قراءات نقدية

حيدر عبد الرضا: وقفة سريعة مع رواية (مقتل بائع الكتب) للكاتب سعد محمد رحيم

حيدر عبدالرضاالإسهاب في التخييل الأيقوني وصوغ الأسباب والخيارات المنقطعة
توطئة:
أن القارىء إلى مجملات مداليل ودلالات شواغل النص في رواية(مقتل بائع الكتب) للروائي الراحل سعد محمد رحيم، يواجهنا ذلك الانطباع اللامكتمل في مهام تتمة وحبك عناصر وعوامل البناء الروائي.أي بمعنى ما أن خاصية التنظيم وتراتيبية البناء التركيبي في مسار الأحداث، قد لا تمنحنا تلك الجرعة الذروية الكاملة والشافية من أحساسنا القرائي بأن حساسية وشعرية السبك الإبعادي والتكويني في أسلوب النمو السردي لم يكن على الشكل الذي ينم عن صناعة روائية جادة.لذا وجدنا أغلب تمظهرات المشاهد وحركية الشخوص وكأنها خاضعة إلى تفاصيل قسرية من الشد والاحتدام المفتعلان في بعض الأحيان.صحيح من جهة ما أن موضوعة الرواية كانت شائكة في مطباتها الإمكانية والدلالية والتكوينية، وذلك ما جعل دليل الإمساك بحادثة مقتل الشخصية محمود المرزوق تتطلب غوصا تبئيريا خاصا، ولكن الأمر بدا لا تعلق حتى ولحظة الكشف المضموني عن ماهية ذلك البديل الخطأ في مسألة المقصود من القتل نفسه..أنا لا أقصد هنا حول الكيفية الإجرائية في أواصر موضوعة الرواية التي انتهت بهذه الصورة المفارقة، بقدر ما أقصد كيفية العمل الروائي وتقديم محتواه الإقناعي في سياقه المتني والبنائي والدلالي.الروائي محمد رحيم حاول في حكاية نصه موضع بحتنا، لملمة أطراف وأغراض الوسائل المتاحة في موجهات الثيمة العنوانية الأيقونية في نصه، مع واقع وحقيقة ظاهرية التكلف والإجهاد في متممات حبكته الروائية.
ـ إلتقاط المصادر والمعلومات الفوقية بعيدا عن شاغلية التفعيل النصي.
أن صناعة النص الروائي تختلف إلى حد كبير من تلك الحاجة إلى صناعة موضوعة النص القصصي القصير، وقد تختلف أدوات البناء من ناحية الزمان والمكان والشخوص والأوضاع ومساحة السرد وصولا إلى إمكانية الصورة الذهنية الكامنة في واصلة مكملات النص الروائي في شكله الكلي.نحن هنا لا نود شخصيا الإطالة في عرض مقدمات قراءتنا للرواية، ولكننا أردنا التنويه بأن حكاية الرواية جاءت في مسار من لم يحكم شروط توفير أسباب حبكة نصه بطريقة مسوغة فحسب؟
1ـ مكونات السرد والمعطى الخارجي من تكاثرات خوارج النص:
أن الأساس التشويقي في حيز وقائع حكاية الشخصية الصحافية ماجد ساردا مشاركا، ذات محققات غير متوقعة في مسار السرد، وذلك عندما يقوم بتقديم ذاته كشخصية وسارد في النص، وهذا الأمر ما يدعم دوره في المقدار الموقفي المتعلق في الشأن السردي: (قبل أسبوع، عند ليلة عاصفة وممطرة تلقيت مكالمة غريبة، من وهن نبرته وبحتها خمنت أن من يخاطبني رجل تعدى السبعين من عمره، قال أنه يتابع كتاباتي في صحيفة ـ الضد ـ وأشاد بالأعمدة والتحقيقات التي أكتبها . / ص6 الرواية)تتوضح لنا جليا بأن الشخصية المتمثلة بمحور السارد، تكشف لنا عن جانب من سيرتها قبل إتمام تراتبية وتحيينية مراسم الواقعة السردية في مفترض التوظيف النصي، وعلى هذا تصبح انطباعاتنا لصيقة بوصف أحوال الصحافي بدءا من كتاباته، ثم لتأتي لاحقا عملية الإظهار في واصلات النسيج الأخباري من المكالمة، وهذا الأمر ليس بدوره نقضا للحدث وطبيعة دلالته في السياق الروائي، وإنما قد جاء كيافطة قد تبدو في حدوثها ما ليس في أوانها من إحصائية صفات ومحاسن الصحافي، وأن كانت سردا تعريفيا وتشخيصيا للشخصية فحسب: (شكرته وأنتظرت أن ينهي المكالمة غير أنه راح يتحدث عن محمود المرزوق بائع الكتب الهرم الذي أغتيل قبل شهر في شارع الأطباء في بعقوبة.. المرزوق لم يكن شخصية مشهورة خارج مدينته، إلا أن عدة قنوات فضائية عراقية نقلت خبر مقتله. / ص6 الرواية) طبعا أن هذه المكالمة لم تأت من أجل إجمال وصف خصائص الشخصية الصحفية في الرواية، وأنما جاءت في مقاصد خارج التوقع تماما فذلك الرجل الغريب أخبر الشخصية بأنه لم يكن على وئام مع محمود المرزوق طوال عشرين عاما، مع ذلك طلب منه أن يكتب عن حياة مرزوق الفنية والثقافية والسيرية كتابا يخلد ذكره، وهذا الأمر ما تم مقابل أجور مالية للصحفي ماجد عن طريق التحويل المصرفي إلى رصيد الشخصية الصحافية من قبل ذلك الرجل مقابل قيامه بكتابة ذلك الكتاب: (لابد من أن يكون رجلا غنيا ويمتك نفوذا واسعا لكي يقول أنه يستطيع أن حصل لي على إجازة من الصحيفة لستة أشهر بلا راتب..فيما سيعطيني مبلغا يعادل الدخل الذي أقبضه من مؤسستي لمدة سنتين ـ نصف المبلغ قبل أن تبدأ والنص الآخر بعد أن تنتهي ـ أقترح أن يضع تحت تصرفي سيارة حديثة مع سائق يتمثل لأوامري . / ص7 الرواية) ولما كان القادم من زمن الأحداث مجالا للكشف عن الشخصية مصطفى كريم حيث يعرفنا على مجريات مسكونة بتفاصيل مباغتة من وحدة السرد الذي لا ينفك يبث شعورنا فينا بأن هناك حالة من التوتر والقلق الذي ينتاب الشخصية ماجد في مكتب الشخصية مصطفى، وهو قادما عن طريق صديقه الروائي سعد محمد رحيم.طبعا لم تعد هذه الطريقة في توظيف الكاتب لهويته في نسيج الأحداث من دورا نادرا، سوى من جهة بدت للقارىء بكونها دخيلة وطارئة على مجرى الفعل الشخوصي ليس إلا.
2ـ المتخيل والاستجابة الشخوصية في الزمن الهارب:
تدور أحداث الرواية لاحقا ضمن مفاصل أكثر درامية في مواقف الرواية، وبخاصة فيما يتعلق بوصول الشخصية ماجد إلى إعداد العدة إلى مرحلة جمع الأخبار والمعلومات والمصادر المتعلقة بحياة ومقتل محمود المرزوق: (أستأنف الكلام وكأنه فكر بكل شيء: هناك أربعة غيري سيوفرون المعلومات المفيدة لكتابك، أبن أخت المرزوق وهو طالب دراسات عليا في التأريخ أسمه فراس سليمان ..هيمن قرة داغي، أحد أدباء المحافظة البارزين، كردي يكتب بالعربية والرسام سامي الرفاعي، يعيش في هولندا ومن السهل أن تراسله بواسطة الانترنيت . / ص10 الرواية)إلى جانب هذه القائمة من أسماء الشخوص ممن سيقومون بمساعدة ماجد الصحافي، هناك شخصية أخرى تدعى رباب وه كما أوضح مصطفى كريم للشخصية ماجد (امرأة أسمها رباب، وهي مقربة للمرزوق .. صديقته الحميمة، إن شأنا القول ولها دور محوري في القصة. / ص11 الرواية).
3ـ محددات الزمن والمكان في خطاب سيناريو السرد:
يحتل الموقع اللاحق من الصياغة الروائية، طريقة ما تذكرنا بنصوص أسلوب السيناريو من حيث تقطيع الزمن والمكان والحركة الشخوصية، ما يعد الأمر بذاته استباقا موقعيا في محفل الشخصية لغرض ضبط الإيقاع الدلالي في صورة اختزالية ذات دلالة مقاربة إلى علاقة الشخصية بأجواء واقعتها التمفصلية من السياق السردي: (يخرج محمود المرزوق من معتكفه في سرداب عمارة من أربعة طوابق بنية أواخر سبعينيات القرن الماضي ..ذلك الذي أتخذه محلا لبيع الكتب أو إعارتها مقابل ثمن بسيط..يبدو نصف صاح ونصف مريض .. يختلط بالمارة يتقدمه عكازه الأسود ذو المقبض المعكوف . / ص12 الرواية) هكذا نلحظ أن السارد المشارك يتعمد تصديرا في بث يوميات خاصة من حياة المرزوق ـ اقترابا من حالات زمنه اليومي المعاش الكامن ما بين الصيدلية أو علاقته إزاء محيطه الأجتماعي اليومي، ثم ببالغ الكيفية التي يتم فيها سقوطه أرضا بعد مصافحته لذلك الشاب وسط السوق ومغادرته إياه ليسقط أخيرا على الأرض ميتا).
ـ مقتل المرزوق بين الاغتيال السياسي ورد الاعتبار للشرف؟ .
كثيرا ما نواجه من الأسئلة والشكوك حول حادثة مقتل المرزوق في محمول المتن الروائي، فمنها ما كان يرجح إلى جهة حزبية أو حكومية ما وهناك بالمقابل من يعول على الحادثة بأسبابا تخص الشرف والعفة، بعد أن نعلم أن المرزوق من الأحداث في الرواية كان زير للنساء؟ كل هذه الأسئلة وتلك الضنون لم تعف الشخصية ماجد من البحث والاستدلال فيما وراء إشكالية جريمة مصرع المرزوق: (ـ لا يحتاج المرء أن يكون سياسيا من أجل أن يقتل .. تكفي كلمة عابرة في نقد هذه الجماعة أو تلك .. وهو لم يكن من النوع الذي يسكت؟ . / ص38 الرواية) هذا ما كان يقوله إلى ماجد الشخصية قرة داغي، وهناك بالمقابل مرويات عديدة كانت قد رواها قرة داغي إلى الشخصية ماجد، منها تفصيلا ما يتعلق بعلاقته الشخصية مع المرزوق وكيفية حياة هذا الأخير الماجنة والمحفوفة بالسخرية من الأخرين إلى درجة مصارحة قرة داغي له ذات أمسية بهذا الكلام مثالا: (قلت: أخاف عليك استاذ محمود؟ قال ممن من السعلوة؟ .. قلت استاذ محمود لست أمزح .. المدفأة مشتعلة وأنت تسكر ..وحين تنطفىء الكهرباء تشعل فانوصا .. وهذه الكتب كلها حولك ماذا لو عثرت؟ قاطعني: روعة .. لا أروع؟ صحت مستنكرا: ماذا؟ روعة أن تحترق؟ قال: ـ نعم أن يحدث ذلك الحريق ويذوب جسمي مع كتبي ورسوماتي ..حلم الأحلام . / ص37 الرواية) على هذا النحو النادر من كلام داغي مع جدل المرزوق العبثي نستفهم ما كان عليه حال وأحوال المرزوق من الدلالة التي تكشف لنا مدى ولعه بعالم رسوماته وكتبه لا لكونه بائعا لها حصرا، بل لأنه كان كاتبا للمذكرات والنثر وقارئا نهما إلى الرواية والفلسفة إلى حد ما تكشفه لنا بعض من أحداث الرواية. ولكننا عندما نتقدم في قراءة الفصول الروائية الصاعدة نكتشف بأن الشخصية ماجد و إلى وقت متأخر من الرواية، لم تسنح له فرصة الكتابة عن المرزوق بطريقة جادة وجامعة، وذلك يعود إلى عدم توفر المراجع والمصادر والمعلومات الوافية في سيرة وأخبار المرزوق المتناقضة، سوى ما تناقلته ألسن بعض من أصدقائه وأعدائه من أخبار غريبة حول حياة هذا الرجل الماجن في جل نزوعاته الشهوية والقلبية، ناهيك عن ما عثر عليه وتسلمه الشخصية ماجد من مراسلات ومذكرات بين مرزوق وجانيت ونساء أخريات . كل هذا الفيض من أحداث فصول الرواية التي أطلعنا عليها بشيء من التقدير الأكيد بأن الروائي سعد محمد رحيم قد فاتته وسائل حبكوية أذكى وأدهى مما توصل إليه في صناعة أواصر روايته (مقتل بائع الكتب) . أن مشكلة روابط الرواية لم تكن ذات مستويات تقانية بما يكفي، ولا يمكن لنا أخذ ما قرأناه في حكاية الرواية بما يوفر للرواية ذاتها ذلك التماسك الكلي من ناحية دلالات علاقاتها القائمة في النص .أردت أن أقول فقط في قراءة مقالنا هذا، أن الروائي لم يسوغ دلالات نصه بالشكل الكامل في تقديم رواية متطورة من ناحية أوجه مستويات كثيرة في الفن الروائي . وما لم يهزنا تماما هو نهايتها الملتبسة بالهوامش والسقطات اللامتناغمة سرديا كوحدة مضمونية جامعة ومنتقاة بموجب عوامل جوهرية في حيز الأسباب والأفعال والوقائع الشخوصية إجمالا .
ـ تعليق القراءة:
أردت أن أقول للقارىء الروائي أن نجاح الموضوعة الروائية تتطلب من الكاتب نفسه خلق علاقة دينامية تفاعلية مقنعة بين أقطاب وعناصر النص الروائي نفسه، كما لا يسرني كثيرا أن أكتب هذا المقال حول رواية المغفور له سعد محمد رحيم، لولا حتمية واجبي النقدي والقرائي الذي يحتم علي أن أكتب حول النصوص في كل أبعادها الايجابية والسلبية إجمالا .. أن لا أقول بأن رواية (مقتل بائع الكتب) عملا سيئا من جهة الرؤية أو الموضوعة، بل كل ما أود قوله أن الروائي للأسف لم يحسن صوغ خيوط وعناصر أدواته بطريقة تبدو أكثر تبحرا وغورا في مداليل الرواية البعيدة، الأمر الذي جعل من الرواية تبدو في محطاتها الأخيرة وكأنها ذلك العجوز الذي غدا يتوكأ على عكازه متلمسا دليلا ما من هنا وهناك. بأختصار شديد أن الرواية بدت كما لو أن كاتبها قد عانى وشقى في سبل لملمة أجزاء الرواية وحصر وجوه قبولها تحت عنونة أيقونية قد لا تشكل بذاتها ذلك الهم الدينامي والموضوعي والابداعي الكبير في مشغل الصناعة الروائية لدى الكاتب نفسه، فقط أنها حكاية أراد من أيقونتها العنوانية المؤلف خلق رواية سردية غير مدعومة في عوامل اسبابها ودلالاتها وانعطافاتها الحبكوية النادرة إلى أن تكون أخيرا مجرد ممارسة روائية ذات مؤشرات انتاجية يدعمها البرود والهوان وحده .وإذا اردنا قياس منجز رواية(مقتل بائع الكتب) مع باقي التجارب الروائية الشبابية الصاعدة، لوجدنا رواية سعد محمد رحيم لا تستحق أن تكون في عداد تلك الروايات الشبابية المثيرة حقا، رغم زمن تجارب كتابها الناشئة في ساحة الابداع والادب .أنا أخيرا
ليس بالضد من موضوعة رواية مقتل بائع الكتب ولا من جهة لغتها السردية الرائعة، ولكن أراني ضدا لقصورها الواضح لعدم تأسيسها لذاتها علاقة روائية أكثر سبكا وحبكا أكثر تشكيلا وحبكا مما قد قرأناه فيها من مواطن لملمة الأسباب بالوسائل الأيسر والأسهل في صناعة رواية نمطية .

حيدر عبد الرضا

 

 

في المثقف اليوم