قراءات نقدية

مفيد خنسه: الشاعر العراقي يحيى السماوي في (هدهد البشرى) وَقضية الوجود

مفيد خنسةفي قصيدته (هدهد البشرى) يتناول الشاعر يحيى السماوي قضية الهبوط إلى العالم السفلي، وكيف كانت حياة الشاعر قبل الهبوط إلى هذا العالم، والشاعر لا يتساءل أين كانت الروح قبل ان تهبط إليه؟، وكيف كانت؟ ولماذا هبطت؟ ولعل ذلك يعود إلى أن الشاعر يعتبر أن السفلي والعلوي قضيتان معنويتان، وصفتان تتعلقان بالنفس البشرية، باختصار فإن القصيدة تفتح آفاقاً جديدة من المواضيع التي تتعلق بوجود الشاعر وكيف أن الوجود الفعلي لديه كان مع وجود الحب الكبير، وللبحث في تلك القضايا ومحاولة مناقشتها وتوضيحها أبدأ بدراستها وفق منهج النقد الاحتمالي:

الفرع الأول:

يقول الشاعر:

(قبل أن تهبط

من فردوسها الضوئي إينانا

إليْ

هبطت بي

نحو

قاع العالم السفلي "شاماتٌ " كثيرات

تقاطرن عليْ

كنت ميتا

غير أن الثوب

حيْ

جسدا كنت بلا روح

ودينا دون رب

وغصونا دون فيْ

موغلا في نزقي

أقطف ورداً

وأساقي العسل المرّ أخيذا

من يديّ)

يبين هذا الفرع حالة الشاعر قبل الهبوط، وعقدته (قبل أن تهبط من فردوسها الضوئي إينانا) وشعابه الرئيسة هي: (هبطت بي / نحو / قاع العالم السفلي "شاماتٌ " كثيرات / تقاطرن عليْ) و(موغلاً في نزقي / أقطف ورداً) و(وأساقي العسل المرّ أخيذا / من يديّ) أما شعابه الثانوية فهي: (كنت ميتا / غير أن الثوب / حيْ) و(جسداً كنت بلا روح / ودينا دون رب / وغصوناً دون فيْ) .

في المعنى:

الأسلوب في هذا الفرع خبري، وفيه يبين الحالة التي كان عليها قبل أن تهبط إليه ربة الجمال والحب إينانا، فقوله: (قبل أن تهبط / من فردوسها الضوئي إينانا / إليْ) أي قبل هبوطها من عالمها العلوي، وقوله: (هبطت بي / نحو / قاع العالم السفلي " شامات " كثيرات / تقاطرن علي) أي أهبطته إلى العالم السفلي، حيث كانت حياته أقرب إلى حياة العالم السفلي، وقد تهافتت عليه غانيات كثيرات ليخرجنه من ذلك العالم، إلى العالم الإنساني، كما فعلت الغانية شامات مع أنكيدو الذي كان يعيش في الغابة مع الحيوانات البرية والوحوش الضاريات، واستطاعت أن تخلصه من عالمه المتوحش وتعيده إلى عالمه الإنساني، وقوله: (كنت ميتاً / غير أن الثوب / حيْ) أي كانت النفس البشرية ميتة في هيكله الآدمي، وقوله: (جسداً كنت بلا روح) يعني كان يعيش بجسده من دون روح تمنحه الحياة الآدمية الإنسانية، وقوله: (وديناً دون رب) أي لا أصل له، وقوله: (وغصوناً دون فَيْ) أي يكاد أن يكون لا وجود له، أو ليس له أثر دال عليه، وقوله) موغلا في نزقي / أقطف ورداً)أي يكثر من قطاف الورد من غير هدف، وقوله: (وأساقي العسل المر أخيذاً من يدي) أي موثوق اليدين يساقي العسل المر .

الصورة والبيان:

نلاحظ أن الفرع يكاد يخلو من الصور البيانية، لأن الجمل الشعرية جاءت أقرب إلى الوصف الحسي المباشر ما خلا قوله: (غير أن الثوب / حي) فهي استعارة .

الفرع الثاني:

يقول الشاعر:

(لم أكن أعرف

إن كان أبي من آل قحطان

ومن ذبيان

أو تيم وطيْ

كل ما أعرفه

أني

شباب تائه ..

راسي ورائي ماشيا

يتبع مكفوف المرايا

قدميْ

جسدي كبل روحي

فأنا كنت عدوي

لم أك الأعمى

فإني

بيدي أغمضت طوعا

مقلتيْ

نزِقا

أحفظ عن ظهر كؤوسي

خمر لمياء ونسرين

ومي)

يبين هذا الفرع صورة الشباب التائه وعقدته (لم أكن أعرف)، وشعابه الرئيسة هي: (إن كان أبي من آل قحطان) و(ومن ذبيان / أو تيم وطيْ) و(نزقا / أحفظ عن ظهر كؤوسٍ / خمر لمياء ونسرين / ومي) أما شعابه الثانوية فهي: (كل ما أعرفه / أني / شباب تائه ..) و(راسي ورائي ماشيا / يتبع مكفوف المرايا / قدميْ) و(جسدي كبل روحي) و(فأنا كنت عدوي / لم أك الأعمى / فإني / بيدي أغمضت طوعا / مقلتيْ) .

في المعنى:

الأسلوب خبري في هذا الفرع كما هو واضح وفيه يبين صورة العاشق الذي لا يعرف من العشق إلا متعة الجسد، فقوله: (لم أكن أعرف / إن كان أبي من آل قحطان / ومن ذبيان / أو تيم وطيْ) أي لم يكن على معرفة أو دراية بالقبائل العربية وأنسابها العظيمة،وهو لم يكن يقيم اعتبار لقضية الأنساب والأصول العربية أصلاً، وقوله: (كل ما أعرفه / أني / شباب تائه ..) أي كان محكوماً بحياة الشاب الغافل عن الحقيقة، وقوله: (رأسي ورائي ماشياً / يتبع مكفوف المرايا / قدميْ) يعني يتصرف بلا مبالاة ومن دون تفكير، وقوله: (جسدي كبل روحي / فأنا كنت عدوي) أي كان عدو نفسه لأنه كان يتصرف وفقاً لرغباته الجسدية على حساب حاجاته الروحية، ويكون بذلك قد قيد روحه وأطلق العنان لنداءات الجسد وحسب، وقوله: (لم أك الأعمى / فإني / بيدي أغمضت طوعاً / مقلتيْ) أي أنه لم يكن أعمى بل تعامى وأغمض عينيه بإرادته، وقوله: (نزقاً / أحفظ عن ظهر كؤوسٍ / خمر لمياء ونسرين / وميْ) أي كان متنقلاً بين كؤوس الغانيات، ولمياء ونسرين ومي غيض من فيض . والمعنى الذي يريد أن يقدمه الشاعر من خلال هذا الفرع هو واقع حال الشاعر وحياته التي كانت بلا هدف ولا قيمة ولا معنى قبل هبوط إينانا إليه .

الصورة والبيان:

تخفت الصورة الشعرية ويضعف الخيال ويتسم الفرع بالوصف المباشر، ولكن لا يخلو من بعض الصور المتفرقة، فقوله: (رأسي ورائي ماشياً / يتبع مكفوف المرايا / قدمي) صورة ذات بعد ثنائي لأن التركيب يحتوي على استعارتين معاً، وقوله: (أحفظ عن ظهر كؤوس / خمر لمياء ونسرين / ومي) استعارة .

الفرع الثالث:

يقول الشاعر:

(وطني كان سريري ..

وفراتي الكأس ..

والحانة محرابي ونزلي ..

فإذا أنزل حيا

شدني نحو جديد الطيش

حيْ

جبت في الغربة آفاقا

وجربت

لذاذات كهوف الليل والصبح

فما عدت بشيْ

غير وهمي ..

وضياعي ..

ورماد الندم المفضي

إلى دمع وآهات

وكيْ

قبل ان يبعثك الله

إليْ

هدهد البشرى الذي أنبأني

من بعد غيْ

أنني

صرت رسول العشق

في وادي المنى ..

معجزتي

المشي على صدرك - لا البحر -

بخفي شفتيْ

وشفاء العاشق العطشان - لا الأبرص - باللثم

وآياتي

هوى يملك مني

أصغري)

يبين هذا الفرع صورة الشاعر المشرد في بلاد الغربة قبل أن تهبط إينانا إليه وعقدته (وطني كان سريري) وشعابه الرئيسة هي: (وفراتي الكأس ..) و(والحانة محرابي ونزلي ..) و(معجزتي / المشي على صدرك - لا البحر - / بخفي شفتيْ) و(وآياتي / هوى يملك مني / أصغري)، أما شعابه الثانوية فهي: (فإذا أنزل حيا / شدني نحو جديد الطيش / حيْ) و(جبت في الغربة آفاقا) و(وجربت / لذاذات كهوف الليل والصبح / فما عدت بشيْ) و(غير وهمي .. / وضياعي .. / ورماد الندم المفضي / إلى دمع وآهات / وكيْ) و(قبل أن يبعثك الله / إليْ / هدهد البشرى الذي أنبأني / من بعد غيْ) و(أنني / صرت رسول العشق / في وادي المنى ..).

في المعنى:

الأسلوب في هذا الفرع خبري، وفيه يتابع الشاعر وصف الحالة التي كان عليها قبل أن تهبط إليه إينانا ربة الجمال والحب من فردوسها الضوئي، فقوله: (وطني كان سريري ..) أي حيث كان ينام في سريره كان وطنه، وذلك يعني أنه لم يكن يعير أهمية لمعنى الانتماء إلى الوطن، كما يعني أن الشاعر كان غريباً في أسفاره وهجرته هنا وهناك، كما يعني أنه لم يقم في منزل سكني واحد إنما اعتاد على تبديل الأسرة حتى مع الغانيات وهو على تلك الحالة، وقوله: (وفراتي الكأس .. / والحانة محرابي ونزلي ..) أي كان يعيش حالة من الضياع والمجون، شرابه الخمر ومنزله ومحرابه الحانة، وقوله: (فإذا أنزل حياً / شدني نحو جديد الطيش / حيْ) أي كلما نزل في حي من الأحياء وقضى فيه شطراً من طقوس الملذات والمتعة وجد في نفسه رغبة تشده إلى حي جديد آخر ليجدد تجاربه ومغامراته في متع الحياة وملذاتها، وقوله: (جبت في الغربة آفاقا / وجرّبت / لذاذات كهوف الليل والصبح / فما عدت بشيْ) يعني أنه في بلاد الغربة تجول في أماكن كثيرة وأنه جرب أنواع الملذات كلها في الحانات والبارات والسهر في بيوت الهوى حتى الصباح فلم يجن شيئاً، وقوله: (غير وهمي .. / وضياعي .. / ورماد الندم المفضي / إلى دمع وآهات / وكيْ) أي لم يجن سوى الوهم والضياع والحسرة والندم الذي يجعله يبكي ويتحسر ويكوى بنار الخيبة والندم، وقوله: (قبل أن يبعثك الله / إليْ / هدهد البشرى الذي أنبأني / من بعد غيْ / أنني / صرت رسول العشق / في وادي المنى ..) أي كل ما مر به من حالات الطيش والضلالة والضياع كان قبل أن يبعث الله إينانا إليه، وقد أخبره هدهد البشرى بأنه أصبح رسول العشق في وادي الأمنيات والأحلام، وقوله: (معجزتي / المشي على صدرك - لا البحر - / بخفي شفتيْ) أي إذا كانت معجزة المبشرين المشي على الماء فإن معجزته المشي على صدرها بشفاهه بالقبل التي لا تنتهي، وقوله: (وشفاء العاشق العطشان - لا الأبرص - باللثم) أي كان شفاؤه مما كان فيه من الضياع والضلالة باللثم على صدرها وهو المصاب بداء العشق وليس بداء البرص، وقوله: (وآياتي / هوى يملك مني / أصغري) أي البراهين الساطعة التي لا تقبل الشك هوى ذلك الحب الذي امتلك من الشاعر قلبه ولسانه . ويمكن أن نختصر معنى القصيدة (هدهد البشرى) كما قدمها الشاعر بالقول: إن ما قضاه في الغربة من حياة الطيش والضلالة والضياع تمثل مرحلة العالم السفلي لديه، وهي المرحلة التي لم يحقق فيها وجوده الفعلي، وهي المرحلة التي سبقت البشرى التي حملها الهدهد إليه، ويعتبر الشاعر أن حياته قد بدأت فعلا مع دخوله فردوس إينانا الأرضي، ليشير إلى أن قضية الوجود مرتبطة بالحب، ولا معنى لوجود الإنسان على الأرض من غير الحب، وهذه نزعة إنسانية نبيلة لدى الشاعر، الحب بكل أشكاله وألوانه وأنواعه، الحب يمثل حقيقة الوجود كما تشير معاني القصيدة ودلالاتها .

 

 مفيد خنسه- سورية

               

في المثقف اليوم