قراءات نقدية

منتهى عمران: الرمز في قصيدة (الريل) للشاعر علي ابو عراق

تمهيد: القطار أو ( الريل) باللهجة العراقية في أوقات عديدة كان هذا الجماد المتحرك منذ ظهوره بعد الثورة الصناعية في أوربا في أواخر القرن التاسع عشر قد لعب دورا كبيرا في حياة الناس حيث كان وسيلة النقل الجماعية الصناعية الأولى في البر التي سهلت نقل الأشخاص والبضائع بين المناطق والقرى والمدن ولمسافات طويلة وانشاء المحطات التي يتوقف عندها. ولم تحظى كل المناطق أوالمدن في العالم بمرور القطار فيها ولذا لم يكن له أثرا في حياة الناس. بينما نجد أثره واضحا في المناطق التي انطلق منها أو مر فيها ولم يكن أثرا اقتصاديا بحتا فقط بل واجتماعيا أيضا وبالتالي دخل الأثر في الأدب سردا وشعرا وكان له دلائله الرمزية في الوجدان الأنساني أبسطها رحيل الأحبة ووداعهم في محطات القطار فكانت هناك الكثير من الروايات والقصص والقصائد التي تغنت وعبرت عن هذا الأثر. فكان القطار رمزا لحياة واعمار الناس اذ أنه حمل في عرباته أشخاصا مختلفين في أشكالهم وتنوعاتهم البيئية والاجتماعية والفكرية يحملون حكاياتهم وهمومهم وطموحاتهم فكانوا خليطا مد الأدب بصور ابداعية وجمالية تناقلتها الأجيال عبر السنين .

 

القطار أو (الريل) في قصيدة الشاعر أبو عراق

علي أبو عراق شاعر من مدينة البصرة وهي مدينة معروفة بكونها ميناء تجاريا يقع جنوب العراق ومنها ينطلق القطار الناقل للمسافرين والبضائع القادمة من مختلف أنحاء العالم جنوبا وشرقا باتجاه مدن العراق شمالا حتى وصل الى أوربا. ولذلك كان لأهل البصرة علاقة حميمية مع هذا القطار وخصوصا الساكنين قرب سكته ومحطاته وهو من العلامات المميزة لهذه المدينة العريقة ونجده حاضرا بقوة في الأدب البصري سردا وشعرا. فلانستغرب من حضوره كرمز للحياة في قصيدة الشاعر الذي خاطبه باندفاع شديد من العتب واللوم بل وصب جام غضبه على القطار حتى بدا أنه مسؤولا عما يجري في مدينته وماال اليه حال الناس  فنجد الشاعر لم ينادي عليه الا مرتين لتنقسم القصيدة بندائه الى جزئين فقط اذ كان خطاب الشاعر مع القطار خطابا حادا متسارعا كأنما يلاحقه بسرعته لامجال للتوقف الا في محطتين ليبوح له بمايخالجه من مشاعر وأفكار تعبر عن هموم وماسي عانى منها الناس طيلة عقود من الحرمان والفقر والموت وقلة الحيلة والظلم انتهاء بمرحلة مابعد 2003 التي زادت الحال سوء.

يا " ريل "

لماذا تنثرُ عويلَكَ في البراري

كريحٍ تُطاردُ عواصفَ ضالّةً

أو كخرساء ابتلعتْ وحيدَها الأمواج ؟

أأنتَ ليلٌ يستصرخُ ذئابهُ ؟

لتجهزَ على ما تبقّى من كائناتِ النهار

 

هنا نشاهد قسوة الخطاب وكيف يصور الشاعر الريل كأنه يلوم الحياة أوالسنوات التي تمضي سريعا .

هدّيءْ من روعِكَ ... ثقّلِ الخطوَ

وآكتنزْ شيئآ من سخامِكَ لأيّامِكَ القادمة

فأمامَكَ ليلٌ طويلٌ .. طويلٌ .. طويل

حيثُ تشاء بعثرّتنا

 

بينما يعود هنا ليدعوه أن يهدأ لاليصلح الحال بل لينبهه أن القادم أسوء وأكثر. هي خيبة أمل يعاني منها الشاعر يعكسها على القطار .. ثما يهاجمه في المقطع التالي ويحمله مسؤولية مايجري وبقسوة شديدة كأنه يخاطب طاغية فعل بشعبه كل صور الظلم والبشاعة بصور شعرية محكمة .

 

خيّرُنا لم يحظَ بظلِّ شجرة

وزعتَنا حصصآ كأنّنا إرثُ ابيك

حُصّةً للموتِ .. حُصّةً للمنافي

حُصّةً للغيابِ .. حُصّةً للسجون

حُصّةً للضياعِ والخُذلان

أطبقتَ أبوابَكَ الصدِئةَ .. على أحلامِنا الصغيرةِ

وبيديكَ الفولاذيّتَين غلّقتَ نوافذَ طفولتِنا

وكمجنونٍ أبكم َ ركضتَ هائمآ

لا تلتفت لغُبارِ عويلِكَ

ولا تشم روائحَ تفسّخِكَ

وأجبرتنا أنْ نركضَ خلفَكَ

لاهثينَ ، نتهجّدُ تيهآ ، ورعبآ ، وشَتاتا

بأرواحِنا التي نخرها الكساحُ نتعثّر

مُزاورينَ عن فخاخٍ

تقتنصُ حتّى النورَ والنسمات

تفنّنتْ في ابتكارِ فزعَنا

وردمتْ بالحجرِ أنهارَ قلوبِنا

 

ليناديه في المقطع التالي والأخير ويؤنبه بل ويأمره بالتوقف فلا فائدة ترتجى من مسيره ليقطع عليه رحلته القاسية التي خلفت وراءها الخراب والدمار

 

"يا ريل"

أما كفاكَ ما حملتَ من جُثثِ صباحاتِنا

وأسلابِ ليالينا

لا تصرخ ...

فليسَ ثَمّةَ محطة تأويك

ولا مودّعينَ يوقظونَ. عتمةَ نوافذِكَ

أو .. يلوّحونَ بمناديلَ بيضٍ كجيشٍ

استمرأَ الهزيمة

غيرُ مُجدٍ كلُّ هذا

فقد عبرَ الصبحُ إلى الضفةِ الأخرى

 

قد تعامل الشاعر مع القطار كرمز بحكمة شعرية عالية تجعل القاريء يتفاعل معها ويقتنع بها فهي ابتعدت تماما عن التقليدية في المخاطبة لجماد لاحول له ولاقوة ليكون بديلا عن حياة وطاغية .

وهنا القصيدة كاملة

 

ياريل "

---------

يا " ريل "

لماذا تنثرُ عويلَكَ في البراري

كريحٍ تُطاردُ عواصفَ ضالّةً

أو كخرساء ابتلعتْ وحيدَها الأمواج ؟

أأنتَ ليلٌ يستصرخُ ذئابهُ ؟

لتجهزَ على ما تبقّى من كائناتِ النهار

وكفتاةٍ تافهةٍ تلمّها

من على مائدةِ الفواجع

سادرآ تجرُّ خلفَكَ

ما هجعَ من " فراكين " الوحشةِ في مرآبِ الليل

غيرَ مُبالٍ بخطوطِ الزمن

ولا عجلاتِهِ المُنزلقةِ على سككِ التيهِ البارد

توزّعُ فواجعَكَ مثلَ غنيٍّ حديثِ النعمة

هدّيءْ من روعِكَ ... ثقّلِ الخطوَ

وآكتنزْ شيئآ من سخامِكَ لأيّامِكَ القادمة

فأمامَكَ ليلٌ طويلٌ .. طويلٌ .. طويل

حيثُ تشاء بعثرّتنا

خيّرُنا لم يحظَ بظلِّ شجرة

وزعتَنا حصصآ كأنّنا إرثُ ابيك

حُصّةً للموتِ .. حُصّةً للمنافي

حُصّةً للغيابِ .. حُصّةً للسجون

حُصّةً للضياعِ والخُذلان

أطبقتَ أبوابَكَ الصدِئةَ .. على أحلامِنا الصغيرةِ

وبيديكَ الفولاذيّتَين غلّقتَ نوافذَ طفولتِنا

وكمجنونٍ أبكم َ ركضتَ هائمآ

لا تلتفت لغُبارِ عويلِكَ

ولا تشم روائحَ تفسّخِكَ

وأجبرتنا أنْ نركضَ خلفَكَ

لاهثينَ ، نتهجّدُ تيهآ ، ورعبآ ، وشَتاتآ

بأرواحِنا التي نخرها الكساحُ نتعثّر

مُزاورينَ عن فخاخٍ

تقتنصُ حتّى النورَ والنسمات

تفنّنتْ في ابتكارِ فزعَِنا

وردمتْ بالحجرِ أنهارَ قلوبِنا

" يا ريل "

أما كفاكَ ما حملتَ من جُثثِ صباحاتِنا

وأسلابِ ليالينا

لا تصرخ ...

فليسَ ثَمّةَ محطة تأويك

ولا مودّعينَ يوقظونَ. عتمةَ نوافذِكَ

أو .. يلوّحونَ بمناديلَ بيضٍ كجيشٍ

استمرأَ الهزيمة

غيرُ مُجدٍ كلُّ هذا

فقد عبرَ الصبحُ إلى الضفةِ الأخرى

الريل هو القطار في اللهجة الدارجة العراقية -1

فراكين عربات القطار

 

منتهى عمران _ البصرة _ العراق

 

في المثقف اليوم