قراءات نقدية

مفيد خنسه: الشاعرة السعودية مستورة العرابي.. الضوء يشبهها ولا تنتظر سوى موسيقا السؤال

مفيد خنسةالقصيدة التي أتناولها هنا في تطبيق منهج النقد الاحتمالي هي الأولى من نوعها فقد سبق أن طبقت المنهج على قصائد مؤلفة من مقاطع مستقلة ولكن في عنوان واحد، ولكن القصيدة هنا تمثل عدداً من القصائد المستقلة تحت عنوان واحد هو (أنثى تتهجأ ملكوتها)، وسأحاول أن أتعامل مع القصيدة كقصيدة واحدة، وسأعتبر كل قصيدة من القصائد فرعاً من فروع هذه القصيدة، ومع تقديري أن الدراسة انطلاقاً من هذا الاعتبار لن تكون تامة مئة بالمئة لكنها مغرية للتجريب مع قصيدة من هذا النوع:

الفرع الأول: (لا تشبه الأسماء)

تقول الشاعرة:

(أنثى

تدور الأرض حول مقامها

تحنو على الدنيا بخطو غمامها

مزهوة بالماء

قصة روحها شجرٌ بعيدٌ

كامتداد غرامها

لا تشبه الأسماء

في أضلاعها وتر يطير

إلى سماء حمامها

في روحها

كل الكلام قصائد

ما أجمل الإنسان وسط كلامها!

تقف الجبال مهابة لجلالها

ما العقل إلاّ كبرياء تمامها!)

الفرع (القصيدة) يبين صورة الأنثى وعقدته (أنثى) وشعابه الرئيسة هي: (تدور الأرض حول مقامها) و(تحنو على الدنيا بخطو غمامها) و(مزهوة بالماء) و(لا تشبه الأسماء) و(ما أجمل الإنسان وسط كلامها!) و(ما العقل إلاّ كبرياء تمامها!)

أما شعابه الثانوية فهي: (قصة روحها شجرٌ بعيدٌ / كامتداد غرامها) و(في أضلاعها وتر يطير / إلى سماء حمامها) و(في روحها / كل الكلام قصائد) و(تقف الجبال مهابة لجلالها).

في المعنى:

عنوان الفرع (لا تشبه الأسماء) مثير ويدعو للتساؤل فور قراءة العنوان، من هي تلك التي لا تشبه الأسماء؟!، وقولها في افتتاح القصيدة: (أنثى) مفتاح الجواب، إذ عرفنا أنها أنثى، ولكن الإجابة غير كافية لأن (أنثى) نكرة دالة على كل أنثى، وقولها: (تدور الأرض حول مقامها)، فالمعنى الحقيقي يجعلنا نتوقع أنها تقصد (الشمس) لأن الأرض فعلياً تدور حول الشمس، وهي اسم مؤنث، لكن المؤنث غير الأنثى، فلا بد لنا من النظر إلى المعنى المجازي لأن اللغة شعرية، ومعنى القول يشير إلى المقام الرفيع الذي تتبوؤه هذه الأنثى بدليل دوران الأرض حول هذا المقام، وقولها: (تحنو على الدنيا بخطو غمامها)، يضعنا أمام مزيد من الحيرة والدهشة، فهذه الأنثى هي مصدر الخير على الأرض وهي التي تجود على الأرض بهطل ماء غمامها فتعشب الأرض وتخرج خيرها ونباتها، وهذا بالمعنى الحقيقي، ولما كان المعنى الحقيقي لا يمكن أن يستقيم فلا بد من الأخذ بعين الاعتبار المعنى المجازي، ولن نستبق في الاستنتاج تاركين للنص أن يعبر عن مخزونه بالشكل الذي أرادته شاعرته، وقولها: (مزهوة بالماء) أي يزيدها الماء بهاء وكبرياء وحسناً، وقولها: (قصة روحها شجرٌ بعيدٌ / كامتداد غرامها) أي حكاية أصلها تشبه حكاية الشجر القديم قدم العشق لدى هذه الأنثى، ومن هذا المعنى سنتأكد أن الأنثى المقصودة ليست امرأة بعينها، وليست أنثى بالمعنى المادي، إنما تعني اسماً يدل على معنى مجازي، وقولها: (لا تشبه الأسماء) أي لديها صفات مفارقة تميزها عن غيرها، وفي قولها: (في أضلاعها وتر يطير / إلى سماء حمامها)، الوتر يوحي بالعزف والموسيقا، وهذا يشير إلى الصفة التي تفارق بها غيرها من الإناث، وهي أنها تتضمن في كيانها موسيقا يمكنها أن تعلو إلى سماء حمامها، والحمام يرمز إلى السلام والأمان، وقولها: (في روحها / كل الكلام قصائد) يجعلنا نقترب مما عنت به الشاعرة، فهذه الأنثى في تكوينها الكلام، كل الكلام يمكن له أن يغدو شعراً فيها، وقولها: (ما أجمل الإنسان وسط كلامها!) يشير إلى ما تعنيه، فكلام هذه الأنثى يمجد الإنسان وقيمه النبيلة. وقولها: (تقف الجبال مهابة لجلالها) يبعدنا عن المعنى بعد أن ظنننا أنا قد وجدنا ضالتنا، فما هذه الأنثى التي تقف الجبال من جلال هيبتها وبهاء جلالها وحسن طلعتها، لعلها تقصد بها الحضرة الإلهية الخالقة!، وقولها: (ما العقل إلاّ كبرياء تمامها!) أي العقل الذي يشير إلى الوعي والإدراك يدل على عظمتها عند اكتمالها ! وبعد؟ سأفترض أن القارئ وصل إلى هنا وقال: بعد هذا العرض ما الجواب؟ من هي هذه الأنثى التي ما زادنا هذا العرض والشرح إلا حيرة بها من دون الوصول إلى نتيجة محددة؟، ومع يقيني من أن القارئ على حق فيما ذهب إليه، كما أنني أقدر أن القصيدة لا تهدف إلى التهويم والترميز والتعمية، لكن لنفترض أن القصيدة تخفي سراً، عندئذ سيكون الأمر الطبيعي أن يبحث المهتم عن الأساليب التي تمكنه من معرفته، فلو جاء من يخبرنا عنه مباشرة من دون أن نكلف أنفسنا عناء البحث والتساؤل وإعمال العقل والفكر، فلن ننعم بمتعة الاكتشاف والمعرفة له، وهنا أتساءل: أيهما أمتع وأكثر فائدة وأشد تأثيراً، البحث عن معرفة السر أم معرفة السر نفسه؟ ومهما يكن الجواب ومهما تكن المبررات، لا يعفينا هذا من الكشف عن سر هذه الأنثى، والشاعرة تجيب في إهدائها قائلة: (إلى القصيدة / الأنثى)، فعرفنا أن هذه الأنثى المقصودة هي القصيدة!.

المعنى العام:

إنها القصيدة ذات المقام الرفيع التي لم تترك موضوعاً من المواضيع التي تتعلق بالإنسان على وجه الأرض إلا وتناولتها القصيدة على لسان أحد الشعراء، والقصيدة يكتبها الشاعر بهدف أن يعم الخير في الحياة الدنيا، إنها كالماء التي تزيد الأرض بهاء وحسناً وكبرياءً، وهي كالشجر في الولادة والإنبات والنمو، جذرها ثابت وفرعها باسق ممتد كالغرام، فالقصيدة اسم مؤنث واسمها لا يشبه أسماء الإناث المعروفة، لأن بنيتها تعتمد على الموسيقا الشعرية المنتظمة بالأوزان الخليلية، التي تعلو في سماء كلماتها التي تطير كالحمام، والكلام كله مؤهل أن يستخدم في القصائد الشعرية، فما أروع الإنسان الذي يمثل القيمة الكبرى والهدف الأعلى لفن الشعر، إن ولادة القصيدة، تشبه عملية الإحداث والخلق لها حيث تقف ركائزها كالجبال مهابة لعظمتها في التشبيه، إنها إحدى ثمرات العقل الفعال. وهذا المعنى العام هو تفسير لا يضيف شيئاً جديداً، فالتفسير يمثل أدنى مستويات مهام النقد.

الرمز والتعدد الدلالي:

إذا نظرنا إلى المعنى القاموسي للكلمات المستخدمة في الفرع (القصيدة)، (أنثى، مقامها، غمامها، الماء، روحها، أضلاعها، حمامها) فسوف نجده غير مستقيم لأنها استخدمت بالسياقات الشعرية في غير ما وضعت له، فهي تمثل رموزاً في القصيدة، ف(أنثى)، ترمز إلى الخصب والعطاء، و(مقامها)، ترمز للمنزلة العالية الرفيعة، و(غمامها) يرمز إلى الخير والنعمة، و(روحها) رمز الأصل والجوهر، و (أضلاعها) رمز البناء المتماسك المتناسق، و(حمامها) رمز كلماتها وهيولى بنائها.

الصورة والبيان:

الأسلوب يجمع بين الخبري ولإنشائي والصورة الشعرية حاضرة حضوراً كبيراً يجعلها العنصر الأبرز بين مكوناتها، فقولها: (أنثى) تشبيه، وقولها: (تدور الأرض حول مقامها) استعارة، وقولها: (تحنو على الدنيا بخطو غمامها) صورة شعرية ثنائية البعد، لأنها تتضمن استعارتين بآن واحد، وقولها: (قصة روحها شجرٌ بعيدٌ / كامتداد غرامها) استعارة وتشبيهان، وقولها: (في أضلاعها وتر يطير / إلى سماء حمامها) صورة شعرية ثلاثية الأبعاد، لأنها تحوي على ثلاث استعارات معاً، وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن كلاً من (أضلاعها) و(حمامها) تمثل رمزاً فالصورة الشعرية في التركيب الشعري السابق يمكن اعتبارها صورة حرة لأن درجة الحرية لها تتجاوز الثلاث. وقولها: (تقف الجبال مهابة / لجلالها) استعارة.

الفرع الثاني: (وردة في يدي)

تقول الشاعرة:

(أنا ما أرى ؟!..

وردةٌ في يدي

وتلك الخطى في انتظار الغدِ

أرى فسحةً في الطريق الأسيّ

وأحنو على ظلي السرمدي

أقول:

سأحتاج ما لا أريد

تقول العناوين:

لا تبعدي

أحاول

والغيب من شرفةٍ

يطل على قلبي المجهد

قديماً

سألت ولم أستعر

من الليل تلويحةَ الموعدِ

سأعبر هذا الضنا،

في دمي نهارٌ

وعن حيرتي أهتدي

لأن الحياة حياتي أنا

سأفنى

لأبعث من مولدي) .

يبين هذا الفرع (القصيدة) صورة الوردة في يد الشاعرة وعقدته (أنا ما أرى؟!..)، وشعابه الرئيسة هي: (أرى فسحةً في الطريق الأسيّ) و(وأحنو على ظلي السرمدي) و(أقول: / سأحتاج ما لا أريد) و(قديماً / سألت ولم أستعر / من الليل تلويحةَ الموعدِ) و(سأعبر هذا الضنا،) و(سأفنى / لأبعث من مولدي) أما شعابه الثانوية فهي: (وتلك الخطى في انتظار الغدِ) و (تقول العناوين: / لا تبعدي) و(أحاول / والغيب من شرفةٍ / يطل على قلبي المجهد) و(في دمي نهارٌ) و(وعن حيرتي أهتدي) و(لأن الحياة حياتي أنا) .

في المعنى:

الأسلوب في هذا الفرع خبري عموماً وقد تضمن بعض الجمل الانشائية، وفيه تأملات ذاتيه لا تنفصل عن كونها موضوعية، حيث يتداخل الخاص بالعام، لتبقى التجربة الشخصية جسراً للعبور إلى التجربة الأنثوية العامة، فقولها: (أنا ما أرى ؟!..) أي: تتساءل متعجبة من الذي تراه ؟!، وقولها: (وردةٌ في يدي / وتلك الخطى في انتظار الغدِ) أي: تلك الوردة التي في يدها تشير إلى أنها إما تقدمت لها من معجب أو محب أو عاشق، وإما هي التي تحملها إلى حبيب عاشق كرهاً أو طوعاً، وهذه الوردة التي تتقدم الخطى بسببها على انتظار ما سينتج عن استقبالها بالموافقة، أو رفضها بعدم الموافقة في القادم من الأيام، وهنا لا ننسى أن الشاعرة ما زالت تتحدث عن الأنثى التي تتهجأ ملكوتها، أي عالم الغيب الذي ينتظرها، وقولها: (أرى فسحةً في الطريق الأسيّ) أي: ترى أن الطريق الذي اختارته أو اختير لها، مفتوح على الأحزان والمآسي، وقولها: (وأحنو على ظلي السرمدي) أي: فتبدو أكثر حنيناً إلى ما مر من حياتها قبل أن تختار هذا الطريق، وهي بذلك تحن إلى ما مضى من تاريخ الأنثى عبر تجربتها الممتدة عبر الزمان، وقولها: (أقول: / سأحتاج ما لا أريد / تقول العناوين: لا تبعدي) أي: في هذا الطريق الجديد سوف تكون مضطرة لفعل ما لا تريد، أو سيفرض عليها بفعل الواجب ربما، أو بفعل العادات أو التقاليد أو العرف الاجتماعي، أو أي شيء آخر تكون محتاجة لفعله من دون أن تريد هي فعله بقناعة ورضى وقبول، فتحاول أن تنأى تهرباً من ذلك ولكنها محكومة بتلك التقاليد والأعراف وما شابه من هذه العناوين التي تتطلب منها أن تستجيب ولا تبتعد،

وقولها: (أحاول / والغيب من شرفةٍ / يطل على قلبي المجهد) أي: تحاول أن تستجيب وتفعل ما لا تريد على الرغم من أنها تعرف أن النتيجة ستكون قاسية على قلبها المتعب، وقولها: (قديماً / سألت ولم أستعر / من الليل تلويحةَ الموعدِ)، أي: لقد سألت واستفسرت عن ذلك سابقاً ولكن من غير أن تحصل على نتيجة، وقولها: (سأعبر هذا الضنا،) أي ستجرب الإنجاب والولادة، وهنا نتبين ماذا عنت بقولها: (سأحتاج ما لا أريد) أي: ستحتاج للولادة والإنجاب ولكنها لا تريد ذلك لسبب صحي ربما، أو لعدم القدرة على ذلك، أو لأي سبب آخر وقولها: (في دمي نهارٌ / وعن حيرتي أهتدي) أي: سيبدد عبورها ضباب الحيرة، وستهتدي بنهار اليقين. وقولها: (لأن الحياة حياتي أنا / سأفنى / لأبعث من مولدي)، أي: بما أن الحياة هي حياتها كأنثى ولا معنى لحياتها من دون الضنا، فهي قد قررت أن تفعل وإن كانت النتيجة فناءها بسبب ذلك الفعل، فتكون ولادتها وانبعاثها من جديد في حياة مولودها الذي أنجبته.

الفرع الثالث: (العرّابة)

تقول الشاعرة:

(ما لذّ لي

إلاّ اقترابي من سلام النار

من نار السلامْ

وأنا الطريقة

والتصوف

والتجلي والختام

وأنا وحيدة مذهبي

حيث المذاهب جمرة أولى

وظن لا يلامْ

لا تأخذوا مني

خرائط للحقيقة

فالحقيقة محض كبريتٍ

وينذر بالضرام

غنوا كأسراب الحمامْ

ولتخرجوا من ظلكم نحوي

تباعاً

إنني عرابة المعنى

وفاتحة الكلام ْ)

يبين هذا الفرع (القصيدة) صورة الأنثى العرابة وعقدته (ما لذّ لي)، وشعابه الرئيسة هي: (ما لذّ لي / إلاّ اقترابي من سلام النار / من نار السلامْ) و(وأنا الطريقة / والتصوف / والتجلي والختام) و(وأنا وحيدة مذهبي) و(إنني عرابة المعنى / وفاتحة الكلام ْ) أما شعابه الثانوية فهي: (حيث المذاهب جمرة أولى) و(وظن لا يلامْ) و(لا تأخذوا مني / خرائط للحقيقة) و(فالحقيقة محض كبريتٍ) و(وينذر بالضرام) و(غنوا كأسراب الحمامْ) و(ولتخرجوا من ظلكم نحوي /

تباعاً).

في المعنى:

أما العرابة فهي التي تتولى مسؤولية اتفاق طرفين سرّاً، والعنوان يعتبر مفتاحاً هاماً لفهم الفرع (القصيدة)، فقولها: (ما لذّ لي / إلاّ اقترابي من سلام النار / من نار السلامْ) أي: لأنها الأنثى العرابة، فأكثر ما يسعدها وتستلذ به هو النجاح بمهمة تحقيق التقارب بين طرفين وإن كانا مختلفين إلى درجة التناقض، كنار السلام وسلام النار، أما سلام النار هي النار المسحوبة منها حرارتها فتتحول إلى نار مضيئة من دون أن تكون حارقة، ومثل هذه النار كالنار التي كانت برداً وسلاماً على سيدنا ابراهيم، وأما نار السلام، فهي نار الشوق والعشق والهيام وحين تقترب العرابة من النارين تعتدلان وتصبحان متقاربتين متآلفتين في نور وسلام، وقولها: (وأنا الطريقة والتصوف / والتجلي والختام)، أي: من العرابة يبتدئ الأمر في تحقيق التوافق بين طرفين والعرابة نفسها تمثل الأسلوب والطريقة ولها الحضور بدءاً وختاماً، أي تمتلك طاقات استثنائية في إيجاد الطرق الكفيلة في تحقيق الغاية. وقولها: (وأنا وحيدة مذهبي) أي: لا يشارك هذه العرابة أحد، وقولها: (حيث المذاهب جمرة أولى / وظن لا يُلامْ) أي: المذاهب تعتبر الجمرة الأساس في نار السلام، والمذاهب مثيرة للظنون التي لا ملامة فيها، وقولها: (لا تأخذوا مني / خرائط للحقيقة) أي لا تنتظروا من هذه العرابة أن تقدم الآليات المعدة سلفاً للوصول إلى نتائج نهائية، وقولها: (فالحقيقة محض كبريتٍ / وينذر بالضرام) أي: قول الحقيقة قد يكون كالكبريت القابل للاشتعال وإحداث الحرائق في أي لحظة، وقولها: (غنوا كأسراب الحمامْ) أي كونوا دعاة سلام وغنوا له كأسراب الحمام، وقولها: (ولتخرجوا من ظلكم نحوي /  تباعاً) أي: ليخرجوا بصورهم الحقيقية إلى العرابة متتابعين، وقولها: (إنني عرابة المعنى / وفاتحة الكلام ْ) أي: لأنها الأنثى العرابة التي توافق بين الكلام ومعناه، وهذه الأنثى من جديد تعني فيما تعنيه، القصيدة، وعبرها يكون الاتفاق والتوافق بين الشاعر وبين اللغة في إحداث المعاني والدلالات.

الفرع الرابع: (لا تنتظر شيئاً)

تقول الشاعرة:

(لا تنتظر شيئاً

تعلم أن توفر كل تأويلٍ

لآخر خطوة

واذهب بعيداً

حيث لا ظلّ ولا قدم ولا معنى طريق

لا تنتظر شيئاً

لأن الماء لا ينجو

وقد ينجو من الموت الغريق .)

يبين هذا الفرع القصيدة صورة العظة للأنثى وعقدته (لا تنتظر شيئاً) وشعابه الرئيسة هي: (تعلم أن توفر كل تأويلٍ / لآخر خطوة) و(واذهب بعيداً) أما شعابه الثانوية فهي: (حيث لا ظلّ ولا قدم ولا معنى طريق) و(لأن الماء لا ينجو) و(وقد ينجو من الموت الغريق) .

في المعنى:

الأسلوب إنشائي بما يتناسب مع موضوع القصيدة، وهي عظة الأنثى التي تتهخأ ملكوتها، فقولها: (لا تنتظر شيئاً) يختصر معاني لا حصر لها، لكن يمكنني أن أفهم وجهاً من وجوه المحمول الدلالي لهذه الجملة، وهو ما دامت هذه هي طبيعتكَ التي فُطرتَ عليها، وهذا هو أصلك ومعدنك، فافعل بما ينسجم مع هذه الطبيعة وهذه الفطرة من دون أن تنتظر أي مقابل من أي شخص كان ولأي سبب كان!، وقولها: (تعلم أن توفر كل تأويلٍ / لآخر خطوة) أي: لا تأخذ بالتأويل لفهم المواقف على وجهها الاحتمالي، بل تريث بالأمر واحتفظ بكل تأويل ممكن لأي موقف يواجهك ولا تقلْه أو تعلنْه إلا في آخر المطاف من القضية، أو آخر الوقت من اللقاء، أو آخر خطوة من قطع المسافة، وقولها: (واذهب بعيداً / حيث لا ظلّ ولا قدم ولا معنى طريق) أي: كن طويل البال صبوراً، ولا تستعجلنّ في الخطوة الأخيرة، بل دع الطريق يمتد إلى ما أقصى ما يمكن له، واترك الزمن يطول إلى حيث منتهاه، حتى لا يبقى سواك في المنتهى، وقولها: (لا تنتظر شيئاً) يؤكد العظة ليس من أجل التكرار ولكن لتؤكد يقينها مما تدعو إليه، وقولها: (لأن الماء لا ينجو / وقد ينجو من الموت الغريق)، أي لأن طبيعة الماء هي هي لا تتغير ولا تتبدل، كما هي طبيعتك وفطرتك لا تتغير ولا تتبدل، فإذا كان من الممكن أن ينجو الغريق في الماء من الموت فإن الماء نفسه لا يمكن أن ينجو من كنهه أو يتحول عن جوهره، وكأن المعنى يشير إلى أنه لا مناص من الابتلاء فيما نحن فيه، ومكتوب على كل من فُطر على مكارم الأخلاق أن يصبر على ما يلاقيه فلا أمل من أن تتغير طبيعة تعامل الآخرين معك لتصبح كطبيعة تعاملك، كما أنه لا يمكن تتغير طبيعة تعاملك معهم فتصبح كطبيعة تعاملهم. إنها الحكمة، الحكمة حقاً .

الفرع الخامس: (الضوء يشبهني)

تقول الشاعرة:

(ما كان لي

ترك القصائد وحدها

وسط الزحامْ

ما كان لي

أن أتبع القلب الذي أغرى خطاي َ

إلى اشتهاءات الكلامْ

لم تفتح الأيام شباكاً

لظلي

كانت الأبواب ضيقة على حلم اتساعي

ولكني كبرت على الملامْ

ما كان لي

أن أصعد الدرج القريب من الحقيقة

حيث لا أحدٌ

يرى الوجه المموه في الظلام

الضوء يشبهني

أنا سفر الكتابة في الكتابة

والقصيدة

وردتي الأولى

وهذا الصوت صوتي

قال لي:

اقترحي معارك في طريق الريح

لم أقصدْ

وآثرت السلام !!)

يبين هذا الفرع (القصيدة) صورة الضوء الذي يشبه الأنثى وعقدته (ما كان لي)، وشعابه الرئيسة هي: (ترك القصائد وحدها / وسط الزحامْ) و(ما كان لي / أن أتبع القلب الذي أغرى خطاي َ / إلى اشتهاءات الكلامْ) و(ما كان لي / أن أصعد الدرج القريب من الحقيقة) و(الضوء يشبهني) و(أنا سفر الكتابة في الكتابة) و(لم أقصدْ / وآثرت السلام !!) أما شعابه الثانوية فهي: (لم تفتح الأيام شباكاً / لظلي) و(كانت الأبواب ضيقة على حلم اتساعي) و(ولكني كبرت على الملامْ) و(حيث لا أحدٌ يرى الوجه المموه في الظلام) و(والقصيدة / وردتي الأولى) و(وهذا الصوت صوتي) و(قال لي: / اقترحي معارك في طريق الريح).

في المعنى:

الأسلوب في الفرع يجمع بين الخبري والإنشائي والعنوان يعتبر مفتاحاً هاماً للدخول إلى المعاني التي يختزنها النص، فالضوء يشبه الأنثى التي تتهجأ ملكوتها، من حيث أنه ينير للآخرين دروبهم، ويبدد الظلمة التي يمكن أن تعترضهم، والضوء يشبهها من حيث الوضوح والشفافية والانتشار، وقولها: (ما كان لي / ترك القصائد وحدها / وسط الزحامْ) أي: لم يكن بمقدورها أن تترك القصائد الشعرية وحيدة وسط الزحام من كثرة المتهافتين والمدعين والمتطفلين، وكثرة الكتابات المتواضعة وركام المنشورات التي يدعي أصحابها الشعر، وخوفاً من ضياع القصيدة صاحبتها لتبقى مضيئة ومحافظة على حضورها البهي، وقولها: (ما كان لي / أن أتبع القلب الذي أغرى خطاي َ/ إلى اشتهاءات الكلامْ) أي: لم تستجب لعاطفتها التي استدرجها القلب بالإغراءات والكلام المعسول، لأنها واضحة ولا تحب التخفي ولا تقبل الاستدراج مهما بلغت المغريات، وقولها: (لم تفتح الأيام شباكاً / لظلي)، أي: كانت الأبواب مغلقة عليها ولم تفتح لها شباكاً يطل إلى المستقبل بأمل وتفاؤل، وقولها: (كانت الأبواب ضيقة على حلم اتساعي / ولكني كبرت على الملامْ) أي: كانت أبواب الأيام ضيقة على اتساع حلمها، ومع ذلك فهي لا تلقي ملامتها على أحد لأنها أكبر من أن تحمل المسؤولية لأحد، وقولها: (ما كان لي / أن أصعد الدرج القريب من الحقيقة) أي: لم تتوفر لها إمكانية أن تصعد متدرجة للاقتراب من معرفة الحقيقة، وقولها: (حيث لا أحدٌ / يرى الوجه المموه في الظلام) أي: في المكان الذي لا يمكن لأحد أن يرى الوجه المتخفي في الظلام، وقولها: (الضوء يشبهني / أنا سفر الكتابة في الكتابة)، أي: الضوء يشبه هذه الأنثى لأنها بمقام الكتاب من الكتابة، فهي حاضنتها وفيها مقامها، وقولها: (والقصيدة / وردتي الأولى) وهذه الوردة تعيدنا إلى الفرع الثاني (وردة في يدي) وتعني القصيدة، أي: ليست القصيدة إلا وردة من الورود التي في يديها، وهي بمثابة القصيدة من بين القصائد التي يتضمنها سفر الكتابة. وقولها: (وهذا الصوت صوتي) أي والصوت هو صوتها، وقولها: (قال لي: / اقترحي معارك في طريق الريح / لم أقصدْ

/ وآثرت السلام !!) أي صوت القصيدة النابع من الأعماق يخاطبها ويطلب منها أن تقترح خصومات ومعارك تعاكس جهة الريح، لأنه من وظائف الشعر أن يقرح المختلف عن السائد والمفارق للاعتيادي، ولكنها تستدرك إذ لن يكون لها هذا، فهي من يشبهها الضوء!..، فتؤثر الصمت والسلام بعيداً المعارك.

الصورة والبيان:

هذا الفرع (القصيدة) تتسم بالصورة الشعرية، فقولها: (ما كان لي / ترك القصائد وحدها / وسط الزحامْ) استعارة، وقولها: (ما كان لي / أن أتبع القلب الذي أغرى خطاي َ /إلى اشتهاءات الكلامْ) يتضمن (أتبع القلب) استعارة، و(أغرى خطاي) استعارة، و(اشتهاءات الكلام) استعارة، ويصبح التركيب الشعري صورة ثلاثية الأبعاد، لأنها تتضمن ثلاث استعارات بآن واحد، والقصيدة التي تتسم بهذا النوع من الصور تدعى القصيدة العميقة، وهذا النوع من القصائد نادر في الشعر عموماً، وهو شبه غائب في الشعر العربي القديم، وقليل في الشعر الحديث، وهذه القصيدة هي قصيدة عميقة بكل تأكيد، وقولها: (كانت الأبواب ضيقة على حلم اتساعي) استعارة، وقولها: (الضوء يشبهني) و(أنا سفر الكتابة) و(القصيدة وردتي) كلها تشبيهات.

الفرع السادس: (موسيقا السؤال)

تقول الشاعرة:

(كنت الوحيدة

لم أذق يوماً كناياتي

ولم أسرق من الأيام حكمتها البعيدة

كنت أستعصي على المعنى

وأقتحم احتمالي

ظلٌّ بلا ضوءٍ

غيابٌ سرمديٌّ في المدونة الأخيرة

من تفاصيل الحكاية

لم أثق بالغصن

لم أرهن متاعي عند أطراف الحديث

ولم أخن إلا امتثالي

سأعود من إطراقتي

وتراً غريزياً

يفكر في الضلال ولا يضل ُّ

الكبرياء خطيئتي الأولى

وقلبي

ما تدلى من مزاج الليل

والذكرى جمالي

أنا وردة التلويح

أذهب في العناوين الشهية

أرتقي وجعي

وأفصح عن جلالي

لا تأخذوا عني أغانيكم

أنا سرية الأشياء

تاريخ انتهاء النار في جسدي

تعاويذي جرار الريح

أقصد ما أقول

ولا أحن سوى لموسيقى السؤالِ!)

يبين هذا الفرع صورة الحنين إلى موسيقا السؤال وعقدته (كنت الوحيدة) وشعابه الرئيسة هي: (لم أذق يوماً كناياتي) و(ولم أسرق من الأيام حكمتها البعيدة) و(كنت أستعصي على المعنى) و(وأقتحم احتمالي) و(لم أثق بالغصن) و(لم أرهن متاعي عند أطراف الحديث) و(ولم أخن إلا متثالي) و(سأعود من إطراقتي / وتراً غريزياً) و (أنا وردة التلويح) و(أذهب في العناوين الشهية) و(أرتقي وجعي) و(وأفصح عن جلالي) و(أنا سرية الأشياء) و(أقصد ما أقول) و(ولا أحن سوى لموسيقى السؤالِ!)، أما شعابه الثانوية فهي: (كنت أستعصي على المعنى) و(ظلٌّ بلا ضوءٍ) و(غيابٌ سرمديٌّ في المدونة الأخيرة / من تفاصيل الحكاية) و(يفكر في الضلال ولا يضل ّ) و (الكبرياء خطيئتي الأولى) و(وقلبي / ما تدلى من مزاج الليل / والذكرى جمالي) و(لا تأخذوا عني أغانيكم) و(تاريخ انتهاء النار في جسدي) و(تعاويذي جرار الريح) .

في المعنى:

يبقى السؤال مفتاح المعرفة، وسبيل اكتسابها، والمعرفة الكبرى تحتاج إلى أسئلة كبرى، وما من شك أن السؤال يحتاج إلى خبرة كافية في الصياغة ليدل على المراد معرفته على الوجه المحدد، لكن ماذا عنت الشاعرة بموسيقا السؤال؟ وهل يحتاج السؤال إلى موسيقا؟ بالطبع ليس المقصود هنا السؤال المدرسي التعليمي المباشر، إنما هو السؤال الفني الذي يصاغ بأسلوب جمالي وإيقاع موسيقي في سياق البنية اللغوية المستخدمة، فقولها: (كنت الوحيدة) يثير السؤال: من هذه التي كانت الوحيدة؟ ف(الوحيدة) هنا معرفة، وهذا ما يزيد السؤال أهمية كما يزيده إثارة! فإذا نظرنا إلى الفرع (القصيدة) أنه جاء في سياق القصيدة التي حملت عنوان (أنثى تتهجأ ملكوتها)، سنعرف أن المقصود بالوحيدة هنا هو الأنثى، ولكن أي أنثى؟، وقولها: (لم أذق يوماً كناياتي) يشير إلى المعنى الذي تتضمن دلالته اللغة، وهذا ما يقودنا إلى الجواب، إنها اللغة نفسها، اللغة التي تمثل هيولى القصيدة، وطبيعة اللغة أن تعبر عن الكنايات والمعاني والدلالات لكي يتذوق المتلقون جماليات التعبير وما اللغة سوى الأداة أو الوسيط فلا تتذوق جماليات تحولاتها أو استخداماتها فهذه طبيعتها وهذه وظيفتها، وحين يصل الشاعر إلى هذا المستوى من العمق في التعامل مع اللغة والشعر، فإنه يكون قد بلغ شأواً عالياً على طريق الإبداع، ولا أنكر أن الشاعرة هنا دفعتني دفعاً كي أستخدم حكماً مباشراً من هذا النوع وإن كنت لا أفضل هذا الأسلوب في إطلاق الأحكام، وليس الهدف من الدراسة إطلاق الأحكام أصلاً، وقولها: (ولم أسرق من الأيام حكمتها البعيدة) أي: إنها تشبه لغة الحياة المعاشة، لغة الواقع وهي لم تستحضر يوماً الحكمة من التجربة الواقعية المفتوحة على إمكانات شتى في المستقبل البعيد، وإن كان للغة إمكانية أن تقوم بذلك مع توفر الظروف الموجبة له، وقولها: (كنت أستعصي على المعنى / وأقتحم احتمالي) أي: كثيراً ما يصعب على المعنى امتلاك المفردات الدالة عليه في سياق الصياغات والتراكيب وتبقى مستعصية عليه، لكنها كانت في الوقت نفسه تقدم كل الإمكانات المتاحة في حالتها القصوى، وقولها: (ظل بلا ضوء) أي في لغة القصيدة يقوم (الظل) كمفردة دالة عليه من دون أن يكون هناك ضوء، وهذا يشير إلى الموجودات المجردة في الذهن توازياً مع الموجودات المقابلة في عالم الشهادة، والتي تعبر عنها اللغة. وقولها: (غياب سرمدي في المدونة الأخيرة / من تفاصيل الحكاية) أي: قد تغيب اللغة لسرد التفاصيل الأخيرة من القصص والروايات حيث يُكتفى بعرض النهايات والمصائر من دون سرد الكيفيات وتفاصيلها، وقولها: (لم أثق بالغصن) أي: لا تثق بأن الفرع يقوم مقام الأصل، وقولها: (لم أرهن متاعي عند أطراف الحديث) أي لم تكن المعلومات والمعارف محبوسة عند أطراف الحوار والأحاديث وهي في الوقت نفسه لا تكون راضخة طائعة لمن لا يجيد الحوار ويملك المعرفة الكافية من أجله. وقولها: (سأعود من إطراقتي / وتراً غريزياً / يفكر في الضلال ولا يضل) أي: بعد هذا الامساك عن الإفصاح عن المعاني ستعود على صورة الوتر الذي يطلق الألحان التي تثير الغرائز فتساعد على الانحراف والكفر من دون أن يكون الوتر ضالآً أو كافراً، وقولها: (الكبرياء خطيئتي الأولى) أي: خطيئتها الأولى أن لديها الكبرياء والعزة والأنفة، وقولها: (وقلبي / ما تدلى من مزاج الليل / والذكرى جمالي) أي: ما تختزنه في قلبها من حب لم يكن وليد الكلام المعسول الذي يطلقه عشاق الليل على هواهم وأمزجتهم، إنما بالحديث عن الذكريات واللحظات الجميلة العابرة التي تمر على البال يتجلى جمالها وحسن حضورها وبهائها، وقولها: (أنا وردة التلويح / أذهب في العناوين الشهية / أرتقي وجعي / وأفصح عن جلالي) أي: هي صورة الجمال والبلاغة في اللغة التي تعتمد على التلميح من دون التصريح، كما تتجلى في العناوين المثيرة التي تختصر الكلام وتكثف المعاني، وهي تعبر عن الألم والوجع كما تكشف عن المكانة الجليلة لمقامها الرفيع. وقولها: (لا تأخذوا عني أغانيكم / أنا سرية الأشياء / تاريخ انتهاء النار في جسدي) أي: هي لا تعبر عن الفرح في الأغاني التي تختزنها وحسب، إنما هي أداة التعبير عن الأسرار التي يتوافق عليها الناس سراً، وبواسطتها يتم التعبير عن الاتفاقات والمعاهدات بين الأطراف المتحاربة عبر تاريخها الكبير المكتوب، وقولها: (تعاويذي جرار الريح / أقصد ما أقول / ولا أحن سوى لموسيقى السؤالِ!) أي: ليست الريح سوى تعبيرٍ عن تعاويذها، فهي تعني محمول القول، وحنينها لا يكون إلا للموسيقا التي يصدرها وتر السؤال نفسه .

(الصفة) وفن الصورة:

هذا الفرع على وجه الخصوص يغريني للكتابة في موضوع (الصفة) ودورها في إحداث الصورة الشعرية وأهميتها في تعدد المعاني، وهذا ينطوي تحت عنوان المعنى الاحتمالي أحد المرتكزات الأساسية في منهج النقد الاحتمالي، وهذا كله ينطوي تحت (علم الكلام)، فلا جديد إنا قلنا: إن الكلمة وضعت من أجل أن تدل على معنى محدد، فإن استخدمت الكلمة لما وضعت له دلت على معنى حقيقي وإن استخدمت في غير ما وضعت له دلت على معنى مجازي، والمثال البسيط لذلك قولنا: (بكى الطفل) فالمعنى هنا حقيقي، وأما قولنا: (بكت الوردة) فالمعنى هنا مجازي لأننا استخدمنا (بكت) في غير ما وضعت له، ومن هذا المثال البسيط يمكننا أن نفهم المبدأ الأساس في إحداث الصورة الشعرية، وهكذا فإننا نقول إن الجملة، (بكت الوردة) تشكل صورة شعرية، وفي علم البلاغة الذي يضم علم الكلام وعلم البيان وعلم البديع، تعتبر هذه الجملة (بكت الوردة) استعارة، وأعتذر سلفاً لهذا التفصيل المدرسي الذي لا أفضل استخدامه أبداً ولكنني ما دمت أتحدث عن المبدأ فلا بد من التفصيل، فكيف نفهم الاستعارة؟، وكيف تتشكل الاستعارة أصلاً؟، لكي نفهم المعنى لا بد من العودة إلى الأصل، والمقصود بالأصل هنا هو أن نعيد الكلام في سياق الجملة إلى ما وضع له، وفي هذا المثال ما وضعت له الجملة هو (بكى الإنسان) ولا بد لنا أن نلاحظ هنا أن الإنسان اسم دال على الجنس الآدمي ويصح هنا أن يكون أي إنسان، ثم تبرز الصفة وهي البكاء، وهي صفة دالة على الإنسان خصوصاً، وحين نستخدم هذه الصفة مع غير الإنسان، نكون قد استخدمناها في غير ما وضعت له (بكت الوردة) فالوردة نبات وليس من صفاته البكاء، فماذا نكون قد فعلنا؟ إننا نكون قد أعرنا صفة الإنسان وهي البكاء إلى النبات، وفي التعليم المدرسي تقسم الاستعارة إلى نوعين هما: الاستعارة التصريحية والاستعارة المكنية، والأصل في الاستعارة هو التشبيه، فالاستعارة هي تشبيه حذف أحد طرفيه، وعماد التشبيه الصفة المشتركة بين المشبه والمشبه به الذي نسميه وجه الشبه أو القرينة، وفي الاستعارة المكنية الذي يحصل أن نحذف المشبه به ونبقي على ما يدل عليه، وفي هذه الجملة (بكت الوردة) نكون قد شبهنا الوردة بالإنسان وحذفنا المشبه به وهو الإنسان وأبقينا الصفة المميزة الدالة عليه وهو البكاء، لذلك نسميها استعارة مكنية، أما الاستعارة التصريحية فتكون بحذف المشبه والتصريح بالمشبه به، وعليه لا بد من الدراية الكافية بما وضع الكلام له، وإلا كيف لنا أن نميز من الكلام ما استخدم لما وضع له، وكيف نميز الكلام الذي استخدم في غير ما وضع له، وهنا سنكون أمام اللغة بصفتها الوضعية، أي اللغة بصيغتها التاريخية المنجزة، وهي موروثة في بطون القواميس. إذن فن الصورة يتجلى في الكيفية التي يمكن لنا فيها أن نستخدم الكلام في غير ما وضع له كي نحدث صورة بيانية تساعد على تعدد المعنى وتنوع الدلالة.

الصورة وفن القصيدة (التطبيق):

إن قراءة متأنية لهذا الفرع (القصيدة) تجعلنا نتوقف عند العنوان (موسيقا السؤال)، فالأصل في الجملة، موسيقا الوتر، أو موسيقا الآلة الموسيقية، أي شبه السؤال بالوتر، فالوتر المشبه به، والسؤال المشبه، فحذف المشبه به الوتر وبقي ما يشير إليه وهو الموسيقا، فهي استعارة مكنية، ولكن كيف تكون الصورة الشعرية في سياق التركيب الشعري؟، ومن ثم كيف تكون التراكيب الشعرية في سياق القصيدة؟.

إن جماليات العلم الذي تنتظم عبره آليات إحداث العلاقات بين الصور الشعرية في التركيب الشعري الواحد، مع العلاقات بين الصور الشعرية في الفرع الواحد من القصيدة الشعرية، هي من تحدد فن القصيدة الشعرية، ففي قولها:

(كنت الوحيدة

لم أذق يوماً كناياتي

ولم أسرق من الأيام حكمتها البعيدة

كنت أستعصي على المعنى

وأقتحم احتمالي)،

نلاحظ أن التركيب الشعري ينتظم في سياق القصيدة التي حملت العنوان (أنثى تتهجأ ملكوتها) فهو يتحدث عن أنثى، ولكن كلمة (كناياتي) تدل على أنها استخدمت في غير ما وضعت له، وهي تشير إلى الكناية في علم البلاغة!، فالمعنى مجازي، ويمكن أن يبقى هذا المعنى في إطار الحديث عن (الأنثى الشاعرة) وكلمة (حكمتها) يمكن أن تبقى في السياق نفسه، ولكن كلمة (المعنى) ستؤكد أن هذه الصفة خاصة باللغة، ومن هنا يمكننا أن نقرر أن الشاعرة استخدمت القصيدة كمعادل أو كمقابل للأنثى، وإذا لاحظنا أن (المعنى) صفة خاصة بالأنثى القصيدة، وأن (كناياتي، وحكمتها، واحتمالي) يمكن أن تكون مشتركة بين القصيدة الأنثى والشاعرة الأنثى، فأصبح لدينا التمثيل التالي، الأنثى ثم يتفرع عنها فرعان، الأول القصيدة، والفرع الثاني، الشاعرة، ونلاحظ أن الأفعال المستخدمة في التركيب، (كنت، أذق، أسرق، أستعصي، أقتحم)، فالفعل (كنت) ذو معنى حقيقي لأنه يمكن أن يتعلق بالأنثى الشاعرة والأنثى القصيدة، والفعل (أذق) يكون ذا معنى حقيقي إذا كان يتعلق بالأنثى الشاعرة ويكون مجازياً إذا كان يتعلق بالأنثى القصيدة، وهكذا بالنسبة للأفعال الأخرى. فالفعل أسرق ذو معنى حقيقي إذا كان يتعلق بالأنثى الشاعرة وهو ذو معنى مجازي إذا كان يتعلق بالأنثى القصيدة، وكذلك فالفعل أستعصي ذو معنى مجازي إذا كان يتعلق بالأنثى الشاعرة ويكون ذا معنى حقيقي إذا كان يتعلق بالأنثى القصيدة، وأقتحم ذو معنى حقيقي إذا كان يتعلق بالأنثى الشاعرة، ويكون ذا معنى مجازي إذا كان يتعلق بالأنثى القصيدة، ولابأس أن أعرض الإمكانات على النحو التالي،

(1)(الأنثى، القصيدة، كنت)، (2)(الأنثى، القصيدة، أذق)، (3)(الأنثى، القصيدة، أسرق)، (4)(الأنثى، القصيدة، أستعصي)، (5)(الأنثى، القصيدة، أقتحم)، ثم (6)(الأنثى، الشاعرة، كنت)، (7)(الأنثى الشاعرة، أذق)، (8)(الأنثى، الشاعرة، أسرق)، (9)(الأنثى، الشاعرة، أستعصي)، (10)(الأنثى، الشاعرة، أقتحم). إن كل ثلاثية من الثلاثيات السابقة تحدث علاقة، وإذا أخذنا تباديل كل ثلاثية، فإن لكل ثلاثية ست إمكانات ومع افتراض أن كل إمكانية تقابلها علاقة ممكنة عندئذ نكون أمام ستين إمكانية، وتكون قد أحدثت الشاعرة ستين علاقة ممكنة، هذا فقط في إطار تتالي الأفعال في هذا التركيب، وإذا أضفنا إلى هذه الإمكانات، استخدام (كناياتي، حكمتها، المعنى، احتمالي) فسنحصل على ثلاثيات كالثلاثيات السابقة، ويضاف أربع وعشرون إمكانية إلى عدد الإمكانات السابقة، ونكون أمام أربع وثمانين علاقة ممكنة. وكل منها دال على معنى حقيقي أو مجازي، ومعاني الثلاثيات المشار إليها يكون على النحو، (1) حقيقي ومجازي (2) مجازي، (3) مجازي، (4) مجازي، (5) مجازي، (6) حقيقي ومجازي، (7) حقيقي، (8) حقيقي، (9) مجازي، (10) مجازي.  ولنا أن نتخيل عدد العلاقات الممكنة في كل تركيب من تراكيب القصيدة، ومن ثم عدد العلاقات الممكنة في القصيدة كلها، وهكذا فإن الصورة الشعرية تمثل واحدة من تلك الإمكانات، ولكن كيف ننظر إلى الصورة الشعرية انطلاقاً من هذا المبدأ؟ . نلاحظ قولها: (لم أذق يوماً كناياتي) استعارة، وقولها: (ولم أسرق من الأيام حكمتها البعيدة) صورة ثنائية البعد لآنها تتضمن استعارتين معاً، وقولها: (كنت أستعصي على المعنى) استعارة، وقولها: (وأقتحم احتمالاتي) استعارة .

وهكذا يمكن التطبيق على كل تركيب من تراكيب الفرع . لنتحقق إن الصورة الشعرية في القصيدة الشعرية تعبر عن قدرة الشاعر على استخدام المتقابلات ومبادلة القرائن المشتركة فيما بينها، إنها فن نزع الصفات عن أحد المتقابلات وإعارتها إلى الآخر. ولولا خشية الإطالة كنت درست الفرع تركيباً تركيباً. ولكن فهم المبدأ قد يغني عن التفصيل في هذا المقام.

 

مفيد خنسه

 

في المثقف اليوم