قراءات نقدية

نَاهِدَةُ الحَلَبِي.. بَوحُ الاسْتِثْنَاءِ الشِّعْرِيِّ الرَّاهِن

بليغ حمدي اسماعيلالبَحْثُ عَنْ شَفْرَةِ النَّصِّ: هناك قاعدة نقدية تفيد أن التحول الأساسي في الشعر العربي المعاصر يشير عادة إلى ما يسمى بالحساسية اللغوية الجديدة، أو ما يعرف بالحداثة، وهذه الحداثة هي التي قامت بفصل عالم النص الشعري عن مرجعية عالم الواقع الفيزيقي والاجتماعي المحيط، بحيث إننا لا نستطيع أن ندعي بأن الشاعر يريد كذا أو يقصد كذا، كما أن النقد المعاصر دائماً ما يؤكد أن شعراء الحداثة الشعرية بعيدون كمال البعد فيما يسطرونه من كلمات عن صور وتشكيلات الواقع الفعلي .

من ناحية أخرى فإن شعراء الحداثة الشعرية يقيمون عالماً افتراضياً موازياً لعالم الواقع، وربما ينفصلون عنه انفصالاً تاماً من حيث مواد وأدوات التشكيل، ومن حيث الاستهداف، وإذا كان هذا الانفصال غير المبرر بين العالمين " عالم النص " و " عالم الواقع " كانا يتعانقان منذ المحاولات الأولى لشعر الحداثة، فإن ناهدة الحلبي في ديوانها " أبعد من وحدتي "  تحاول جاهدة قطع حالة الانفصال تلك، بل وتبدو خطوط الاتصال بين العالمين واضحة لا مجال للشك فيها .

والديوان في مجمله حالة استثنائية رغم إعلان صاحبته أنها شاعرة غير استثنائية، وهذه الاستثنائية تبدو من خلال تعدد الأصوات والحالات في قصائد الديوان، وهو ما نحاول الكشف عنه بإيجاز لضيق المساحة والمقام دون رصد العلاقة بين الشاعرة والنص، إنما الإشارة السريعة إلى العلاقة بين النص ذاته وبين مجتمعه .

فالنص نفسه " أبعد من وحدتي " يتداخل فيه صوتان رئيسان هما صوت الحضور الجسدي، وصوت الحضور الأنثوي البارز في قصائد الديوان، وهذان الصوتان يقيمان علاقة فريدة ومميزة ؛ وهي علاقة التوازي والتحاور في آن واحد، مثلهما مثل الجوقة والممثلين في عالم النص الشعري المسرحي اليوناني، حيث تصف الجوقة ما لا يمكن إظهاره بالأداء التمثيلي . وما ينبغي أن نلفت إليه النظر هو أن الحضور الجسدي في النص وظف في أكثر من وظيفة ووضع في أكثر من موضع، لأنه باختصار ـ الحضور الجسدي ـ قام بأكثر من دور وكل دور تضمن دلالة متعددة، اختلفت عن سابقتها في شعر الحداثة النسائي الذي كان يصر على جعل الحضور الجسدي للمرأة ظلاً غير واضح المعالم والتشكيل.

لكن الحضور الجسدي عند ناهدة الحلبي في ديوانها  يتجلى لغوياً، وهي في ذلك تسعى إلى تكريس وتحقيق رؤيتها للعالم والمجتمع، وهذا الحضور يمكن رصده من خلال الإشارات الشعرية التالية:

تعْتادُهُ  النَّهْداتُ حتّى شابَهَتْ

شُرُفاتَ لَذَّاتٍ بِطَعمِ جَنانِ

عُتْبي على جَرحٍ تَقوَّسَ قَدُّهُ

فأَهاجَ عندَ رُموشِهِ أجْفاني

كجداول السُّهدِ المُعَتَّقِ بِالجَفا

مُتَعثِّرًا بالوَصلِ والخَفَقانِ

يا بوحَهُ الثغرُ المزنّرُ بالشذا

كالعطرِ معقودٌ على الرَّيْحانِ

وفكرة الإمساك بشبكة من الكلمات المرتبطة بفعل الجسد وحركته تعتبر نقطة انطلاق لدلالة النص الشعري عند ناهدة الحلبي، فدائما تظهر حركة الجسد الذي يأبى السكون، لذا فنجد صوت الفعل المضارع بازغاً وواضحاً عندما يقترن بالجسد، بالإضافة إلى أن حضور الفعل المضارع المقترن بحركة الجسد تغلب عليه صيغة المتكلم وهو الملمح الذي غلب على سياق النص اللغوي في نصفه الأول:

إذا يمكننا رصد حالة الجسد في نص ناهدة الحلبي  الشعري بأنه يثور دائماً وأنه رفيق اللحظة الآنية لواقعه الحالي لا يجتر ذكريات فائته إلا ليؤكد حالات شديدة الحضور الوقتي وهذه الثنائية لا تمثل ضدية أو نوعاً من التعارض .

وكما كان للفعل الماضي حضور، فإن له حضور مماثل لحضور الحدث المضارع الذي يشكل فعل الحركة والاستمرار دون تعقيد أو تركيب لغوي يثير الغموض كما في باقي شعر الحداثة، وهذان الحضوران يتطلبان متابعة مستمرة لإدراك فعل الجسد الذي يمكن القارئ من فهم وتأويل النص الشعري ز

وهي بذلك تحاول أن تكسر الصورة الصريحة الكلاسيكية في استخدام الفعل الماضي المرتبط بالجسد والذي يشير إلى حالة ومقام السكون، وذلك عن طريق تزاوج الكلمة الماضية بمفردة مستمرة نشطة .ومثلما كان صوت الحضور الجسدي، وحضور التزاوج بين استخدام الفعل في صيغتيه الماضي والحاضر أكثر تميزاً ووضوحاً في نص الشاعرة ناهدة الحلبي، فإن الصوت الأنثوي أو ما يعرف بالحضور الأنثوي كان على مقربة من هذا الحضور السابق، فالنص لا يقدم شخصاً غائباً نتلمس أصداءه من مفردات ذات خصوصية، تتصف بالسرد الرتيب والذي يقمع بدوره كل محاولة لظهور الذات أو إحدى صوره.

ولكن يبدو الحضور الأنثوي في النص واضحاً ومجسداً لمراحل التطور السردي غير الرتيب والذي أصبح ـ السرد ـ ملمحاً رئيساً لقصيدة النثر المعاصرة، وعادة ما تحاول الشاعرة ـ أية شاعرة ـ أن تعيد صياغة الشكل الهرمي لعلاقة المرأة بمجتمعها وغالباً ما تكون صورة هذه العلاقة مستترة غير واضحة مستخدمة فيها لسان امرأة أخرى غير لسان الشاعرة نفسها، بل لعل النصوص الشعرية النسائية المعاصرة تتستر خلف أقنعة وهي تحارب المد الذكوري في المجتمع، أما النص الشعري عند ناهدة الحلبي فهو ليس في حرب شرسة مع هذه الذكورية الطاغية والتي تمارس قمعاً ثقافياً داخل النص، ويبرهن على ذلك حرص الشاعرة على وجود صيغة المتكلم بشكل صريح، مع قوة الكلمات التي تفيد محو التبعية وحالة القمعية تلك .

بقي إلى أن نشير إلى الملمح الرئيس في نص الشاعرة ناهدة الحلبي والذي أسهب بعض النقاد في التنويه عنه وربما محاولين رصد هذا الملمح الذي نقصده بالمعجم الصوفي، وليست الحالة أو المقام . فالنص الشعري يؤكد بطول قصائده المتعددة على استنطاق المفردات اللغوية التي عادة لا تخرج عن المعجم الصوفي، وهي في استخدامها لهذه المفردات ربما تحاول أن تنأى قليلاً عن المشهد الاجتماعي الذي يبدو واضحا من أول قصائد الديوان وأن الشاعرة ليست بمنأى عن واقعها ومجتمعها ولا ترتدي أقنعة وهمية تواجه به مجتمعها .

ولأن ناهدة الحلبي تملك حضوراً ذاتياً سواء على مستوى الاستخدام الجسدي للمفردات، أو من حيث حضورها الأنثوي والأفعال التي ترصد حركتها فهي تجنح إلى عالم متصوف يسمح من جديد بإعادة ظهورها بغير تستر أو غياب، فنجد ألفاظ وعبارات شعرية تعود إلى معجمعها الصوفي مثل: ( والزمن سرقك من غرفتي / تطفو الروح / سأرفع أسدال كعبتي / هكذا أكشفني / وهذا الفجر فاتحة أمري / أجمع فضائل الوجود / حاملة مشكاة فيها نوايا سماوية / أصعد إلى السماء أتباهى في صعودي / إنه العدم السرمدي ) .

وهذا ونستطيع أن نجمل قراءتنا غير الاستثنائية لشاعرة تبدو بنصها الشعر استثنائية أنها مهتمة جد الاهتمام بصورة المرأة والإعلان عن بوحها الصامت منذ سنوات ضاربة في الأزل، وهي تدعي عبر الديوان القيام بدور البطولة متجنبة القمع الذكوري الذي يبدو باهتاً لا نلتمسه إلا في لحيظات شعرية بسيطة وسريعة، وكأن الشاعرة أرادت أن تهرب بعيداً عن سجن القصيدة النسائية المعاصرة والتي تجعل استهداف القصيدة موجهاً نحو الرجل الذي يقاسمها المجتمع بل يقتنص الجزء الأكبر منه، كما أن النص الشعري عند ناهدة الحلبي يدعو القارئ دائما لكي يكون واعياً بقيمة الوعي تجاه المفردات التي تشكله ـ النص ـ وأن استخدامها يقيم علاقة متقاربة بين الشاعر والمجتمع بخلاف النصوص المعاصرة التي تفصل عالم النص عن عالم الواقع

وقد لا يحتاج الناقد أو القارئ على السواء إلى إطلالة ببلوغرافية توثيقية للشاعرة اللبنانية ناهدة الحلبي قبيل مطالعة قصائدها المتوهجة بالشعر الذي يمكن توصيفه بأنه ديوان العرب، عدم الاحتياج هذا مفاده عدة أسباب وعوامل أبرزها على الإطلاق التزام ناهدة الحلبي بالصورة الرصينة للقصيدة العمودية التي تشترط توافر الوزن والقافية هذا ما استطاعت ناهدة الاكتراث به وتفضيله في مجمل قصائدها، ومن الأسباب أيضا أنها رغم التزامها بصورة شكلية قديمة وتقليدية يمكن توصيفها في الوزن والقافية إلا أنها تحررت مطلقا صوب اللغة التداولية القريبة من القارئ العربي المعاصر الأمر الذي جعل من قصائدها ما يشاكل رغيف الخبز اليومي الذي لا يمكن للمرء الاستغناء عنه، وإن جاز للناقد مدح شاعر فالأحرى أن نمدح لغة الشاعرة ناهدة الحلبي وموضوعاتها الشعرية قريبة الصلة من القلب والتي ابتعدت بها عن لوغاريتمات القصيدة العربية الراهنة الموغلة في الغموض والالتباس والرمزية التي تفقد الشعر العربي الرائق براءته وبريقه .

والسبب الثالث من أسباب تفرد ناهدة الحلبي كونها لبنانية الأصل، ولبنان على الاختصاص موطن استقر في مظاننا التاريخية بأنه وطن الشعر الأكثر مشاكلة للغة القلب والوجدان والأبعد عن القصيدة الفلسفية الضاربة في السردية التي امتاز بها الشعراء المعاصرون الأمر الذي جعل الكثير من قراء الشعر ينأون بعيدا عنهم وعن نصوصهم التي تشبه الأحجية والتعاويذ القديمة .

أبْعَدُ مِنْ وَحْدَتِي .. أقْرَبُ مِن القَلْبِ:

ومنذ أكثر من خمسة أشهر وديوان " أبعد من وحدتي " للشاعرة ناهدة الحلبي يعلو مكتبي الخشبي، أتأمل صفحة الغلاف الخارجي، ثم أمر على قصائده الاستثنائية عبر قراءة عابرة متحفظاً الولوج في إحداثياته من أجل اقتناص سويعات تناسب النص الرائق بلغته المعاصرة والتزامه بالشكل الصحيح والسليم والفطري للقصيدة العربية وكأن العنوان نفسه أجبرني على الاحتفاء بالوحدة أو الهروب بالديوان بعيدة عن زحمة الفلسفة والمشاهد السياسية التي غلبت بسطوتها على حياتنا العربية، وجاءت لحظة اقتناص القراءة بفضل حالة اليقين التي تمتلكها ناهدة الحلبي بقصائدها المتوهجة شكلا وموضوعا من خلال نص شعري يحظى بلغة معاصرة وحالات وجدانية لا يمكن للقارئ الفكاك من شراكها .والأجمل والأروع عند تناول قصائد مجموعة أبعد من وحدتي للشاعرة ناهدة الحلبي أنك مضطر للتخلي عن كافة التقنيات النقدية التقليدية المكرورة إذ أنك تتعامل مع نص يستهدف الوجدان أولا ويدفعك للتعاطف مع قضاياه ومضامينه وليس للتفتيش عن زوايا أخرى كامنة .

الكَشْفُ عَنْ التِّيْمَاتِ النَّصِّيَّةِ:

وهناك ثمة ملحوظات تمثل بالفعل إحداثيات لغوية وشعرية تفرض نفسها عند تناول قصائد ديوان " أبعد من وحدتي " للشاعرة اللبنانية ناهدة الحلبي لعل أبرزها فعل الأمر الذي يغلب على معظم قصائد الديوان، وربما لا يكترث النقاد المعاصرون بدلالات اللغة في قصائد المرأة أو ما يعرف بالأدب النسوي، رغم أن استخدام المرأة الشاعرة أو القاصة أو الروائية لفعل الأمر يحدد ملامح مهمة تكشف عن صاحبة النص دون اللهاث وراء معلومات تاريخية عنها تماما حينما نستقرئ روايا الجزائرية أحلام مستغانمي لاسيما في عابر سرير أو ذاكرة الجسد أو الأسود يليق بك وأخيرا عليك اللهفة .

هذا ما يكشف عنه فعل الأمر الغالب على قصائد ديوان أبعد من وحدتي والذي يدل على أن ناهدة الحلبي شاعرة بدرجة ثائر أو مبدعة تصر على الوصول إلى منصة التتويج عن طريق إطلاق صرحات شعرية تعبر عن مطامح الأنثى المشروعة في مجتمع ذكروري بات مضطربا وقلقا بفضل الشهود السياسي الراهن تارة، وتارة أخرى هذا القلق الأنثوي المصاحب لكافة المشاهد الإنسانية المتعلقة بالحب والوصل والغرام وعلاقة المرأة بالوطن والسفر . استخدامها لفعل الأمر جاء متلازما ومصاحبا عن حالة القصيدة أو المشهد الشعري القائم فحينما نطالع القصائد العاطفية على سبيل الرصد لا الحصر نجدها تستخدم أفعالا مثل " قل لي أحبك "، " خذني إليك "، " واكذب عليَّ "، "واحضن فمي"، "أعني على النسيان"، "واستصرخي وجعي" .

والملمح اللغوي الآخر الذي يطغى في الاستخدام النصي في ديوان " أبعد من وحدتي " هو اللغة الاتصالية مع الآخر / الرجل، وهو استخدام يتناسب كثيرا مع الالتزام بالشكل الرصين للقصيدة الشعرية العربية المتمثل في الوزن والقافية، ومن الملفت أيضا أن ناهدة الحلبي وهي تحرص على تيمات لغوية داخل نصوصها على وعي مستدام بتقديم جمل شعرية تقريرية وليست إنشائية وهي بذلك أشبه بحالة البوح الرقيق الذي لا يميل إلى الاستعطاف أو استجداء حالة الحب بقدر ما هي على يقين بأن الذائقة اللغوية تتطلب الجملة الإخبارية عقب استخدام تيمة لغوية راسخة في المظان العقلية العربية ذات الثقافة الذكورية السائدة مثل أيا سيدي، ويا سيدي، ويا سادتي، و نتلمس هذا الملمح من خلال قصيدة "ريشة على خد وجسد " إذ تقول:

"إني نظرت إليه ذات مرارة

وخصوبة الأشواق طعم خناجر

يا سادتي ما الحب إن أذوى الردى

وجد الحبيب، وجفن غيم ماطر."

وتقول في قصيدتها " مسجي على قلب وورق ":

"يا سيدا حسنت للكون صورته

في قلب سيدة من بارئ النعم

كما البدور إذا ما الحسن كللها

لها الشموس إذا ما القلب في ضرم."

وتقول في قصيدة " رعشة زمن ثمل وقداح ":

"أترعت كأسك بالملذات التي

عتقتها في القلب خوف سراق

يا سيدي، إن ذقت خمرة عاشق

لا تخش من سكر فلست بباق ".

غَيْرُ المَسْكُوتِ عَنْه:

لماذا تصر ناهدة الحلبي أن تقول أكثر مما ينبغي السكوت أو الصمت عنه ؟ هذا التساؤل هو إجابة بسيطة وسريعة لملمح أكثر بزوغا في ديوان " أبعد من وحدتي " وهو عناوين قصائد الديوان التي تشبه بالمواضعات أكثر منها مجرد عناوين لقصائد تأتي، والملفت للنظر والمسترعي للانتباه هو أن بعض العناوين تتشكل من كلمات تبدو طويلة وهذا يستلزم من القارئ أن يكون على وعي مستدام بأن ناهدة الحلبي أرادت تحقيق مزيتين في قصائدها ؛ الأولى أنها شاعرة عمودية أكثر حرصا على الشكل التقليدي للقصيدة العربية، والثانية أنها شديدة المعاصرة للمشهد الشعري الراهن لاسيما قصيدة النثر التي تمتاز بعناوين متفردة تجبر القارئ وتحثه على متابعة القصيدة رغم سرديتها . فنجد من بين عناوين القصائد " عطرك على ساعدي والعبق "، " برق في دموع حارقة "، " جفون عارية وحب مهاجر "، " عشق على ضفة وقلق "، " شوق إلى سفر ووعد " .

وحرص الشاعر على استخدامه مواضعات طويلة لقصائده هو هدف يسعى إليه، هذا الهدف يتمثل أولا في البوح عن حالة القصيدة، وثانيا إشراك القارئ في حالة القلق المتزامنة مع الشاعر حينما يختار عنوانا لقصيدته، وربما نجح علماء النفس اللغويون حينما أقروا بأن الشاعر عندما يطيل في عنوان قصيدته فهو يعاني قلقا ويجد صعوبة في اختزال إبداعه العصي على المراس في كلمة واحدة فقط لذلك يلجأ كثير من المبدعين ومنهم ناهدة الحلبي إلى قرار إطالة العنوان تجنبا لاختزال القصيدة في عنوان ضيق وإن كان ضيق العنوان لغة يكشف عن مدى تكثيف القصيدة أيضا .

صُوْرَةُ الأنْثَى العَاشِقَةِ .. بَعِيْدًا عَن الرَّبِيْعِ العَرَبِيِّ:

أعادت الشاعرة ناهدة الحلبي في ديوانها " أبعد من وحدتي " الأنثى العربية إلى صورتها الرقيقة البعيدة عن مظاهر الوحشية والتمرد والسفور التي لازمت المرأة المعاصرة تحديدا منذ اشتعال ثورات الربيع العربي التي حولت المرأة العربية إلى ناشطة سياسية وثائرة ومتمردة على الأوضاع السياسية المجتمعية الأمر الذي أغفل الجوانب الرقيقة في المرأة والتي كانت المصدر والرافد الأول والأصيل لإبداع الشعراء على مر العصور .

وصورة الأنثى في ديوان أبعد من وحدتي رقيقة وهادئة الطباع، رصينة بغير جموح، عاقلة بدون جنوح، وهذا ما تكشف عنه ناهدة الحلبي في قصائد ديوانها، إذ تقول في قصيدة " فوضى الجسد والروح ":

"كم قال يهواني على مسمعي

ناجيت منه الحسن لم يسمع

يا لحظ جفن كم كواني به

مثل هجاء الشاعر المقذع

إن في ذبول فالهوى مؤرق

كنور وجه نافر المدمع

والقلب من فيض الهوى عاشق

كامنهل الهارب للمنبع"

وتقول ناهدة الحلبي في قصيدتها "ويقول يحبني .... ":

"إني عشقتك رد ما حطمت يدي

من أكؤس برضاب ثغرك ترفل

كم لائم في الحب قد برح الهوى

إن القلوب براقع تتبدل

أنسيت نقتسم المغيب ووحدتي

لون الغروب أنين وجدك يحمل"

وصورة الأنثى العاشقة التي تلازم مجمل قصائد الديوان تأتي على موعد دائم بخيبة الحب ولوعة الفراق، بل أحيانا كثيرة تأتي الحالة الوجدانية للأنثى ذات الحضور المشهود في ديوان " أبعد من وحدتي " لتعكس ما جناه الرجل بزيفه وخداعه وقصصه التي يعبث بها طامعا في علاقة عابرة مع المرأة، لذا فإن ناهدة الحلبي نجحت بامتيار في توصيف هذه الحالة وتلك العلاقة المنتهية بانتهاء فورة القلب الذي اعتاد على العشق لكنه لم يتمرس في تلقي صدمات غدره.

تقول ناهدة الحلبي في قصيدة " قلق على جفن وردة ":

"أحكي لكم يا سادتي عن قصتي

ولسان حالي ناطق بشقائي

فالعمر يمضي كيفما شاء الهوى

ما شئت يوما واستجيب ندائي

ذنبي إليه أن أغللت بضوئه

مستبرقا في ليلتي الظلماء

والدهر في أرزائه سرف بنا

فقذى بعين غير ذات ضياء

وخطيئتي أني أقمت بقلبه

والوصل عندي لا يخط بماء

لم يأت بالبدر المنير غواية

فعلى جبين الشمس شق ردائي"

وتقول الحلبي في قصيدتها المعنونة بـ "جفون عارية وحب مهاجر":

"وكم قال هذا الليل لون ضفائري

وما بين عينيه سواد مضلل

***

د. بليغ حمدي إسماعيل

 

 

في المثقف اليوم