 

عصام شرتح

..............................

الحواشي:

(1) شرتح، عصام، 2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية، ص313.

(2) جابر، يوسف، 1991- قضايا الإبداع في قصيدة النثر، دمشق، دار الحصاد، ط1، دمشق، ص180.

(3) عوض، ريتا، 1993- رائد القصيدة الحديثة يعيد للشعر دوره الحضاري، مقدمة ديوان (خليل حاوي) بيروت،

دار العودة، ص10.

(4) أدونيس، 1971- مقدمة للشعر العربي، دار العودة، بيروت، ط4، ص120-121.

(5) شرتح، عصام، 2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية (حوار بشرى البستاني ص365-366.

(6) شرتح، عصام، 2016- حوار مع حميد سعيد حول مجموعته (أولئك أصحابي)، مجلة ديوان العرب، موجود على الرابط الإلكتروني التالي: www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article...

(7) مخلف الحديثي، حمدي، 2016- تكامل الرؤى، بحث موجود على الرابط الإلكترونيwww.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article...

(8) المرجع نفسه على الرابط نفسه.

(9) سعيد، حميد، 2015- أولئك أصحابي، ص61.

(10) المصدر نفسه، ص61.

(11) المصدر نفسه، ص62.

(12) المصدر نفسه، ص62.

(13) المصدر نفسه، ص63.

(14) المصدر نفسه، ص63.

(15) المصدر نفسه، ص64.

(16) مخلف الحديثي، حمدي، 2016- تكامل الرؤى، بحث موجود على الرابط الإلكترونيwww.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article...

(17) سعيد، حميد، 2015- أولئك أصحابي، ص48.

(18) المصدر نفسه، ص48-49.

(19) المصدر نفسه، ص49.

(20) المصدر نفسه، ص50

(21) المصدر نفسه، ص50

(22) المصدر نفسه، ص51

(23) المصدر نفسه، ص51.

(24) المصدر نفسه، ص52.

(25) مخلف الحديثي، حمدي، 2016- تكامل الرؤى، بحث موجود على الرابط الإلكترونيwww.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article...

(26) سعيد، حميد، 2015- أولئك أصحابي، ص30.

(27) المصدر نفسه، ص30.

(28) المصدر نفسه، ص31.

(29) المصدر نفسه، ص31.

(30) المصدر نفسه، ص32.

(31) المصدر نفسه، ص33.

(32) المصدر نفسه، ص34.

 

في المثقف اليوم