قراءات نقدية

"قلعة المتاهات" لسعيد رضواني.. كتابة الشغف بالحكاية والولع بتقنيات السرد

يستدرج القاص المغربي سعيد رضواني قارئ أضمومته السردية الثانية: "قلعة المتاهات"، والصادرة عن الراصد الوطني للنشر والقراءة (طنجة، مارس 2022م) للولوج إلى عالم من التيه السردي المدهش، كأنها "كتابة مملكة صغيرة بالطوب والحجر بدل الحروف والكلمات، مملكة تسكنها سلالة من الأبناء والأحفاد"، كما جاء في قصة: " قلعة الحروف والكلمات" (ص، 15(.

وقد أهدى القاص المغربي المتفرد سعيد رضواني، المهووس بتقنيات السرد، - حيث يكتب قصة مغربية لا تشبه بقية القصص، قصة تهبه جناحيها، لكي يحلق خارج سرب السرد العربي، الذي يهمل أغلب مبدعيه كتابة القصة بحرص وشغف، فيكتب نصا لافتا، و"يبتكر تقنيات سردية تجعل عمله قادرا على الصمود أطول مدة ممكنة في عالم الأدب"، (قصة: "قلعة الحروف والكلمات". ص، 22)- نصوص هذه الأضمومة السردية المتميزة إلى شيخ القصاصين المغاربة، سندباد القصة والحياة، الكاتب الكبير سي أحمد بوزفور "قاصا عظيما وإنسانا رائعا".

حين نقرأ قصة : "استدراج"، سيدهشنا هذا التداخل السردي ما بين ما حدث وما سيحدث، والكاتب لا ينشغل بالفكرة، بل بطريقة سردها، حيث يستدرج الكاتب القارئ، مثلما يستدرج السارد المجرم مرة أخرى، وهذا الهوس بالألعاب السردية، التي تستهوي القاص المولع بتقنيات السرد - والقارئ الحذق أيضاً-، سيدفعنا إلى البحث عن الجديد، الذي أضافه سعيد رضواني إلى هذه التقنية، المستوحاة من تراثنا الحكائي العظيم: "ألف ليلة وليلة".

في قصة "قلعة الحروف والكلمات"، سندخل متاهة كبرى، إذ كلما أعدت قراءة النص تضاعف غموضه، الذي يتفاقم بسبب دائرية الحكي، كأنها متاهة حقيقية، تؤكد أن الحياة ليست بهذه البساطة، التي نكتبها بها.. الحياة تشبه دائرة مغلقة.

 الكتابة خلق جديد للعالم، عالم موازٍ يكتبه سارد بالرمال، سارد يكتب القصور ويبني القصائد.

في هذا النص/ المتاهة يخيل إلي أن صاحب "مرايا" و"قلعة المتاهات"، يكتب عن مكان متخيل بطريقتين مغايرتين، في نص مكثف يتوسل بتقنية لافتة، يعرفها د. السيد نجم بــ"رواية الأجيال" أو "النهر"، حيث يقدم عبرها سعيد رضواني رؤى مختلفة لهذا العالم، الذي يمضي مثل نهر يركض غير عابئ بضفتيه... لكن، ما يثير الانتباه حقا، أن  هذا العالم بدأ قرية، ففي البدء كانت القرية، وكانت الأصوات/ الكلمات، ثم اكتشف الإنسان الكتابة، بالنقش أولا، ليحمي وجوده من الفناء والزوال، فانتصر الكاتب المغربي سعيد رضواني للقرية، بأشجارها، حيواناتها وطيورها في ذلك العالم، الذي لم يكن سوى كتابة بالرمل، كتابة تتأمل هذا العالم، الذي يعكس عظمة الخالق عز وجل، وتدين - تلك الكتابة الأخرى- التطرف بكل صيغه، تماماً، كما حدث للأب الذي حمل جذع شجرة، وصعد إلى الجبل، معتقدا أنه مسيح جديد يحمل الصليب، لأن هذا الخالق سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى أن يعلن عن نفسه، ولا يحتاج إلى رهبانية؛ العالم يحتاج إلى العمل، الابتكار، حتى لا تداهم الصحراء أرواحنا، وتبتلع خضرة قلوبنا...

من يقرأ بتمعن قصص سعيد رضواني سيكتشف أنه مهموم بهذا الوجود، ويسكنه قلق وجودي فادح، يدفعه إلى تأمل مفردات بدايات هذا العالم، غير عابئ بالتنبؤ بنهاياته، كما تشي بذلك قصة: "مرايا الأحلام"، في مجموعته القصصية البكر: "مرايا"، وهي نص غير بريء تماماً، تجعلك تفكر بأن الحياة مجرد سرقات، بل يدفعك القاص المغربي سعيد رضواني إلى تأمل هذا التاريخ البشري الحافل بالخطايا، منذ خروح آدم وحواء من الجنة، عبر حدث يبدو بسيطا جدا، لكن عبر لعبة المرايا أو السرد المرآوي، حيث لا تنتهي هذه السرقات، وتتكرر دوما. ليس دفاعا عن الشر، أو عن الشيطان، الذي يتخفى خلف تفاصيل، تبدو موغلة في تفاهتها أحياناً.

يكتب سعيد رضواني عن سرقة الهوية، سرقة التاريخ، عن الحروب البشرية، عن البغاء كسرقة أيضا، لا يمكن التخلص من رائحة اقترافها، رغم التطهر. الحياة بدأت على هذه الأرض، بعد سرقة تفاحة محرمة، بيد أن هذه الحياة، التافهة بإكراهاتها تسرقنا من ذواتنا، دون أن نتمكن من رؤية أنفسنا في المرايا، وقد نصاب بالذعر من هذه السرقات المتكررة في القصة، لأن سعيد رضواني لا يدين الشيطان، لأن التقنية التي توسل بها في هذه القصة القصيرة تشي بأنه شيطان بالفعل/ شيطان سرد، وهذا ما تؤكده بالفعل قصة: " قطار لومباردي"، التي تعد درة عقد "قلعة المتاهات".

يوهمنا القاص سعيد رضواني بأنه يكتب عن الحياة/ قطار العمر، الذي نستقله مرة واحدة، حيث يخدعنا بتلك الإشارة الزمنية (المساء/ الغروب/ النهاية/ الموت)، حيث تتراجع المرئيات إلى الخلف مع مضي القطار إلى الأمام، وتتيح تقنية سينما الطريق للسارد التنقل بين عالمين: عالم الداخل وعالم الخارج، بينما الأنامل تواصل رحلتها في الاتجاه المعاكس؛ رحلة موغلة في دهشتها الطازجة، ليس بسبب حادث القطار، الذي اختفى في نفق قبل أكثر من قرن وعاد للظهور في أزمنة لاحقة وأمكنة بعيدة، وإنما بطريقة حكي تلك الحادثة الأسطورية، من خلال ثلاث شخصيات، تستقل قطارات مختلفة، وتشهد هذه الشخصيات على أن سعيد رضواني كاتب عالمي، كتب نصا سامقا، سيذهل كتاب الرواية والقصة القصيرة على حد سواء، بأسلوبه الفريد والمختلف في كتابة الميتا- قصة، وهذا ما تؤكده تلك النهاية الصادمة، وهي تتدرج من أعلى الجبل، وتنحدر نحو أسفل الحكاية، فنتذوق طعم فاجعة أن تكتشف تلك الشخصيات أنها لم ولن تصنع الحدث، بل هي مجرد خيال حظي بفرصة وجود، بفضل قاص مغربي يدعى سعيد رضواني، ويترجل أبطال القصة عن صهوة السرد تباعا.

لقد استطاع القاص المغربي أن يتجاوز تجربته السردية البكر: "مرايا"، المتميزة بشهادة النقاد والقراء، وأن يتفوق على نفسه، بتطوير أدواته الفنية في نصوص المجموعة القصصية الثانية: "قلعة المتاهات"، وهو ما يجعل القارئ الشغوف بالسرد المغاير، ينتظر نصوصه القادمة، على أحر من الشوق، والتي تشكل إضافة نوعية لمكتبة السرد العربي.

***

هشام بن الشاوي

 

في المثقف اليوم