قراءات نقدية

قراءة في قصة قصيرة (العفة) للمبدع السعودي د. خالد الخضري

تتجلّى أركان القصة القصيرة جداً في القصصيّة والتّكثيف، فهذا النّوع يتميّز بقصر الحجم والاعتماد على الإيحاء المكثف، بالإضافة إلى سمة التّلميح والاقتضاب، واعتماد النّفس الجملي القصصي المرتبط بالحركة والتّوتر مع الميل إلى الحذف والإضمار أمّا التّقنيات فتتمثل في خصوصية اللغة والانزياح والمفارقة والتّناص والتّرميز والأنسنة والسّخرية والمفارقة والتّنويع في الاستهلال والاختتام.

وإذا كنّا قد تناولنا بعض هذه الأمور في مقالات سابقة منطلقين من تأطير النّوع وتبيانه، فسنحاول في هذه السّطور الموجزة أن نقدّم قراءة في قصة قصيرة للمبدع السعودي الدكتور خالد  الخضري، فالبناء النّظريّ لن يكتمل من دون التّطبيق.

الحدث القصصيّ من مستلزمات القصة، فإذا خلت منه تحوّلت إلى بوح وجداني، يقول الكاتب د-خالد الخضري في قصّته "العفة": "بعد دخولنا إلى غرفة النوم، كانت حريصة على أن تضع فوطة فوق السرير، وقمت بسؤالها عن هذه الفوطة، وبررت ذلك بأنها حريصة أن لا يتسخ السرير،  هي تعرف ما تريد، واثقة من نفسها تمامًا، وتدرك كل الذي سيحدث رغم أنها لم تتجاوز الثلاثين من العمر، إلا أن فطنتها، جعلتها تحسب حسابًا لكل شيء."

فإذا ما قرأنا النّص بعيداً عن عمق الدّلالة، وغاية القصد، سيكون نصّاً عاديّاً، وهو غير ذلك.ففي هذا النّص نتلمّس مشهداً يزخر بتقليد شعبي توارثناه-أكاد أقول-جيلا بعد جيل-، يعبّر عن رجل ذي طباع شرقية تتأجج فيه الشهوة ليلة زفافه و سرعان ما تتحول إلى شبق عاصف، لكنّ تطوّر الحدث برز في اختلاف النظرة، حسب وجهة نظر ترتبط بالعفة، فباتت بعرف الرّجال وكذا النساء عرفا اجتماعيا لا مناص من تجاهله يعبّر عن الفحولة وعذرية العروس وعفتها ليلة عرسها في ذات الآن..

وما شغل بال النّسوة ما توارثنه في مجتمعهن، وهو-كما أسلفت- مبدأ العذريّة-لدة المرأة العربية.فالحدث القصصي هو الفعل المحرّك في هذا النّصّ، وقد جاء متوتراً وفي حالة تصاعديّة،  يتنامى وفق التّغيير الذي تصنعه الشّخصيات، كي يكشف لنا النّفسيات الحقيقيّة.

ومن هنا فإنّ قفلة القصة اعتمدت على المفارقة.ويمكن أن نستشفّ من النّصّ المفارقة اللّغوية من خلال الثّنائيات بين بساط الأحلام الوردية" وبعد غفوة قصيرة، وأجواء حنونة، وأحضان دافئة...تركت لها الكيس الذي يحتضن الفوطة، عنوان العفة، لتفعل به ما تريد ورحلت."

حملت دلالات في المضمون.

ومن الأركان الأساسيّة في القصة القصيرة التّكثيف.وهو إيجاز لتفصيل الحبكة السّرديّة عبر التّركيز على استهلال وجيز، وصولاً إلى نهايات مفتوحة أو مغلقة، "أخذت الكيس الذي به الفوطة، في يدي، فإذا بسعاد تسارع إلى انتشاله مني،  فدُهشْت.."

يتّخذ النصّ شكل القصّة القصيرة .وهو شكل سريع القَصّ عميق المعنى.وفي موضوع نراه يحتاج الوعظ، غير أنّ النصّ ابتعد عن منابر الوعظ ليكون نصّا فنّيّا في كتابته، واعظا في مضمونه وغايته، ومادّة للتفكير في قضيّة باتت من شواغل الإنسان في عصرنا الحديث خاض فيها الخائضون كلّ بأسلوبه.ثمّ يتحوّل النصّ من مجرّد قراءة فكرة متداوَلة تبحث عن تأصيل القيم في منظومتها الجديدة الّتي اقتضتها متطلّباتُ العصر إلى قراءة قضيّة أخلاقيّة وسلوكيّة،  بل عاطفيّة، اجتماعيّة وحضاريّة، ثمّ تنفذ إلى التّأمّل ومنه إلى البحث عن حلول لقضايا الأخلاق والمجتمع والحضارة وطرق الخلاص من تبِعات التقدّم التكنولوجيّ واستلابه لقيم أصيلة مقابل تأصيلٍ لقيم أخرى على حسابها.

الجانب الفنّيّ في هذه القصة، فإنّنا نلاقيه في الأسلوب القَصَصِيّ المعتَمَد كشكل للكتابة، وفي القصيرة، في شكلها المستحدث الجديد.

فتتكثّف في القصّة المعاني وترسم في ذهن كلّ قارئ نصّا يفهمه وحده، ويرى فيه ما يريده هو بحسب تأويله ورأيه في القضيّة.(العذرية..العفة..)

وإذا عدنا إلى القراءة وجدنا العالم القِيَمِيَّ الأصيل تشتدّ لبناتُ بنائه بحكمة ندركها جليّةً.فالبناء يشدّ إليه بأفقه المذكور قبل الآن وبالعنوان الّذي يُظهر براعة في التّلاعب باللّغة و يلقي ظلاله على المشاعر الّتي تلاعبت بها عاداتنا التي -كما أشرت-ورثناها عن أجدادنا-إلى درجة صار فيها الأموات يحكموننا من وراء قبورهم..!!"ـ إذن لماذا وضعتها في الكيس،  وماذا تريدين بها،  هل ستحنطينها مثلًا؟

ـ باعطيها أمي،  تحتفظ فيها للزمن.

ـ  أي زمن، من جدك؟

ـ أجل،  هاذي عاداتنا، وعشان، أي أحد يفتح فمه بكلمة عني يكون هناك الدليل."

ويستظل النصّ بظلّ العنوان، وينتشر ويمتدّ كما انتشر الحبّ فيها..يكبر في تلك الليلة التي نسميها في المغرب العربي ب"ليلة الدخلة"ويمتدّ في كلّ الأرجاء وفي كلّ الاتّجاهات..

وتتضافر عبارات الوصف مع جمل السرد ليعطّل الوصفُ الفعل فيتعَطّل.وهذه براعة أخرى في استعمال اللّفظ تنضاف إلى المضمون والشكل.فأسلوب الكتابة الّذي لم يبتعد عن البساطة قد صار عميقا صُورةً وتبليغا وتأثيرا..وهذا يحسَب للقاص البارع د-خالد الخضري .

وبَعد النّصّ، "العفة"يمكن أن يكون في صورة أخرى تحمل الفضائل وتؤصّل القيم النّبيلة.أَلَمْ يصغ كاتب النصّ (د. خالد الخضري) نصّه لِيَصِلَ إلينا من أجل معان إنسانيّة ذات بعد سوسيولوجي وسيكولوجي تسكننا-قسر الإرادة-؟

ختاما يمكن القول أنّ القراءة العميقة، القراءة الاستنباطية، هي التي تكشف المعنى الخفي بأبعاده الغائرة في النص ودلالاته الرمزية؛ فالإبداع الحقيقي في كل زمان ومكان هو التعبير الصادق عن الوجدان الجمعي لا الوجدان الفردي.والرمز هو الذي يضمن له تلك الإمكانية المتجددة، وهو ما يجعل القصة، كما القصيدة، صالحة لكل زمان ومكان.

التعبير المباشر، مهما كان نصيبه من جمالية اللغة وطراوة الأسلوب، يظل محكوماً بوقته وراهنيته ثم يتلاشى.وعلى العكس من ذلك التعبير غير المباشر، التعبير الرامز، الذي يأخذ مداه الطويل في الزمن والتاريخ.

وما من شك في أن-الشاعر والقاص السعودي السامق د-خالد الخضري -قد حقق قفزة نوعية في مجال الإبداع بمختلف تجلياته الخلاّقة..

ولنا عودة إلى -قصة العفة-عبر قراءة مستفيضة..

***

محمد المحسن

 

الناقد التونسي محمد المحسن 

في المثقف اليوم