قراءات نقدية

مصطفى سليمان: قراءة نقدية في قصيدة النهر أنت يا حبيبي وأنا الأفعوان لأمان السيد

مصطفى سليمانالقاصة – الشاعرة أمان السيد كاتبة إشكالية إبداعية محيّرة في عالمها القصصي والشعري؛ فهي عاشقة الرمز والغموض والإبهام وأحياناً الإلغاز في الصورة الفنية، والمعجم اللغوي المكتنز بدلالات إيحائية، والخيال المتوهج بأطياف قوس قزح، بل بأقواس قوس قزح التي تنداح بتموجات مشعة الألوان.

حتى إن الوضوح أحياناً في نصوصها يتحدى القارئ في تفسيره لأنه وضوح غير واضح! يجعل القارئ يتساءل: هل هي حقاً تَهوِي في وضوحها إلى التقريرية والمباشرة، أم تُغوي القارئ بالبحث عن غموض الوضوح! .

إنه الغموض الفني الذي يشكل مع عناصر الكتابة الإبداعية متكاملة متعة جمالية تحصل من تآلف تلك العناصر وانسجامها وتفاعلها في نسق متكامل لا يُخِل بعنصر من العناصر الفنية وبخاصة اللفظ المنسجم مع موضعه الدقيق في النسق التعبيري، كما في نظرية عبد القاهر الجرجاني المعروفة بمصطلح (النظم).

نظراتي النقدية العابرة (دون تعميم مطلق) الاهتمام بجزئيات قد تبدو لغير المتأمل فيها عديمة الجدوى. فهناك شعراء، أو مبدعون في مجالات فنون الكتابة الأدبية والتشكيلية ... يُعبِّرون عما خفي أو استتر في بواطنهم العميقة الأغوار برؤية شاملة كلية، أو جزئية .

تُرى هل نستطيع أن نتلمس يعض ملامح شخصية أمان السيد من خلال قصائد ديوانها أو بعضها؟. توماس إليوت يرفض هذا المنهج ويرى أن العمل الفني كيان مستقل بذاته، لا يعبر عن شخصية الفنان، فهو مجموعة من التفاعلات الناتجة عن الخبرات، والمؤثرات الخارجية المتفاعلة مع عقلية الفنان، وهذه التفاعلات قد لا يكون لها أي أثر في حياة الكاتب، أو الفنان كما أنها لا تتصل بشخصيته من قريب أو بعيد، فمهمة النقد التركيز على الإنتاج الفني  بغض النظر عن شخصية الفنان وميوله ونزواته الخاصة، إذ تهمنا اللوحة الفنية الرائعة، أو القطعة الموسيقية المشْجية، أو القصيدة التي تأخذ بلبك، أو المسرحية التي تحرك أوتار قلبك... دون حاجتنا إلى الجري وراء هذا المؤلف، أو ذاك الكاتب. فالعمل الفني متكامل في حد ذاته. يقول إليوت: إن تقدم الفنان ما هو إلا دأبه على التضحية الذاتية، أي دأبه على محو شخصيته". (راجع سلسلة نوابغ الفكر الغربي، د. فائق متّى، دار المعارف بمصر،1969، ص 25).

هذا الرأي النقدي يحتمل القبول والرفض. فنحن عندما نشاهد تماثيل الفراعنة العظيمة، أو مسرحيات إغريقية، أو لوحات فنية من عصور مختلفة، وهي تتسم بالجمال الباهر، ونحن نجهل اسم الفنان، فإننا نشعر حقًا بالمتعة الفنية الجمالية فالعمل الفني هنا لا علاقة له باسم مبدعه المجهول، أو حتى المعلوم. فماذا يفيدنا اسم سوفوكليس في تراجيديا مأساة أوديب مثلًا؟ أو اسم شكسبير في مأساة هاملت؟ وهكذا...

نجيب محفوظ رسم شخصيات رواياته من مختلف الطبقات الاجتماعية: من المثقفين، والسياسيين، والملوك، والحشاشين، والبلطجية، والغانيات الراقصات، والعاهرات... فهل عاش حياة وتجارب هذه الشخصيات؟ وهل إذا أرداد المبدع الكتابة عن الصوفيين والدراويش والقديسين عليه أن يكون صوفيًّا ودرويشًا وقدّيسًا؟ فدوستويفسكي حلل أعماق نفسية المُقدم على جريمة المرابية من خلال شخصية الطالب راسكولينكوف، وأبدع في تحليل شخصيته قبل الجريمة، وأثناءها، وبعدها في صفحات كثيرة جدًا. واستفاد علم النفس الجنائي من هذا التحليل بأن المجرم سيعود إلى مسرح جريمته ليستطلع الأخبار، فهو يحوم حولها حتى تكتشف الشرطة قصته، فهو مثل الفراشة التي تستضيء بالضوء الساطع حتىى تحترق في لهيبه. فهل مارس دوستويفسكي جريمة قتل في حياته؟ مطلقًا.

لكنه أدمن القمار في حياته، ودخل السجن لتراكم الديون عليه. وكتب أروع رواية تحلل شخصية المقامر في روايته (المقامر) . لقد عاش تجربة القمار، وتقمص شخصية المقامر، بل توحّد معه ذاتيًّا، وحلل خفاياه ونوازعه وتفاعلاته ومؤثراته مع الحدث.

لكننا نتساءل: ألا يستطيع الكاتب العبقري أن يقدم رواية عن القمار وشخصية المقامر ويبدع في تحليلها دون أن يكون مارس القمار؟ نعم يستطيع. وهذه المسألة النقدية عالجها جورج ديهاميل في رواية الرجل الأرجواني لبيير لويس حين قيّد فنان تشكيلي عبدًا بالقيود والسلاسل وأخذ يكويه بالنار ليلتقط ملامح العذاب الواقعي ليرسمها بريشته، وهو يريد تصوير عذاب "بروميثيوس" إله النار الإغريقي الذي حكمت عليه الآلهة بالعذاب الأبدي فوق قمة جبل شامخ لأنه سرق سر النار وأعطاه للبشر، فسلطت عليه نسرًا ضاريًا ينهش كبده حتى الرمق الأخير، ثم ينمو الكبد من جديد لتبدأ معاناة بروميثيوس الدائمة..

يعلّق جورج ديهاميل في كتابه (دفاع عن الأدب) على هذا الموقف: " ما أفقرها عبقريةً تلك التي تشعر بالحاجة إلى إثارة الألم بالفعل لتستطيع تصويره. المبدع الخلاّق يستطيع أن يتقمص التجارب جميعها على تناقضاتها، ثم يعيد صياغتها صياغة فنية موحية للقارئ بأنها قد تكون من التجارب الحقيقية للمبدع، وهذا هو الإيهام الفني والنفسي وهو (التقمص الوجداني) لأي شخصية وانفعالاتها المختلفة والمتناقضة. وتلك هي نظرية (نقل القيم). فالذين يؤمنون بأن التجربة الواقعية شرط أساسي في الإبداع يطلبون من الفنان أن يرتدي قناع دكتور جيكل، ومستر هايد، فيمارس في سلوكه كل التناقضات. (راجع مقالتي: الحمّال الشاعر، مجلة الدوحة القطرية، آب- أغسطس 1979).

لكن لنقف عند بعض الشعر النسائي مثلا. فعندما تخاطب سعاد الصباح الرجل في قصيدتها

(كن صديقي) فإننا نشعر بأنفاس الأنثى وهي تدعو(الرجل) إلى الاهتمام بعقلها وشِعرها لا بمفاتن جسدها: " فلماذا تهتم بشكلي ولا تدرك عقلي؟... ليس في الأمر انتقاص للرجولة... "إن الشعر النسوي له أحيانًا أدواته الفنية الخاصة المغمَّسة بمحبرة الأنوثة. ولكن هذا ليس حكمًا مطلقًا. فلكل قاعدة شواذ.

ولما قال النابغة الذبياني للخنساء: " ما رأيت ذات (مثانة) أشعر منك! لاحظوا كلمة (مثانة)! فردت الخنساء بذكاء وبجواب مضاد: " ولا ذا خُصيتين"!

انظر إلى الشاعرة الأندلسية ولّادة بنت المستكفي حبيبة ابن زيدون، وهي تبوح بجمالها وإعجابها النرجسي بذاتها مع شيء من الإباحية في ذلك العصر، وهي بنت خليفة:

أنا والله أصلح للمعالي

وأمشي مشيتي وأتيه تيها

أمكِّن عاشقي من لثم خدي

وأعطي قبلتي من يشتهيها

هل يقول مثل هذا الشعر رجل سويّ غير شاذ؟!

وفي ديوان أمان السيد كثير من الألفاظ، والتعابير الجنسسية حتى بضمير المتكلم، فهل يمكن أن نقول إنها تعكس شخصية الشاعرة، ونزعاتها وميولها. فهناك: الشبق والشبق الأزرق وفض البكارة والأفخاذ والشهوة والشهوات: أنا الشهوات الحارقة أُشعل ما بين الأفخاذ، لا ذكر سواك ضاجعني. أحلم بظهره العاري أحصي نمشه... عطره المنثور فوق حدائق جسدي. يُخَضِّل لولؤَ تضاريسي. من عينيَّ. من عنقي. من بين ثدييَّ، من سرَّتي تنبت الأمكنة التي تلتصق روائحها بالنخاع....

الناقد السطحي المغرض المتزمت الأعور الذي لا يرى إلا بعين واحدة يقتطع كلمات، أو عبارات جنسية، ويتهم المبدع بالإباحية والفجور ونشر الرذيلة والإلحاد... دون النظر إلى موضع هذه الألفاظ أو التعابير في السياق النصي، وعدم فهم قضية التقمص الوجداني أو نظرية (نقل القيم) . وهذا ما قاله لي قارئ قرأ الديوان مقتطفًا بعض الألفاظ العابرات والصور الجنسية من هنا وهناك، متهمًا الشاعرة بالفجور ونشر الرذيلة والإباحية!!...

هذه المقدمة ليست خارجة عن روح الديوان، بل ضرورة فكرية وأدبية وفنية وأخلاقية لا بد منها لإلقاء الضوء على حقيقة الأساليب الحارة، بل الملتهبة، من حيث المعجم اللغوي، والصور الفنية... مما قد يشكل انطباعات متسرعة عن شخصية الشاعرة، ومضامين ديوانها أو لغته التي قد تبدو ظاهريًّا إباحيّة، فيراها بعضهم متمردة وخارجة على القانون الأخلاقي. سأبدأ بقصيدة النهر أنت ياحبيبي وأنا الأفعوان وهي عنوان الديوان. لكن في البدء سأقف عند صورة الغلاف، وهي بعدسة أمان السيد، حيث تقف وسط مرج فسيح أخضر متألق بالنور، وفي الأفق سماء زرقاء صافية وغابات صغيرة تشرق بالخضرة الكثيفة. وتقف الشاعرة مسندة ظهرها إلى شجرة وحيدة أغصانها وجذعها حطب رمادي اللون وهي مجردة من أي نضرة أو خضرة. وأنا أرى هذه صورة رؤية رمزية؛ فالشاعرة تضج بالحياة والنماء وابتسامة فرح وأمل ترتسم على محياها، وكأن الصورة قصيدة تعبر عن الأمل بالمستقبل، فالربيع قادم لا محالة، والغابة سوف تحتفل بعرس الأشجار الخضر الوارفة الظلال، الدانية القطوف، وسوف تغرد الأطيار على أفنانها التي نضرت من سريان رعشة نسغ الحياة في أوصالها بدءًا من جذورها حتى جذعها وفروعها. وهذه الصورة تعكس الرؤية الشعرية الخضراء المنبثة في كثير من قصائد الديوان.

" تبدأ القصيدة التي تحمل اسم الديوان كما يلي:

ذاك النهر

المنتفض كأفعوان

كجسد امرأة محرَّم

على الكلاب والمارقين

بانجراف وتأنٍّ

يستعجل مصب حمرة الشفق البعيد

النهر أنت يا حبيبي وأنا الأفعوان".

النهر دفق الحياة ونبضها وهو الديمومة والاستمرار... لا حياة على كوكبنا بلا ماء. نقرأ في سِفر التكوين:

" في البدء خلق الله السموات والأرض، وكانت الأرض خرِبة وخالية، وعلى وجه الغَمر ظلمة وروح الله رفَّ على وجه الماء... وقال الله لتفض المياه زحّافات ذات نفس حية وليطر طير فوق الأرض على وجه جَلَد السماء.(سِفر التكوين في أماكن متفرقة من الإصحاح الأول).

وفي مياه النهر قداسة، ففي نهر الأردن تعمد المسيح عيسى(ع) ومشى فوق الماء! ففي النهر معجزة وخوارق. والنهر الخصب والنماء والحياة الجديدة أو المتجددة.

وفي أسطورة بابلية: في البدء كان الأقيانوس. وفي القرآن الكريم: " وجعلنا من الماء كل شيء حي " سورة الأنبياء / الآية 30 . والنهر، والبحر مترادفان في اللغة العربية: " مرَج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان"  سورة الرحمن/ 19-20 .

في رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح يتخبط الراوي في مياه النهر: دخلت الماء عاريًا كما ولدتني أمي، أحسست برجفة أول ما لامست الماء البارد، ثم تحولت الرجفة إلى يقظة... كنت لا أعي هل أنا نائم أو يقظان، هل أنا حي أو ميت.... وتحددت علاقتي بالنهر إنني طاف فوق الماء... إنني أقرر الآن أنني أختار الحياة. (انظر دراستي لموسم الهجرة إلى الشمال في كتابي: القبض على جمر الإبداع- محاكمات نقدية، سلسلة النقد الأدبي، دار المنارة للدراسات والنشر، اللاذقية، 1989، ص 13).  وراجع الرواية نفسها في الأعمال الكامة للطيب صالح، طبعة دار العودة، ببيروت، 2004، من صفحة 174- 176 .

وفي رواية مئة يوم من العزلة لغارثيا ماركيز نقرأ: " ذات يوم اقتحم ملكيادِس النهرَ، وهو ساحر عجيب يُحدّث أي إنسان بلغته يعرف أسرار المعادن والكيمياء...) مات وخرج منه جثةً. قالت

(أورسولا) زوجة خوسيه: " إنه خالد. هو الذي كشف عن معادلة النشور". طلب المحافظ دفن الجثة لأنها خطر على الصحة العامة! قال له خوسيه: " لماذا أدفنه؟ إنه مازال حياً رغم موته! وهكذا بَعث (ملكيادس) القريةَ الميتة بموته! (غارثيا ماركيز، مئة عام من العزلة ترجمة د. سامي الجندي وإنعام الجندي، دار الكلمة، بيروت، الطبعة الخامسة،1985، وبخاصة المقدمة، وص 13، و70 و71).

هذا السرد النهري- المائي طبعًا ليس سفسطة بلاغية، أو تزيينًا ثقافيًّا عبثيًّا، بل هو من صلب الرموز التي توظفها الشاعرة أمان السيد عن وعي واقتدار في معظم قصائد الديوان. فهذا النهر منتفض يضج بالحياة الولّادة والخصوبة والعطاء... كجسد امرأة محرَّم على من ينتهك حرمته وقداسته من" الكلاب والمارقين" من أرباب أعداء الحياة والأمن والسلام، وهو ينجرف في مجراه القدري بثقة وأناة لا يعبأ بكل المتسلطين على الحتمية الجبربية التي لا مرد لها في جريانه الحثيث نحو مصبه النهائي لإرواء عطش الظامئين للحرية ولو كان في المصب النهاية، يجري مضرَّجًا بدماء تنزف كحمرة الشفق البعيد- القريب . إنه وقت الحساب الآتي حتمًا لأعداء الحياة. لذلك تؤكد الشاعرة في ختام المقطع: " أنت النهر يا حبيبي وأنا الأفعوان ".

فماذا عن هذا (الأفعوان) الذي توحّدت الشاعرة في النهر ومعه، في المسيرة نحو الشفق الأحمر الدامي كمصب نهائي نحو الأمن والسلام كما ذكرتُ؟.

الأفعوان هو ذكر الأفعى، ويطلق على كليهما مجازًا، مثل كلمة الحية. وينطوي على دلالات جدلية متضادة، وينفرد لدى أي كاتب أو شاعر بمعنى واحد أو أكثر في نسق الكتابة الشعرية أو غيرها. فهو الخير والشر. ففي الجنة المعنى المراد هو الشر والغواية الخبيثة لآدم وحواء في التمرد على وصية لله . وسمُّ الحية في الطب داء ودواء، فالسم قاتل فتّاك، وهو ترياق وشفاء من السم. و(أسكليبيوس) في الديانة والأساطير اليونانية هو إله الطب. وتمثاله المحفوظ اليوم يحمل عصا يلتف حولها ثعبان، وهو رمز الطب العالمي اليوم.

والحية – الأفعوان رمز التجدد والولادة الجديدة والانبعاث، وهذا من رموز ورؤى أمان السيد في ديوانها؛ فجلد الحية ينسلخ ليتجدد، ويولد مكانه جلد جديد.

وفي ملحمة (جلجامش) سرقت الحية منه، وهو نائم نبتة الحياة والخلود التي كان قد أخذها من الحكيم - النبي أوتنابيشتيم وهو(نوح في التوراة والقرآن) للبحث عن صديقه إنكيدو في عالم الخلود بعد مصرعه. إنكيدو رجل بري خلقته الآلهة لوضع حد لطغيان جلجامش، فيَقتل جلجامش وإنكيدو معًا الثور السماوي، ثم تتخذ الآلهة قرارًا بالحكم على أنكيدو بالموت، ويتم قتله.

فالشاعرة أمان السيد لم تذكر الأفعوان عبثًا مع حبيبها النهر. فهي تقصد كل تلك المعاني السابقة. فجوهر ديوانها كما أشرت الانبعاث والتجدد و"سلخ جلد" القيم الفاسدة نحو حياة جديدة بجلد جديد، والأمل بالشفاء من أدواء هذا المجتمع الذي يسمم العلاقات الإنسانية في الوطن الواحد، ويشوه القيم العامة التي تربى عليها إنساننا. وهكذا يتوحد النهر في رموزه التي عرضناها سابقًا مع الأفعوان في معانيه الجديدة توحدًا إيجابيًّا في مسيرة التبشير بولادة مجتمع جديد ومتجدد.

في مقطع آخر من القصيدة ذاتها نقرأ:

" ذلك النهر الهادر المار بالنفايات والطحالب والأوبئة

يجرفها بالبراكين

يعرف أن المناجم لا تقتل إلا الضعفاء

الذين يشيدون عروشًا للسلاطين

ذلك النهر هو حبيبي تترَيَّا فروعُه،

وصدره، وعنقُه بالشهوات والحكمة،

هو أنا

حين يكشف عن شبقه الأزرق،

وجنون جسده الضّاجّ بالغوايات

فقط كي ينعش الضباب

هو أنا

حين أستدعي العالَم المثالي إلى بساتيني

لا أجد مكانًا لي

إلا في أحلام البائسين".

هذا النهر- رمز الحياة، ضاجّ هادر صاخب فيّاض لا يهدأ، وإلا صار بحيرة مغلقة أو مستنقعًا آسنًا. هو ثورة بركان يجرف بحممه الملتهبة الحارقة ما يعترض مسيرته نحو مصب الحياة الجديدة المتجددة النقية، وكلَّ النفايات السامة المتراكمة في مجراه - مجرى الحياة، مع الطحالب الآسنة، فلابد من ثورة حضارية شاملة تنقّيه من سموم التخلف والطغيان والاستبداد، والفكر المتخلف، ومن الخرافات التي تعطل العقل... النهر ثورة.

هذا النهر- الثورة سيتغلغل طوفانًا غارقًا لكل من يستلذ العيش في كهوف عميقة مظلمة في أغوار باطن الأرض كعمال المناجم العبيد الذين يستخرجون الذهب والثروات للمستغلين. عمال المناجم هؤلاء لا يدرون بأنهم يشيدون عروش الاستبداد من عظام أولئك الضعفاء المستغَلين. لا بد من ثورة المستعبَدين لتدك العروش ومن عليها.

إنه معشوق مقدس حين ترفده فروع تفيض بشهوة ضخّ الخصوبة والحياة الدافقة بحكمة الفيض الخالد، وبخاصة حين يتجلى في فيضه الأزرق الهادر. وفي الحقيقة، فإن ماء النهر ليس أزرقَ لكننا نراه أزرق، وهذه خاصية في المياه بأشكالها جميعها. وفي علم النفس يولِّد الأزرق خبرات عاطفية، ويرتبط أيضًا بالذكورة، وتحدثت الشاعرة عن "جنون جسده الضاج بالغوايات". ويرتبط الأزرق بالقوة والسلطة. لهذا فإسناده إلى الشبق فيه دلالات مما سبق. وهو في أمريكا الجنوبية يرتبط بالروحانية المقدسة. وذكرتُ في مستهل هذه الفقرة أن هذا النهر معشوق مقدَّس.

وأحب أن أقف هنا عند إنعاش النهر للضباب. فهذا التعبير من أسرار اللغة والصورة الشعرية المكثفة والرمزية الموحية عند الشاعرة. فالضباب ماء بخاري مكثف بهيئة سحاب. وإنعاشه هنا تفجير الماء المكتنز فيه مطرًا منعشًا للحياة الخصبة، الجديدة. فالتجدد دائما سمة من سمات شعر أمان السيد. والسكونية موت.

وفي سِفْر التكوين، الإصحاح 2، الآية 6 نقرأ : " ثم كان ضباب يطلع من الأرض ويسقي كل وجه الأرض". فالضباب" يطلع من الأرض ويسقيها " " لأن الرب الإله لم يكن قد أمطر على الأرض" الآية 5.

وللبؤساء مكانة إنسانية عند هذه الشاعرة الرقيقة المكنونة في جفون أحلامهم التي تتطلع إلى عالم مثالي تسوده العدالة، والرحمة. وفي مقطع آخر نقرأ:

" موسيقى الجاز هي التي تعشقني

أما أنا فأعشق الزنجي

الباذلَ روحَه، أنفاسَه

أنا أنفاسه النقية كلباب زعتر بري،

أنا روحه الخالقة أقمارَ وتوهُّجاتِ السهر

وجنيات الظلام" .

ولطالما ارتبطت موسيقى الجاز بالزنوج. هي لا تعشق هذه الموسيقى، بل هي التي تعشقها، وتعشق الزنجي النافخَ في بوق التحرر من العنصرية. فهي تبذل أنفاسَها له ليتنفس عبرها هواء الحرية في عزف زنجي الإيقاع يضيء عتمة ليالي الحزن والشقاء الحالكة السواد؛ لتُطرَد العتمة من أفق سهره الذي لا ينتهي. هذه الليالي ستتحول إلى ليالٍ مقمرة بضياء الفرح، والحرية.

الزنوجة فحولة. ذكورة قوية ينتقم بها الزنجي من التفرقة العنصرية في عالم لا إنساني. لذلك يتفوق في مجتمعه العنصري بألعاب قوية كالملاكمة والجري الطويل والقفز العالي... وكأنه بهذا التفوق يحقق ذاته، وينتقم من العنصرية ضده.

يذكر زعيم المسلمين الزنوج في أمريكا (مالكولم إكس) في مذكراته تهافتَ أثرياء البِيض نساء ورجالاً إلى حي الزنوج في (هارلم) ليمارسوا صنوفًا من الإباحية، والانحلال الخلقي. وهناك عشق

(أبيض وأشقر وعيون زرق) للفحولة الزنجية. ومع ذلك يضطهدون الزنوج. هل تذكرون (مارتن لوثر كنغ) وتهافت الملايين من البيض والسود الإنسانيين، وهم يستمعون إلى خطاباته المدوِّية في ساحات أمريكا؟ تذكروا خطابه الأشهر:

" عندي حلم  I HAVE A DREAM. لكن المخابرات الأمريكية العنصرية اغتالت حلمه وحلم الملايين من الزنوج باغتياله.!

في رواية موسم الهجرة إلى الشمال نتعرف على الحقد العنصري من البيضاوات الشقراوات ذوات العيون الزرق، من خلال مناجاة (إيزابيلا سيمور) إحدى عشيقات بطل الرواية المسلم الأفريقي الأسود، وهي تناجيه:" اغتلني أيها الغول الأفريقي. احرقني في نار معبدك أيها الإله الأسود. دعني أتلوّ في طقوس صلواتك العربيدة المهيجة ". (ص115)، إنه العشق القاتل. ومن العشق ما قتل!

أكرر: إن هذه الاستعراضات الثقافية من روايات وكتب مقدسة ليست ترفًا فكريًّا، أو استعراضًا زخرفيًّا عبثيًّا مجانيًّا أثناء النقد التحليلي لديوان أمان السيد. فالمتابع الدقيق يربط كل ما استعرضته بسلك واحد متين مترابط اللآلئ الثمينة في العقد النظيم.

وأقف الآن – باختصار- عند متابعة موسم الهجرة إلى الشمال ليعمّق سردنا التحليلي للعقدة الغربية العنصرية الانتقامية من هويتنا وتراثنا ليكشف العنصرية الغربية في حديثنا عن الزنجي والزنوجة وموسيقى الجاز كما في قصيدة أمان السيد .

فبعد (إيزابيلا سيمور) نأتي إلى (آن همند). ففي لقائها الحميمي مع بطلنا الزنجي العربي السوداني المسلم وفي غرفته العابقة بالعود والند والصندل والتحف الشرقية أشارت إلى زهرية ثمينة. قالت: تعطيني هذا وتأخذني؟ وافقتُ. أخذتْ الزهرية وهشّمتها على الأرض، وأخذت تدوس الشظايا بقدميها... أشارت إلى مخطوط عربي قديم نادر على المنضدة، وكررت السؤال. وافقتُ. أخذته ومزقته وملأت فمها بقطع الورق. مضغتها وبصقتها. أشارت إلى مصلاة من حرير أصفهان. طلَبتْها. وافقتُ. أخذتها، ورمتها في نار المدفأة، ووقفت تنظر متلذذة إلى النار تلتهمها... مشيت إليها ووضعت ذراعي حول خصرها، وملت إليها لأقبلها. وفجأة أحسست بركلة عنيفة بركبتها بين فخذيَّ. ولما أفقت من غيبوبتي وجدتها قد اختفت.! (ص 164-165).

هكذا هي أمان السيد الشاعرة المثقفة التي تبث أسرار رؤيتها الفنية، ولغتها الرمزية، وثقافتها الحضارية الإنسانية في نصوص شعرية تبدو للوهلة الأولى عابرة للمعاني العميقة الشاملة. شِعرها سهل ممتنع. تتعب في إبداعه، وتُتْعِب معها نقادها.

 

مصطفى سليمان

 

في المثقف اليوم