قراءات نقدية

محمد الأحبابي: التكرار في الشعر العراقي الحديث، شعراء السبعينيات.. دراسة أسلوبية (8)

محمد الاحبابيالنداء

النداء أسلوب لغوي وظيفته تنبيه المنادى وحمله على الالتفات، وتؤدي الوظيفة  أدوات تتناسب مع قرب المنادى وبعده من المنادي، فإذا كان المنادى قريباً لا  يتطلب لندائه أن ترفع الصوت أو تمده بالهمزة التي ينادى بها القريب (1) ودلالة النداء وتكراره في شعر شعراء الدراسة موضوع تجدر دراسته، (أن التنوع في أدوات النداء ليس وليد المصادفة، وإنما لأغراض بلاغية، فلكل أداة من هذه الأدوات معناها ومدلولها اللغوي والوظيفي فضلاً عن معناها البلاغي) (2)، والنداء أسلوب مهم من أساليب العربية شائع في شعرهم، فضلاً عن أنه موضوع يجمع بين البلاغة والنحو، وهو يشكل ظاهرة بارزة في دواوين شعراء الدراسة أغنت البناء الفني للقصيدة، وأظهرت الصور الفنية فيها .

ومن النماذج التي احتوت أسلوب النداء عند الشاعر يحيى السماوي نجد في قصيدته (بَدَدٌ على بددِ) قوله: (3)

يا حُزْنَ ماضي العمرِ يا أَبَتي

يا صَبْرَ باقي العمرِ يا وَلَدي

رِفْقاً بِعُكّازي .. فَقَدْ وَهُنَتْ

ساقي.. وأحداقي بلا مَدَدِ

أَسْرَفْتَ في إذلالِهِ عَسَفاً

فارفقْ بهِ يا حزنُ واقْتَصِدِ

نداء الشاعر ذو دلالة نفسية، والأبيات تعبر عن الآلام التي ألمت بالشاعر في غربته فأصبح في حزن ويأس كبيرين، فکان النداء بمثابة تلك الحسرة أو ذلك الألم الذي يخرج من فؤاده للتنفيس عن الألم المحيط به وهو يعاني ألم الغربة وما حلَّ بالأهل والوطن، حيث اعتمد الشاعر علی تكرار النداء رغبة منه في تخفيف الضغط  النفسي والحزن الذي يعانيه.

وقد يخرج أسلوب النداء إلی دلالات التحسّر والتوجُّع في قوله: (4)

يا مَنْ أَضَعْتَ طفولةً وفُتُوَّةً         ماذا سَتَخْسَرُ لو أَضَعْتَ الباقي؟

هل في جِرارِ العمر غيرُ حُثالةٍ؟   فاطبقْ كتابكَ .. لات وقتَ تلاقي

فقد خرج أسلوب النداء من دلالته الأصلية إلى إظهار الحسّرة والتوجُّع على ضياع سنوات الشباب، وجاءت الأساليب: الاستفهام (ماذا، هل) المتنوع والاستثناء(غير) والنفي (لات) المقترنة مع الزمن جوابا لنداء الشاعر .

وقد يكون النداء لغير العاقل ومن ذلك قوله: (5)

هذا دمي يا نخلُ مُصَّ رفيفَهُ      فلقد رأيتُكَ ظامئَ الأَعْذاقِ

أَسْعِفْ خريفي بالربيع لِيَنْتَشي    وردُ المنى في روضةِ المشتاقِ

أو فاسْقِني كاسَ الظلامِ لمقلةٍ     ما أَبْصَرَتْ إلاّ مسيلَ مُراقِ

فَعساي أَلْتَمِسُ العزاءَ فلا أرى    وطني ذبيحاً والدماءَ سواقي

النخل رمز من رموز العراق، وهو رمز لشعب وادي الرافدين، لذا جاء النداء لغير العاقل (النخل)، وهذا النوع من النداء يشير إلی حجم التأثر النفسي في ذات الشاعر واندماجه مع رمز الوطن، وعلاقته المتينة به، وهذه محاولة في بث روح التواصل الوجداني بينه وبين النخل وخلق الإحساس الإنساني فيه.

تتمظهر صورة النداء بأجلى صورها في التكثيف بالود والتعلق الوجداني والشجن الجميل يتوجه بقطع شعرية تتدفق فيها المشاعر الانسانية بانثيالات مدهشة في مناغاة وجدانية مترعة بالإحساس لجوار الحبيبة في قصيدة (افتضاح) (6)

يا التي قبلكِ نسكي كان كُفرا

وقصيدي كان

هذرا !

ورباحي كان من قبلِكِ

خُسْرا

يا التي من دونِها الفردوسُ

لن يعْدِلَ قفرا

يجعل من حبيبته جوهر وجوده التي لأجلها يحيا،  فالمرأة ملهمة الأحاسيس المتوهجة بالدفء والحنان، فالمرأةُ عنده هي الهداية، وهي ظلُّ اللهِ الظليلة، فلولاها ما أبدع شعراً ولكان كلامه هذراً، فهي الجنة التي يأوي اليها، فالصور الفنية للحبيبة عند الشاعر (تسهم في مضاعفة الطاقة التعبيرية وصولاً إلى حدود اللغة الشعرية الخاطفة، وهي تحط بين يدي القارئ بكلّ يسر وسهولة) (7) فيتعالى النداء عند الشاعر ليوقظ في لغة القصيدة عيون الإيقاع وهي تتفجر بالجمال والحب، ويسهم التكرار في إرشاد المتلقي إلى ما يريد الشاعر توصيله، فالتكرار(بنية مزدوجة التأثير، حيث تعمل على تكثيف الإيقاع الصوتي من ناحية، وتعمل على تقرير معنى سبق ذكره أو تأسيس معنى لم يسبق في الذكر من ناحية أخرى) (8)

الخاتمة:

ويبقى لنا أن نلخَّص ما استعرضنا في هذه الاطروحة مايلي:

1- يعدّ التكرار في النصّ ذا أثر عظيم في توفير الجانب الدلالي والموسيقيّ، ويكشف عن لواعج الشعراء واهتماماتهم، فالشعراء من خلال التكرار يحاولون تأكيد فكرةٍ ما تهيمن علی خيالهم وشعورهم.

2- لقد استعمل شعراء الدراسة ظاهرة التكرار بكافة أنواعها وهي الحرف (الصوت)، والفعل، والاسم، والضمير، والعبارة. وهذه الظاهرة في نتاجهم الشعري أضفت جمالاً فنيّاً وثراءً دلاليّاً وإيقاعاً ترنّمياً، وقد أخرجت نصوصهم من السطحية والرتابة إلی الظرافة والبراعة الفنيّة وتلذّذ القارئ بالنص.

3- التكرار ذو صلة وثيقة بدلالات الكلام وأغراضه، ففي شعرهم عندما تتكرّر بعض الحروف فهذا يدلّ على ميزة الحرف ودلالته الصوتية، وكذلك عندما تتكرّر الكلمات والعبارات يشعر المتلقّي بأنّ لتلك الكلمة أو العبارة أهمّية بالغة في كلامهم، إضافة الى  الإيقاع الذي يحدث في الكلام.

4- شكل التكرار ظاهرة واسعة جداً عند شعراء الدراسة، مع وجود تفاوت  فيما بينهم، ولم يخرج التكرار عن قواعد الشعر العامة من الجمالية والذوقية، بل قاموا بتوظيف التكرار الذي أغنى قصائدهم بصور فنية جميلة .

5- جاء اللفظ المكرر مرتبطاً بالمعنى العام للقصيدة، حيث لا يكون تركيز الشاعر على اللفظ المكرر دون ما يليه من نص فيصرف نظر المستمع من الغاية المنشودة من القصيدة الى التكرار.

6- يُعدّ التكرار عندهم ظاهرة فنيّة تحفيزية تثري دلالات النص، جاءت تكراراتهم بدلالات مختلفة، تعمل على تسهيل وصول المعنى إلى المتلقي بوضوح جلي .

7- استعمل هؤلاء الشعراء التكرار في جميع الاغراض الشعرية، وخاصةً في غرض الرثاء والبكاء على ما مر به الوطن.

8- الشعراء دأبوا علی استخدام هذه التقنيّة الفنيّة ببراعة واتقان، فقد وجدوا في هذه الظاهرة طاقات شعورية وفنيّة لرفد نصوصهم الشعرية، فوظّفوا الكثير من الآليات الفنية الحداثية للتعبیر عن تميّزهم الإبداعيّ روحياً وأسلوبياً، بحيث تتماشی مع روح العصر، وتطلّعات الشعراء وطموحاتهم، لقد استطاعوا من خلال تجربتهم أن يستكملوا تصنيع الشعريّة الحداثية وشحنها بطاقات وآليات وتقنيات تشكيليّة وخطيّة.

 

د . محمد الأحبابي

......................

(*)  من  البحث الذي حاز به الباحث شهادة الدكتوراه في النقد الأدبي الحديث .

(1) انظر، في النحو العربي نقد وتوجيه، د. مهدي المخزومي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط2، 2005م، ص325.

(2) النداء دراسة أسلوبية، د. عبد علي صبيح، مجلة أبحاث ميسان، العدد 17، 2012م، مج9 /200.

(3) ديوان (نقوش على جذع نخلة) يحيى السماوي، ص46.

(4) ديوان (نقوش على جذع نخلة) يحيى السماوي ص168.

(5) المصدر نفسه، ص 166.

(6) ديوان (أطفئيني بنارك) يحيى السماوي، ص 139 -140.

(7) الفضاء التشكيلي لقصيدة النثر الكتابة بالجسد وصراع العلامات قراءة في الأنموذج العراقي، د محمد صابر عبيد، ص 71 .

(8) شعراء السبعينيات وفوضاهم الخلاقة، د محمد عبد المطلب، ص177.

 

 

في المثقف اليوم