قراءات نقدية

مفيد خنسه: وصايا إينانا للسماوي

مفيد خنسةالحب في شرع إينانا ربة الجمال والحب والغواية والجنس والحرب عند السومريين له مواثيق وعهود، ولا عشق مقبول لديها من غير الالتزام بها والوفاء بشروطها، إنها أشبه بالتعاليم التي أوصى بها الأنبياء والمرسلون بأمر إلهي عظيم، والشاعر السماوي يستحضر هذه الوصايا ويصوغها في إطار شعري حمل عنوان (وصايا إينانا) . وهي إحدى قصائد مجموعته الشعرية (نهر بثلاث ضفاف) التي سأحاول أن أجري عليها دراسة تطبيقية لمنهج النقد الاحتمالي .

الفرع الأول:

يقول الشاعر:

(قبل أن تدخلني فردوسها الأرضي إينانا

وترضى بي ناطوراً إذا عسعس ليل الخدر

والفلاح في بستان واديها

إذا الصبح ائتلق

قالت العشق مواثيق

فلا عشق إذا لم تحفظ الميثاق

ما أشرقت الشمس

وما آذن بالنجم الغسق

لي تعاليمي التي أوصى بها

رب الفلقْ

لا تكن

ذئبا على الظبية والظبي

ولا سبعا على الشاة

ولا إن شبت النار

ورقْ

ومُبيعاً

ذهب العشق إذا جعت

بصحن من شبقْ

لست من مملكتي

إن كنت تخشى متعة الإبحار

خوفا من غرقْ

وتغض الطرف عن شوك يقي وردك من مبتذل إن "ظفر" الود

فسقْ

لا تمد اليد للآفك والمنبوذ والكامل نقصا وسفيه ذي مجون

وحمقْ

ولئيم الجذر والغصن ..

فإن الغصن نسل الجذر

هل يثمر غصن فاسد الجذر كروماً وحبقْ ؟!)

يبين هذا الفرع صورة الشاعر العاشق قبيل دخوله فردوس إينانا الأرضي، وعقدته (قبل أن تدخلني فردوسها)، وشعابه الرئيسة هي: (وترضى بي ناطورا إذا عسعس ليل الخدر) و(الفلاح في بستان واديها) و(قالت العشق مواثيق) و(لي تعاليمي التي أوصى بها رب الفلق) و(لا تكن ذئبا على الظبية والظبي) و(ولا سبعاً على الشاة) و(ولا إن شبت النار ورقْ) و(لا تمد اليد للآفك والمنبوذ والكامل نقصاً / وسفيه ذي مجون وحمقْ) أما فروعه الثانوية فهي: (فلا عشق إذا لم تحفظ الميثاق / ما أشرقت الشمس / وما آذن بالنجم الغسقْ) و(مبيعا ذهب العشق إذا جعت / بصحن من شبقْ) و(لست من مملكتي / إن كنت تخشى متعة الإبحار خوفا من غرقْ) و(وتغض الطرف عن شوك يقي وردك / من مبتذل إن " ظفر" الود / فسقْ) و(ولئيم الجذر والغصن ..) و(فإن الغصن نسل الجذر / هل يثمر غصن / فاسد الجذر كروماً وحبقْ) .

في المعنى:

الأسلوب في هذا الفرع إنشائي وفيه يقرر الشاعر كما أن هناك فردوسا سماوياً لإينانا فإن لها فردوسها الأرضي أيضاً، وهو الفردوس الذي ينشئه الشاعر بالحب في الشعر، وفي هذا الفردوس يفترض الشاعر أن لربة الحب والجمال شروطاً للدخول إلى هذا الفردوس، كما أن هناك شروطا للدخول إلى الفردوس الأعلى الذي وعد الله المؤمنين به، جنات عدن، فإذا كان عرضها السموات والأرض فلنا أن نتخيل كم سيكون طولها، وفي سياق هذا المعنى فإن الشاعر يحاول أن يعبر عما يريد أن يقوله من خلال الحب وناموسه، من خلال الحب وأصوله ومستلزماته، من خلال الحب وخصال المحب العاشق الصادق، من خلال الحب السامي في القلوب النقية الطاهرة الزكية، من خلال الحب الذي يتمتع حاملوه بمكارم الأخلاق، إنه ينص بالشعر على المبادئ والقيم التي يجب أن يتحلى بها العاشق حتى يفوز بنعمة الفردوس لدى إينانا، فقوله: (قبل أن تدخلني فردوسها الأرضي إينانا) أي بعد أن وصل إلى فردوس إينانا الأرضي، لأن الدخول لا بد أن يسبقه الوصول الذي يشير إليه المعنى ضمنا، والوصول درجة عالية لا يصل إليها في عرف العاشقين المتصوفين إلا أصحاب التجارب الكبيرة في التضحية والصبر والتفاني في العشق المقدس، وقوله: (وترضى بي ناطوراً إذا عسعس ليل الخدر/ والفلاح في بستان واديها / إذا الصبح ائتلق) يشير إلى إنشاء معان تعتمد في مكوناتها اللغوية على مفردات ذات دلالات دنيوية سفلية حقيقية، كما تعتمد على مفردات ذات دلالات علوية مجازية، وهكذا تبقى التراكيب محافظة على المشهد الشعري الذي ينسجم مع المعنى العام الذي أراده الشاعر وهو الفردوس الأرضي وهذا مصطلح شعري يحتاج إلى شجاعة في التفكير وثبات في اليقين، وهنا لا بد من التوضيح لما تقدم، فقوله: (ترضى بي ناطوراً) يشير إلى المعنى السفلي الذي تشير إليه مفردة (ناطور)، وقوله: (إذا عسعس ليل) يشير إلى معنى علوي، ويذكرنا بقول الله تعالى وقسمه بالليل إذا عسعس (والليل إذا عسعس .. سورة التكوير الآية 17) أي إذا أظلم، والإضافة إلى الخدر بقوله: (إذا عسعس ليل الخدر) للإشارة إلى المعنى الأرضي، فالخدر كما يشير إلى خباء البنت فهو يعني هنا خباء إينانا الأرضي أيضا، وهذا التقابل بين الأرضي والسماوي، بين الواقع والواقعي، بين الحياة الفانية على الأرض ونعيم الفردوس الأبدي مقصود ومدروس بعناية كما تشير المعاني وتوحي الدلالات، وقوله: (والفلاح في بستان واديها) يشير إلى المعنى الدنيوي، بما تعنيه المفردات المستخدمة (فلاح، بستان، وادي) كلها تشير إلى الأرضي من ذلك الفردوس الذي وصل إليه،وعطف (الفلاح) الذي هو اسم معرف على (ناطوراً) والذي هو نكرة فهو أسلوب خاص بالشاعر ليعرف النكرة بالعطف ! وما دام على باب الفردوس فيحق له، وقوله: (إذا الصبح ائتلق) يشير إلى المعنى العلوي

وهو يذكر بالبيان الإلهي العظيم بقوله تعالى وقسمه بالصبح إذا تنفس (والصبح إذا تنفس .. سورة التكوير الآية 18)، وقصد الشاعر بقوله: (والصبح إذا ائتلق) أي إذا لمع وأضاء، وسنلاحظ في هذا التركيب الشعري التقابل بين المتضادات، (ليل، صبح)، (عسعس، ائتلق)، كما سنلاحظ التقابل بين المتوافقات (بستان، فردوس)، (وادي، أرضي)، والتقابل بين المكونات (الفلاح، الناطور، إينانا)، ومجمل القول إن هذا التمهيد المكثف الذي يسبق الدخول إلى الفردوس من جهته، ويسبق قولها له من جهتها، يبين أهمية اللحظات والوقت الثقيل الذي يمر بطيئاً قبل الدخول إلى فردوسها، وقوله: (قالت العشق مواثيق / فلا عشق إذا لم تحفظ الميثاق / ما أشرقت الشمس / وما آذن بالنجم الغسق) يشير إلى أن هذا الميثاق في العشق لدى إينانا له صفة الديمومة الأبدية فلا عشق لديها ما لم يحفظ العاشق الميثاق على الدوام، ما دامت الشمس والنجم وما دام الليل والنهار، وقولها: (لي تعاليمي التي أوصى بها / رب الفلقْ) أي لها شروطها المقدسة كما أمر الرب العظيم، وقوله: (لا تكن / ذئبا على الظبية والظبي / ولا سيفا على الشاة ولا إن هبت النار / ورقْ) يشير إلى أن الميثاق قد جاء على شكل وصايا بالأمر والنهي، فهي تأمره ألا يكون متجبراً على المستضعفين، وألا يكون ضعيفاً أمام المتجبرين، وقوله: (ومبيعاً / ذهب العشق بصحن من شبق) أي ألا يبيع كنوز الآخرة الثمينة بشهوات وملذات الدنيا الرخيصة، وقوله: (لست من مملكتي / إن كنت تخشى متعة الإبحار / خوفا من غرقْ) أي لا يدخل فردوسها من يحرمه من متعة الإبحار الخوفُ من الغرق، في إشارة إلى أن من يدخل فردوسها يجب أن يكون شجاعاً لا يخاف من الغرق إذا جاب بحار الحب الواسعة والعميقة، وقوله: (وتغض الطرف عن شوك بغى وردك من مبتذل إن "ظفر" الود فسق) أي يجب أن يكون فطنا نبيها في الحفاظ على الحدود في العلاقات من دون أن يتغافل عن أذى امرئ رخيص إذا وثق به وبادله الاحترام سارع إلى الغدر والخروج عن الحد والحق، وهذا شرط أخلاقي في السلوك الخاص للعاشق في مملكة الحب لدى إينانا، وقوله: (لا تمد اليد للآفك والمنبوذ والكامل نقصا / وسفيه ذي مجون /وحمق) أي تنهاه على صيغة الشرط قبل الدخول إلى الفردوس عن مواصلة أربعة من الرجال، الكاذب والمنبوذ والناقص والسفيه الأحمق قليل الحياء وقوله: (ولئيم الجذر والغصن .. / فإن الغصن نسل الجذر / هل يثمر غصن / فاسد الجذر كروما وحبقْ) يشير إلى تخصيص الرجل الخامس الذي تنهاه عن أن يمد يد العون له، أو أن يقيم معه ادنى مستوى من العلاقة وهو الرجل اللئيم الأصل والمنبت، فهذا لا أمل فيه ولا خيرمنه لأن الغصن فرع من أصل، والغصن الذي يكون جذره فاسداً لا يمكن أن يثمر ثمراً مفيداً ولا يمكن أن ينبت ريحاناً فينشر رائحة زكية حميدة .

الصورة والبيان:

هذا الفرع جاء على شكل وصايا مباشرة فالصورة البيانية كادت تغيب فيه، فقوله: (إذا عسعس ليل الخدر) استعارة، وقوله: (لا تكن ذئباً على الظبية والظبي) تمثيل.

الفرع الثاني:

يقول الشاعر:

(كن على الجاحد

سوطا ..

وندى للورة العطشى

وإن أظلم درب

كن ألقْ

وكن العكاز للمكفوف ..

والدمية للطفل

وعشا للعصافير ..

وللصحراء إن أعطشها القيظ

ودقْ

واحذر

المرخص ماء الوجه من أجل بريق

زائف اللمع

ووغد يحسب الحيلة واللؤم حذقْ

إن ثوبا من حرير الذل

أبهى منه في العز رداء من خرقْ

ورغيف التبن

أشهى لأبيّ النفس من

خبز الملقْ)

يبين هذا الفرع الصورة التي تريده أن يكون عليها، وعقدته (كن على الجاحد سوطاً) وشعاب الرئيسة هي: (وندى للورة العطشى) و(وإن أظلم درب كن ألقْ) و(وكن العكاز للمكفوف ..) و(والدمية للطفل / وعشا للعصافير ..) و(وللصحراء إن أعطشها القيظ / ودقْ) وشعابه الثانوية هي: (واحذر / المرخص ماء الوجه من أجل بريق / زائف اللمع) و(ووغد يحسب الحيلة واللؤم حذقْ) و(إن ثوبا من حرير الذل / أبهى منه في العز رداء من خرقْ) و(ورغيف التبن / أشهى لأبيّ النفس من / خبز الملقْ) .

في المعنى:

هي الوصايا من غير عد، فقوله: (كن على الجاحد / سوطاً ..) كي يقيم عليه الحد فيما ارتكب من آثام وخطايا، وقوله: (وندى للوردة العطشى) فيسقيها ويروي ظمأها فيحييها ويحميها من الذبول والموت، وقوله: (وإن أظلم درب / كن ألقْ) لينير الدروب المظلمة بمصابيح الحب المضيئة ، وقوله: (وكن العكاز للمكفوف) وهذه مروءة، وقوله: (والدمية للطفل) وهذا تواضع، وقوله: (وعشاً للعصافير ...) أي كن أمنا وأماناً، وقوله: (وللصحراء إن أعطشها القيظ / ودقْ) أي كن مطرا على الصحراء التي أعطشها الحر الشديد فتطفئ نارها وتسقي ديارها، وقوله: (واحذر المرخص ماء الوجه من أجل / بريق زائف اللمع / ووغد يحسب الحيلة واللؤم / حدقْ) أي كن حذرا من المتطلبين وإن أظهروا لك وداً زائفا وكن على حذر من منافق وغد يحسب المكر والدهاء والأبلسة ضرباً من الذكاء وحسن التدبير، وقوله: (إن ثوباً من حرير الذل / أبهى منه في العز رداء من خرق) أي الثوب الخرق أبهى وأجمل في حياة عزيزة من ثوب الحرير في حياة ذليلة، وقوله: (ورغيف التبن / أشهى لأبي النفس من خبز الملقْ) أي رغيف التبن البسيطة على العفة أشهى في عرف إينانا من الخبز الذي يمكن أن يحصل عليه المرء من كثرة التودد والتملق باللسان وقلة الحياء في كثرة الطلب والترخيص بماء الوجه .

الفرع الثالث:

يقول الشاعر:

(أنا يا مولاتي الربة _ إينانا _ كما الرند

ينث العطر

إن كر عليه الجمر يوما

فاحترقْ

وربيب الطين

لا أمنح للجذر إذا شذ عن النبض

علقْ

وأنا السهم إذا من شرفة القوس

إلى خاصرة الشيء انطلق ..

فابعثيني بتعاليمك في العشق رسولا ..

ليس عشقا حين لا يفتح بابا مستحيلا

فامطري صمتي هديلا ..)

في هذا الفرع يبين صورة العاشق النجيب المستجيب وعقدته (أنا يا مولاتي الربة _ إينانا _ كما الرند) وشعابه الرئيسة هي: (وأنا السهم إذا من شرفة القوس / إلى خاصرة الشيء انطلق ..) و(فابعثيني بتعاليمك في العشق رسولا) و(فامطري صمتي هديلا ..) وشعابه الثانوية هي: (ينث العطر / إن كر عليه الجمر يوماً / فاحترقْ) و(ليس عشقا حين لا يفتح بابا مستحيلا) .

في المعنى:

نلاحظ أن الشاعر هنا يؤسس إلى إنشاء قصة حب أسطورية، عنصرها الأساسي ربة الجمال والحب السومرية إينانا ومن ثم يعطي الأسطورة أبعادها الحاضرة والمستقبلية، الواقعية والمتخيلة، القريبة والبعيدة وهو الطرف الآخر من الأسطورة، هو العاشق الوفي الحنون، هو المدنف الولوع الشغوف، وإن كان قد انتهى من صياغة وصايا إينانا فإنه يتابع مجيباً من جهته أنه يحقق شروطها أصلاً، فقوله: (أنا يا مولاتي الربة _ إينانا - كما الرند) أي سمعته عطره، وذكره طيب كعود الغار الذي ينشر رائحته الزكية، وقوله: (ينثُّ العطر / إن كر عليه الجمر يوماً فاحترق) أي كعود الغار الذي إذا وضع على الجمر واحترق فإنه ينشر رائحته العطرة الجميلة، والمعنى أنه مهما احترق بنار الحب واكتوى بلظاها سيبقى وفياً لحبه مضحياً من أجل هذا الحب الكبير، ولن يصدر عنه مهما قست الظروف إلا كل ما هو جميل وبهي، وقوله: (وربيب الطين / لا أمنح للجذر إذا شذ عن النبض علقْ) أي إن أصله من الطين، وجبلته منه وهو بحكم تكوينه وأصالته لا يمنح الجذر آلة الامتصاص وهي الأوبار الماصة التي تكون بالنسبة للجذر بمثابة العلقة للامتصاص، إذا كان هذا الجذر شاذا عن الأصل، لأنه أصيل ويحافظ على الأصول، والعلق دويدة تمتص الدم وتعيش في الماء الآسن، والعلقة تمثل طوراً من أطوار نمو الجنين وهذا الطور يلي النطفة المنوية، وهكذا يصبح المعنى واضحاً، وقوله: (وأنا السهم إذا من شرفة القوس إلى خاصرة الشيء انطلقْ) أي هو كالسهم الذي ينقض إلى حيث يكون الهدف في خاصرة الشيء، لا يخذل راميه ولا يخيب أمله، وهو في كل ذلك يطمئنها أنها المناسب لتلك الوصايا وأنه المؤهل بجدارة للفوز والدخول إلى فردوسها الأرضي، وقوله: (فابعثيني بتعاليمك في العشق رسولا) أي سيكون محققا لهدفها بدقة كالسهم الذي يوجهه الرامي إلى خاصر الشيء فيحقق الهدف، وقوله (ليس عشقاً حين لا يفتح بابا مستحيلا) أي في عرفه فإن العشق يمنح العاشق قدرة تجعله قادرا على أن يفعل ما كان يعتبر تحقيقه من دون الحب أمرا صعباً للغاية، وقوله: (فامطري صمتي هديلا ...) أي إنه العشق الذي يفعل المستحيل فيحول صمته وكتمانه لهذا الحب العظيم إلى إعلان كبير كالمطر حين يهطل في كل مكان .

الصورة والبيان:

يتراوح الأسلوب في هذا الفرع بين الأسلوب الخبري والأسلوب الإنشائي وفي الأسلوبين تتجلى الصورة الشعرية فقوله: (أنا يا مولاتي الربة _ إينانا _ كما الرند) تمثيل، وقوله: (إن كر عليه الجمر يوماً فاحترق) استعارة، وقوله (وربيب الطين /لا أمنح للجذر إذا شذ عن النبض /علقْ) كناية عن الأصالة . وقوله) شرفة القوس) استعارة، وقوله (خاصرة الشيء) استعارة، ويصبح التركيب (وأنا السهم إذا من شرفة القوس / إلى خاصرة الشيء انطلقْ) صورة شعرية ثنائية البعد، وقوله (فامطري صمتي هديلا) استعارة .

الفرع الرابع:

يقول الشاعر:

(رب حين يعدل الدهر الطويلا ..

وطويل الدهر يغدو برهة لا تسترقْ

أرضعتني لبن الإنصاف أمي

وأبي علمني أن ألذّ الخبز

ما يعجنه من جبهة الكد عرقْ

فإذا زغت عن العهد

أكون الابن بالأم وبالوالد عقْ

فاقبليني سندباداً سومرياً

يسأل الله إذا أبحر في بحرك أن يرزقه

نعمى الغرقْ)

يبين هذا الفرع نسبية الزمن بالنسبة للشاعر العاشق، وعقدته (رب حين يعدل الدهر الطويلا) وشعبته الرئيسة هي: (وطويل الدهر يغدو برهة لا تسترقْ) أما شعابه الثانوية فهي: (أرضعتني لبن الإنصاف أمي) و(وأبي علمني أن ألذ الخبز/ ما يعجنه من جبهة الكد عرقْ) و(فإذا زغت عن العهد أكون الابن بالأم وبالوالد عقْ) و(فاقبليني سندبادا سومرياً / يسأل الله إذا أبحر في بحرك أن يرزقه نعم الغرقْ).

في المعنى:

يبين الشاعر المعنى النسبي للزمن، فقوله: (رب حين يعدل الدهر الطويلا ..) أي قد يمر على الإنسان وقت قصير من الزمن يعادل زمنا طويلا، ولا بد من أن نتساءل كيف يكون ذلك ؟ إن الشاعر يشير في هذا المعنى إلى الزمن النفسي، أوالزمن الروحي وليس الزمن المكاني المادي، فالزمن النفسي يمتد إذا كان زمن انتظار ولهفة وشوق وترقب، وهو زمن انتظار الشاعر قبل الدخول إلى فردوس إينانا الأرضي،ولعله يشير إلى زمن الوصايا والوقت المنتظر لوضع العهد والميثاق !، وأيا كان هذا الزمن بالنسبة للشاعر فهو زمن قليل يعادل دهراً طويلاً، وقوله: (وطويل الدهر يغدو برهة لا تسترقْ) أي وبالمقابل ومن المنظور نفسه فإن زمنا طويلا قد يمر على طوله كما تمر البرهة القصيرة، وذلك قياسا بالزمن النفسي الذي يمر به الشاعر العاشق الذي يمر سريعا وهو في حضرة المحبوبة وفي نعيم عطائها الذي يجعله لا يحس بانقضاء الوقت من شدة السعادة والفرح بالحب العظيم،ومختصر القول في هذا المعنى، إن الزمن يتعلق بالبعد الروحي للإنسان فيطول حين يكون زمن انتظار وترقب ولهفة، ويقصر إن كان راحة وطمأنينة وفرحاً، وقوله: (أرضعتني لبن الإنصاف أمي) يشير إلى أنه ما من داع إلى كل هذه الوصايا وكل هذه الشروط وكل هذا المواثيق، فالوقت يمر عليه بطيئا وكأنه دهر طويل، ليؤكد لها أن الإنصاف والحرص على العدل في ميزان الحق الذي توصيه به كان قد رضعه من تعاليم أمه من نعومة أظفاره، وهو تحصيل حاصل لديه، وقوله:(وأبي علمني أن ألذّ الخبز/ ما يعجنه من جبهة الكد عرقْ) يعني المعنى ذاته أي إن أباه قد علمه الحرص على يكون رغيف الخبز الذي يأكله من تعبه وعرق جبينه لأنه سيجده أكثر الأرغفة لذة وفائدة، ليؤكد أن هذه التعاليم والوصايا والمواثيق هي مجبولة بتكوينه، ويريد أن يطمئنها لكي تزداد يقيناً بما هو عليه من الكفاءة والاستحقاق، وقوله:(فإذا زغت عن العهد أكون الابن بالأم وبالوالد عقْ) أي إذا أخل بالعهد والوعد والميثاق لا يكون قد خالفها وحسب بل يكون قد خالف الوالدين وأصبح ولداً عاقا أيضاً، وقوله: (فاقبليني سندباداً سومرياً / يسأل الله إذا أبحر في بحرك أن يرزقه / نعمى الغرقْ) يعني أنه لا يخشى الغرق في بحر الحب، لا بل ويسأل الله أن ينعم عليه بنعمة الغرق، فالغرق في الحب يعني دوام الحياة السعيدة كما يعني دوام الطمأنينة وراحة البال، ولتكن على ثقة منه لأنه كالسندباد السومري البحري الذي له تاريخ أسطوري في المغامرات والإبحار عبر المحيطات البعيدة ويواجه مخاطر الغرق ثم ينجو بعناية ولطف القدر.

تقاطع الأزمنة:

إن زمن القصيدة هنا هو أشبه بزمن المقابلة السريعة في امتحان لإعلان القبول والنجاح أو الرفض والإخفاق، ويختار الشاعر هذا الوقت قبيل دخوله فردوس إينانا، إنه زمن إملاء الشروط والوصايا، وفيه يعمد الشاعر إلى التكثيف الزمني وإن بدت العظات والوصايا كثيرة، ولا يفوت الشاعر أن يأخذ بعين الاعتبار النسبية لمرور الزمن، فالزمن قائم في نفس الشاعر كما هو قائم بالمكان الذي يحيط بالشاعر نفسه .

النص الممكن:

القصيدة مؤلفة كما لاحظنا مؤلفة من أربعة مقاطع، فإذا أردنا أن نعيد ترتيب المقاطع فيمكن أن نعيد ترتيبها ب(!4 = 24) طريقة، أي يمكن أن نحصل على أربع وعشرين قصيدة ناتجة فقط من إعادة ترتيب الفروع في القصيدة، وإذا لاحظنا أن الفرع الأول يتألف من ثماني شعاب رئيسة وسبع شعاب ثانوية فإننا يمكن أن نعيد ترتيب الشعاب الرئيسة ب(!8= 40320) طريقة، ويمكن إعادة ترتيب الشعاب الثانوية ب(!7=5040) طريقة ولنا أن نتخيل الرقم الكبير الناتج عن جداء الأعداد (40320، 5040، 24) وهو 4877107200 وهذا الرقم يمثل عدد طرق إعادة ترتيب الشعاب في الفرع الأول مع عدد طرق إعادة ترتيب الفروع في القصيدة، وسنرى أن الرقم سيكون كبيرا جداً جداً إذا أجرينا الحساب على عدد إمكانات إعادة ترتيب الشعاب في الفروع الأخرى . وكل حاله من الحلات تمثل قصيدة ممكنة وتشكل نصاً ويمكن لنا أن نصفه بالواقعي، ولكن ليس من حقنا أبدا النظر إليه إلا من وجهة النظر المعرفية، والشاعر سيكون في حل من اي نص آخر غير الذي بين أيدينا لأنه يمثل النص الواقع، وعلينا أن نقبله كنص حقيقي ما دام الشاعر قد أعلنه على هذه الصيغة للعامة .

 

مفيد حنسه

 

 

 

 

في المثقف اليوم