قراءات نقدية

محمد المحسن: في قصيدة (ابنة الصبر) للشاعرة التونسية

جميلة بلطي عطوي

لم يعد يكفي أن تقول عن بيت من الشعر أو قصيدة أنها خفقة قلب أو دفقة شعورية كما كان يحلو لمن جعلوا الشعر من قبيل الوجدان المحض ولا شيء غير هذا، وقاسوا قيمة القصيدة بما تحتويه من وجدان صاحبها، وكان هذا القول في حينه ثورة على كلاسيكية شوقي وحافظ على أنه - أي هذا الرأي - لم يكن نبتا عربيا خالصا وإنما اتبعوا فيه المدرسة الإنجليزية في النقد إبان الربع الأول من القرن العشرين ثم أحدثت المدرسة النقدية الفرنسية ثورة نقدية على يد " كلود ليفي شتراوس " مذ أصدر كتابه الفذ " المدارات الحزينة " سنة 1955م متأثرا بنظرية " دي سوسير " في اللغة حيث جعلها نسقا قائما وحده مبرزا ثنائية الدال والمدلول.. ولم يقدر لهذه المدرسة الاستمرار في فرنسا إذ ماتت بالسكتة سنة 1968م وإن انتقلت إلى بلادنا العربية في العام التالي لموتها او قبل ذلك بقليل - لست أذكر بالضبط فأنا أكتب من الذاكرة - غير أني أذكر أن مقالا للأستاذ محمود أمين العالم هو الذي ابتعثها من مرقدها، وقوبلت بما يقابل به كل جديد وإن كان هذا الجديد في بقعة أخرى من بقاع الأرض جيفة لا أكثر ..

أقول : لم يعد مقبولا ان نقول عن قصيدة أنها نفثة مصدور أو خفقة قلب ولا شيء غير هذا خاصة إذا كنت أمام نص للشاعرة التونسية القديرة جميلة بلطي عطوي والتي تصل-في بعض قصائدها (وهذا الرأي يخصني) -إلى كنه الأشياء وحقائقها المجردة أو قل تصل إلى العلاقة بين الأشياء وقوانينها الجامعة وهذا غير كائن لغير الشعراء الكبار كجيتة وأليوت وطاغور وغيرهم من الكبار الذين يحلقون في فلك الفن الأعلى ..

في قصائدها بوح ناي وأنين وتر، يصدران نغماً واحداً يحمل نبضاً شعورياً شديد التشابه، يفيض من الجوانح نرجساً..

هي شاعرة من طراز خاص أسهمت في رفد الساحة الشعرية التونسية بإنتاجها الأدبي المميز،  رائعة بكل ما تعنيه الكلمة، تجعل نبضات قلبك تخفق خاصة في قصائدها الوجدانية، قديرة ومتمكنة وهى تعزف تابلوهات فنية راقية في مشاهدها الفنية، بكل تميز وألق، وبنكهة خاصة تلامس آمالنا وآلامنا .

من خلال قراءة قصائد الشاعرة التونسيةالسامقة جميلة بلطي عطوي، يُلاحَظُ أنها تؤمن أن الشاعر روح الأمة، ”وأن مهمته في أرضه ووطنه، أن يزرع بين أحشائها بذور الأمل، حتى إذا سمت داخله وصارت ظلالها وارفة، أفاض بها على المجتمع، وهذا لا يتوفر إلا بالنص الجيد، الذي يتصف بتقنيات الشعر الرفيعة “، فالشاعرة تعمل على تطوير آليات نصوصها، ماهرة في اقتناص الفكرة والصورة، وَتَعَدُدِ طرق التعبير والتخيل، التي تميز الشاعر المتفوق عن غيره .

نتابع معا:

ابنة الصّبر

بقلم: جميلة بلطي

***

مذ ألف توق

أهمس للرّيح

فكّي جدائلي

لاعبيها كموج البحر

فقد مللتُ سجوني

أنا ابنة الصّبر

من الضّيم ابيضت عيناه

هاتي قميص يوسف

أسعفيني

يا هاوية المسافات

انشري صيحتي

املئي الكون منّي

صوت ربابة

لا تدعي النّاي يردّد وجعي

اكسري جدار الصّمت حولي

عُبّي هطل الضّياء

دثّريني

أنا المحشورة في كهف الصّقيع

على بابه كتبوا

هنا الموؤدة

لا تدعوا الشمس تنير ظلامها

دعوها للخفافيش

تنهش لحمها

إنها إن عانقت الضوء تمرّدت

كالطوفان تغزو سهول الأرض

تتسلق جبالها ورباها

حاصِروها كي لا تصابوا بعلّة

هي ناقصة عقل ودين

فاحذروا استهتارها وبلاها

انا المقموعة

كأهل الكهف ما اقترفت جريرة

ذنبي أنّ الرّحمان أجلّني

فبتّ سكنا

فيّ الحياة تورق كالفصول

ربيعها منّي

والوردة منّي شذاها

أنا الأنثى صنو الطّبيعة

بألف لون ولون

وبذلي مثلها لا يضاهى

كمّموا فمي ما قدرتم

ابتروا منّي السّاعد والسّاق

سينبت لي الف ساعد

بل الف ساق

أنا مهرة الزّمان

تهواني القصيدة

تدندن بي القوافي مذ كان الشعر

حوّاء أنا

نصفكم الأجمل لو علمتم

سأظلّ رغم الضّيم كالعنقاء أولد

كلّ وأد

ولن تحدّوا مداي

فأنا المريدة.

تونس....10 / 3 / 2022

جميلة بلطي عطوي

***

تنطلق اللغة الشعرية في هذه القصيدة للتعبير عما يُفتعل في النفس من انفعالات، فنجد الذات الشاعرة تُملي على نفسها بعضا من مجازات دلالية متخطية اللغة المعجمية رغم مباشرة الحوار، وتظل لغة السهل الممتنع هي اللغة المهيمنة على النص الموسوم بـ”إبنة الصبر”. حين قراءتنا لهذا النص نلاحظ تصاعد المحتوى الشعري بقدرة الإحالة إلى ما هو أرحب شعرية وأكثر دفقًا في السياق الرمزي. أول ما نقرأ “العنوان” بوصفه أول مفتاح إجرائي يمنح المتلقي اختراق مغالق النص، إذ يمثل “علاقة دالة تكثّف البنية الكلية””1” للنص، تظل دلالته أعلى سلطة نصية باذخة الحضور.

ولأن لغة الشعر تتجاوز العزلة لترتمي في أحضان المشاركة، فإن الذات الشاعرة تمنح المتلقي مشاركتها بوحا يختلج النفس بعمق يؤثت لمشاهدة تصويرية آنية حينا واسترجاعية حينا آخر، ويشيد حوارا روحيا يتجلى في عالم خاص تُشخّص فيه القصيدة لتكون هي المخاطَبة الحاضرة وحوارها هو المهيمن على النص.

من الجدير –في هذه القراءة المتعجلة-أن نتبيّن معالم البنية الصوتية للتشكيل اللغوي في هذه القصيدة في محاولة لربط هذه المعالم بما لها من دور في إنجاز التجربة، وفي تحقيق قدرتها التأثيرية، فالملامح الصوتية التي تحدّد الشعر قادرة على بناء طبقة جمالية مستقلة (1)، والبنية الصوتية للشعر ليست بنية تزينية، تضيف بعضا من الإيقاع، أو الوزن إلى الخطاب النثري ليتشكّل من هذا الخليط قصيدة من الشعر، بل هي بنية مضادة لمفهوم البناء الصوتي في الخطاب النثري، تنفر منه، وتبتعد عنه بمقدار تباعد غايات كل منهما، وهذا يعني أنّ إرتباط الشعر بالموسيقى إرتباط تلاحمي عضوي موظّف، فبالأصوات يستطيع الشاعر أن يبدع جوّا موسيقيا خاصا يشيع دلالة معينة، واللافت أنّ هذه الآلية الصوتية غدت في نظر النقاد مرتكزا من مرتكزات الخطاب في الشعر العربي الحديث، وهذا المرتكز يقوم على معنى القصيدة الذي غالبا ما يثيره بناء الكلمات كأصوات أكثر ما يثيره بناء الكلمات كمعان(2).

لقد ستطاعت الشاعرة-جميلة بلطي عطوي-ومنذ بواكير قصائدها الأولى أن تحقق معطيات وخصائص أسلوبية من الفنون الحكائية والحوارية والسردية والدرامية، في شعرها كمظهر من مظاهر الشاعر الحداثي في الإبتعاد عن المرتكزات الغنائية في القصيدة، والإتجاه نحو التكوينات الموضوعية التي تحصر شعرية النص فيما تمثله من إطار فني أومضمون كلي في سياق من الإدراك الجديد لبنية القصيدة وهندستها، وتماسك وحداتها الشعرية والدلالية والإيحائية التي تفضي إلى فاعلية هذه المعطيات والخصائص التي إستخدمها الشاعر العربي المعاصر، وأفادت منها في شد نسيج تجربتها الشعرية وتكثيفها وتعميقها بالمواقف المتضادة والرؤى المتصارعة التي تتغلغل داخل فضاء القصيدة الكلي من خلال إثرائها بأساليب تعبيرية جديدة تستقيها من الفنون والأنواع النثرية المجاورة، والجميلة الأخرى ومن أهمها (القص والمسرح والدراما) فالقاص أو الدرامي عموما، يعرف بما يتملكه قدرات النقطة التي يدلف منها إلى موضوعه أوالحدث الذي يتحتم ألا يسبقه شيء..

على سبيل الخاتمة:

قد لا أبالغ إذا قلت أنّي لست من الذين يتناولون القصائد الشعرية بأنامل الرّحمة ويفتحون أقلامهم أبواقا لمناصرة كلّ من ادّعى كتابة الشعر، إلاّ أنّي وجدت نفسي في تناغم خلاّق مع هذه القصيدة التي فيها كثير من التعبيرية وقليل من المباشرة والتجريد تغري متلقيها بجسور التواصل معها، مما يشجع على المزيد من التفاعل، ومعاودة القراءة والقول، فكان ما كان في هذه الصفحات من مقاربة سعت إلى الكشف عن بعض جماليات هذه القصيدة مربوطة بالبنية اللغوية التي عبّرت عنها..

وإذن؟

تناوبت إذا في هذه القصيدة السردية التعبيرية للشاعرة التونسية السامقة جميلة بلطي عطوي

لغة التجريد واللغة التعبيرية والسرد المشحون بالزخم الشعوري، وبلغة قاموسية بألفاظ تعكس ما في روح الشاعرة وما في روح القصيدة، فخلقت لنا بذلك صوراً حيّة برّاقة وببوح عميق.

وأخيرا أتمنى مزيدًا من العطاء والإبداع والتألق المتواصل لهذه الشاعرة التونسية المتميزة

ختاما أقول :"ابنة الصّبر" قصيدة فلسفية في المقام الأول وفريدة في عالم القصائد بل أدعي أنها - أي القصيدة - كافية للولوج بكاتبتها إلى مدارات الفن العليا رافعة الرأس على أن للقصيدة مدارات أخرى لم أتناول منها شيئا إذ لكل مقام مقال وأنا في مقام الإشارة لجودة نص وتفرد ناصة في دنيا القصيد .

***

محمد المحسن

......................

الهوامش :

1- اللغة العليا ص:116جون كوبن.ترجمة أحمد درويش.ط2 القاهرة 2000

2- البنيات الأسلوبية في لغة الشعر العربي الحديث ص:38-ط-الإسكندرية 19903-اللغة العليا-ذُكٍر سابقا-ص:74

في المثقف اليوم