قراءات نقدية

نهر الرمان.. بوابات الزمن وسحر الكلمة لدى شوقي كريم حسن

مع أولى كلماته المشاكسة المتآلفة المتنافرة يحشرك شوقي كريم حسن في أتون حيرة سرمدية من خلال جمل متوحشة ومتلفعة بالوحشة، باحثة عن وهج يعيد لها الهدوء المفقود في مسامات الزمن الصعب، وهي بتمردها على المألوف لا تزيدك إلا حيرة على حيرتك التأريخية الموروثة من أيام زمنٍ ما كان جميلا في وقت ما، ولا أمل في ان يصبح جميلا في خضم معركة الصمود الزائف التي تتجول في أروقة حياتنا دون ان تجد من يردعها.

بين الفكرة والكلمة ثمة روح متمردة تبحث عن معنى اللامعنى في جنبات فوضى عالم متوحش بوهيمي، والحياة حين تتحول إلى فوضى لا يمكن أن تعاش (ص24) مع أنه يمكن لبوارق الأمل أن تأتي من فيوض التيه، تنبئك بما كنت تريد، أو تعدك بغد سعيد.

كأداء وعرة تلك الأرض التي يضعك شوقي فوقها، ويطلب منك المسير بأقدام حافية أنهكها الترف، تتقاذفها جلاميد المعنى، فتنز دما صارخا من آهة الوجع السرمدي الذي تكدس عبر التاريخ فصار جبالا.

السفر في عوالم شوقي رغم حميميته، ورغم الكلمات المنمقة المتعوب عليها لا يبعث على الطمأنينة، فثمة فوضى عارمة تسكن اللامكان بحثا عن هوية في عالم لا يحترم الهويات.. الهوية ذات معنى خاص عند شوقي، ولذا يؤكد عليها لا من خلال الدعوة للحياة بل من خلال الدعوة للموت، طالما أن الموت والحياة كلاهما مجرد عبث، فالموت في عوالم شوقي الروائية لم يعد أسطورة، والحياة لم تعد معنى، وما يعنيك من كل ذلك مجرد رغبة جامحة ألا تعيش المأساة مرتين، فضبابية الوجود الميتافيزيقي لا تحجب رؤيا الحكمة رغم كثافتها، ولكنها تعيق التأمل، فلا تعطيك فرصة لتدرك حجم المأساة إلا بعد فوات الأوان، وحينها تحدث المأساة التي نعمل جميعا على تجنبها، ولكنها تفاجئنا في منعطفات حياتنا، ولا أصعب من أن تكسر الأيام جناحيك وأنت لم تكمل تدريبك على الطيران بعد.

في عالم النهيق تختفي سقسقات العصافير وتضيع تغريدات البلابل فيضيع صدى التغريد الواعد بربيعٍ مشرقٍ قد لا يأتي إلا بعد فوات الأوان، وحينما يتلاعب القلم بأسمى طروحات الفلسفة ليحولها إلى نكتة تُبكي ولا تُضحك، فتلك منتهى حالات اليأس القاتل، أو قل التمرد على المألوف، لكنها بكل الأحوال لا تدل على الهزيمة، إنما هي مؤشرات عنف فكري معترض تؤكد حب الحياة.

مجازفة كبيرة أن تسعى الفلسفة لتتحكم باشتغالات الأديب فارضة نفسها على أفكاره ورؤاه وكأنها تريد ان تخرجه من صومعة عذوبة الكلمة وملهاتها التي يحتاجها العمل الأدبي؛ إلى صعوبة فهمها وتعقيداتها، لكنها مع كل المجازفة فيها تصبح أحيانا كالمعول الذي لا يمكن إزالة الصخور المشوهة وتهذيبها إلا بواسطته، فالملهاة لا تقف عند حدود اللاممكن بل تتعداه إلى كونٍ سريٍ بلا ملامح تفرضه تفاهة الفوضى، فوضى ألا يعرف المرء إلى أين يتجه وإلام يريد الوصول، وما هدفه وما غايته، ولذا يبدأ البحث عن مخرجات معقدة علها تسهم في إعادة صياغة المعنى، حتى وإن سلبت منه عذوبته، طالما أننا نعيش في كون متناقض هلامي الشكل.

في هذا الكون تولد المقارنات، وفيه يولد الجمال، وتولد الأفكار السوداوية، وتولد الحيرة، حيرة البحث عن جواب لأسئلة نزقة عن المقارنة والمقاربة، مثل: لم جئنا إلى هذه الحياة التي نسميها دنيا؟ ولماذا يتوجب علينا الموت؟ لا فائدة من حياة يتبعها موت، لهذا أريد ان أعيش (ص9)، هكذا يفكر شوقي، ويعني هذا أنه ليس من العبث المقارنة بين بوابات الحانات والأمكنة الفاسدة، ووحشية أن يتحول المرء إلى أشلاء تفتح الطرقات إلى موت آخر ليتقلد القادة نياشين الشجاعة تتراقص على صدورهم المترهلة ثمنا لعدد الجنود الذين قدموهم لجحيم الجنون، فتلك الوجوه التي كركمها الموت لم تولد عند خيمة الانتظار تمطر آهات وخرافات (ص16) لتعطي نضارتها لموت بلا معنى، لتتعفن قبل أن يحملها المأمور ملفوفة بعلم لم يقدم لها ولو شيئا يسيرا من وشل كرامة كانت تبحث عنها في عالم زائف. الزيف لم يصبح حقيقة أبدا، ظل زيفا مشخصا يعرف أوصافه حتى العميان والمجانين والعابثين إلى أن تم اختراع أنواط الشجاعة.

الحكماء وحدهم، بل الأكثر حكمة منهم وحدهم كانوا مشغولين عن الزيف بالبحث عن إكسير الحياة الذي بخرته نيران الحروب، تلك الحروب التي اندلعت وكأن لا هم لها سوى إذابة جماجمنا وربما لهذا السبب كان كل منا يرقب تابوته قبل أن يتحول إلى رقم سري في ملف ينتهي عند مكب نفايات (ص18).

نعم لا أقسى من الموت سوى لحظات وداع الأم لولدها المساق لموت مؤكد عنوة على حافات حدود الدم المشتعلة بنيران العبث والجنون واللاجدوى؛ الأم التي تمثلها (فطيم وحيلي) والدة شوقي؛ وهي ترقب ولدها يلج كهوف الموت، وبضعة أكف تلوح له مودعة، وهي موقنة أنها لن تر ما ودعته ثانية، وعيون ملوثة بدموع تحملها وجوه يملأها القهر وهي تختفي وراء الشيلات السود (ص19)، أما هو فليس أكثر من آلة صماء سُلبت كل مراكز التحسس فيها، وفُرض عليه أن يردد كالأبله: (أحنه مشينا للقبر... عاشك يدافع عن قهر محبوبته) (ص20)، ألم أقدم لكم عن الملهاة عسى أن تدركوا حجم معاناة الإنسان البغيضة إذا ما أراد ان يتأمل عمره؟.

حينما يتأمل الكائن عمره طمعا في فك طلاسم الحياة تتلاشى أمامه حدود المعرفة، وتضيع المسافات في ثيمات التأمل، فهو كلما توغل في بواطن مكنونها ازدادت عتمة وتحولت إلى وهاد معتمة يجللها ظلام سرمدي (ص22)، تتراءى فيه كل سنوات الجدب والقحط التي عاشها قسرا دون أن يفقه معناها.

في مثل هذه المحطات تولد فلسفة الحياة، ومعها تولد الأسئلة الجامحة، إذ لا أصعب من أن يحاول الإنسان لملمة شتات العمر ولاسيما إذا ما كان ذاك العمر قد قطعته المراحل إلى أوصال، وفي زحام الحياة النافرة تولد فكرة، فكرة مجنونة تدفعه ليتحاور مع نفسه: كل ما يشغلني الآن كيف ستكون النهاية؟ (ص26).

والأصعب من ذلك أن يأمل من تسكنه الآثام حتى وهو بمثل هذا الهذيان اللامنطقي ترويض أحلامه الصاهلة مثل خيول جامحة (ص37)، وكأنه يريد أن يسمع ولو مجرد آهة تنم عن وجود حياة لا تبعث على الملل، ملل الصمت القاتل، الصمت الذي يسلب المرء آخر محطات عقله فيدفعه نحو الجنون، هكذا هي الشوارع لا تطيق صمت الماشين في ليل وحدتها (ص27).

هكذا يحاول شوقي لملمة أفكاره ليطرحها لعبة تحدٍ من نوع آخر، من نوع غير مألوف يترك السياقات المتداولة العامة ويدخل في عالم فانتازيا الوهن، فالتحدي الحقيقي الذي يجيد لعبته الأشخاص من ذوي الفكر الناضج السليم هو الذي يعطي الكلمات معان غير قاموسية ولا معجمية لتبدو هي الأخرى نافرة غير مألوفة ولا مفهومة، ولا مصدر لمعرفة أصلها وجذرها، وبالتالي لا غرابة أن تجدها تصف الولد بأنه أخجل من الصمت (ص34)، وتصف الخوف بالحمار العجوز الذي انهكته الطرقات (ص34). وهكذا هم الذين يثيرون أصعب الأسئلة، أسئلة مجللة بالرعب السرمدي؛ ما الذي يمكن ان تصنعه وانت تسكن لب هذه الوحشة التي لا تعرف لها انتهاء؟ (ص34).

وفق معادلة مجهولة الحدين، حاول شوقي الوصول إلى نتيجة يعترض عليها البعض وهي أن يرسخ قيما مجتمعية كادت مفرداتها أن تندثر لا بسبب التقادم وحده، بل وبسبب التحريف والخوف والمجاملة الفارغة وحتى المحاصصة، وهذا كان يلجئه غالبا إلى استخدام مفردات اللغة المحكية.

حتى الأسماء التي يطلقها شوقي على أعماله سواء كانت روايات أو مجاميع قصصية أو أعمال تلفزيونية تجد فيها لغة الشارع التي تشعرك وكأنك تمشي في أزقة المدن المتعبة والمناطق القديمة لبغداد، حيث اختلطت رشاقة المفردة المضمخة بألق البلاغة مع عذوبة المفردة المحكية بلهجتها العامية.

أما الأفكار والقضايا التي يناقشها شوقي في أعماله العديدة، فهي صدى صوت حكمة العمر وتجارب الدهر التي تكدست فوق بعضها من ركامات العذاب في وطن أدمن البكاء حتى في فرحه، ونسي أنه هو الذي علم الدنيا معاني الفرح يوم لم يكن باقي البشر يميزون بين الضحك والبكاء.

أراد شوقي لهذه الأفكار أن تتمرد لكي يتخلص الإنسان من جنونه في ساعات الشدة والضيق، وأنت تواجه الموت كل لحظة عليك أولا التخلي عن جنونك وأحلامك، وتشيد معابد فخمة تقدس الخراب وتمجده (ص34)، فأي معنى أراد أن يستخرجه من ثنائية البؤس والقهر التي تعيشها أيها الإنسان، وما أنت إلا روحا معذبة ترتدي لباس القحط. هذا ما يجود به الإنسان الذي يتوسد العبث ويتقيأ غضبه في لحظة ابتهاج زائفة في دنيا تبدو غير عادلة تمنح بعض النساء أنوثتهن دون همسة حب، فالجسد الخرب الذي يحوي روحا فاسدة لا ينفع، ولا قيمة للإنسان الذي يسكن وكرا موبوءً تجوسه أقدام غريبة لتمارس اذلاله دون ان يعترض لأنه تعود القبول (ص35). أي صورة مبكية مضحكة مبهرة ساحرة تلك التي رسمها شوقي بإزميله؟

إن مجرى الرواية والاشتغالات الأدبية فيها تتعاضد بشكل متين، ومن خلال تعاضدها تكاد عبثية العمر كله تتكشف خدعتها من حوارية بين ضابط وجندي، الجندي هو فاضل، وأعتقد أن اختيار شوقي لهذا الاسم فيه دلالات كثيرة من أهمها الإشارة على الفضيلة والنقاء ليجعلها قبالة سفالة وانحطاط من يملكون السلطة غالبا! وهما يتحدثان عن الجندي الذي أصيب بالجنون خالد الذي اختار شوقي اسمه بعناية أيضا للتدليل على خلود الطبقة المسحوقة عبر التاريخ بسبب التضحيات الفارغة التي تقدمها، في هذه الحوارية ينادي الضابط:

ـ فاضل.. يا فاضل

ـ نعم سيدي

ـ من ذاك الذي يجلس هناك غير آبه بالليل؟

ـ هذا خالد خلف عودة

ـ ومن يكون.. ولم يعوف موضعه ليجلس هناك؟

ـ سيدي.. خالد جُن منذ اخترقت رأسه تلك الرصاصة.. ونحن نستخدمه لجلب الماء والأرزاق.

ـ ها فاضل؛ عند طرة الفجر أريده عند الساتر الأول!

ـ لكنه مجنون سيدي؟

ـ فاضل.. لأنه مجنون لابد أن يكون هناك!

أيتها الآلهة التي تخلت عن مجد الانسان، ما الذي نستطيع فعله؟ كيف يمكن ارسال هذا الشاب الذي فقد كل شيء ليموت بهذه السهولة والامتهان؟(ص36).

وتكاد جميع حواريات الرواية تنحو هذا المنحى بحثا عن جمل الحكمة في ينابيع الفلسفة: قال: كنت أتوقع حياته أسهل من هذا.. يعيش داخل دوائر سود من الآثام والكراهيات والرغبات المميتة.. صعب على واحد مثله دفن كل تلك الرغبات في أعماق لا تجد لها مستقرا.. يقول الرجل الذي مسح قطرات الدم المتساقطة عند حافة الجسد المسجى: مثل هؤلاء تكون خسائرهم أكثر بكثير من أيامهم.. خسائر متنوعة بلهاء.. لا اعرف ما سر تمسكهم بالحياة ومن أجل ماذا؟ (ص37).

هذه الإطلالة على الذات من عمق الرغبة الجامحة التي تتفرد بالبحث عن مديات غير مرئية تريد في حقيقتها أن تستكشف بعدا آخر خارج المألوف: كل ما أراه الآن يبدو خارج المألوف.. خليط غريب من مكونات لا يمكن أن تلتقي في غير هذا المكان(ص38).

وبالتالي تجد أن حواريات الرواية أرادت التأسيس لنمط من الدنيا غير مألوف هو الآخر تتقافز الرؤى الحكيمة من جنباتها، وفيها تزحف الروح قليلا فلا تعد تتحمل تلك الأصوات الغريبة الطاعنة في الارتباك، فحين تنهزم الروح تتهدم مكونات القلب فيذوي ويغدو الجسد مجرد وعاء تالف (ص38).

بحكم تخصصي ووفقا لدراساتي أدركت من خلال التجربة والممارسة أن الحكمة تسعى غالبا نحو عقلنة الأمور وتخفيف وطأة التأزم وامتصاص الصدمات دون رد فعل مساو، أملا في تجاوز المعضلات، لكن حكمة نهر الرمان أثبتت العكس ربما سعيا منها لتثبت أن الثورة هي العقل ومنتهى العقل ومعقل الحياة، فالعقل المتوازن يدعو للثورة مثلما يدعو للإيمان طالما هناك رغبة في أن يتخلص الإنسان من رذيلة الموت السافل (ص39)، فالخسارة الأعظم في التاريخ حينما نجد أن كل ما حلمنا به حولوه الى أكوام من النفايات المعروضة للبيع في وطن بيع بكامله الى فراغ، هذا ما يتضح من آخر كلمات قالها خالد خلف المتهم بالجنون: لا تنس.. قل لأمي التي لا تعرف معنى الطرقات إن خالد خلف المتهم بجنون الشظايا وعبث الوقت عبر لتكون مواجعه أكثر بساطة وأشد حزنا(ص40).

من خلال هذه الحواريات تخرج بمحصلة تعرف من خلالها ما أراد شوقي قوله عن تلك العوالم التي يحيطها الهذيان، ومن خلاله ترى أن العبثية، عبثية الحياة والموت والحروب والأوطان والدفاع عنها والمتاجرة بالعواطف تفرض نفسها بقوة على أجواء الرواية وكأنها تهزأ بالعقل المثقل بتفاهات الحياة التي تحوله إلى هامش لا فائدة منه، ولا أحد يراه إلا حينما يحتاجون إلى ضحايا تمدهم بالانتصار الزائف، فكثيرا ما كانت أيامنا تتأرجح بين موت وموت. ونحن اجتزنا دروب المخاوف ويجب ان نجتاز هذه المحنة البسيطة، كل ما ارجوه منك تحمل ما تجده يخالف انسانيتك(ص48) وحاذر منح رجولتك شكلا لا يليق بك(ص49).

ألا يعني هذا أن حياتنا تحتاج حقا إلى إعادة ترتيب؟ وماذا لو أعادوا ترتيب أيامنا حسب ما يرغبون؟ والأيام بالنسبة لي زاد لا أقدر على رفضه أو الاستغناء عنه (ص46).

بمثل هذه الإضاءات تفاجئنا صفحات الرواية ربما لأن شوقي يؤمن بأن أجمل الأشياء هي تلك المحاطة بالمفاجئات(ص60)، وأن لكل جواد روح وثابة تحركها رغبات الفارس لا رغبات الجواد نفسه(ص52)، ومن خلالها تحاول لغة الرواية أن تصنع نوعا من التواصل بين الروح والجسد، بين الحماقة والحكمة، بين العقل والجنون، لتحرك كل نقيضين منهما وفق هواه لا وفق إرادة المتلقي، وكلنا حينما نفكر بإنجاز عمل ما نحتاج إلى مساعدة روحية أولا في زمن لم يعد الوقت فيه سيفا، لقد طعنته المشارط وألقت به إلى حيث ترغب(ص75)، فالسكوت لا يمثل انتصارا.

وهذا يعني أن الوقت عند شوقي يغمض عينيه متوهما أنه قادر على إبعاد تلك اللحظة الرهيبة التي تسهم في تهشيم كل قواعد أيامه(ص77)، والوقت يضحك بين يديه فيجرها إلى منبت الصدر المتألم(ص94). هكذا هو الوقت عند شوقي ليس مجرد أرقام تسافر نحو الزوال الأبدي، وإنما هو كائن حي فاعل ومفكر يدافع عن نفسه خوف التشظي والضياع دون أثر، فهو لم يعد عنده كالسيف إن لم تقطعه قطعك.

نعم الوقت في نهر الرمان كالنهر كالليل كالنهار كالشمس كالقمر كالميلاد كالموت، فهو يسهم مثل باقي الأشياء في إعادة كتابة الحدث وفق رؤيته التي لا نعرف أبعادها، فتبدو لنا كشبح أسطوري هلامي الشكل يتكون حسبما يكون شكل الحيز الذي يشغله والإناء الذي يحتويه، إنه لا يلتزم بقواعد الأضلاع والمنحنيات والزوايا وإنما يحول كل أشكال الهندسة إلى شكل متداخل لم ينجح العلماء في توصيف شكله البعدي إلى الآن. الوقت في نهر الرمان كائن يعشق ويكره، يأكل ويشرب، ومع ذلك تشعر أنه لا روح له طالما أنه لا وصف له.

لقد أراد شوقي لهذه الرواية أن تثبت أن الوجود الحقيقي لا ترسمه جنونات عابثة، وهو اعتراض شديد اللهجة مليء بالامتعاض والسخرية السوداوية اللاذعة التي تعبر عن حجم الألم السابت في أعماق روح حاصرتها الهموم لمجرد أنها كانت تريد أن تبحث عن الحقيقة المغيبة، حقيقة أننا غرباء في الوطن، ولا حزن أكبر من أن يشعر المرء أنه بلا وطن!

عفوك سيدي تتحدث عن أشياء لا افهمها.. ما الوطن؟ كان المعلم يرسم لنا نهرين ونخل وبنات يرقصن ونحن المعذبين ببرودة وسائد الليل والمغسولين بمطر الأطياف نبصر أهلة أرواحنا... معلمنا يوهمنا أن الوطن شيء جميل ربما ما كان يعرف أن الوطن توابيت.. سواتر.. وبكاء ليل حزين، لا أصدق أني رقم في وطن هو الآخر رقم منسي على درب خارطة عتيقة... سيدي إذا متنا ما الذي يبقى من الوطن(ص96ـ97)

هكذا تجيء اللحظة بالفكرة، فكرة نزقة لا توصل خطواتها إلا إلى درب المقصلة، لينبعث السؤال السرمدي: ما الموت؟ ولماذا يتحتم علينا أن نمارس لعبته طوال حياتنا؟ هكذا ختم شوقي روايته بهذا السؤال الذي لا تجد له إجابة مهما بحثت لأنه أقدم سؤال في التاريخ وسيبقى بلا جواب أبد الآبدين.

صدرت رواية نهر الرمان في بداية عام 2022، بواقع 163 صفحة من دار العرب السورية ودار الصحيفة العربية البغدادية.

***

الدكتور صالح الطائي 

في المثقف اليوم