تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قراءات نقدية

تيمة السرد في ذكورةالمنافي لأمان السيد

اشرف الخريبيذكورة المنافي نصوص تحاول اختراق الدهشة، وتعمل علي إعلاء اللغة بتيمة سردية شفافة وأحداث مُجسدة ومُحتشدة بما هو إنسانيُ، يظل بناء المشهد القصصي هو أهم مُرتكزات هذه النصوص، تراعي الكاتبة فيها سمات القصة القصيرة ومميزاتها كحدث مُكثف، مُركز تمتزج فيه عناصر التصوير والتجسيد مع تسجيل المشهد المباشر للوقائع، بحيث تعكس الحس الإنساني في كل الأحوال، مع الاهتمام بالتجسيد الوصفي والتوصيف الظاهري المقترن بالسرد وسلاسة الحكي بأبعاده الدرامية وإسقاطته علي الواقع ورموزها التي تنطق بالدلالة، بلغة تقفز إلي مستوى شعري خاص بأداء اللغة بإعادة الترتيب في الجملة والصياغة العامة للحدث، لتتمكن هذه اللغة نفسها من إبراز المعني وخلق تيمة سردية خاصة وأداء متفرد وللحفاظ على إنسانية الحكاية ورهافتها بمناقشة الثابت ثانية في منهجية فكرية باسقة مع توالي الحدث الدرامي، كما في قصة عيـون تنشد الهنـاء، وغيرها فتبدو شخصياتها القصصية بسيطة، مقنعة، ممتزجة بما هو إنساني، معجونة في أحداث الواقع داخل البنية القصصية، تحمل دلالة وجودها الفاعل في الحياة بروح شفافة، تهتم الكاتبة بالقضايا التي تحمل طرحا اجتماعيا، في نفس الوقت تحاول علاج هذه القضايا بشكل فني وفي إطار من البناء المنطقي بلغة رصينة وقادرة على كشف أنماط الشخصيات، إن رؤية النص للعالم هنا تتداخل بحميمة بين اللغة كعنصر كاشف للأحداث، وبينها كخبر في طموحه التقني، بداية من خلال دفء السرد وألقه وهدوءه النسبي إلى بنيته المُركبة المُركزة شديدة الانتباه فى جمل شعرية، تخترق النص لتمنحه بهاءها، مُعقدة التراكيب أحيانا رغم بساطتها، لأنها تتجاوز المعنى وتعبر تفاصيل التفاصيل إلى الألق ولا تستقر عليه ولكنها تتوتر توترا فنيا جميلا ككائن يرتعش بلسعة برد قادمة من عمق البحر، ولأنها- اللغة- ضمن رحلة البحث هي الأخرى، فتصمت صمتا مُهذبا وناحبا مع براءة الوجع ويُتم الأنين، تتساقط المفردات واحدة تلو الأخرى كهديل الحمام باحثة عن دفء السرد فيكشف عن مكنونه اللازوردي ويظل على وتيرته الغاصبة والكاشفة للأحداث وللمعاني الفكرية طارحة للإجابات بلا طائل من الرجوع إليه، فتسكين فى رحم النص كأفكارها وتتوارى قليلا مُكتفية بإبراز المعنى العميق والبعيد فى آن... وتظل على ذلك طوال الوقت تنتظر اللحظات التي تعلن فيها عن تمردها التقني، والنفسي.

 في ليل ما يزال يكرس عفنه (من قصة رحلة الحذاء)

 كان النازف المتهافت.. يدمى.. قصائد يسفّر فيها اعتذاره عن ذكرياته مع زوجتيه، وعن آلامه، ودموعه التي تنهال بلا قياد.. قصائد تضجّ بشيخوخته، فتسبره راكعاً يستجدي أمانه في حواف العمر بين راحتيها.. من قصة (فتات)

 ولكن البراعة والخبرة الفنية لا تترك لها فرصة الاقتراب من البوح المستفيض كي تفيض من بحرها وتزدحم التفاصيل بمكنون الخبرة الإنسانية، فتتراكم الأحداث بوتيرة أسرع كما في قصة (ذكورة المنافي) عنوان هذه المجموعة لتبقي اللغة أساس بنائها وتعود ثانية للحيرة / حيرة البطل ووجعه ومعاناته كما في قصة (فتات) فالأسئلة هنا لا حصر لها دوما لأنها تقوم بالرصد وتمنح معطيات ووقائع ووصفا وتجسيدا للمشهد القصصي، مع تفتح وعي الراوي عن المروي عنه عبر آليات السرد إذ يتنامى الحدث ليكشف المشهد ببهاء ذلك التجسيد والتفاصيل الثرية التي لا تبرح الكتابة، إنما النص هنا يشير للإجابات والأسئلة، ويقيم حوارا مع المتلقي يمنح هذه المساحة للمتخيل يوحى بها، ويرصد دوما حالات التغير.

 من قصة (فتات):

كيف يرمينا العمر خلفه؟! وكيف يكون الدهر مجرّحاً إلى هذا الحد؟!.

 فالمنطقة التى تكتب فيها هي التى تغيب عن وعي التلقي غالبا، ولكنها تركز المشهد على هذا الإنساني المفتقد (عيون تنشد الهناء ) وهى التى تقدم العالم إما رصدا لوقائعه وإما كمنطقة غائبة عن وعيه كي تعيد للذهن ترتيب الوقائع بالشكل الذي يراه الكاتب، وهنا يقدم رؤيته وموقفه وجملة ما يود إخبارنا به.

 إن وجود النصوص فى منطقة بين الحكي والحوار الداخلي لتقديم الفكرة بشكل متوال مُؤكدا على حضورها الفاعل ومؤثر في مسار الأحداث ترسب محتويات الذات أكثر ما تقدم نموذجها الفعلي لوقائع بعينها وبوعيها بهذه الوقائع. إن رصد التغير والأبعاد الإنسانية في معطياتها المختلفة تخلق حالة من التعامل النوعي مع هذه النصوص فى تراكمها الفنى، عندما تقدم نموذج الشخصيات، تحاصرها بخبرة الراوي كي تركز الحدث عند موقف بعينه، بمعنى إن الشخصية لديها عالم مُكتمل الجوانب مُحاصر من كل اتجاه هذا الحصار الواعي لحصاره وارقه المستمر، يظل موجودا طوال الوقت يتشكل حسب بنية النص وحدثه وحسب شخصياته التي تتعاطف كقارئ معها فى كل مرة ودون سبب واضح سوى السر المتألق الذي يبنى الحكاية ويقدمها للقارئ المتلقي بشفافية تستطيع الكاتبة أن تبني هذا الواقع الفني الذي يتوازي مع الواقع الحياتي في قصص (رحلة الحذاء)، و(كحّلنـي عنان السماء) و(صراخ ٌ في ضميـر)، و(الغريب) وغيرها، كي تضع المتلقي فى قلب الدراما، يمر العالم بسيطا جدا غير أنه أكثر عمقا وكثافة مما نتصور، وأكثر قدرة على إحداث ثغراته من خلال خطابه الفني فى وعي التلقي كي نشعر ونرى ونمسك ونقف ونناقش بعين الراوي قدرة رائقة على صناعة الموقف وتبني القضايا برهافة الأحداث التى تُسقط الدلالة منذ البدء الأولى منذ فجر الجملة الأولى فى نهار النص المفعم بالصخب صخب في (مذيعــة الحـي الأثري)، ووجع الحنين وملامسة الإنساني في الأحداث في (فتات) حين تذبحه انكسارات فقدان الأمل هي تذبح فعلا ليس لمرة واحدة بل مرات متتالية داخل بنية الصراع ككل كي يتحول العام إلى الخاص وينسحب العام على الخاص فى مزيج تشعره أكثر ما تقرؤه غير أنه استسلام للذبح فى صراع الدراما بين موقفين من التمني، تتصاعد الدراما مع السرد، وتلتصق به، وتنسحب عليه، وتختفي الضمائر فلا تشعر بالنقلات القصصية، تمرر الحبكة القصصية المدربة تدريبا كثيفا ومركزا على اختيار المواقف التى تعلن فى الحكاية عن رموزها تحديدا هذه المواقف وتحديدا هذا الحوار ضمن تفاصيل الحكاية، وتسقط التفاصيل الأخرى التى لا تضيف للبناء كي تساعد فى بناء الدلالة وترسيخ الرؤيا هكذا يبدو الحكي أليفا فى سرد بسيط غير أنه يضرب فى الأعماق للذات، يمزق بسكين حاد عمق القضايا بلا صخب ولا ضجيج تمر الصورة وتتلاحق الأحداث وتتابع مع الكاتبة في خطابها مع الآخر والذات في الوقت نفسه هذا المنطق الراصد للأحداث (من قصة ذكورة المنافي)

 حيالك ما استطعت إلا أن أعلن صمتًا مهيضًا،

ووراء تعويذات إلهية أطلق لك رسلي

كي يسقط فى العجز أو الذبح سيان نستعذب هذا الموقف من البطلة مع مشاعر حميمة وصادقة ورقيقة في هذا النص ولا مانع إطلاقا أن نكون شعراء لماذا يعذبوننا بهذا ؟ ألأننا وقفنا فوق حد النمو وشاهدنا أفقآ مفتوحا على العالم؟ لماذا نحن فى لعبة الدهس بين رحى الحنين رائعة قصتك وشعرك وقصتك الشعرية وأشعارك القصصية سيان، وموقفك من العالم عذب وألق ونغم يتسرب بثقة فى الوجدان وتركيز وتكثيف بمفردات عذبة وموحية فى طرح الدلالة بلا وجع فى القلب. هل تعرف أوجاع القلب، إنه موقف محدد من العالم وشخصياته الداخلية المشاعر التي تعبر عن نفسها وترسم أحلامها، والكاتبة ترصد الصراع الداخلي بين الخارج والداخل لكل منها، بين عالمه الخارجي بكل صراعاته، وما تنتجه الذاكرة، وبين عالمها الداخلي الذي يشده إليه الفراغ \ الوحدة، وفقد التواصل.

 تحاول النفاذ إلى الحقيقة الأليمة كما في قصة (عيون تنشد الهناء) غير أنه القتل، لغة الواقع، إننا أمام كاتبة لديها حس راق، وروح تحمل كثيرا من الدفء والجمال والتنوع تقدم صورا قصصية متعددة، لديها عالم يمتلئ وعيا فنيا وإبداعا صادقا، مميزا، بلغة عذبة، ومفردات تحلق في الصورة القصصية بفضاء مُتسع وشامل مع هذا المنطق الذي يحمله البناء الفني الإنساني في الوقت ذاته.

 إن براعة الكتابة ليست في السرد، أو حتى اللغة الرصينة الهادئة التي تشعرنا بالجو النفسي المسيطر على الحدث، ولكنها تكمن أهميتها في تفعيل الشخصية، ورصدها للدراما، وحبكة الصراع، وحقيقته، وخلفيته، وإسقاطها الجيد على الواقع ، في وصف التفاصيل عن الذات\ والعالم، ودورانها اللاهث فيه كي نشاهد الدراما وبنياتها وحبكتها بتصاعدها الذكي، نشاهد اللغة العذبة المليئة بالشجن خلف الأسطر وبين العبارات السردية، تصنع لشخصياته تاريخا ولحكاياته وجعا من قلب الواقع، ضمن تفاصيل مُجسدة بعناية في لحظة قصصية ثرية وقادرة على الكشف والمعالجة، بحيث نراها أمامنا موقفا حقيقيا من العالم، لأحداث تتراكم نفسيا في وعي القارئ لتخبرنا عن حياة هذه الشخصيات.

 تقدم هذه المجموعة القصصية المتنوعة من نواح عديدة، كثيرا من التجارب الإنسانية ذات الدلالة الإنسانية، واعية بدور الفن في التعامل مع معطيات الحياة، في هذا الفن الراقي المبدع وهو إذ يعاني من مشكلات الحضارة الحديثة إلا أنه وهي تحاول القبض على وقائع الحياة اليومية كي تقدم منها صورا ومشاهد تحتشد بكثير من الدلالة والوعي في ترقبها للحظات، وللحكاية، وأهميتها باستنشاق العذوبة فى مكوناتها إلى جانب صدقها الفني الممتع فى القبض على اللحظة القصصية الفاعلة والأقرب إلي التميز.

 تقيم هذه الكتابة العديد من التساؤلات في ظل أحداث نصوصها القصصية تنتقل من مشاهد مليئة بالحيرة والتعب والقلق إلى مشاهد إنسانية راصدة لواقعها تلتصق بعوالمها القصصية والإنسانية من خلال تفاصيل بسيطة صافية في نسق قصصي مجسد لأحداثها، يحمل أبعاده الدلالية، وقدرته على الطرح المتميز لأفكار الكتابة، لتمنح هذه النصوص فكرة مُغايرة للعالم، برؤية راصدة للحدث بهذا التعدد نفسه الذي يشحن أجواءها الغارقة في الرصد، تحمل لغة عميقة مليئة بالشجن، والتعدد.

 

تقديم: أشرف الخريبي

 

في المثقف اليوم