قراءات نقدية

حيدر عبد الرضا: شعرية الطقوس بين استيهامات الملفوظ والقرائن الأداتية

دراسة في الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر حسين عبد اللطيف

ديوان (نار القطرب) إنموذجا

الفصل الثاني ـ المبحث (2)

***

توطئة:

من أهم الجماليات الأثيرة في أسلوب شعرية تجربة الشاعر الكبير حسين عبد اللطيف، عبر متن وتمظهرات أفعاله الشعرية في ديوانه (نار القطرب) ذلك الوازع الأداتي المنظور من قبل هيئة ممارسة دوالية ذا صفات ومحاور تتمتع بأعلى علاقة تشكيلية موظفة بين خلفية الحس المرجعي، وضرورات المسافة الإرسالية في محمول والأثر والمؤثر امتثالا قصديا من شأنه استنباط أواصر متداخلة بين ظاهرية الملفوظ وقابليته المسكوت عنها وظيفيا في منتج الممارسة القرائنية التي تجعل من الدال الشعري منظومة ذات علامات استبدالية في بث قدرات وظروف في عوالم اللاشعور والصياغة البلاغية في خضم استثمارات متشعبة من مرسومية الأداء الشعري في القصيدة.

ـ المعطى الثيماتي بين المرجع الطقوسي وصيغة المعادل.

تومىء نقاط ومسافة علاقة أفعال قصيدة (تعزيم) نحو غائية مدلولية تتصل بحسية ذلك المرجع الدلالي الكامن في صفة دال (تعزيم) ومدى ما تتشكل من ثنائيات ضدية في عالم الامتثال والتصديق اللاهوتي على صحته كمعطى مسربا من خلال قيم تخمينية مشعوذة، لذا وجدنا دلالات مجرى الأحوال في النص كتشكيل فاصلي بين العلامة والتجسيد لهذه الوظيفة في مرتبة باعثة على عدة أوجه من الضياع واليقين والوهم:

هو ذا (الحضرميّ)

الذي

قادنا

نحو (مسقط) ليلاً ..

وغادرنا..

خلسةً ...في الظلاْم./ص70

مما يثير الانتباه في حالة الأداة الإشارية نحو ذلك الدال (الحضرمي) المشتق في تسميته من ذلك الواد (حضر موت) في جنوب اليمن، والأمر في الدليل لا يعكس لنا بأن الدال له علاقة مرجعية ما في مرسل المشار إليه، بل أن هذه الصفة جاءت به حلولا كونه يروج عن ذاته مظهرا تنجيميا خاصا.وبهذا النحو صار في المشار إليه كنموذجا في معتقد المقاربة من قبل الشاعر، وذلك فيما تلخصه جملة (هو ذا الحضرمي) وقد يتبين أن أحوال الزمن والمكان في النص قابلة إلى الإذعان إلى جهة سرانية ما في شكلها الحال عند الترابط أو لربما حصرا في مقصدية المرسل كواصلة ترادفية أو متماهية في دائرة (الذي قادنا) مما يغري ويغوي إلى تضاعف مديات الواقعة السكونية الأكثر إيغالا في الحجب المكانية (نحو مسقط ليلا) أو في ما نواجه من تتمة تكاد أن تكون معادا مكررا في جملة (خلسة..في الظلام) ولكن هذه الخلطة من الموحيات، لا يمكننا عدها بالعلاقة المباشرة مع حيز الإقرار بواقعة المكان، لأنها حلت في حدود أسئلة وأجوبة ولغة، قد يبدو القارىء لها لأنها محض حالات مرسلة وتوضيحا في الحس الصوري المرسل في النص:

بالتعازيم يستخدم الريح أو يتخذْ

من قرون أيائلهِ...

حطباً...

الثعابين أطفالهُ

ـ هي عمياءَ تسعى ـ إلى ثديهِ

تتشمّمهُ

ثم ترضعُهُ

وتنامْ./ ص70

1ـ المرجع الإطار في العلاقة المرمزة:

في الحقيقة أن رسم الصور الرمزية عبر ملفوظ وتلفظ ظاهرة مرجعية في القصيدة، لا تأخذ بما لها من الاحتياط الاضطراري في وظيفة الرمز، بقدر ما تؤخذ على ما تقدمه من علاقة افتراض ومفترض إطاري في دلالة النص.فالشاعر كان يسعى في مواطن ملفوظه إلى جملة تضمينات متعالقة وحدود الطقس التعزيمي وما يشترطه حال هذا النحو من شيفرات معادلة موضوعية خاصة في القيمة والتطلع إلى معنى ذلك اللجوء الطوطمي من مدلول النص،  لذا فإن جملة (بالتعازيم يستخدم الريح أو من قرون أيائله .. حطبا) ما تؤكد لنا بأن حقيقة الإيحاء حل هنا حلولا محايثا وليس بصورة حسية تديم لذاتها دليل الواقعة الشعرية بعينها .كذلك لا شك من أن الجمل اللاحقة غدت بذات الانتاج من غائية المحايثة بالمضمن: (الثعابين أطفاله ـ وهي عمياء تسعى) كما أن عملية إلحاح الشاعر على ظهور أفعال دواله كمعطيات ناتجة من إطارية حقيقة مرجعية مضاعفة، وهو الأمر بذاته ما جعل من مجازه المرسل ذو علاقة من التعليل في استنتاج طي مؤولات الواقعة الشعرية لديه.

2ـ رمزية الدال المكاني والمرسل ذي العلاقة الخارجية:

عندما يسهم البوح الشعري في معنى ما في خصوصية مرجعية ما، لابد له من معنى آخر، وتبعا لهذا فإن الاعتبار في التلقي سوف يكون مرجحا إلى كفة حالة مشعبة من الدلالة والدليل الأحوالي.فعلى سبيل المثال عندما نتعامل مع بعض أجزاء قصيدة (تعزيم) موضع بحثنا، إذ نلاحظ ثمة وظائف ذات علاقة خارجية في مسألة المشار إليه أو التسمية أو حتى في مواضع غير ملائمة في دلالة النص.ولكننا إذا دققنا فيها لبرهة لوجدنا بأن الدال يقع ضمن قسمين من الترميز، كان الأول مثبت، والآخر غير مثبت، وهذان الأمران في رمزية الدال ما راح يعكس صياغة مرجعية كحال جملة (هو ذا الحضرمي) أو جملة (نحو مسقط ليلا) فهاتان الجملتان بدا فيهما فعل الدال توظيفا رمزيا في دلالة مرجعية غائية، وهذا الحال ما يثبت بأنه مثبتا في الأمر ذاته من العلاقة المرسلة، أما ما غدا غير مثبتا فهو الصدوح الرمزي في الدال ذات العلاقة غير خاضعة للسياق المرجعي من النص، ومعنى هذا أن وظيفة المؤول تبقى خاصة بمسميات الشاعر و رؤيته الذاتية كحال جملة (وهي عمياء تسعى إلى ثديه) أما من ناحية أن يظل الدال رمزا بالنتيجة وكمضاعفة في حدود خبر المكان والزمن، فهنا حتما تبقى علاقة الرمز الدوالي ذا محمولات علاقة خارجية، نظرا لأن رؤية الذات إلى خارج موقع المؤثر الداخلي، سوف لا تقدم للنص سوى نقطة تواصل لن ينطلق منها الدال الرمزي إلا في واصلة استبدالية من مواضع خاصة من التلفظ في النص:

كان يحلو .. له

أن يقيم منازَلهُ

في أعلي التلال

أو يقول:

لا ... أنا ما جَفوتْ

مرةً،  حضرموتْ

.. إن دمعي الذي قد كذبْ

بل وخانْ

لا دمي./ ص71

تنطوي تراتبية الدوال في هذه المواضع من النص، نحو توكيد ما قلناه سلفا، بأن رمزية الدال فيها من المثبت وغير المثبت في محمول (معنى: خفي ـ ظاهري) كما أن السارد الشعري هنا في سياقات التعزيم، غدا يشكل بذاته اساسا في فاصلة وواصلة من تصريح إمكانية الذات إي ـ الحضرمي ـ في أعالي أنتاج التعزيم .ولكن ما أحببنا الاشارة إليه أن السياق المكاني في جملة (يقيم منازله.. في أعالي التلال) هنا جاءت بمثابة الدلالة التصوفية في اللفظ المعزم، وهو أيضا إقرارا ضمنيا في حالة القول المعطى من فضاء طقوس التعزيم:

حين جئناه...

لم يلتفتْ

كانت النار مشبوبةً

والبراري

صدىً

أو دخانْ./ ص71

تقودنا هذه المقاطع إلى الاستنتاج الذي يضع الذات الساردة في النص، كجهة ملحقة في تراتيل التعزيمة ذاتها، لذا بقيت آفاق المحاورة والحوار مع دال الحضرمي شبه عدمية عبر تراكيب المكان بأهوال (النار مشبوبة .. والبراري صدى) وأمام هذه المواجهة لا نخرج كثيرا عن طابع المداخلة مع دلالات البعيد من رمزية الدال، بل غدا يتراءى لنا عبر تباين فكرة النص كحشد قوة التعزيمة في قلب ذاتية الأشياء:

ـ "احتْرق

احترقْ

ثم قمْ طائراً

من جديد

أيّهذا الفينيق./ ص71.ص72

أن فعل الأمر (احترق.. احترق) بلغ صورة استيهامية ما، مبلغها ملفوظ العين المصورة وطاقة مفردات التعزيم (أن دمعي الذي قد كذب .. بل وخان ..لادمي) وبهذا النوع من حركية التأنيب للذات الحضرمية، تتوارد علينا في النص طاقة صوفية وروحية خاصة وما يتمخض عنها من طاقة أخذت تستجير بطائر الفينيق في الصورة المرجعية من الكائن المؤسطر، حتى تتبدى لنا في الدوال كجهة تفاعلية نحو الانفتاح إلى المزيد من التوافق والارتباط الواقعي بالمرجعي، بذلك المعنى الذي يرفض حلقات تكرارية من غايات الملفوظ المعطى في طقوس الأداة الشعرية الكامنة بين استيهامات الملفوظ وقرائن الدلائل الشعرية .

ـ تعليق القراءة:

لا شك حاولنا في حدود هذا المبحث إبراز ما تمتاز به قصائد ديوان (نار القطرب) من مشارب ومرجعيات متشعبة في أفق الخطاب الشعري، إذ وجدنا موضوعة الطقوس والتعازيم والأسطرة أكثر تجليا في مظاهر نصوص هذا الديوان ..وكأنها معالجات بدائلية محتملة تكفلتها الطاقة الشعرية المصورة للشاعر لأسمى حلقات العوالم المتداخلة والخارجة في تفاصيل حقائق الصياغة الشعرية المثارة في حركية مداليل المقولة الشعرية المركزة .

***

حيدر عبد الرضا 

في المثقف اليوم