قراءات نقدية

منذر فالح الغزالي: التناصّ في ديوان أنثى الوجع

للشاعرة المصرية هدى عز الدين

مدخل إلى التناص، وقولٌ على قول موت الكاتب

التناص هو ترجمةٌ للمصطلح الفرنسي intertext وهي كلمة تعني التبادل النصّي، أو التبادل الفني.

ظهر مصطلح التناصّ في ستينيات القرن الماضي على يد جوليا كريستيفا، التي اعتبرت أنّ النصّ هو أحد المميزات الأساسية التي تحيل إلى نصوصٍ أخرى سابقةٍ أو معاصرة.

وهذا المفهوم استقته من كتابات أستاذها الناقد الروسي ميخائيل باختين، وإن لم يذكره صراحةً، فالكاتب من وجهة نظره "يتطور في عالمٍ مليءٍ بكلمات الآخرين"، وطرح (نظرية الحوارية).

أما الناقد الفرنسي رولان بارت فالتناص عنده هو البؤرة التي تستقطب إشعاعات النصوص الأخرى، وتتحد مع هذه البؤرة للنصّ الجديد "المتناص"، ويخضعان في الآن نفسه لقوانين البناء والتفكيك، أي الإحالة إلى مرجعيةٍ أخرى. وفي كتابه (لذّة النصّ) يعتبر بارت أنه يمكننا الاستغناء عن الكاتب والاكتفاء بما وراء السطور، فمهمة الكاتب تنتهي بمجرد الانتهاء من هذا النصّ، فالنصّ ما هو إلا إحالةٌ لنصوصٍ سابقةٍ يكون فيها صاحب النص غائباً، ويصل بذلك إلى فكرته عن "موت الكاتب"، حيث إنّ النصّ هو ناتج تفاعلٍ مع نصوصٍ سابقة.

في هذا الصدد أرى أن مفهوم موت الكاتب يحمل إشكاليةً كبيرة؛ فإذا كان النصّ هو ناتج تفاعلٍ مع نصوصٍ سابقة، فإن هذا التفاعلُ لا يتمّ في فراغ، إنما العمليةُ التفاعلية تخضع لظروفٍ وشروطٍ متشابكةٍ، تؤدّي إلى الهدف المنشود من عملية التفاعل؛ وإذا كانت النصوص السابقة هي عناصر التفاعل، فإن عملية التفاعل محكومة بتلك الشروط، وهي العمليات الذهنية للكاتب؛ وأقصد بالعمليات الذهنية، مجملَ السياقات النفسية والثقافية والفكرية والاجتماعية التاريخية، واللحظة الشعورية التي تسيطر على المبدع أثناء الكتابة، بالإضافة إلى الملكة الإبداعية، وهذه كلها تختلف من مبدعٍ إلى آخر، وبالتالي يكون النص الوليد تركيباً جديداً يمثّل انعكاساً لتلك الشروط، ويحمل بصمتها؛ وكما لا تتشابه البصمة الوراثية لمولودَين، كذلك لا تتشابه البصمة الإبداعية لكاتبين، وإن تناولا التيمة نفسها؛ وهذا يدعونا للقول إنّ النصّ يحيي الكاتب، فلا كاتبَ بلا نصٍّ، بل يخلّده، ما خلد النصّ في مكتبة الحضارة الإنسانية. الكاتب موجودٌ مع نصّه، ملتصقٌ به؛ حتى بعد خروج النص من حيّز التفكير والتخيّل إلى حيّز الوجود الموضوعي على الورق أو على الشاشة.

التناصّات في ديوان أحضان الوجع

نعود إلى ديوان أحضان الوجع، فللتناصّ أشكالٌ وأنواعٌ وآلياتٌ مختلفة؛ وقد رصدتُ في الديوان مجموعة من التناصات متوزّعةً على مجمل الديوان.

من حيث الأنواعُ استخدمت الشاعرةُ التناصَّ بنوعيه الخاص والعام، ومن التناصّ العام تناصّ الموضوع. يلاحظ القارئ، دون كبير عناء، أنّ التيمة المسيطرةَ في الديوان، لا سيمّا في قصائد النصف الثاني منه، هي تيمة قوّة الأنثى وتمرّد الأنوثة، حيث المرأة العاشقة المجاهرة بعشقها، التي تعتزّ بأنوثتها وتضعها في مكانةٍ عاليةٍ، بعيداً عن الابتذال؛ وهذه التيمة تطرّقت إليها شاعراتٌ كثيراتٌ منذ العصر الأمويِّ وليلى الأخيلية، إلى الأندلس وولّادةِ بنت المستكفي، حتى العصر الحديث، حتى لتكاد تيمة الأنثى القوية، وتمردها على ظروفها، أن تكون تيمةً مركزيةً لدى كلّ الشاعرات المعاصرات، من نازك الملائكة، حتى سعاد الصباح. وجدتُ هذه التيمة أكثر ظهوراً لدى الشاعرة التونسية آمال موسى في ديوانها أنثى الماء، حيث تنتظم قصائده في أربع حركاتٍ هي: ملكوت الذات، في حانة القصيدة، بيوت من طين، والحركة الرابعة: العاجزة من لا تستبدّ؛ وهي عناوين دالّةٌ، لا سيما الأولى حيث التمرّد الأنثويّ، والاحتفاء بالأنوثة، والرابعة التي تحمل ردة فعلٍ عنيفةٍ على استبداد المجتمع.

وفي ديوان هدى عز الدين يأتي التمرد بخفرٍ، مستتراً تحت عناوين رقيقةٍ خادعة، ما إن يدخل القارئ من عتبتها حتى يجد القصيدة تمور بقوة المرأة وتمرّدِ أنوثتها. من تلك القصائد: كفى تملقاً، التي تقول فيها:

فأنا أنثى لا تجيد فن الرسم فوق العقول البليدة

أنا الرائدة الغنية بالمعاني الفريدة

والحياء الفاجر بوجه الحقيقة

وكذلك قصيدة خلف ظلي اشتعالك، وقصيدة لقاء من غير موعد التي تقول فيها:

يا مجنون، ما العشق إلا ليلةٌ من الدهر

فاسكبِ الخمر فوق جسد اللقاء

أثملني الصمت وسياط اللهفة

تجلدني

ونقرأ في ديوان آمال موسى،  في قصيدة " كاهنة الجنون":

كاهنة الجنون أنا

تركتُ بين الأقفاص قدمي وديعة

وطرتُ ...

إلى حيث الفرو الأبيض.

أنثى الجنون أنا

البس تعقلي

أتراجع نحو الأمام

لأهجم

على كل جميل .

بعض أشكال التناص في الديوان

ومن أشكال التناصّ استخدمت الشاعرة التناصّ الدينيّ في أكثر من موقعٍ في الديوان؛ ففي قصيدة تهجد خيبة تقول:

 

تتهجد الصلاة في محراب النفاق

بلحم طيرٍ وريش نسور،

هنا جاء التناص مع الآية الكريمة: {ولحم طير مما يشتهون}.

كذلك في قصيدة شلال الغيرة كان التناص مع الآية: {وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا}... مريم- ٢٥

حيث تقول:

ليتني قديسةٌ أهز ّ

بجذع الغرام

وكذلك استخدمت التناصّ مع الموروث الغنائي المصري، في قصيدة خلف ظلي اشتعالك:

بلبلٌ حيرانٌ صوته،

ذُبح السكوتُ الثمينُ

النشوان يسقسق فوق أيكي

آليات التناصّ

وكما أن للتناص أنواع وأشكال، فإن الشاعر يستعين بالتناص من خلال آليات مختلفة، نرصد منها في الديوان (الاقتباس)، وهو جلي في قصيدة شيءٌ يعجبني، في العنوان والعبارة المكرّرة المكرر .

باقتباس متطابق مع عنوان قصيدة محمود درويش لا شيء يعجبني، العبارة التي سيكررها كثيراً في القصيدة، بل يجعلها عماد قصيدته.

يقول درويش في قصيدته:

"لا شيءَ يُعْجبُني"

يقول مسافرٌ في الباصِ – لا الراديو

ولا صُحُفُ الصباح، ولا القلاعُ على التلال.

أُريد أن أبكي/

يقول السائقُ: انتظرِ الوصولَ إلى المحطَّةِ،

وابْكِ وحدك ما استطعتَ/

تقول سيّدةٌ: أَنا أَيضاً. أنا لا

شيءَ يُعْجبُني. دَلَلْتُ اُبني على قبري،

فأعْجَبَهُ ونامَ، ولم يُوَدِّعْني/

يقول الجامعيُّ: ولا أَنا، لا شيءَ

يعجبني...

ويكمل على نفس اللازمة حتى نهاية القصيدة.

وفي الديوان تقول الشاعرة:

لا شيء يعجبني

لا شيء يعجبني

سوى البكاء على قبر الحب

الحصاد من أرض النفاق

زخات من مطر الجفاء والجليد المنصهر من قسوة العقول

وكما فعل درويش تكرر العبارة - اللازمة في بداية كل مقطع.

ومرّ معنا أيضا في الشاهد أعلاه شكلٌ آخر من أشكال التناص هو التضمين، حيث ضمّنت الشاعرة عبارة أرض النفاق في تناصٍّ تطابقي مع عنوان قصة يوسف إدريس أرض النفاقٌ، استخدمته الشاعرة في توصيف المجتمع.

كذلك من آليات التناص تناصّ الإحالة: وهو استخدام الكاتب بعض الكلمات أو العبارات التي توحي بإشاراتٍ أو إحالاتٍ مرجعية رمزية أو اسطورية، وهذه الآلية استخدمتها الشاعرة كثيراً في قصائد الديوان، وأحياناً في القصيدة الواحدة، وغالباً جاءت الإحالات أسماءً تحمل دلالاتٍ رمزيةً تختصر الكثيرَ من القول وتضفي على القصيدة جمالاً وتزيدها شعرية، مثل

كليوباترا، أديسون، في إشارة للنور، ونقيضه الظلام، والمقصود الظلام الفكري والاجتماعي، جولييت، شهريار، المسيح، موناليزا، سندريلا...

والكثيرِ من هذه الإحالات التي نوّعت في أساليب توظيفها، بين الدلالة الرمزية المباشرة، أو الطباق مع الرمزية، من أجل رفع مستوى الدلالة.

الخاتمة

وختام القول؛ إذا كان التناص أحدَ أهمِّ التقنيات الشعرية، وأحدَ الممكنات الجمالية للقصيدة الحديثة، فإنّ قيمته الجمالية لا تأتي إلا بإجادة استخدامها، وتوظيفها بحيث تعطي للقصيدة طاقةً جماليةً عالية، وتغنيها بالمجاز الذي هو من أهمّ أسس الشعرية؛ وهذا يتطلب من الشاعر أن يكون على درايةٍ كاملةٍ بالنصوص والأدوات الكلامية التي يتفاعل معها، ولديه الملكة الفطرية في تحريك تلك التناصّات وتوليد دلالاتٍ جديدةٍ، وإعطائها ديناميةً تولّد، من حركتها في ثنايا النص، دلالاتٍ جديدة.

***

منذر فالح الغزالي

بون 26.03.22

في المثقف اليوم