قراءات نقدية

عبد النبي بزاز: بعض أشكال السرد وصِيَغه في رواية "سِفر الأحزان"

3400 هشام بن الشاويتتعدد أنساق  الحكي وسياقاته في رواية " سِفر الأحزان " للأديب المغربي هشام بن الشاوي عبر تنويع سردي يغوص في  دركات حياة تطوقها ألوان الفاقة والضنك، حيث تتعايش شرائح بشرية توحدها هموم الزراية فتتقاسم فصول عيش تخترمه شروخ العوز والحاجة، وتَصْدَع بما تمور به  دواخلها من  تفاصيل  يجللها الشجن والأسى . وقد برع الكاتب في التقاط وتصوير مشهديات واقع يعاني من التهميش والعزلة ممتشقا أدوات إبداعية تتغيا، بجرأة وجسارة، الخوض في غمار حياة تكتنفها العتمة مستجليا خفاياها، مضيئا خبايا قيعانها وأغوارها عبر زخم إبداعي تتنوع أنماط حكيه، وتتعدد سياقاته.

أمام غنى المتن السردي للرواية في أشكاله التعبيرية والتصويرية سنحاول مقاربة بعض الجوانب التي تبرز فيها موضوعات كالوصف والحكي .

ــ عنصر الوصف: ويروم تصوير حالات إنسانية يعكس مظهرها البئيس حجم معاناتها ومكابدتها: " كانت المرأة الأربعينية تخفي وجهها بخرقة سوداء تلفها حول رأسها ... أثار انتباهه أن صندلها البلاستيكي الأزرق وعباءتها السوداء المتسخة سبق أن رآهما من قبل..." ص 17، ليستمر في رصد وتتبع صور تنم عن أوضاع تطفح ترديا و بؤسا: "كانت تجمع كسر الخبز الجاف في البلدة القريبة، وتبيعه لأصحاب المواشي والدواجن لتتدبر أمور معيشتها، حتى لا تمد يدها لأحد. " ص 15، فيتم الكشف عن ظروف تنعدم فيها أبسط مستويات العيش في اختراقه للفئات الدنيا واصفا ما تتمرغ فيه من فقر مدقع، وخصاص رهيب: "أسند دراجته الهوائية المتهالكة الصدئة، على حاوية أزبال المطعم، ودس رأسه وسط خيراتها ... " ص 139،ورغم صعوبة متطلبات العيش، وما تستوجبه من إمكانيات لتوفير الحد الأدنى منها فهناك شخصيات تذود عن كرامتها، وتحصن عزة نفسها  رافضة التنازل عن ثوابتها الأخلاقية أمام ما تتعرض له من مساومة وإغراء يوفر لها ضروريات معيش يومي كما هو حال الأرملة كريمة التي زج بها في دوامة من مضايقات تفتقر لأدنى شروط اللياقة والأخلاق داخل محيط يعج بالأعطاب والهنات القيمية والإنسانية: " كل الرجال يضايقوني ... ويستغلون أي زحام في الحافلات أو السوق، ليمارسوا أشياء مشينة ." ص 102، ومساومات ذات حس ابتزازي فظيع لدى فئة لا تراعي أي حرمة أو سياق بالكشف عن رغباتها المعطوبة في موقف حصل لها مع الأستاذ الأعزب الذي قبلت الاشتغال، كخادمة، في بيته ففاجأها بسلوك غريزي مشين: " وهو يطوق خصري بيديه، وبرعشة كهربائية تسري في عروقي: سيدي، ولو كنت أريد أن أفعل هذا ما طرقت باب غريب . كرامتي كامرأة لا تسمح لي، والانتحار أهون علي من ...!!" ص 103، موقف تكرر مع الحاج عبد السلام مدير المعمل الذي توسطت لها صديقتها السعدية للاشتغال به: " وحضنني ... ودون أن أدري بصقت في وجهه... " ص 103.

ــ عنصر الحكي: حيث تتساوق حكايات الراوي، بأشكالها المختلفة والمتنوعة، بحكايات مرجعية فتمنح سيرورة الرواية زخما موسوما بأبعاد استشرافية، وآفاق جمالية ودلالية . فإلى جانب حكايات  من قبيل (اللص والأعمى)، وما تحفل به من إثارة يختزلها المحكي في سياقات متعددة، ومسارات متشعبة ، وحكاية (مسعود وشقيقه أحمد)، (والروبيو وزوجته) التي تمتح من روافد الواقع، وما يحبل به من وقائع  لا تخلو من مفارقات ومستجدات وطرائف ... بحكايات تمتح من مرجعيات تاريخية عقدية كحكاية رابعة العدوية وحسن البصري، وتراثية محلية كحكاية (دواير الزمان)، ودينية كحكاية  (ابن عرس والبئر) المنقولة عن كتاب التلمود.. كتاب اليهود المقدس. حكي بسياقات مختلفة ومتنوعة، ومرجعيات تاريخية وتراثية بطابع عقدي أحيانا،  تندرج في نسق سردي بتفاصيل وجزئيات مطبوعة بعمق دلالي، وبعد جمالي يضفي على المتن الروائي  نوعية تبوؤه مكانة ترقى به إلى مصاف الأعمال الإبداعية المميزة ضمن جنس أدبي (رواية) منفتح على ألوان فنية تكسبه شمولية ورحابة وهو ما تحقق، بشكل كبير، في رواية " سِفر الأحزان" بوفرة شخوصها (أكثر من 30  شخصية)، وتعدد أمكنتها من حانة،وضريح ومدينة،وقرية ...في وقائع حافلة ب" تيمات " مثل الموت: " امتقع لون الرجل، وهو يرى جثة الروبيو متفحمة... " ص   110،الذي اختطف الروبيو كشخصية وازنة في ثنايا الرواية، نفس المصير لقيه " بركني" الذي انخرط هو الآخر  في صلب عملية الحكي بمختلف امتدادتها وتجلياتها: " لم يخبرها بأن بركني مات هذا الصباح ... " ص 142، وموضوع الحظ في استلهام تراثي بنزعات أسطورية لا تخلو من نفحات قصص ألف ليلة وليلة: " وذات يوم، وهو يحرث، وجد جرة صغيرة،مليئة بالمجوهرات، ترك كل شيء وهرب إلى المدينة، وعاد إلى القرية بعد عام، واشترى كل أملاك العزيزي ... " ص 118، إلى موضوع تزوير للحقائق  في خرق سافر للأصول الأخلاقية والإنسانية: " وبجرة قلم وجد الرجل نفسه صارفي عداد الموتى في الأوراق الرسمية، وتم التشطيب على اسمه من سجلات الحالة المدنية ... " ص 20 بطرق ملتوية موسومة بالتحايل والتدليس تتكرر في عدة مواقف وحالات: " الذي جعلني أتنازل عن نصيبي في الميراث ... استولى عليها قانونيا، بعدما أوهمني بأنني أوقع على توكيل لاسترداد أرضي، التي كانت تستولي عليها الدولة... " ص 25 .

في خضم زخم ما تتضمنه الرواية من أحداث ووقائع تم توظيف محطات تاريخية خلفت بصمات ساطعة في اقترانها بأحداث حفرت مجراها في خارطة سجل المحيط الخارجي القريب: " أضرم النار في جسده، في الوقت نفسه الذي فعلها ذلك التونسي وكان شبان القرية يسخرون منه في المقهى، عندما يرون آثار الحروق في ساعده، وهم يقولون: تريد أن تصير البوعزيزي . " ص20، أو المحيط الداخلي وما ارتبط به من نزعات جحود وتنكر لمن أبلوا البلاء الحسن في حماية الوطن والذب عن سيادته من جنود لفظوا من الخدمة العسكرية بعاهات وأعطاب جسدية لمواجهة حياة البؤس الذريع، والفاقة المريرة: " كان يحارب في الجنوب، في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، طلبت منه زبيدة الطلاق، بعد أن طردوا من مساكن العسكر في البلدة الجنوبية إثر إعفائه من الخدمة العسكرية، ووجد نفسه مجبرا على البحث عن مسكن بديل، غب عودته بساق واحدة، بعد أن دفن الأخرى في رمال الصحراء، ولا يملك من حطام الدنيا سوى وسام نحاسي لا يساوي أي شيء فاحترف التوسل ببذلته العسكرية القذرة على رصيف الجماعة القروية... " ص19،وتختلف شخوص الرواية على مستوى درجة الوعي والتكوين بين عصامية ذاتية كأيمن: " فقد رفض رئيس التحرير سفره مع صديقه أكرم إلى الجنوب، لأنه ليس صحافيا، فهو مجرد بَنّاء يكتب القصص، مثل هشام بن الشاوي ... طلب منه رئيس التحرير نماذج من بعض كتاباته فوافق على تعيين أيمن ككاتب متعاون بالقطعة، وهو الذي لم يحصل على الشهادة الثانوية... " ص  144، ورغم اختلافه عن صديقه الفعلي الصحافي أكرم  في جمعه بين مَلَكة الكتابة والعمل اليدوي كبَنّاء مساعد في ورشة بِناء، والتقائه مع صديقه الافتراضي هشام بن الشاوي في ميزة الكتابة بحمولاتها الاستثنائية وما تفرزه من انزياحات واستيهامات تنشد الاستشراف والاكتشاف في أقصى أبعاده وأنآها: " أيقن أيمن أنه ينتمي إلى سلالة الهراء، ويكتب لأن علاقته  بالحياة ليست على ما يرام . " ص144، وشخصيات مثل الروبيو، وعوبا، وبركني ... الذين عركتهم حياة البؤس والضنك فخاضوا غمار فصولها المحفوفة بمخاطر وإكراهات  فجابهوا أنواءها العاصفة، وركبوا أمواجها العاتية بعزم وإصرار وثبات .

لتبقى رواية " سِفر الأحزان " عصية على الإحاطة  بمكوناتها الجمالية، وأشكالها السردية التي أغنت متنها الروائي بحكايات تمتح من مرجعيات تاريخية وتراثية لا تخلو من نزعة غيبية من قبيل توظيف كائنات كالجن، في وقائع كان الضريح مسرحا لها بصياغات زجلية (أغنية كاس المر ما يخفاش للمطرب ولد الحوات.) ص 70، وتعابير مجازية: " أذوب في سكون الشارع الخالي ..." ص 10، لا تخلو من نفحة رومانسية: " النجوم تسبح في الفضاء السحيق تحرس القمر الشاحب، وقد توارى خلف السحب ... " ص30.

وقد اكتفينا، بشكل مقتضب ومبتسر، بمقاربة بعض جوانب رواية " سِفر الأحزان " للكاتب المغربي هشام بن الشاوي والتي تعتبر منجزا غنيا بعناصره السردية، ومقوماته الدلالية مما يستدعي حيزا أوسع للإلمام بأهم مكوناته الإبداعية وما تزخر به من تجديد و ابتكار.

 

عبد النبي  بزاز

..................................

الكتاب : سفر الأحزان (رواية) .

ــ الكاتب: هشام بن الشاوي .

ــ مطبعة: دار إي ـ كتب / لندن 2020.

 

في المثقف اليوم