قراءات نقدية

محمد المحسن: قراءة نقدية في قصة "شياطين تتقاطر" للكاتب خالد خضري

"هنالك فرق، فرق كبير بين الكاتب والإنسان العادي، الكاتب فنان، حالم، مليء بالرغبات، بريد أن يهدمَ العالمَ ويبني عالما جديدا، عالما خاصا قد لايعني الآخرين".. عبد الرحمن منيف

حين يدفع بنا المبدع / الكاتب السعودي خالد خضري إلى الولوج-عنوة-إلى فضائه الإبداعي، فإنما نراه يسعى-بجهد غير ملول–إلى أن يكون شاهد على عصره وفاعلا فيه بالقدر الذي يحتمله واقع المنع والإباحة، لذلك فهو يجرنا كما أسلفت–دون وعي منّا-إلى ذواتنا أو هو يذكرنا بها مشروخة مشظاة ..

ولا عجب فيما أزعم إذا علمنا أن-هذه المبدع السعودي جاء إلى القصة القصيرة من أبواب الحياة الشاسعة، وراح يؤثث فضاء لغتها بالمجازوبالإستعارة ذات الكثافة الحسية، والتوتر والإيحاء مما ساهم في إيجاد مناخات عالم قصصه المعبرة عن علاقة شخوصها المختلفة والمتوترة مع الذات والعالم الذي يتركها لمصيرها الأعزل وحيدة ضائعة، مستلبة ومقهورة بسبب الشرط الإجتماعي والوجودي المأسوي الذي تحياه، والذي يجعلها تنكفئ على دواخلها-المعطوبة–وتعيش في مناخ كابوسي مخيف لا تجد سوى الأحلام وسيلة للهرب، وإشباع رغباتها المستفزة والمحرومة.

الراوي الذي يتحدّث إلينا في هذه-اللوحة القصصية المبهرة-شخصية متخيلة لا تكاد تختلف عن أي شخصية من الشخصيات المتخيلة التي تعرضها علينا القصة، الإختلاف الجوهري الوحيد أنّ حضور شخصية الراوي في هذا الإبداع القصصي لخالد خضري- حضور محوري، يتغلغل في دقائق النسيج الذي تتألّف منه القصة، ونستمع إلى صوته وملاحظاته عند كل منحى، إلى الحد الذي تصبح معه القصة وراويها المحدث أمرين متلازمين، لا وجود لأحدهما ولا معنى دون وجود الآخر .

مبعث المفارقات في هذه اللوحة القصصية الرائعة"شياطين تتقاطر" للكاتب السعودي خالد خضري هو أن كل عنصر فيها يستدعي قرينه النقيض، استدعاء جدليا يجعل من الكتابة لدى-خالد خضري- تضعيفات مرآوية للصور واللوحات والمشاهد، وتداخلا لا ينتهي من “المحاسن والأضداد” وفق تعبير الجاحظ.

إن سؤال الكتابة، على تعدّد مقاصده، لدى -هذا المبدع السعودي الشاب-، يتخذ طابعا اطراديا في كثير من نصوصه القصصة -اللذيذة-إنه يتعدّى الكتابة، بدوالّ الكتابة إلى الكتابة بدوالّ فنون أخرى ..

من خلال-قصة شياطين تتقاطر-نستشف مدى حركيَّة وحيوية هاته القصة التي لا تخلو من ديناميَّة الأحداث.

تتميَّزُ القصة ببعض الخصائص الدلاليَّة، التي يمكن إجمالُها في خصائص-العجائبية**-(عالم الجن والشياطين )الإدهاش، التلغيز والبعد الماورائي الذي يترجم-كما أسلفت -العجائبية-ويوغل بنا-قسر الإرادة-في عالم نشعر في حالات كثيرة بالخوف حين نقترب وهي، كلها ميزاتٌ تُفصِحُ عن هذا التكامل الذي يطول القصة ويجعلها غنيَّة في دلالتها.

وكذا توجد خصائص شكلية؛ كالقصر الشديد، والتكثيف، ووَحْدة الموضوع، والمشهدية، وأيضًا المفارقة، كلُّ هاته العوامل ساهمَتْ في جعل القصة زاخرةً بمؤهلات فنية بأن تمثِّل هذا الجنس الأدبي بامتياز.

أثناء قراءتي لهذه القصة الموغلة -كما أشرت-في العجائبية انتبهت إلى ظاهرة أساسية، مفادها أنها من وحي الواقع المعيش هنا / الآن... ليست محاكاة للواقع كالصور الفوتوغرافية، لأننا أمام عمل أدبي..و ليست في ذات الآن مجرد تقارير وصفية لحكايات حدثت فعلا وعاينها الكاتبكشاهد مباش، وإلا جردنا العمل الأدبي من بعده الخيالي و الجمالي المرتبط به عضويا و وظيفة و امتدادا..و يفسر النقاد واقعية هذا النوع من الكتابة القصصية بظاهرة المشابهة la vraisemblance أي تخيل قصة شبيهة بالواقع إلى حد التماهي، و ظاهرة التماثل la représentation أي كيف يتم تقريب الحدث من القارئ على أنه واقع، لكن من وجهة نظر الكاتب..

والسؤال الذي ينبت على حواشي الواقع:

كيف يبني النص القصصي في قصة "شياطين تتقاطر"العالم من خلال المشابهة و التناظر والتماثل بين الواقع المعيش و خيال الكاتب كإجراء فني صار ذا قيمة مهيمنة معيارية في الحكم على جمالية النص؟

لأجل مقاربة هذا المحور الاشكالي، لا بد من الاشارة إلى أن الكاتب خالد خضري قام بتوظيف عدة تقنيات تتوخى معالجة قضايا جوهرية بجمالية حرف و صياغة و بناء، منها:

1 ـ التبئير الخارجي focalisatio, externe:

كيفما كانت درجة واقعية القصة فهي تعبر عن وجهة نظ، و عن ردود أفعال و عن مواقف: رؤية الكاتب للوقائع و الأحداث المسرودة.. فهو على امتداد هذا النص القصصي ينصب نفسه شاهدا ـ يعاين الحدث عن قرب.

لنقرأ معا..هذه القصة القصيرة "شياطين تتقاطر" للكاتب السعودي خالد خضري الذي أهديه باقة من التحايا المفهمة بعطر قرطاج، إيمانا مني بقدرته الفائقة على الإبداع بمختلف تجلياته الخلاقة..وانتصاره الخلاّق للجمال اللغوي والأداء المجازي..:

"شياطين تتقاطر

قصة قصيرة

خالد الخضري

يتعقبونك، هم هنا، يسكنونك.

فور الهرب، قدرك أن يتشبث بك، أن يطوي الوديان متجهاً صوبك.

ـ يا أخي أنا أخاف.

رد ناصر:

ـ خواف عارفك.

ـ إيه أخاف، وأنت ما تخاف، هو في أحد ما يخاف الجن.

ـ لكنك جننت، ليسوا هنا، هم هناك في الأودية المظلمة، والصحاري المعتمة.

ـ ما لك وما لي اتركني في حالي.

أعرف أنهم رابضون، في كل الأمكنة، لن أجلس وحيداً، لا اليوم، ولا غداً ولا بعد غد، سآوي إلى حيث يتجمع الناس، سآوي إلى حيث المأوى، من يمكنه أن يحميني منهم.

اذكر الله، تمتم دوماً بالأذكار.

نصيحة أبي، كم شعر بأنني أخاف، ولماذا لا أخاف، لست وحدي من يخافهم.

قال لي موبخاً:

ـ خواف، خواف، آخر تربيتي فيك.

كما قالها صاحبي ذات فجيعة، عندما خرج الجني أمامي من جسد أحدهم، كان القرآن هو الحل، أنا أحفظه عن ظهر قلب، لأكون قويّاً به، أتلوه ليلاً ونهاراً كلما شعرت بهم يقتربون من المكان.

لكنني لا أقوى على ذلك وحيداً، سرهم كامن خلف الجدران الفارغة، خلف كل الأماكن الخالية، أتشجع بوجود بشر حولي، أتقوى بهم.

في الأجساد النارية تقوى ذلك الشاب، تمكن من ربط أذن الجني، ثم ظل يردد مقولة إخواننا المصريين:

ـ اللي يخاف من العفريت يطلع له.

ليس حقّاً، الخوف ذريعة الوجود، فوجودهم كائن هنا، أشعر بأنهم يتجسسون علي، يتنصتون على كل ما أقول، كل لحظة لا أقوى خلالها على الإمساك بخيوط الحقيقة كي أثبت لناصر أنني على حق، ليكن موجوداً يوماً وأثبت له وجودهم.

جاء ذات مساء غارقاً بالخوف، ظل ينتظر حتى وقت متأخر من الليل، معي في الشقة وحيدين إلا منهم، شياطين تتقاطر في أزقة المكان، لم يحضر أحد منهم، اختبؤوا بلا شك خلف الستائر، حاولت تحريك الستائر، نفض النوافذ، الصراخ في حوش المنزل، الخالي، إلا من إضاءة خفيفة تغريهم بالحضور، لكن أحداً منهم لم يجئ، جئت أنا إلى ناصر أكدت له أن وجوده الرشيق بحزم جعلهم يتبرعون.

من مجموعتي القصصية الخامسة بعنوان: أجساد نارية."

يتبيَّن مدى حركيَّة وحيوية هاته القصة التي لا تخلو من ديناميَّة الأحداث.

تتميَّزُ القصة ببعض الخصائص الدلاليَّة، التي يمكن إجمالُها في خصائص الطرافةِ والإدهاش، والتلغيز والبعد الميتافيزيقي، كلها ميزاتٌ تُفصِحُ عن هذا التكامل الذي يثري القصة ويجعلها غنيَّة في دلالتها.

وكذا توجد خصائص شكلية؛كالقصر الشديد، والتكثيف، ووَحْدة الموضوع، والمشهدية، وأيضًا المفارقة، كلُّ هاته العوامل ساهمَتْ في جعل القصة زاخرةً بمؤهلات قَمِينَةٍ بأن تمثِّل هذا الجنس الأدبي بامتياز.

وبعدَ هذه القراءة في قصة قصيرة غنية على جميع مستوياتها، المنسوبةِ إلى القاصِّ الكبير الأستاذ "خالد خضري"، لا يمكننا إلا أن نسلِّم له بالريادة في هذا المجال، وأن نتوقَّع مستقبلًا زاهرًا لهذا الجنس الأدبي على أيدي مبْدِعينَ من طينة "خالد خضري".

***

محمد المحسن - ناقد تونسي

في المثقف اليوم