قراءات نقدية

الحسين بوخرطة: تأملات في النص الأدبي "وداعا يا أمي!" لعلي القاسمي

الحسين بوخرطةكلما قرأت نصا أدبيا لعلي القاسمي، أغوص بمخيلتي في نسق أحداث ممتعة. أتخبل اللحظة التي يأخذ فيها القلم بين أنامله، ولحظات تأملاته التي تتخلل مسار تحريره لعباراته الوازنة من أول كلمة إلى آخرها. بأسلوبه الجميل كالعادة، عشت معه أكثر من ساعتين هذا اليوم (الأربعاء 9 مارس 2022) منغمسا في متعة قراءة نصه الأدبي "وداعا يا أمي!" (وهو جزء من روايته "مرافئ الحب السبعة"). سافر بي في الزمان والمكان. مشيت على أرض العراق منتعشا بجمالها وحضارة بلاد الرافدين، وتذكرت معه أمجاد بابل والسومريين. فرحت واغتبطت وحزنت في نفس الوقت عندما بكت الأم عن شعب فلسطين وناس أكادير.

غربة وموت وكتابة وحزن بروح أمة عربية من المحيط إلى الخليج. هذه اللوحة الفنية جعلتني أرفع أكف الضراعة للعلي القدير متوسلا أن يطيل الله في عمر الكاتب علي القاسمي لما أسداه ويبذله من جهد متواصل لنصرة قضايا العروبة والإسلام بطبيعته الربانية. غرقت في لحظات ابتهاج وأنا أقرأ أن روح الأمهات العربيات الحنونات وطهارة وجودهن لم تفارقا أذهان ووجدان أبنائهن. إنه نموذج الأمة العراقية، بتاريخها الممتد إلى عصري البابليين والسومريين، الذي استحضره السارد بسلاسة وجاذبية في قصته الرائعة، حضور كرسته أحداث أيام حياة الأم المجيدة، وآفة فراقها الحزين، ويوميات ابنها سليم في الغربة. بكت الأم العراقية على أهل أكادير وفلسطين وعلى شعوب كل الأقطار العربية كلما أصابهم سوء أو اعتداء طبيعي أو خارجي. إنها لوحة تشكيلية عبرت عن لحظة تاريخية كانت النفس الفردية ملتحمة بالروح الجماعية ببعديها الوطني والجهوي.

ذكريات الروابط العائلية القوية ومقومات الحضارة العربية المتضامنة كانتا دائما زادا يغذي عقول ونفوس الأجيال في الأراضي العالية المقدسة. الطموح الدائم لتقوية الروح الجماعية للأمة كان يزخر ببواعث تخليد تاريخ وجود الأموات أرضا في حياة الأحياء، وبالتالي ترسيخ نسق معرفي لتوارث القيم الجامعة، وامتداد التأثير الإيجابي للإنتاج الفكري والثقافي والعلمي للنخب عبر العصور.

تعبيرا عن مآسي الفقدان والاغتراب كانت كلمات بدر شاكر السياب في القصة مدوية. فعندما تذكّر أمّه وهو غريبٌ وحيدٌ كسيحٌ طريحٌ في مستشفىً بِلندن قال:

البابُ ما قرعتُه غيرُ الريح في اللَّيلِ العميقْ،

البابُ ما قرعتْه كفُّكِ.

أين كفُّكِ والطريقْ

ناءٍ؟ بحارٌ بيننا، مُدُنٌ، صحارى من ظَلامْ

الريحُ تحمل لي صدى القُبُلاتِ منها كالحريقْ

من نخلةٍ يعدو إلى أُخرى ويزهو في الغمامْ.

القصة بحبكتها المتراصة وبعواطفها الجياشة فرضت تغريد سؤال "ما العمل؟" فوق فضاء وجودي كلما استسلمت لفترات تأمل وسهاد. إن روح شعب القطر الواحد تحتاج إلى وهج أمة بكاملها. الوعي بأمجاد تاريخ العالم العربي الإسلامي العقلاني والسعي إلى إحيائه وتطويره يعتبران من المحددات الأساسية للمصير والوجود المشترك. ذكر السارد الإعلام بوظائفه الإخبارية والتربوية والترفيهية، وجعلني أُقابل هذا المقوم الثمين في الماضي القريب مع أدواره الحالية التي أصبحت ترادف الإعلان التجاري والبيع والمراقبة، والمردودية والمنتوج والورشة. إنها حالة تيه وخواء روحي تكبس على أنفاس الشعوب العربية باستعاراتها ومجازاتها.

القصة دفعتني كذلك إلى العودة إلى الماضي القريب. برزت خلال القرن العشرين الماركسية وكرست منطقا جديدا في قيادة العالم ثقافيا وفكريا وسياسيا واقتصاديا؟ لكن سرعان ما أصبحنا نعيش ماركسية مقلوبة. شاع الحديث عن اقتصاد العولمة وعولمة الاقتصاد، وطغت الفردانية والأمراض النفسية. برز التنين الصيني، وتجرأ الدب الروسي على غزو أوكرانيا ...... وما أحوج اليوم سكان العالم إلى دفئ إنساني طافح، وعقل عالمي لا يكل ولا يمل من أجل اكتشاف أسرار الكون وتسخيره لإسعاد الناس خلال حياتهم الدنيوية .....

 

الحسين بوخرطة

......................

للاطلاع:

علي القاسمي: وداعاً، يا أُمّي!

 

 

في المثقف اليوم