قراءات نقدية

علاء كاظم الموسوي: قصدية صناعة التخلف في المناطق الجنوبية

بداية ما هو التخلف؟

وهل التخلف صناعة؟

كيف ينشأ التخلف في المجتمعات؟

ما دور الحكومة في انهاء التخلف؟

هل العالم كان متخلفاً؟ ومتى تحضر وتطور؟

تلك الاسئلة وغيرها سنجيب عنها في هذا المقال

التخلف لغة هو التأخر تخلف اي صار متأخرا بعض الشيء عن المتقدم

تَخَلَّفَ

تخلَّفَ، تخلُّفًا، فهو مُتخلِّف، والمفعول مُتخَّلف عنه

تَخَلَّفَ عَنِ القَافِلَةِ: بَقِيَ وَرَاءَهَا، خَلْفَهَا

تَخَلَّفَ عَنْ حُضُورِ الَحَفْلَةِ: لَمْ يَحْضُرْهَا

تَخَلَّفَ الطِّفْلُ: بَطُؤَ نُمُوُّ عَقْلِهِ

تخلَّف الطَّالبُ / تخلَّف الطَّالبُ عن الدِّراسة / تخلَّف الطَّالبُ في الدِّراسة: رسَب في الامتحان متخلِّف عن الدراسة

تخلَّف الشَّعْبُ: تأخّر، تجاوزته الأمم في مضمار الحضارة تعاني معظم الدُّول النَّامية من الفقر والتخلُّف،

تخلَّف عن القوم / تخلَّف عن العمل: قعد ولم يذهب، تأخَّر عنه، تقاعس تخلَّف عن المجيء / المحاضرة / المعركة / عصره / دفع الإيجار،

تخلَّفَ القومَ: جازَهم وتركهم خَلْفَه

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن هذا المفهوم اللغوي فالتخلف هو التأخر بالحضارة والعلم ولهذا اسباب كثيرة.

هل كان المجتمع الجنوبي متخلفًا فيما سبق؟

فيما سبق كان اهل الجنوب اصحاب حضارة معروفة ولها جذور ولها آثار، منها الاثار الموجودة على الارض ومنها ما في بواطنها نعثر عليها في التنقيب والحفريات من ألواح وكتابات ونقوش تدل على وجود حضارة في جنوبنا العراقي، ومنها تحت مياه الاهوار

إن الحضارات يجب أن تستمر كي تحافظ على اصالتها ووجودها، لكن ما حصل للحضارات المتعاقبة في العراق لم يكتب لها أن تستمر وذلك بسبب الصراعات الدائمة والكبيرة ويذكر التاريخ حروبا كبيرة شهدها العراق القديم ادت الى اندثار الحضارات واقامة حضارات اخرى وهذه الحروب ألقت بضلالها على المجتمع وتغيرت احواله وثقافته.

وحتى الحضارة الاسلامية جاءت عن طريق الغزوات والحروب وتركت اثارها على المجتمع العراقي وغيرت الكثير من عاداته وسلوكياته.

ولو جئنا للتاريخ الحديث ما بعد سقوط الدولة العثمانية وسياسة التجهيل التي مارسها الاتراك وتغيير اللغة العربية وانتشار الجهل، وجاء بعده الاحتلال البريطاني الذي اسقط الدولة العثمانية، في العالم العربي والعراق بخاصة مناطق الجنوب العراقي فقد ترك الاحتلال البريطاني اثارا واضحة في تأسيس الاقطاعيات والسيطرة على بعض الاشخاص وتنصيبهم كأمراء وشيوخ قبائل وجعل الانسان عبارة عن فلاح يعمل في ارض الشيخ الاقطاعي

وحتى مجيء الملكية لم يتغير الامر كثيرا بل كان الاهتمام منصبا على المدن الرئيسة كبغداد والموصل والبصرة حتى عهد فيصل الثاني فقد شهد العراق حركة اعمار وبناء مدارس وجسور ومستشفيات اسهمت بتقدم المجتمع وتحضره.

إن سيطرة العسكر على الحكم بعد الانقلاب على الحكم الملكي وقتل الملك الشاب وعائلته تركت تلك الحادثة اثارا واضحة على المجتمع برمته، بعد تولي الزعيم عبد الكريم قاسم حدثت هناك حملة اعمار كبرى ومحو للامية لكن قابلها اهمال متعمد لمناطق الجنوب وتعمد في تركهم.

بعد انقلاب البعثيين على الحكم القاسمي استلموا الحكم وعملوا على تطوير العراق صناعيا وتعليميا في السبعينيات من القرن العشرين، إلا أن تلك الحملات كانت غير منصفة للمجتمع الجنوبي قابلها اهتمام واضح في المدن الغربية والرئيسة ومنها مسقط رأس رئيس النظام، وهنا تميز الحكم البعثي بطائفيته على رغم من ادعائه القومية العربية والوحدة والحرية والاشتراكية.

وصل العراق في مدنه الرئيسة لأن يحلم اهل الخليج ليصلوا للتطور الذي وصله العراق آنذاك لكن سياسة الحرب قلبت الموازين وكان اهل الجنوب في مقدمة الجيش وادت حرب ثماني اعوام الى حصد ارواح مئات الالاف من افراد المجتمع وادت الحرب لتخلفه وانشغاله بالحروب والاحداث السياسية، ورافق ذلك تشكيل احزاب معارضة لنظام البعث مما جعل مناطق الجنوب مناطق التصفيات السياسية، فانتشرت حملات الاعتقال والاعدامات وشيوع المخبر السري، وجير النظام البعثي اقلام المثقفين لتمجيده وحظر الكتب والمقالات التوعوية والثقافية، وادت سياسة الاقصاء والتهميش لمناطق الجنوب الى تراجع متعمد من الحكومة لجعل المجتمع متخلفا كي يسهل على الحكومة السيطرة عليه.

وتركت الحرب اثارا واضحة على المجتمع العراقي نتيجة كثرة المعاقين والارامل والايتام وعدم الرعاية وعدم الاهتمام بالبنى التحتية للمناطق، لان النظام يرى ان تلك المناطق هي مناطق النفوذ لأعدائه.

وما ان انتهت الحرب حتى دخلنا في حرب جديدة كانت نهاية التحضر في العراق حيث عانى الشعب من الحصار وانحدار مستوى التعليم وتفشي الامراض والبطالة والجوع والحرمان وسياسة السجون والاقصاء والتعذيب . اسهمت في تخلف المجتمع، انتفض اهالي الجنوب والمعارضين ضد نظام الحكم وسرعان ما انتشرت تلك الانتفاضة لتعم غالبة محافظات الوسط والجنوب  وكانت على وشك اسقاط نظام الحكم، لكنها جوبهت وبدعم دولي لاجهاضها وقتل الالاف من خيرة ابناء الجنوب ودفن بعضهم احياء في مقابر جماعية واخرون في احواض التيزاب.

مارس النظام البعثي سياسة الطائفية فجعل من المدن الغربية محميات ومدن الجنوب مقابر جماعية لاهلها، وجفف الاهوار، وجرف البساتين، واحرقت الدور والاراضي الزراعية التي يشك انها مأوى للمعارضة، ودخل العراق مرحلة الانتماء القسري لحزب البعث، ومن يرفض يحرم من الثقافة والتعلم وهذا ما عكف عليه غالبية ابناء الجنوب الذين ظلوا مشردين ولم ينالوا حقهم من التعليم ولم تكن هناك جامعات وكان اغلب من يصل إلى الإعدادية يذهب الى الجيش لعدم مقدرته على تحمل مصاريف الجامعة في المحافظات البعيدة اضافة لعدم قبوله في الكليات الرصينة الا اذا كان منتميا ومزكى من حزب البعث.

وكانت هناك سياسة واضحة تجاه التجهيل وحرية التعبير فكان المعلم يستلم ابخس الرواتب حتى اشتغل بائعا متجولا واخرون يستجدون من الطلاب، وادى ذلك لجعل مهنة التعليم المقدسة تفقد قدسيتها ورصانتها، والخريج يعامل معاملة الامي، بل ان كان الامي منتميا لحزب البعث سيكون مسؤولا على شخص يحمل شهادة عليا غير منتمٍ لهذا الحزب.

ولم يكتف النظام بذلك بل استنزف الشباب في الجيوش الوهمية كجيش القدس والفدائيين والاشبال وغيرها من الممارسات وعسكرة المجتمع كل ذلك ادى الى تخلف مناطق الجنوب عن غيرها.

وبعد انقضاء عهد الحكم البعثي جاء العهد الذي يسمى بالديمقراطي بعد عام 2003 وكان الاكثر فسادا والاكثر ظلما فلم تر مدن الجنوب الاهتمام على الرغم من وجود الشركات النفطية الاجنبية، وعلى الرغم من وجود الارضية الصالحة للاستثمار، لكن لم يتطور حال الجنوب كثيرا فما زالت الدماء تسيل على ارضهم والمجتمع يرزح تحت خط الفقر، وقد واستغل اهل الجنوب ابشع استغلال خاصة بالانتخابات واستغلال العشائر وتمكين بعض الشيوخ وجعلهم متنفذين من المنافذ الحدودية وانتشار القتل والجريمة والمخدرات والطائفية والحروب الداخلية، وعدم وجود قوانين تحمي الفئات التي تصنع الثقافة من مثل المعلم والاستاذ الجامعي وحتى رجل الامن فضلا عن رجل القضاء حتى اصبح الطبيب مهددا واصبح العالم مشردا والمثقف عموما قيد بقيود كثيرة كالعشيرة والمجتمع والتقاليد والاعراف والتهديد والوعيد والتصفيات والتهم الكيدية.

لكن بعد كل هذا نجد ان كل تلك الارهاصات افرزت كتابا وشعراء وفنانين وسياسيين استطاعوا التحليق وقلب الصورة عن المجتمع الجنوبي واستطاعوا من نبذ الطائفية

وحتى بعد غزو العراق من الارهاب الداعشي نجد ان من تصدى هم ابناء الجنوب وقدموا الشهداء والجرحى ومع هذا لم تكافئهم الحكومة ولم تول الاهتمام بمدنهم

اذن بعد كل هذه الاحداث من المسؤول عن تأخر اهل الجنوب عن غيرهم؟ أليست السياسات التي تتحكم بهذا البلد؟، ونحن نعلم ان الحكومة لو اهتمت لهؤلاء وانصفتهم لصاروا ندا لسياستهم لانهم يعلمون شجاعة اهل الجنوب فاذا تحلت الشجاعة بالثقافة ستقلب انظمة الحكم وتغير الواقع المرير .

اذن ان التخلف هو صناعة مقصودة الهدف منها السيطرة على المجتمع الثائر وتفريقهم وجعلهم مجتمعاً يأكل فيهم القوي الضعيف.

فعلى الحكومة ان تفكر بعقلية مدنية كما فكر العالم في ثقافة الانسان وانتشار العلم، وكما يقال ان بناء مدرسة في قرية هو بناء للثقافة فبناء المدارس وتوسيع التخصصات الجامعية وفرض القانون بالقوة وتطبيقه على اصحاب النفوذ سيسهم في تطور وبناء الانسان المتحضر دونما تفريق في انسان الجنوب والشمال والغرب بل الجميع متساوون بالحقوق والواجبات كما نص على ذلك الدستور العراقي.

ان الفرد الجنوبي يتمتع بصفات قد لا تتوفر في غيره من الافراد في جميع انحاء العالم، فهو ذكي سخي معطاء شجاع ودود وان البيئة الجميلة تعطيه عذوبة ونجد ان غالبية الشعراء من الجنوب يتمتعون بخيال خصب وصورا جميلة فضلا عن ان الكثير من العلماء برزوا من اهل الجنوب، فالجنوب ليس متخلفا وانما وضع تحت طائلة التخلف لأسباب سياسية.

 

م. علاء كاظم ربع الموسوي

 

 

في المثقف اليوم