قراءات نقدية

شاعرية العنونة في "رأس تقد به الرغبة:.. قراءة تحليلية

طالب عمران المعموريوانا أتصفح المجموعة اقف متأملا عنوانها والعنونة الداخلية كعتبات نصية، والتي تعتبر من المباحث المهمة التي ميزت علم اللسانيات وعلم الدلالة وحتى العلوم الفلسفية والتأويلية والتحليلية باعتباره منهجا نصّيا مشتغلا على المفاتيح الأساسية للنصوص، والعنوان واحد من أهم المفاتيح التي تخضع للتحليل والمساءلة1

(رأس تقد به الرغبة) مجموعة شعرية  للشاعر الحسين بن خليل صادرة عن دار الارقم ، حلة ، 2019.بمئة وست صفحات ، تحتوي المجموعة على احدى والثلاثين نصا،.

إنّ  مرادف العنوان كمصطلح لغوي جاء في لسان العرب عن ابن سيده قوله: “العنوان والعِنوان سمة الكتاب، وعنونه عنونة َ وعنَّاه إذا وسمه بعنوان وقال أيضا: العنوان سمة الكتاب، وقد عنَّاه وأعناه، وعنونة الكتاب.. قال يعقوب: وسمعت من يقول: أطنْ وأعنْ أي عنونْه وختمه، قال ابن سيده: وفي جبهته عنوان من كثرة السجود أيْ أثر.

جاء العنوان كعتبة اولى واحدى المناصات المهمة والذي قدم فيه شعرية المناص على شعرية النص   للمجموعة بلغة شعرية جميلة وبصورة ابداعية انزياحية (رأس تقد به الرغبة ) فصار دور المناص (العنوان) الاساسي هو تحفيز القراء وتنشيطهم وازدياد فضولهم على القراءة وسبر أغوار النصوص في المجموعة ، وكذلك جاء الاهداء كمناص آخر وبلغة شعرية معبرة عن حالة الوجد والالم ،

الى

الروح المرافقة لظلي

                   الظل المنسدل من خاصرتي

                      الخاصرة

                            التي لاتزال ذابلة

أهدي اليك خلاصة ليلي

العنوانين والنظر اليها لم تكن وليدة اللحظة بل كانت من الإشكاليات التي حاول عدد كبير من الباحثين والمختصين في اللغة والتحليل والتأويل والتفكيك الاشتغال عليها فسيمياء  العناوين كانت ولاتزال مصبّ اهتمام النقاد والدارسين وليس الأمر جديدا بالمرَّة،

فالعنوان الرئيس والعنونة الداخلية للنصوص عنونة مبتكرة 2  تعطي انطباعا شعريا تجديديا لقصيدة النثر عتبة تفضي بنا الى عالم المجموعة ( رأس تقد به الرغبة ) يحمل تأويل تأبيري للعنونة 3 وبدلالات انزياحية ولغة شعرية موحية لصورة تجسد الالم والارهاصات النفسية الناجمة  التي تكمن في الرغبات البشرية ، فهو ما بين ثنائية ضدية يرغب في ويرغب عن، والرغبة هي حالة ذهنية ترتبط عادة بعدد من التأثيرات المختلفة؛ فإذا رغب الشخص في شيء معين فإنه سيُحاول الحصول عليه، ولكن إن لم يحصل عليه في نفس الوقت فإنه سيشعر برغبة أكبر في الحصول عليه، وسيفكر فيه كثيرا، وسيجد افتقاده له أمر محزن.

ترتبط الرغبة بشكلٍ كبير بالمتعة والألم؛ إذ يشعر المرء بالمتعة في الأمور التي تعزز بقائه وتكاثره مثل الوضع الاجتماعي والسكر والجنس وهو يرغب بها، ويشعر بالألم اتجاه الأمور التي تهدد وجوده وهو لا يرغب بها، وبشكلٍ عام عندما يُحقق المرء رغبته فإنه يفقد استمتاعه بها، ويضع رغبات جديدة ليحققها، وهنا تكمن مشكلة الرغبة في أنها وجدت لتعزيز البقاء والتكاثر، ففي نصه:

قَشط أكسَدة الرغبة

في نعش النهد

أدق المسمار الاخير

على مضضٍ

حتى ارتشاف الصدأ

أشيَّع المتبقي من شفاف الوجه

الى القعر أبحث عن سكينةٍ

أرْجوحةُ الوقتِ تستعجل خافقي

والخوف يقف على الابواب يهدد لصوصيتي

جاثمةٌ أوردةُ ظلي

فوق آلاء الرب

تترقب على وجل ٍ نفاد َ الفرصةِ

مجموعة الشاعر الحسين بن خليل هي  عبارة عن اتقاد رغبات  ببعدها النفسي وهي حاجات النفس البشرية  فكل الرغبات والحاجات أثرها النفسي على سيكولوجية النص  ولغته الابداعية عند الشاعر الحسين بن خليل.

لأن الإنسان بفطرته إنسان راغب، وتُشكّل الرغبة لديه خاصيّة جوهريّة فيه، فتُعرّف الرغبة على أنّها ميل الشخص نحو الحصول على أمرٍ يفتقده الفرد في وضعه الراهن، فيثير هذا التعريف للرغبة عدداً من التساؤلات الإشكاليّة، من ضمنها تلك التساؤلات التي تتعلّق بعلاقة الرغبة كمفهومٍ مع عددٍ من المفاهيم الأخرى، والتي تبدو متاخمةً له، وخاصّة الحاجة. تتباين رغبات وحاجات الشاعر ، بين الحاجة ذات الطبيعة البيولوجيّة الماديّة، وبين الرغبة ذات الطبيعة النفسيّة اللاشعوريّة،

فالعنوان إذن هو أولى عتبات 4 القارئ التي يقيس دلالاتها على جميع مضامين النص،” فهو مفتاح الدلالة الكلية التي يستخدمها القارئ الناقد مصباحا يضيء به المناطق المعتمة في النص و التي يستعصى فهمها إلا من خلال العودة إلى العنوان

(ثنائي مفهومي (العنوان-النص)، فالعنوان هو  وجه النص مصغّرا على صفحة الغلاف لذا كان دائما "يعد نظاما سيميائيا ذا أبعاد دلالية و أخرى رمزية تغري الباحث بتتبع دلالاته و محاولة فك شفراته الرامزة)

وتبقى دلالة العنوان غائبة، مراوغة، عصية على القبض، تحتمل تأويلات عدة، فإذا كان النص هو المولود، فالعنوان هو المولد الفعلي لتشابكات النص وأبعاده الفكرية والأيديولوجية. يتجلى ذلك في العناوين  التي تعتمد المجاز المرسل والكناية كما  العنونة :

الثانيةُ الستُّون بتوقيت الهلع / على قدر الخوف يهطل العناق/ ركل مؤخَّرة الحرمان / الضحك على رفات الارض /الرقص مع وجوه الجائعين/ العودة مع نهد ممتلئ /على جسدك ينتصب الانتظار/ رغبة لامتطاء الموت / الانين المخبأ خلف الوجه / رقراقه لميسمك الجفون/ عندما يتعرى البيض

نرى في مجموعته تعدد المفاهيم المستحدثة، (الحذف – التكثيف – التشظي – التعدد الدلالي – اللامعقول –الغموض – الفنطازيا – الانزياح – العنونة المبتكرة– السرد المشوش – مشهدية الفوضى للحواس)  نرى ذلك جليا في نصه:

رغبة لامتطاء الموت

وَأنتَ تتقدّم نحوي ... هِمَّ خطاك

تعال بزي الصبايا ... أو تتعرى ،

أيُّها الموت

سأزحف لفتنتك  حتى الرمق الأخير

وأرحل بعيداً

حتى تضمحل ملامح السمرة

وتتبدد الرغبة ببلوغ العالم الآخر من هذا الكون

تختفي أوجاعي

تركع أمام شواطئ العزلة

سمفونيات الضحك الهستيري

إن الوصول لتحقيق الرغبة عند الفرد، والتي كان يسعى إلى تحقيقها كحاجةٍ ملحّة، يولد السعادة والشعور بالفرح الكبير، إضافةً إلى زيادة ثقة الفرد بنفسه، وأنه قادر على تحقيق رغباتٍ أكبر في المستقبل، وان تبدد الرغبات يولد الإحباط الذي  هي عبارة عن عمليّة تتضمن إدراك الإنسان لعائق يعرقل إشباع رغبة، أو حاجة يسعى إلى الوصول إليها وتحقيقها. نرى ذلك تجلي عنفوان الرغبة في  نصه  :

الثورةُ محفوفة بالعرف

.

.

.

الجموع الثائرة تتقاطر ملامحها المكتظة

 باليأس

عنفوان الرغبة يتأرجح في ذاتي

يتصنع الثمالة

في حانات الفقر المدقع

يرتجز بين الفينة والأخرى

تباً للعرف الممزوج بالدين الاجتماعي

أيها العشق الممنوع من اللمس

يعبر الشاعر عن وجده وحزنه الذي يستشعر من خلال وجوه الحزانى وانين الموجعين  الذين أتعبتهم الايام  ففي قصيدته (الانين المخبأ خلف الوجه ) متأثرا بقصيدة للشاعر موفق محمد وشخصية قصيدته (حسن) " كُف أنينك ، اتعبت الموتى!" نرى ذلك جليا في عنونة نصه الذي يغلب عليه هاجس الحزن الطاغي:

الانين المخبأ خلف الوجه

" كُف أنينك ، اتعبت الموتى!"

أي لا تكف يا حسن

فأنا مذ سمعت أغانيك

وما عدت أسمع تراتيل المعذبين

أي الانين تزقه لمسامعي

أيقظت الروح الراقدة في جوف الخوف

تفاضل أي الاوجاع صالحة لهذا الوجه؟.

ما عادت القناني المملوءة بالشعر تسكرني

ولا النبيذ الذي تدره العاهرات

كف الانين أو  لا تكف

فالأموات يرقصون على أغاني الله

في تلك الأماكن المبتورة من العالم السفلي

أي حسن

كل الاصوات أنين

حتى تلك الضحكة في وجه العيد

يشربني الوجع

ويقيئني على أرصفة التائهين

.

.

.

الى آخر الوجع ..فمن وجع الى وجع تتقد .. النيران في (رأس تقد به الرغبة)

***

بقلم طالب عمران المعموري

...................

المصادر

1- مازن الوعر، مقدمة: علم الإشارة/ السيميولوجيا، لبيير جيرو، ترجمة منذر عياشي، دار طلاس للدراسات و الترجمة، ط1، 1988، ص: 9.

2- ضيف الله (بشير) : سيميائية العنونة في في رواية سيدة المقام لواسيني الأعرج،  ديوان العرب منبر حر للثقافة والفكر والأدب نشر بتاريخ 14 مارس 2009 ،تاريخ الدخول 30/10/2017 الساعة 16.22.

3. الساعدي ، سعد، التجديدية في الشعر العراقي، نشر وتوزيع دار المتن، بغداد ، 2020.

4- عبد الحق بالعابد/ عتبات جيرار جينت من النص الى المناص. الدار العربية للعلوم ناشرون، الجزائر ،2008.

 

 

في المثقف اليوم