قراءات نقدية

محمد بـوفلاقة: عبد الملك مرتاض وجهوده في خدمة قضايا نظرية البلاغة

محمد بوفلاقةملخص البحث: تتنزل تجربة الباحث، والناقد المتميز الدكتور عبد الملك مرتاض التي شكلت ملمحاً بارزاً، في سعيه إلى التأسيس لنظرية للبلاغة، في إطار ما يُعرف بالبلاغة النقدية، التي هي دراسة البلاغة كعلم، أو كنظرية، أو كمدرسة،  ومن موقع البحث، والدراسة، والمساءلة ، ارتأينا من خلال هذه الورقة أن نقيم حواراً علمياً مع هذه التجربة الباذخة، والمتميزة، ونُعرّف بأسسها المعرفية، ومنطلقاتها، وخصوصيتها، وآليات اشتغالها، من خلال التوقف مع كتاب: «نظرية البلاغة»، الذي يبدو من خلاله على وعي عميق بخصوصية البلاغة، وأسئلتها، فهو ينادي منذ البداية في مقدمة كتابه بضرورة إعادة النظر في مفهوم البلاغة، ويثير جملة من الأسئلة الإشكالية الرئيسة التي تساهم في تعميق الكتابة النقدية عن البلاغة، ومن أبرز الأسئلة التي أثارها في استهلاله للكتاب، ما الغايات التي تسعى البلاغة إلى تحقيقها؟ أهي وصفية أم مجردة؟ أم هي جمالية فنية؟ وهل انتهى عصر البلاغة وجاء عصر اللا بلاغة، حقاً؟

تشير معظم المعاجم الأدبية، واللغوية إلى أن البلاغة في شقها التقليدي هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، مع فصاحة مُفرداته، ومُركباته، وسلامتها من تنافر الحروف، وغرابة الاستعمال، والكراهة في السمع، حيث إنها تقتضي وجود قدر معين من التفكير في المعاني الصادقة، والقيّمة، والقوية المبتكرة التي تتسم بحسن التنسيق، والترتيب، مع توخي الدقة في اختيار الكلمات، والأساليب على حسب مواطن الكلام، ومواقعه، وموضوعاته، و مراعاة حال من يُكتب لهم، أو يُلقى إليهم)1(.

إن مصطلح(البلاغة)يُحيلنا على تعريفات متنوعة، فهي في اللغة«الوصول والانتهاء، يُقال: بلغ فلانٌ مراده: إذا وصل إليه، وأمر بالغٌ، أي جيد.ومن هنا كانت البلاغة في معنى جودة الكلام، ومطابقته لمقتضى حال الكلام.وبلاغة المتكلم: ملكة يقتدر بها على تأليف كلام بليغ مع فصاحة في مفرداته، وتراكيبه، دون غرابة في اللفظ، أو كراهة في السمع، فكل بليغ فصيح، وليس كل فصيح بليغاً.فالفصاحة غير البلاغة.

وقد غدت البلاغة علماً، على أساس بلاغة القرآن الكريم، ثم كان لبعض الكتاب أثر في البلاغة...، وأخذت الدراسات العربية تتميز، وتم الوصول إلى أن علم البلاغة ثلاثة فروع هي: علم المعاني، وعلم البيان، وعلم البديع.وأنزل بعض النقاد الدراسات البلاغية بحسب مفهوم الفروع الثلاثة في أمكنتها، وجعلوا علم المعاني يبحث في أنواع الجمل المختلفة، واستعمالها، وجعلوا الثاني يُعلِّم الإنسان صناعة الكلام الفصيح من غير إبهام، ومباحثه: التشبيه، والاستعارة، والكناية.وأدرجوا في الثالث بحوث محسنات الكلام، ويتناول عدداً كثيراً من صور القول كالإطناب، والقلب، والاستخدام...»)2(.

كما يُقصد بالبلاغة في بعض الكتابات المعاصرة المتأثرة بالمناهج الغربية ، البلاغة التطبيقية في خطاب الشرح الأدبي، وباقترانها(البلاغة) بتحليل الخطاب، فهي تنقسم في النقد الغربي  إلى خطابين« خطاب موصوف يدل على موضوع الخطاب، وخطاب واصف يتصل بوظيفة البلاغة من حيث هي نشاط يهتم بوصف الخطابات وتحليلها، وإظهار كيفية تأثيرها بناءً على آليات نظرية مختلفة باختلاف النظريات النقدية القديمة منها، والحديثة. وقد أكد أحد البلاغيين المحدثين، وهو كبدي فاركا، في هذا السياق أن البلاغة- بحسب تعريف أولي حذر- هي مجموعة من التقنيات التي تسمح بوصف عملية إنتاج الخطابات، والنصوص، وإعادة بنائها، وبذلك تظل، في تصوره إلى حد ما الأداة الجيدة التي تسعفنا في وصف الكيفية التي ينبني بها النص.

ويبدو أن اعتبار البلاغة منهجاً لوصف الخطابات المختلفة وتحليلها، يرجع- حسب هنريش بليث- إلى سببين اثنين:

أولهما: تاريخي، يتعلق بإنتاج النصوص حسب قواعد بلاغية، ويكون استعمال تلك القواعد مناسباً لكشف تنظيم النصوص.

ثانيهما: منهجي، يرتبط بما أبدته البلاغة من مرونة خلال تاريخها الطويل في التطبيق على النصوص الجديدة، وبذلك لم تعد البلاغة في تصوره تهتم بإنتاج الخطابات، كما هو الشأن في القديم، بل أصبحت تختص بتحليل الخطابات المختلفة، ووصف آليات اشتغالها»)3(.

وقد اتجهت الدراسات العربية الحديثة إلى العناية بالتأسيس لنظرية للبلاغة، والكشف عن حقيقة البلاغة، إذ يدور اليوم جدل كبير بين المعنيين« بالدراسات العربية من أساتذة، وأدباء، ونقاد، ولغويين حول علم البلاغة، وغايته، والفائدة منه، ومدى ملاءمته لمقتضيات الدراسة العصرية، والسبب في ذلك يعود إلى القوالب التي صب فيها هذا العلم، والأشكال التي اتخذتها قواعده، والصور التي وصل بها إلينا...، وقد خيّل لبعض الدارسين أن المعارف النظرية هي غاية بذاتها، فأصاب علم البلاغة بعض التحجر ، والجمود، وانفصل على النصوص الأدبية الجميلة التي هي ميدانه، وحقل تطبيقه، وعن الذوق الأدبي السليم...»)4(.

وتتنزل تجربة الباحث، والناقد المتميز الدكتور عبد الملك مرتاض التي شكلت ملمحاً بارزاً، في سعيه إلى التأسيس لنظرية للبلاغة، في إطار ما يُعرف بالبلاغة النقدية، التي هي دراسة البلاغة كعلم، أو كنظرية، أو كمدرسة.

ومن موقع البحث، والدراسة، والمساءلة ، ارتأينا من خلال هذه الورقة أن نقيم حواراً علمياً مع هذه التجربة الباذخة، والمتميزة، ونُعرّف بأسسها المعرفية، ومنطلقاتها، وخصوصيتها، وآليات اشتغالها.

والجدير بالتنبيه هو أن الكثير من الدراسات النقدية التي عرفها العالم العربي في الفترة المتأخرة في مجال البلاغة، القليل منها اتخذ من التراث العربي موضوعاً له، وما يستنتج لدى قراءة بعضها هو أن المنجز منها في هذا الإطار لا يخرج عما ألفته مثيلاتها في الغرب، فالملاحظة هي أن عدداً غير قليل من الدراسات العربية كان اجتراراً لما قيل في الغرب.

بيد أن العلاّمة الدكتور عبد الملك مرتاض يجمع بين الأصالة، والمعاصرة، حيث إنه يتطرق إلى جملة من القضايا، والإشكاليات المعرفية التي تتصل بنظرية البلاغة، وجماليات الأسلوب إرسالاً واستقبالاً، ويُركز على شواغل التأسيس لنظرية لمختلف القضايا البلاغية، ويسعى إلى ربطها بالتراث العربي الأصيل، ويُدافع دفاعاً مُستميتاً عن جهود نقادنا العرب القُدامى، ولا نعجب من ذلك فالدكتور عبد الملك مرتاض هو صاحب مقولة: « التراث العربي الأصيل حداثة متوهجة»، وهو أحد كبار النقاد العرب المعاصرين يتميز بقراءاته العميقة، والنافذة للتراث العربي، إضافة إلى متابعته وإحاطته بقضايا الحداثة، والمعاصرة، وجمعه بين التطبيق، والتنظير.

إن الناقد والمفكر الدكتور عبد الملك مرتاض من خلال كتاب«نظرية البلاغة»، يبدو على وعي عميق بخصوصية البلاغة، وأسئلتها، فهو ينادي منذ البداية في مقدمة كتابه بضرورة إعادة النظر في مفهوم البلاغة، ويثير جملة من الأسئلة الإشكالية الرئيسة التي تساهم في تعميق الكتابة النقدية عن البلاغة، ومن أبرز الأسئلة التي أثارها في استهلاله للكتاب، ما الغايات التي تسعى البلاغة إلى تحقيقها؟ أهي وصفية أم مجردة؟ أم هي جمالية فنية؟ وهل انتهى عصر البلاغة وجاء عصر اللا بلاغة، حقاً؟

مقدمة في نظرية البلاغة:

كرس الباحث الدكتور عبد الملك مرتاض الفصل الأول من كتاب(نظرية البلاغة) لتقديم متابعة شاملة لمفهوم البلاغة، ووظيفتها، حيث نبه في مستهل متابعته إلى أن الأمم الكبيرة كلها اشتغلت بالبلاغة، وخصوصاً الفلاسفة الإغريق، ولاسيما منهم أرسطو الذي نظّر، وابتكر الكثير في الشعريات، والبلاغيات منذ قريب من خمسة وعشرين قرناً، وعلى كثرة المفاهيم البلاغية الدائرة، والتي استعملت في الشرق، والغرب، إلا أنها ظلت متقاربة، ومتشابهة من وجهة، ومتداخلة ، ومتشابكة من وجهة أخرى، وقد أشار الدكتور عبد الملك مرتاض إلى ما تعرف به البلاغة عند الغربيين ، إذ أنها كثيراً ما تختصر في فن القول الجميل، وتحدد وظيفتها في أنها ضرب من نظرية الخطاب الما قبل العلمي الذي يتميز بالسياق الثقافي الذي يعالج فيه، ويرى بعض المنظرين أن البلاغة توجد ما بين فن تركيب الخطابات، ونظرية هذه الخطابات نفسها.

وقد تساءل المؤلف عن الأسباب التي دفعت نقاد الغرب إلى تجاهل جهود علماء البلاغة العرب، وقد حاول تفسير هذا التجاهل بقوله: « ولعلّ الذي حمل الغربيين المعاصرين على تجاهل الجهود البلاغية العربية أنها تجانفت كثيراً للتطبيقات على بعض الآيات القرآنية، وبعض الأبيات الشعرية، وبعض النصوص الأدبية النثرية الرفيعة النسج، مجزأة مقزعة، دون التركيز على الشق النظري في مفهوم البلاغة، الذي لم يكد يُعنى به إلا أبو الحسن علي بن عيسى الرماني، ثم من بعده أبو يعقوب يوسف بن أبي بكر السكاكي...»)5(.

وفي سياق متابعته لمفهوم البلاغة، ووظيفتها ذكر المؤلف أنه انطلاقاً من أواخر القرن الثاني الهجري بدأ الكلام عن البلاغة، وماهيتها، وتعريفاتها، ومكونات أقسامهاً، وخصوصاً فيما يتصل بالمحسنات البديعية، بما أصبح ينسجم مع ما أبدعه الشعراء والكتاب في ذلك القرن، ولعل أهم عمل بلاغي ألّف في القرن الثالث للهجرة ما كتبه عبد الله بن المعتز بعنوان: (كتاب البديع)، فهو أول كتاب يتناول القضايا البلاغية تناولاً منهجياً، فقد عرض فيه خمسة مكونات بلاغية هي الاستعارة، والتجنيس، والمطابقة، وردّ الأعجاز على الصدور، والمذهب الكلامي، وقد كانت غاية ابن المعتز من وراء تأليف هذا الكتاب هي: ( أن يثبت أن المحدثين لم يخترعوا البديع الذي يلهجون به، وكأنما كان هناك من يزعم أن المحدثين هم الذين أنشأوا البديع إنشاءً، أنشأوه من عدم، فلم تكن العربية تعرفه حتى ظهر بشار ومن خلفه من المحدثين، و تلاه أبو نواس ومسلم يتزايدان فيه حتى إذا كان أبو تمام أوفى به على الغاية).

بيد أن هذا الكتاب اشتهر بين المتخصصين، ولم يكتب له الذيوع والانتشار بين عامة الناس كما يذكر المؤلف، حيث لم يتم الإقبال عليه إلا بعد أن جاءت بعده مجموعة من الكتب البلاغية.

وابتداءً من القرن الرابع للهجرة كثر الكلام عن البلاغة، وماهيتها، وتعريفاتها، كما وقع التوسع في جملة من قضاياها، و خصوصاً في المحسنات البديعية، وقد جاء الاعتناء بالبديع على هامش الاشتغال بقضية الإعجاز القرآني، كما هو الشأن« بالقياس إلى الرماني صاحب(النكت في إعجاز القرآن)الذي يعرف البلاغة انطلاقاً من بلاغة القرآن الكريم، وأنها في المنزلة العليا، فيقرر أنها ليست هي (إفهام المعنى، لأنه قد يفهم المعنى متكلمان: أحدهما بليغ، والآخر عيي، و لا بالبلاغة أيضاً بتحقيق اللفظ على المعنى، لأنه قد يحقق اللفظ على المعنى وهو غث مستكره، ونافر متكلف، وإنما البلاغة إيصال المعنى إلى القلب في حُسن صورة من اللفظ، فأعلاها طبقة في الحسن بلاغة القرآن).

ويقوم هذا التعريف على محورين اثنين: أحدهما هو التبليغ من حيث هو على وجه الإطلاق، وهي الوظيفة الأولى للغة في حقل البلاغة، وهو ما يناقض معنى العي، والفهاهة.وأحدهما الآخر، هو حُسن التبليغ، أي ما يمكن أن نطلق عليه بتعبير معاصر(جمالية الإرسال) من أجل التأثير في المتلقي، وأسر انتباهه فيتلذذ باستقبال الرسالة الكلامية المبثوثة إليه في أحسن صورة...»)6(.

عبّر الدكتور عبد الملك مرتاض عن رؤيته لغياب النظرية البلاغية المنهجية في قوله: « توالى الاهتمام بحقل البلاغة، ولكن ليس بكيفية منهجية تؤسس للنظرية البلاغية، وتحاول تطويرها، وبلورتها، إما انطلاقاً من تقاليد الذوق الأدبي العربي العام، وإما استعانة بما تُرجم عن أرسطو إلى العربية، بل ظل عامة العلماء من المتكلمين والمفسرين يعالجون المسألة البلاغية إما على هامش النحو ، أو بالتوازي معه، مثل عبد القاهر الجرجاني، وإما على هامش المسألة الإعجازية التي كلف بها العلماء في القرنين الثالث والرابع للهجرة كلفاً شديداً. وإذن، فعلى الرغم من اشتغال العلماء المسلمين بالظاهرة القرآنية، والاحتجاج لإعجازها، والذهاب في ذلك كل مذهب، والاشتغال أيضاً بشرح الأشعار، وذلك انطلاقاً من الأدوات البلاغية التي أسسوا بعضها، واستعاروا بعضها الآخر من كتابات أرسطو، إلا أنهم كثيراً ما كان يفوتهم وضع الأدوات التي يتخذونها وسائل للبرهنة والإقناع، وضعاً منهجياً صارماً، قبل الشروع في إنجاز أعمالهم الكبيرة في حقل إعجاز القرآن، حتى يكون القارئ على بينة مما يكتبون عن أثر القرآن في تأسيس نظرية البلاغة »)7(.

ركز الدكتور عبد الملك مرتاض في مبحث خاص على«التأسيسات التعليمية الكبرى للبلاغة»، حيث إنه يرى أنه تأسيساً على ما ورد في الكتب البلاغية بعد السكاكي، فقد أمسى مفهوم( البلاغة) في المصطلحات المدرسية، أو التعليمية، يعني ثلاثة حقول أسلوبية كبرى هي المعاني، والبيان، والبديع، ومما نسج على هذا المنوال في القرن العشرين عن حقل البلاغة ما كتبه الأساتذة: أحمد مصطفى المراغي تحت عنوان: (علوم البلاغة)، وعلي الجارم ومصطفى أمين بعنوان: (البلاغة الواضحة)، حيث إنهم أسسوا للعملين بناءً على تقسيمات السكاكي، وبحكم مدرسية ما كتبوا فإنهم لم يزيدوا فيهما عما كان جاء به عمالقة البلاغيين الذين اهتموا بالإعجاز، حيث إنهم قدموا الأمثلة نفسها، غير أن العملين لهما قيمة كبيرة من الوجهة التعليمية، والمدرسية، وجهدهم التعليمي كان لا مناص منه للمتعلمين في مستويات مختلفة ليٌلموا بأوليات البلاغة، وأسسها، لكي ينطلقوا إلى التعمق، والتخصص.

أثر القرآن الكريم في تأسيس نظرية البلاغة:

لقد سعى الدكتور عبد الملك مرتاض في الفصل الثاني من الكتاب، الذي وسمه ب: «أثر القرآن في تأسيس نظرية البلاغة» إلى إبراز مختلف الآثار العميقة التي جاءت بفضل القرآن الكريم، وأسهمت في تأسيس نظرية البلاغة، فتحدث في مستهل هذا الفصل عن أثر النحو القرآني في تأسيس البلاغة، ومن بين القضايا التي توقف معها في هذا الفصل«ظهور المسألة الإعجازية قبل ظهور البلاغة»، فقد أشار إلى أنه ربما تكون أم آيات الإعجاز والتحدي، هي قوله تعالى: ﴿قُل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً﴾)8(.  فهي المنطلق المركزي للمساءلة عن سر الإعجاز القرآني من وجهة، كما أنها هي إعلان ميلاد البلاغة العربية من وجهة أخرى، ذلك أن الدفاع عن إعجازية القرآن الكريم انطلق من الأسلوبية، والبلاغة، ومن وصف جمالية النص القرآني، كما أن هذه الآية تعد المرتكز الذي نسجت عليه الأسباب التي منعت العرب من أن يأتوا بسورة من مثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، ثم وقع البحث في آيات الإعجاز الأخرى.

وبالنسبة إلى ارتباط نشأة البلاغة بالمسألة الإعجازية ، فقد أشار الدكتور مرتاض في مستهل مناقشته لهذه القضية، إلى أنه قبل أن يفصل الناس البلاغة ، من حيث هي علم، عن النص القرآني فتغتدي بمثابة النحو لإعراب أواخر الألفاظ، والعروض لوزن ألفاظ البيت بما يلائمه من التفعيلات لضبط إيقاعه، في عهد أبي يعقوب السكاكي، مرت بنظرية الإعجاز التي شغلت الفكر الإسلامي طوال القرون الأولى من عهد الحضارة العربية الإسلامية الزاهية، فلم يفكر أحد من أوائل البلاغيين في تأليف كتاب، باستثناء عبد الله بن المعتز الذي ألف كتاب: (البديع) في قواعد البلاغة بمعزل عن التطرق للنص القرآني في إعجازيته، ويظهر أن الحديث عن الإعجاز القرآني ظهر من قبل كبار النحاة أمثال الفراء في( معاني القرآن)، الذي كان يأتي ببعض الآيات القرآنية، ويحاول إبراز معانيها، من الوجهتين اللغوية والنحوية، دون البلاغية، لأن البلاغة لم تكن في عهده قد نشأت، وشاع تداولها بين النقاد، والكتاب، ولعل أبا الحسن الرماني أن يكون أسبق البلاغيين العرب إلى تأسيس علم البلاغة، ويقرر مؤلف الكتاب أن الرماني« يتبوأ في حقل البلاغة الإعجازية المكانة الأولى، إذ هو أحد أكبر مؤسسيها، فلم يزد، في الحقيقة، الباقلاني شيئاً، ما عدا في التفاصيل، فهو الذي(الرماني) أعاد البلاغة كلها إلى ثلاث طبقات أسسها فيها حين قرر أن(منها ما هو في أعلى طبقة، ومنها ما هو في أدنى طبقة، ومنها ما هو في الوسائط بين أعلى طبقة، وأدنى طبقة.فما كان في أعلاها طبقة فهو معجز، وهو بلاغة القرآن، وما كان منها دون ذلك فهو ممكن، كبلاغة البلغاء من الناس).

كما كان أعاد مكونات المسألة الإعجازية كلها إلى سبعة مبادئ..، فهو من هذا التقسيم يبدو مفكراً بلاغياً كبيراً، ومنظراً للكلام من الطراز الأول ، كما يقال...

فنظرية البلاغة تنهض لدى الرماني على إلغاء أساسين منفصلين ظلا شائعين بين جهابذة النقاد، لتثبت في نهاية الأمر على الجمع بينهما، إذ لا هي بتحقيق اللفظ وحده منفصلاً، على حساب المعنى، ولا هي بتحقيق المعنى وحده، قائماً في لفظ مسترذل، وماثلاً في نسج مستسمج، ولكن بإيصال المعنى إلى المتلقي في أحسن صورة ممكنة من نسج الألفاظ.وهذه هي النظرية البلاغية التي وقع الاتفاق عليها لدى نهاية الأمر...»)9(.

ويؤكد الناقد مرتاض على أن البلاغة العربية قامت أسسها بفضل القضية الإعجازية التي كانت سبباً في تأسيس العلماء لأسس البلاغة التي من بين عناصرها المجاز بأنواعه المختلفة، والاستعارة بأنواعها، بالإضافة إلى البديع الذي نُظر إليه منذ القرن الثاني للهجرة في الفكر البلاغي العربي، وكان أسبق الناس إلى التنظير البلاغي، انطلاقاً من القضية الإعجازية الرماني، الذي قسم أنواع البلاغة عشرة أقسام في رسالته الموسومة ب: (النكت في إعجاز القرآن).

الميراث البلاغي في المفاهيم السيمائية:

لقد كان الناقد عبد الملك مرتاض على وعي عميق بمسألة اختلاف المصطلحات، وتوحد المفاهيم، حيث توقف في الفصل الثالث من الكتاب مع هذه المسألة الدقيقة، فقدم جملة من النماذج عن مفاهيم كانت في أصلها بلاغية، ثم استحالت إلى أسلوبية، أو سيميائية، دون وقوع التفطن إلى ذلك من الباحثين، فكأنها نشأت كما آلت، وقد لاحظ أن عدداً غير قليل من المفاهيم كانت لدى الأقدمين بلاغية خالصة، ثم أمست سيميائية محضة، مثل نظرية(معنى المعنى)، التي أسسها عبد القاهر الجرجاني، وهي النظرية التي أمست مفهوماً تداولياً، يطلق عليه(المسكوت عنه)في تحليل الكلام.

لقد نبه المؤلف في هذا الفصل إلى الكثير من القضايا الدقيقة، فبعض المفاهيم مثل مفهوم (الأسلوبية) كان يطلق عليه البديع والمعاني في البلاغة العربية، وقد حاول الناقد مرتاض أن يقدم مجموعة من الرؤى النقدية، والفكرية عن مفهوم(التداولية) انطلاقاً من (معنى المعنى)، فمفهوم التداولية ليس بالمفهوم المتداول بين الناس على نحو من الوضوح الكبير، فما يزال هذا المفهوم تتنازعه مجموعة من المفاهيم الغامضة، وقد زعم شارل موريس أن(التعريفات الكلاسيكية للسمات تحتوي مرجعية ثابتة للمؤول والتأويل، وإن البلاغة الإغريقية، واللاتينية، وكل النظرية اللسانية للسفسطائيين يمكن الإقرار بأنها أشكال تداولية الخطاب).

والسؤال الذي يجب أن يطرحه التداولي في منظور جيمس، هو ذلك المتمحض لمعاني الكلمات، ومعاني الأشياء معاً، غير أن بيرس لا يرى ذلك، فالتداولية في نظره لا تقترح مذهباً ميتافيزيقياً، ولا أنها تحاول تحديد حقيقة الأشياء، بل ليست إلا منهجاً من أجل تقرير دلالة الألفاظ الغربية، والمفاهيم المجردة.

كما سعى المؤلف كذلك إلى إيضاح مفهوم الأسلوبية انطلاقاً من البديع، حيث تسلل البديع شيئاً فشيئاً، من حقل البلاغة فأمسى حقلاً من حقول اللسانيات العامة، إذ كانت الغاية من ذلك هي دراسة «الآثار المترتبة عن اصطناع محسنات كلامية في الأسلوب الذي يختاره أديب من الأدباء، بتصريف الكلام من شأن إلى شأن، ومن وجه إلى وجه، وتحليته بعناصر شكلية تنمقه، وتؤنقه، بتعويمه في تعبيرات تنهض على اللعب باللغة بكل أضرب اللعب بها...

وقد عرّف شارل بالي الأسلوبية على أنها دراسة مظاهر التعبير للغة منتظمة من حيث المضمون الوجداني، أي أنها تجسيد فعل الحساسية بوساطة اللغة، وأثر أفعال اللغة في الحساسية، فالأسلوبية هي اصطناع مجموعة من الفعاليات الأسلوبية للغة من اللغات لتجميل نسجها، وإمتاع المتلقي به كما يمتع الموسيقار أذن سامعيه بأنغام الموسيقى، وليس البديع- وفق منظور المؤلف- إلا ذلك ، أو شيئاً من ذلك»)10(.

الصورة البلاغية و بلاغة التلقي:

عالج الناقد الدكتور عبد الملك مرتاض في الفصلين الرابع والخامس، مسألة الصورة البلاغية، وبلاغة التلقي، حيث تساءل  في الفصل الرابع: هل الصورة البلاغية أم الشعرية؟

ويذهب في هذا الشأن لدى تحديده لمفهوم الصورة الأدبية إلى أنها سواء أكانت بلاغية، أم غير بلاغية في أصل نسجها اللفظي، فإنها أصبحت في معجم النقد الأدبي المعاصر ركناً فيه، ومظهراً من مظاهره، وهي المفهوم الذي يظهر في أدبية الأدب، وشعرية الشعر، وربما قد تمتد الشعرية في بعض النظريات الأدبية الحديثة إلى ما يسمى وفقاً للتصنيفات القديمة (النثر)، لأنه أدب تفرزه اللغة، ويغذيه الخيال، والصورة الأدبية- كما يرى المؤلف- ليست تشبيهاً، أو استعارة، أو كناية، أو مجازاً على وجه الضرورة، بل كثيراً ما تظهر في « انزياحات اللغة الشعرية المعاصرة، وهي تكاد تستغني عن أدوات البلاغة، وتتخذها في نسجها، والصورة هي ثمرة التصوير الفني بوساطة لغة شعرية لفكرة، أو عاطفة، أو رعشة، أو غضبة في لحظة تشبه الفلتة السانحة، فهي تظهر في النسج الأدبي الجميل، فتكون فيه بمثابة التاج الذي يتوج التعبير، فيمحضه للأدبية الرفيعة، ويجعله متميزاً في نسجه عن غيره من الكتابة النثرية»)11(.

ولعل أبرز ما ذهب إليه النقاد قياساً إلى الصورة في الشعر العربي القديم أنها حسية مادية، وقد انتهى الدكتور عبد الملك مرتاض إلى أن الصورة البلاغية لا تتم باصطناع الأدوات البلاغية التقليدية من استعارة، ومجاز، وكناية، وتشبيه، ولكن الصورة البلاغية التي هي في أول الأمر، وآخره، صورة فنية قد تتم لدى الأدباء الكبار خارج ذلك المجال، دون أن ينقص ذلك من قيمتها الفنية شيئاً.

عندما ناقش المؤلف مسألة «الوظيفة البلاغية بين الإرسال والتلقي»لاحظ أن جهود العلماء كثيراً ما تتوقف لدى بلاغة الإرسال، دون التوقف مع بلاغة التلقي التي هي ضرورية لفهم الرسالة المبثوثة، وتذوقها معاً، وإلا فإذا قصر الإدراك الجمالي عن تلقي تلك الرسالة، لم يشفع لها أن تتسم بالبلاغة.

البلاغة الجديدة:

الفصل الأخير من الكتاب وسمه الناقد الدكتور عبد الملك مرتاض ب«البلاغة الجديدة»، وقد تطرق فيه إلى جملة من القضايا الحديثة التي تتصل بالبلاغة، وأول مسألة توقف معها في هذا الفصل هي «عودة الازدهار لوظيفة البلاغة»، كما تساءل: هل من بلاغة جديدة حقاً؟

وقد بين في سياق مناقشته لهذا التساؤل بعض الرؤى التي ذهبت إلى أن وظيفة البلاغة قد ماتت ، وأنها في سبيلها إلى الزوال والتلاشي، بسبب أن الذوق الأدبي العام قد تغير لدى الناس، فلم يعد يجلبهم الكلام الجميل.

ويؤكد في هذا الشأن على أن البلاغة بالقياس إلى تدبيج الكلام، هي بمثابة النحو بالقياس إلى إقامة الإعراب، فكما لا يجوز للناس أن يستغنوا عن النحو أبداً، فإنهم لن يستطيعوا الاستغناء عن البلاغة في أي شكل من أشكالها، أبداً، وهو يرى أن البلاغة ليست شأناً موقوفاً على الفصحاء من المثقفين، والمتعلمين وحدهم، ولكنها تمتد إلى كل الاستعمالات في المحاورات اليومية، والآداب الشعبية، عبر كل اللغات الإنسانية، وعبر مختلف العصور.ومن جهة أخرى فالإنسان العربي بطبعه يهوى البلاغة، ويعشق الفصاحة.

كما توقف المؤلف مع بعض القضايا التي تتسم بالجدة، وقدم فيها رؤى معمقة، من بينها:

- هل من بلاغة جديدة حقاً؟

- البلاغة والساسة الخطباء

- البلاغة ...والعلماء والمثقفون

- البلاغة ورجال الدين

- البلاغة الجديدة والمحامون

- البلاغة والمناظرات السياسية في الغرب

وقد دعا الدكتور عبد الملك مرتاض في كتابه هذا إلى ضرورة التصدي لهذا الموضوع (نظرية البلاغة) من قبل الباحثين الشباب، من أجل تعميق قضاياه المتنوعة، فنظرية البلاغة ما تزال تحتاج إلى الكثير من الدراسات، والأبحاث.

 

الدكتور محمد سيف الإسلام بـوفلاقــة

كلية الآداب واللُّغات ، جامعة عـنّـابـة، الجزائر

...................

الهوامش:

(1) مجدي وهبة وكامل المهندس: معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب، مكتبة لبنان، بيروت، ط: 02،  1998م، ص: 79. وينظر: جبور عبد النور: المعجم الأدبي، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، ط: 02،  1984م، ص: 51.

(2) د.محمد التونجي: المعجم المفصل في الأدب، دار الكتب العلمية، ج: 01، ط: 01، 1993م، بيروت، لبنان، ص: 192.

(3)عبد القادر بقشى: البلاغة التطبيقية: التحليل البلاغي للنص الشعري في خطاب الشرح الأدبي، مجلة البلاغة والنقد الأدبي، مجلة فصلية محكمة، العدد الثاني، الرباط، المغرب الأقصى، خريف/شتاء2014- 2015م، ص: 25.

(4) د.أحمد أبو حاقة: البلاغة والتحليل الأدبي، منشورات دار العلم للملايين، ط: 01، بيروت، لبنان، 1988م، ص: 11.

(5) د.عبد الملك مرتاض: نظرية البلاغة، منشورات دار القدس العربي للنشر والتوزيع، ط: 02، 2011م، ص: 21.

(6) د.عبد الملك مرتاض: نظرية البلاغة، ص: 29.

(7) المرجع نفسه، ص: 52.

(8) سورة الإسراء، الآية: 88.

(9) د.عبد الملك مرتاض: نظرية البلاغة، ص: 99.

(10) المرجع نفسه، ص: 177.

(11) المرجع نفسه، ص: 183.

 

في المثقف اليوم