قراءات نقدية

دراسة نقدية: رواية: العمى رائعة جوزيه ساراماجو

bakir sabatin"الصولجان لا يصنع ملكا ولا العادة تنصب الكهان".. إنها القيم.

هذه الرواية الزاخرة بالتناقضات الإنسانية لن تترك القارئ ماكثاً وراء مكتبه أو مستلقياً على الأريكة، أو غاطساً في غياهبها وهو يتصفحها على الشبكة العنكبوتية؛ لأنها ستحلق به عالياً إلى فضاءات أبعد من المعقول بعد أن تخرجه من أعماق المحيط الزاخر بالحياة، ورغم كل ذلك فالقارئ سيتقبل نتائجها لأنها ليست بعيدة في سياق أحداثها المتلاطمة عن الأزمات المتفاقمة التي تحيط بنا.. ومن الممكن إدراج هذه الرواية في قائمة الأدب الفنتازي إلا أنها أيضاً لن تشعر المتلقي بالاغتراب (وهو العجيب فيها) كونها تمس حياتنا وتعري أوراق الغابة التي تستر عورات البشر، لا بل وتُعَرِّضْ قوانين الغاب السائدة لضوء النهار، وتتحول الغابة برمتها إلى مرتع يعربد فيه شيطان الأنا إزاء خيبة الإنسان وترصد الموت له.

هذا ما شعرت به وأنا أعيد قراءة الرواية ذات المئتين وتسع وسبعين صفحة للمرة الثالثة. من هنا أدعوكم للولوج إلى عالم الرواية قبل تحليل تفاصيلها، لنطرق أولاً بابها!! من خلال هذا الملخص الاستعراضي في إطار تحليل النص فنياً ما أسعفنا به حجم المادة وتبسيطها لكي تعم الفائدة.. وها نحن في سياق الحدث المفاجئ.. لنرتحل إليه..

تتوقف السيارة في الطريق العام فيكتشف صاحبها بأنه بوغت بالعمى فصار العالم الضبابي أمامه أبيض كالحليب.. واقتاده متطوع إلى بيته فيتناسى المفتاح بيده، لتكتشف زوجة الضرير أثناء اصطحابها له إلى عيادة الطبيب بأن المتطوع سرق السيارة، من هنا بدأت الكارثة تعم البلاد المجهولة، في زمن معاصر غير محدد، تفاقمت في طياته أحداث متداعية، نجمت عن داء أصاب المدينة؛ ما أدى بجميع سكانها إلى العمى، إلا زوجة الطبيب التي كانت الشاهد والمتحكم بمنطقة الضوء، نظراً لعدم إصابتها بالداء.

إنها رواية العمى التي أرد كاتبها أن يبين للعالم كيف ستئول إليها الحياة في مدينة يغيب عن أبصار سكانها وهج زهرة النور ويفقدون في غمرة الكارثة التي ألمت بهم مفاتيح النهار، وتفقد الأسئلة اتجاهاتها ويعم البياض الضبابي كل الأرجاء، في عتمة داخلية، حيث تموت الضمائر في قلوب الناس من خلال إصابتهم بداء العمى؛ ليعربد الشيطان في تفاصيل حياتهم، ورغم ذلك يظل الأمل منتعشاً في قلب زوجة الطبيب التي دافعت عن إنسانية الضعفاء منهم وانبرت ببصيرتها إلى مواجهة الخارجين عن القانون بحكم أنها الوحيدة التي نجت من الداء .

أنها رواية تنتمي إلى كل الأمكنة والأزمنة والشعوب المختلفة.. فهي بلا علامات تشير إلى فئة ما حتى الأسماء جاءت مجهولة على نحو: لص السيارات.. الطبيب... وهكذا دواليك.. ناهيك عن أن هذه الرواية المدهشة كتبت دون مراعاة لأسس الحوار الروائي فاختلط فيها الحوار المسموع مع تيار اللاوعي من خلال سرد مسترسل، أقيم على الوصف الدقيق والمفخخ أحياناً بالصور الفنية البسيطة، كأنها أحداث انثالت شلالاتها المدوية في سياق سردي متدفق خلال منحدرات الأمكنة، وفي بهيم زمني ومجريات تأخذ المتلقي إلى المجهول، فلا يسمع غير ضجيج الأسئلة.

"العمى" رواية كتبها جوزيه ساراماجو، وتعتبر من أبرز أعماله الأدبية. تتحدث عن وباء غامض يصيب إحدى المدن، حيث يصاب أهل هده المدينة بالعمى فجأة، مما يخلق موجة من الذعر والفوضى العارمة التي تؤدي إلى تدخل الجيش من أجل السيطرة على الأوضاع، ولكن الوضع يزداد مأساوية حين يتخلى الجيش عن الحشود العاجزة والواهنة، ما يؤدي ذلك إلى سيطرة العصابات على ما تبقى من طعام ودواء. يبدأ الناس في الاقتتال فيما بينهم. تلقى القصة الضوء أيضاً على الجانب الإنساني المتمثل بالطبيب وزوجته وعائلته الذين بقوا متماسكين حتى اندثار المرض فجأة كما ظهر.

تتحدث الرواية عن العمى الفكري حيث قالت زوجة الطبيب في نهاية الرواية " لا أعتقد أننا عمينا؛ بل أعتقد أننا عميان يرون، بشر عميان يستطيعون أن يروا لكنهم في الحقيقة لا يرون" في إشارة أيضا إلىً أن الأخلاق البشرية والمبادئ الإنسانية هشة أمام العوز البشري.

الجزء الأول والمكتمل من الرواية يتتبع تجربة الشخصيات الأساسية عندما يتم احتجازهم في مبنى قذر، مزدحم مع بقية المصابين بالوباء. وكانت الظروف سيئة من حيث النظافة، الظروف المعيشية، وتدني المعايير الأخلاقية بشكل مروع خلال فترة قصيرة، بحيث أن كل ذلك يعكس طبيعة المجتمع في الخارج. من حيث القلق على مدى توفر الغذاء الناجم عن سوء تنظيم طرق التسليم، بالإضافة لمحاولات زعزعة النظام وخلق أجواء النزاع؛ وعدم وجود نظام يكفل تساوي الأفراد في حصص الغذاء والمهام المطالبين بتنفيذها. كما أن الجنود الذين تم تكليفهم بحراسة المبنى والحرص على سلامة المحتجزين يصبحون عدائيين بشكل كبير عندما يصيبهم المرض واحداً تلو الآخر. من جراء ذلك يرفض الجيش السماح للمحتجزين بالحصول على أبسط الأدوية، مما يجعل أبسط الإصابات تصبح مميتة. وحذراً من إي محاولة هروب، يقوم الجنود بإطلاق النار على حشد من المحتجزين الذين كانوا ينتظرون أثناء وقت تسليم المؤن الغذائية.

أستطيع الجزم بأن كاتب الرواية أراد أن يعري المجتمع من خلال الانفلات الأمني في ظل دكتاتورية الأنا العظمى التي جمعت كل السلطات بما فيها الشعب في بوتقة العربدة الشيطانية والفوضى الهدامة وانقلاب المعايير الإنسانية في بهيم العمى الذي ساد أهل المدينة. فتتفاقم الأوضاع، عقب فرض جماعة مسلحة من العميان السيطرة على المؤن الغذائية، للتحكم بمصائر المحتجزين الآخرين وتعريضهم للاغتصاب والتجويع. لمواجهة المجاعة، يقوم المحتجزين بحرق المبنى، ليكتشفوا بأن الجيش قد تركهم ورحل، عندها يقوم أبطال الرواية بالانضمام لحشود العميان في الخارج الذين لا حول لهم، يتجولون في المدينة المدمرة و يحاربون بعضهم للنجاة وكأنهم لقيمات في أشداق المجهول فلا بصيص من أمل ولا حتى بصيرة تأخذ بأياديهم إلى مشارف النجاة.

ثم تتابع الرواية مسيرة زوجة الطبيب أثناء مرافقة زوجها، وعائلتها ومحاولاتهم للنجاة خارج أسوار المبنى، حيث تقوم زوجة الطبيب بالدور الأعظم في رعايتهم جميعاً، كونها الوحيدة القادرة على الرؤية وقد أخفت هذه الحقيقة في بداية الأمر. ثم ينهار المجتمع بشكل شبه كامل. القانون والنظام، الخدمات الاجتماعية، الحكومة، المدارس، الخ. كل هذه الأمور تصبح غير ذات أهمية. العائلات تفرقت ولا يستطيعون إيجاد بعضهم البعض. تراكمت الحشود في المباني وأصبحت تختلس الأغذية. أصبح التكيف البشري مستحيل في ظل المرض، العنف واليأس. الطبيب وزوجته وعائلتهم الجديدة (مجموعة العميان في العنبر المشترك) يتمكنون في نهاية المطاف من المكوث في منزل الطبيب وجعله مسكناً لهم وإقامة نظام جديد لحياتهم. وفجأة يرحل الوباء عن المدينة بنفس الطريقة الغامضة التي حدث بها. لتصاب العقول بالدهشة والضمائر بالخيبة.

وينبغي في سياق الحديث عن الجانب المظلم في هذه التحفة الأدبية تسليط الضوء أيضاً على زوجة الطبيب التي أضاءت الأمل كأنها منارة تبدت شعلتها في بهيم الظلام. فكانت الشخصية الوحيدة في الرواية بأكملها التي لا تفقد بصرها. ولا يتم تفسير سبب هذه الظاهرة حتى نهاية الرواية. بما أنها غير قادرة على مفارقة زوجها الذي سوف يتم احتجازه، تقوم بالكذب على الأطباء وتتظاهر بالعمى. لكي يتم إدخالها إثر ذلك إلى مبنى يتم احتجازها فيه مع بقية المصابين بالوباء. وبمجرد دخولها الحجر الصحي، تحاول المساعدة في تنظيم المُجمع بما فيه من عميان تائهين في حياة يسودها الخوف والتوجس من المجهول والأخطار المحدقة بهم، ولكنها سرعان ما تصبح غير قادرة على كبح الطبيعة الحيوانية للمُجمع بمن فيه، عندما تبدأ أحد عنابر الحجر في حجب الغذاء عن البقية والمطالبة بممارسة الجنس مع نساء العنابر الأخرى ثمناً لحصولهم على الغذاء، تقوم زوجة الطبيب على إثر ذلك بالتخلص من زعيم العنبر وتهيئة الأجواء لمغادرة المكان المكتظ بطالبي الموت من اليائسين. بمجرد هروبهم من الحجر الصحي، تقوم بمساعدة مجموعتها للبقاء على قيد الحياة في المدينة. تصبح زوجة الطبيب الزعيم الفعلي للمجموعة الصغيرة، رغم أنها في حقيقة الأمر تقوم غالباً بتلبية احتياجاتهم نتيجة إعاقتهم كونها المبصرة الوحيدة في رواية تكتم الأنفاس وتقبض على جمر الحقيقة المرة.

وتجدر الإشارة إلى أن معظم الحالات كانت قد أصيبت في عيادة الاستشاري في طب العيون ليصبح هو الآخر على نحو مفاجئ أعمى عُقب معالجته لأحد مرضاه بالوباء الذي يُسمى فيما بعد " المرض الأبيض "، فهو من أوائل الذين اقتيدوا للحجر الصحي مع زوجته. ووفقاً لخبرته الطبية وبمساعدة زوجته المبصرة تصبح لديه سلطة مهيبة على المتواجدين في الحجز الصحي. كما أن العديد من الشخصيات الرئيسة الأخرى سبق لها زيارة عيادة الطبيب قبل بدء انتشار الوباء. وساعده في سلطته كون زوجته لم تُصب بالوباء؛ حيث تكون قادرة على مشاهدة ما يحدث في العنبر ونقله لزوجها. عندما تنجح المجموعة في الهروب من العنبر ينتهي بهم المطاف للسفر والبقاء في شقة الطبيب وزوجته.

لقد زخرت الرواية بالشخصيات الرئيسة المؤثرة مثل الفتاة ذات النظارة السوداء والتي كانت تعمل فيما سبق بدوام جزئي كبغي أصيبت بالعمى بينما كانت مع أحد الزبائن. تم أخراجها بشكل غير رسمي من الفندق واقتيدت للحجر الصحي. بمجرد دخولها للحجر، تنضم لمجموعة صغيرة من الأشخاص الذين أُصيبوا أثناء تواجدهم في عيادة الطبيب. عندما يلمسها لص السيارة أثناء توجهها إلى دورة المياه، تقوم بركله؛ مما يسبب له جرحاً عميقاً. أثناء تواجدها في الداخل، تقوم ذات النظارة السوداء برعاية الطفل الأحول، والذي لم يتم العثور على والدته في إي مكان. في نهاية القصة، تصبح هي والرجل العجوز ذو عصابة العين السوداء عشاق. وهو بالمناسبة كان أخر الأشخاص الذين انضموا للعنبر الأول في الحجر الصحي. أحضر معه جهاز راديو ترانزيستور، وكان يسمح للمحتجزين بسماع الأخبار. وهو أيضاً المُخطط الرئيس للهجوم الفاشل على عنبر الأشرار الذين كانوا يحتجزون المواد الغذائية المخزنة. وبمجرد أن تهرب المجموعة من الحجر، يصبح الرجل العجوز عشيق الفتاة ذات النظارة السوداء كما أسلفنا.

وتتذكرون ذلك اللص في أول الرواية الذي سرق سيارة الأعمى فقد شاءت الظروف أن يصاب هو الآخر بالعمى حيث يتقابل مع أول رجل أُصيب بالعمى مرة أخرى عند دخوله الحجر الصحي. وسرعان ما تبدأ المشاحنات بينهما. مع عدم امتلاكهما الوقت لتسوية مشكلتيهما، حيث أن اللص يكون أول محتجز يتم قتله بواسطة الحُراس. وأخيراً لقي حتفه برصاص الحراس بينما كان يحاول طلب علاج لقدمه المصابة. أما الصبي الأحول فكان أحد المراجعين عند الطبيب، تم جلبه لمبنى الحجر الصحي دون أمه فتقوم الفتاة ذات النظارة السوداء بالاهتمام به وإطعامه وكأنها أمه.

حتى الحيوانات كان لها دورها الفاعل في هذه الرواية المتفردة، إنه كلب الدموع الذي ينضم للمجموعة الصغيرة من المصابين بالعمى بعد هروبهم من الحجر. بينما كان ولاؤه الأكبر لزوجة الطبيب، فهو أيضاً يقوم بمساعدة كل أفراد المجموعة عن طريق حمايتهم من قطيع الكلاب التي تزداد وحشيتها يوماً بعد يوم. تمت تسميته بكلب الدموع لأنه أصبح مرافقاً للمجموعة بعدما قام بلعق دموع زوجة الطبيب.

وهناك أيضاً الأعمى الأول الذي يفاجئه الوباء في وسط الزحام المروري، بينما كان ينتظر عند أشارة مرور. يتم أخذه فوراً لمنزله ثم إلى عيادة الطبيب، حيث ينقل العدوى لكل المرضى الآخرين. ويعتبر أحد الأعضاء الأساسيين في العنبر الأول حيث يتواجد به المحتجزون الأصليون. وهو أيضاً أول شخص يستعيد بصره، عندما يزول الوباء في نهاية الأمر، أما زوجته فتُصاب بالعمى هي أيضاً بعد فترة وجيزة من مساعدة زوجها لدخول الحجر الصحي. حيث يلتم شملهما. وعندما يبدأ عنبر الأشرار بالمطالبة بالجنس مقابل الغذاء، تتطوع زوجة الأعمى الأول للذهاب، تضامناً مع الآخرين.

وفي المقابل يأخذ الأشرار المبادرة في السيطرة بواسطة الإرهاب على المجموعة. وتجدر الإشارة إلى زعيمهم الملقب بالرجل ذو السلاح حيث يقوم بمساعدة بقية أفراد عنبره باستخدام القوة للسيطرة على المؤن الغذائية و يهدد بقتل كل من لا يمتثل لأوامره. يبدأ هذا العنبر بابتزاز الآخرين وإجبارهم على تقديم أشياء ثمينة مقابل حصولهم على الغذاء، وعندما تنفذ الساعات و الأساور، يبدءون باغتصاب النساء. في نهاية الأمر وكما قلنا في سياق الأحداث بأن زوجة الطبيب قتلته توطئة للهرب مع المضطهدين من المجموعة. ويستغل المحاسب الفرصة ليسيطر على المجموعة بعد موت الزعيم، فقد كان من المتأثرين بوباء "العمى الأبيض"؛ ولكنه كان أعمى منذ ولادته. لذلك كان هو الوحيد في الجناح الذي لديه القدرة على القراءة والكتابة بطريقة (برايل) ويعرف كيفية استخدام عصى المشي. واستغل المحاسب هذه الميزة في محاولة يائسة لفرض سيطرته؛ لكنه يموت حرقاً على يد أحدى ضحايا الاغتصاب بإضرام النار في العنبر وتخليص المضطهدين من طغيان المجموعة المستذئبة، التي حاولت استعباد المجموعة لأجل السلطة والتموين وإشباع غرور الأنا التي تناحرت مع الأخريات في صراع مخيف على البقاء.

صدرت رواية العمى للبرتغالي جوزيه ساراماجو الحاصل على جائزة نوبل للسلام، عام 1995 فقد استلهمها الكاتب من واقع الحياة؛ ليتهم من خلالها جميع الأنظمة الفاسدة وذلك بسبر أغوار النفس البشرية من أجل فهم الطبيعة الغريزية التي تكمم العقول المستلبة، فاتحة شهية الأقوى لاستعباد الضعفاء في سياق صراع عنيف طاحن من أجل البقاء.. وقد نجح الكاتب في الوصول إلى الوباء الافتراضي الذي هيا البيئة الأمثل لحدوث هذا الانهيار المدوي في القيم الإنسانية من خلال صوت الراوي العالم الذي يعبر عن الشاهد المجهول الذي يسبر أغوار الأعماق، والراوي القريب من الحدث والمتفاعل معه والمتمثل بصوت زوجة الطبيب بحكم أنها المبصرة الوحيدة فيها، ولا أعتقد أنها مثلبة إن التبست على القارئ الحصيف أدوار الرواة، أو تمازج الصوتان في سياق ما، في مجتمع مجهول المكان والزمان، وأشخاص تحمل أسماء وظيفية دون أن تشير إلى فئة عرقية ما، غير فسيفسائية بل تنتمي للإنسان بكل تناقضاته النفسية والاجتماعية والأخلاقية، وهو في حالة الغيبوبة الفكرية أو الوعي، ولعل هذا الانثيال المتدفق في اللغة هو الذي عكر السرد بالأحداث المتداخلة بتسارع مربك وقد ذابت الحوارات الخارجية مع تيار الشعور في النص من خلال إسقاط بعض أدوات الترقيم من السرد، فجاءت الجمل خبرية مسترسلة طويلة تتخللها حوارات داخلية وخارجية دون تحديدها بأقواس مزدوجة، ولا أدري ما هو المغزى من ذلك، وهو أسلوب تفرد به جوزيه ساراماجو ، ورغم ذلك فالرواية مدهشة، وقد عربد فيها الخيال إلى درجة الإقناع بأن عالم الفنتازيا ما هو إلا واقعنا المتواري خلف أقنعة يلبسها الأفراد في مجتمع يسوده الرياء، وكأن المجتمع البشري دون قيم ترتجى ما هو إلا غابة يقوم فيها الإنسان بدور أكثر فتكاً من الوحوش الضارية.. فهل أصاب المؤلف الهدف فتستيقظ البشرية من سباتها العميق! هذا مرهون بمدى تجاوب القراء مع أحداث هذه الرواية الاستثنائية الفذة، مستذكرين بعض الأقوال المأثورة على لسان الراوي وهو في قمة النشوة أو في حالة الذهول، فماذا قال:

" ماذا تعني الدموع عندما يفقد العالم كل المعاني"

" إن أصحاب القلوب القاسية لهم أحزانهم أيضا"

"إننا نهاب جداً فكرة موتنا ولهذا نحاول دائما إيجاد الأعذار للموتى وكأننا نطلب مسبقا إن نُعذر عندما يحين دورنا"

"الزمن هو الذي يحكم.. الزمن هو المقامر الآخر قبالتنا على الجانب الآخر من الطاولة وفي يده كل أوراق اللعب وعلينا نحن أن نحرر الأوراق الرابحة في هذه الحياة"

"الرجال جميعهم متشابهون يعتقدون بأنهم يعرفون كل شيء عن النساء لمجرد أنهم خرجوا من رحم امرأة"

"كما أن العادة لا تصنع كاهناً .. فان الصولجان لا يصنع الملك وهذه حقيقة يجب ألاّ ننساها ابدأ"

نعم وكأن الكاتب أراد أن يقول ذلك.. فالصولجان لا يصنع الملك كما أن العادة لا تصنع كاهناً.. والخوف لا يصنع الحرية ولا يوقظ الإنسان من غيبوبة العقل والروح وسطوة الغريزة المنفتحة على كل احتمالات الوحشية المتحررة من عقالها، وكما قال الراوي في ذروة وجعه أثناء بوحه الموجع بأن الضمير الأخلاقي الذي يهاجمه الكثير من الحمقى وينكره آخرون كثر أيضاً، هو موجود، وطالما كان موجوداً ولم يكن من اختراع الفلاسفة حيث لم تكن الروح عندهم أكثر من فرضية مشوشة، فمع مرور الزمن والارتقاء الاجتماعي أيضا والتبادل الجيني انتهينا إلى تلوين ضمائرنا بحمرة الدم، وبملوحة الدمع، وكأن ذلك لم يكن كافيا؛ فحولنا أعيننا إلى مرايا داخلية، والنتيجة أنها غالبا ما كانت تظهر من دون إن تعكس ما كنا نحاول إنكاره لفظياً.. فهل وصلت الرسالة!

 

 

.................

المرجع

رواية " العمى" الجزء الأول- جوزيه سرماغو- ترجمة محمد حبيب- الناشر الأصلي دار المدى للثقافة والنشر- ناشر إلكتروني مكتبة نوبل- 1998 – تحميل إلكتروني bdf:

http://www.book-juice.com/books/%D8%A7%D9%84%D8B9%D9%85%D9%89/

ومواقع أخرى.

في المثقف اليوم