قراءات نقدية

رحيم الغرباوي: العشق المسافر إلى العراق من مجموعة تحت رماد الصمت

للشاعر التونسي محمد الصالح الغريسي

حين يبتهل الإنسان إلى بارئه يجدد عهده معه في روحانية تشعُّ أملاً وقناطير حلمٍ يوشك أن يتصاعد إلى مراقي السماء، وحين يتبتل العاشق نحو ما يراه نبلاً وشهامةً وسؤدداً نراه يملأ روضه من دنا الثمرات.. وهكذا المعشوق العراق، عشقه الفنانون والشعراء والعلماء والكتاب وإذا ما تناولنا عشق الشعراء له نجدهم  يرونه قويا على الرغم من الظروف التي أحكمت طوقها عليه، وليس له من ناصر أو معين.لكن مع ذلك هناك أصوات كثرٌ شجبت ونددت وتغنت بانبعاثه من جديد؛ كونه بلد العلم والمعرفة، والسيف والرمح، و الجمال والعشق، والشعر والموسيقى، إذ احتضن الحياة فرقَّت له موسيقى الوجدان الإنساني. ولنا أن نتناول الشاعر التونسي محمد الصالح الغريسي الذي نراه ينزف دماً على العراق في أكثر من قصيدة له في مجموعته الشعرية (تحت رماد الصمت) إلا أنه يقر جازماً على أن العراق لابد أن ينهض من كبوته معافى، فحين يستشرف تاريخ العراق من خلال قراءته للماضي والحاضر نراه يتنبأ بولادة جديدة له في معظم ما عبَّر به عن شجونه أو آماله، بوصف العراق وعاصمته بغداد هي الملاذ لكل نبلاء العالم ومثقفيه، بل ولكل قلبٍ ينبض بالحياة وبهما معاً.

ولعل مجموعة الغريسي الشعرية التي وسمها بالعنوان (تحت رماد الصمت) معززاً له بصورة الغلاف على شكل سديم لاهب بالنار والدخان في إشارة إلى أنَّ روحاً متوارية تحت هذا السديم ستشقُّ يوماً هذا السديم وتصبح قدرا فاعلاً يبعث الحياة من جديد.

و يبدو أنَّ نصوص المجموعة الشعرية إذا ما استقبلناها نرى فيها مستوى الرمز والتفنن الصوري والإحالات كل ذلك من أجل أن يتمكن المتلقي من تأويل سليم يصل إلى ما يبغيه الشاعر، وهو يترجم فاجعة العصر , ودهاء مارقيه حين أرادوا أن يحولوا منائر العراق إلى مداخن ويغيِّبوا جمال ليلى وأناقتها إلى امرأة لايمكن أن تنهض بقواها؛ كونها أصبحت غير قادرة على العطاء، يقول في قصيدته (لماذا... ؟):

لماذا... ؟

إذا ما اختليت بجرحي

يراودني

طيف ليلى بأرض العراق

وينتابني المتنبي قصيدا

به ألف جرح

وفي كلِّ شبرٍ بأرض العراق

لنا ألف ليلى وليلى.

نجد الشاعر يعبر عن جرحه الذي يمثل الألم المبرِّح، وهو يستذكر ليلى التي سكنت العراق بعيداً عن قيس الذي يقول:

يقولون ليلى في العراقِ مريضةٌ     يا ليتني كنتُ الطبيب المداويا

ولعله يقصد ليلى العراق الذي يعيش أبناؤه اليوم سوء الحال؛ لما انتاب بلدهم من وحشية كاسرة أثر الاحتلالات البغيضة، وما ليلى الشاعر إلا عشقه للعراق الذي عبر عن مشاعره، ويعتب على كل من تغنى بليلى من دون أن يجهد نفسه في بعثها أو محاولة لإنقاذها أو حتى عدم النيل منها، فيقول:

فكم هم قليلون عشَّاق ليلى لوصلٍ

وكم هم قليلون عند المزارِ

رموها بنارٍ

وقالوا ضحاياكِ نحنُ

حُرِقنا بنارِكِ... هل من مزيدٍ

إذا كان فيكم حنين إلى حبِّ ليلى

وأطياف ليلى

فكونوا رماداً

وكونوا سمادا.

فهو يرى أنَّ المدعين الوطنية في العراق ومن يدَّعي حب العراق من خارجه فمادعواتهم إلا تخرصاتٍ يتبجحون بها؛ ما جعله يطلب منهم التضحيات الحقيقية ولا داعي لنعيقهم، فبالتضحية والدماء سيخرج العراق من تحت الرماد محلقا فوق سماء الخليج بألف جناح، كناية عن قوته وعودته من جديد حراً معافى.فيقول:

سيخرجُ من تحت هذا الرماد عراق

يحلِّق فوق سماء الخليج

بألف جناح يضمد جرح النخيل

وتختال عشتار بين الشوارع

تهدي الصبايا أزاهير حبٍّ

وتمسح دم اليتامى

ويغسل ماء الفرات

شوائب هذا الزمان الرديء

ويبعث من خلف كوم الدمار

عراق... عراق.

فهو المؤمن من أنَّ في العراق جذوة لابد لها أن تشتعل؛ لتغير مجرى الأحداث، فتعود الحياة إليه من جديد باسقة ندية، ونرى عشتار تكحل قلوب الصبايا الحسان بأزاهير حب، كما تمسح دم اليتامى، بينما الفرات يغسل شوائب الزمان الرديء منه.

ويبدو أنَّ الذات الشاعرة " هي الموضوع الذي تسترعي حدوسه الحياة؛ كونها تلقي نظرة لأزمنتها الثلاثة؛ لتشرف على ما تخفيه وراءها من خوافي وأسرار وأنماط جديدة تترجمها تلك الذات برؤيتها الفكرية والفنية والإنسانية" (1)، وهذا ما يتمثل لدى الشعراء النبوئيين الذين يستشرفون المستقبل بكل ما ينجم عنه.

وفي قصيدة (ينابيع الأمل / وطن النخيل) نراه يخاطب الشمس بقوله:

يا أيتها الشمسُ

علِّمي أبناءكِ كيف تتَّحدُ الألوان

ويا أيتها الطيور المهاجرة

غداً تعودين إلى أعشاشك القديمة

وتعود قبَّرة البراري

تنقرُ الحبَّ في أكفِّ الأطفال

غداً يكون للحياة مذاق

وإلى العراق يعود العراق.

فالشمس رمز الحرية، بينما الأبناء هم من أطياف المجتمع من شتى المذاهب والأثينيات، أما الطيور المهاجرة هم أبناء الوطن الذين غادروه بسبب الفتنة التي طالت البلاد والتي كانت خلفها أحقاد المضللين وأصحاب السوء من الدخلاء الذين حرضوا فئات الشعب بعضها ببعض؛ مما خلفوا في مرحلة زمنية الأحقاد والثارات.لكن الشاعر يتأمل الخير كل الخير للعراق بعودة أبنائه من جديد يجمعهم حبُّ الوطن السعيد.

ورؤيا الشاعر تحمل قدرة النفاذ من المجهول الى المعلوم من خلال كشفه واستبطانه فحري بهذه الرؤيا إعادة تشكيل الواقع، بمعنى صياغة الواقع الجديد على مقاييس الرؤيا الفنية. والرؤيا الجديدة للواقع تتحقق دون شك حين تصدر هذه الرؤيا عن فنان قد اتحد مع الكون" (2)، وهذا ما نلمسه عند الشاعر الغريسي وهو يقرأ الحاضر ودور العراق في الحقب الماضية والذي سينتج من ذلك إرادة قوية تجعل من طلع نخيله وزروعه وامتداد نهريه أملاً وبشرى في عودة العراق قوياً معافى.

ولعلَّ حب الشاعر للعراق وأهله يجعله يرسل رسالة على شكل قصيدة عمود مهداة للدكتور صالح الطائي يوصي فيها أهل العراق بوساطته وهو يدعوهم إلى التآخي بكل أعراقهم وأديانهم ومذاهبهم وطوائفهم وألوانهم السياسية، إذ يقول:

يا طائر الشــــرق الجريح كفى ملامـا         فاللوم لايشـــفي ولا يبري الســــــقاما

إنْ كان جرحك في الجناح لــــه التئامُ         فالجرحُ آلمنـــا وقد بلـــــغ العظامـــا

إن زرتَ أرض الرافدين فدتك روحي         عرِّج على الطـــائي اقرئهُ الســـــلاما

من أخوةٍ صدقــوا المحبَّةَ إنْ أحبُّــــوا         ما أخلفوا في الوعد، يرعون الذمامـا

أوصِ الأحبَّةَ في العـــراق بلا تـــوانٍ         بالحقِّ والصبــر الجميل له وســـــامـا

ما فازَ قومٌ في الحياة لهـــــم خصـــامٌ         فدعوا التباغض والتقاتل والخصامـــا

الشرُّ إن أكلَ القلــــــوب له ضــــرامٌ         فتجنَّبوا بالرشــــــدِ هذاكَ الضرامــــا

وابنوا جســــــورَ الودِّ بينكمُ إئتلافــــا         وصلوا القريبَ وكفكفوا دمــعَ اليتامى

وأســــوا الجراح وخففوا ألم الحزانى         وضعوا لخيل الحقد عندكموا لجامــــا

فهو من قرأ الساحة العراقية وما فيها من اضطرابات وخصومات واحتراب بين أطياف المجتمع العراقي، لذلك يخاطب العراقيين بما يراه من أنَّ عدم التصالح والتآخي هو ما يهدم أركان الوطن الجريح ويخلخل بنيته الاجتماعية ومن ثم فقدان الأمان، فهو يخاطب الدكتور الطائي بهذه القصيدة موجهاً كلامه إلى شعب العراق من زاخو إلى الفاو، وهي رسالة مصيبة يمكن أن يرسلها كل محب للعراقين، طالما يدعو إلى فض الفتنة التي أطاحت بالحرث والنسل إلى يومنا هذا، داعياً إلى ترك اللوم فيما بين أبناء الشعب الواحد على الرغم من الجراح لكنَّ يرى أنَّ الجرح عميق على الأخوة العرب، والذي يمكن تقدير ما يضمره الشاعر من أنَّ العراق ذو فضل على أخوته في كل أنحاء الأرض العربية بمواقفه الإنسانية والقومية؛ مما استدعى الشاعر أنَّ يصرح من أن الجرح الذي أصاب العراق قد بلغ بهم العظاما؛ لما تمر به الأمة اليوم من دون ناصر كما كان العراق بالأمس الناصر لجميع قضايا الأمة من المحيط إلى الخليج. ولعل الشاعر في النص يحاول أن يوصل رسالته بأساليب متعددة منها إنشائية ومنها بيانية من خلال رسم الصور الفنية التي تجتلب الذوق بوساطة طرافتها وتركيباتها اللغوية التي قدمها بطرق فنية.

ولعل الصوت العربي الهادر بالعروبة والإنسانية من أجل الإخاء والدعوة إلى الحب والتسامح والصلاح رهين بأن تتبناه البلدان؛ كي ينعمَ إنساننا بالحرية والأمان هذا ما يسطره معظم الشعراء ولا سيما الذين أوقدوا نيران كرمهم تجاه الحب والحياة، وللغريسي المجد؛ كونه يرتع مجد الشعر للعراق وأهله، ويتمنى للأمة خيراً، وهي أمةٌ فتحت ذراعيها لاستقبال الأمم الأخرى منذ قرون، وأنارت طريقهم نحو حياة حرة كريمة.

***

بقلم: الدكتور رحيم الغرباوي - العراق

......................

الهوامش:

(1) النبوءة في الشعر العربي الحديث دراسة ظاهراتية، د. رحيم الغرباوي: 11

(2) دراسات في الشعر والفلسفة، د. سلام الأوسي: 50

في المثقف اليوم