قراءات نقدية

شعرية الجنوسة.. في (قصيدة العراق) للشاعرة بشرى البستاني

تصف الناقدة والمنظرة النسوية الفرنسية هيلين سيكسوس العملية الإبداعية لدى الكاتبة قائلة: ” ان المرأة تمنح نفسها قدسية عندما تنجب ذلك التدفق الامنيوسي (amniotic) – الرحمي من الكلمات والتي تعيد وتكرر إيقاع وتقلصات فعل المخاض ” (2). أي [فعل الإبداع] وبذلك يكون تقمص الجنسانية (Sexuality) بالنصانية (Textuality) إذ يصبح النص الأنثوي مفعما بالطاقة الخصبة والرؤى الأنثوية الحاسمة. على هذا الأساس الجسدي بنت الناقدات النسويات رؤاهن للعملية الإبداعية (Creativity) لدى الكاتبة تمييزا لها عن تقاليد الإلهام عند الرجال. وهنا تبرز مفهومة مصطلح الجنوسة أو (الجندر Gender) الذي يحاول الابتعاد عن مفهوم ” الشاعر الرومانسي الذكر” بابتعادها عن الفلسفة الكونية المتعالية (Universal Transcendental) نحو ما هو خاص وخصوصي، وفي السياق نفسه فإن اعتماد النقد الدارج على مسميات ميزها النقد الذكوري في الكتابة الأنثوية (الأنوثة، الطبيعة، وموضوعات الحياة المنزلية) هذه الموضوعات التي أزاحتها تماما من خانة ” العبقرية ” وبالتالي وسّعت الهوة بين ” الشاعرة “والانغمار الحقيقي في نهر الحياة وبين الشاعرة وعبقرية الإبداع ” حتى أصبحا متوازيين لا يلتقيان.

 وتتتّبع الناقدة النسوية كرستي باترسبي مفهوم العبقرية من الرومان حتى الوقت الحاضر وتكشف آليات ذلك الربط بين العبقرية والذكورة وتؤكد أن ربط المرأة بالطبيعة والعاطفة ساهم في وضعها ضمن المفهوم اللاكاني / الفريديس (Lacanian / Freudian) لعقدة النقص (3). أما النقد البايولوجي (Biocriticism) وهو التعبير الأكثر تطرفا عن الاختلافات من حيث الجنوسة من منطلق أن التشريح الجسدي هو تشريح نصاني (Textual Anatomy) وهو يفنّد ما تناقلته الأجيال من أن المرأة هي المضاد الأدنى أو السلبي للرجل، وبذلك فإن كتاباتها إن لم تكن مقلدة أو مردّدة لما قاله الرجل، فإنها المضاد الأدنى وكتاباتها المنتوج السلبي.

 ولقد اعتقد أطباء العصر الفيكتوري أن الوظائف البيولوجية في جسد المرأة تستنزف 20% من طاقتها الإبداعية ونشاطها العقلي. كما اعتقد علماء الإنسان الفكتوريين أن الفصوص الأمامية لدماغ الرجل أثقل وزنا وأكثر تطورا عن مثيلاتها لدى الأنثى، وهكذا جرى الاعتقاد بأن النساء اقل ذكاء وأضعف ذهنيا من الرجال(4).

 أما النقد النسوي التحليلي (Feminist Psychoanalysis) فهو يبحث في الاختلاف الناجم عن استقلالية نفسية الكاتبة وفي العلاقة بين الجنوسة والعملية الإبداعية، كما يدمج ذلك النقد المعايير اللغوية والبيولوجية الكامنة في الجنوسة النابعة من اختلاف الجسد، وعليه فإن الكاتبات نادرا ما يستخدمن ” التقطّع Blocks ” في كتاباتهن (5)، ولا يخفى ما في مثل هذه الآراء من التمحل والجور على الموضوعية لاسيما ونحن نبحث عن العلاقة الغائبة والعجيبة بين الإبداع والعمليات البيولوجية التي تعرض لها النقد الذكوري.

 إن العملية الإبداعية لا ترتبط، منطقيا، بهذه الصفة البيولوجية، لذلك جرى التركيز على ما تردد عن عقدة النقص الفرويدية المزعومة عند المرأة، وهي عقدة الإخصاء (Castration Complex) أو ما يسمى بالمرحلة الأوديبية – الفرويدية Oedipal – Freudal Phase التي حاولت تفسير علاقة المرأة باللغة والخيال والعملية الإبداعية ؛ أما لاكان فقد وسّع عقدة الإخصاء إلى مجاز أعم واشمل للإضرار بالمرأة لغةً وأدباً وإبداعاً، فقد ادّعى لاكان أن اكتساب اللغة ونظامها الرمزي عند الطفل يحدث في المرحلة الأوديبية حيث يقبل الطفل هويته الجنوسية (Gender Identity) من حيث كونه ذكرا أو أنثى، وتلك المرحلة تتطلب قبول العضو الذكري كامتياز وغيابه كنقص ؛ وأمام ذلك الادعاء حاولت الناقدات مثل ساندرا كلبرت وسوزان كوبار إيجاد بديل عن نظرية قلق التأثير (Anxiety of Influence: A Theory of Poetry) لهارولد بلوم والتي تستثني النساء من العملية الإبداعية في كتابهما الضخم ” المجنونة في العليّة “(The Madwoman in the Attic) (6).

 وتقول نظرية قلق التأثير: إن العملية الإبداعية تتضمن وجها من أوجه الصراع بين الأبناء (الكتاب الشباب) وآبائهم (الكتاب السابقين أو المعجبين بهم) ؛ حيث يُملي الآباء ما يشتهون على أبنائهم، فيشعر الكاتب نفسه سجينا مستعبدا داخل قفص ذلك التأثير من الملهم الآخر، ولكي يخلق أسلوبه الخاص عليه الخروج منه وقتله ومحوه تماما ؛ ولان هذه النظرية تتجاهل النساء تماما ولا تورد لهن ذكرا، فقد ابتكرت كلبرت وكوبار نظرية قلق الإبداع أو قلق التأليف (Anxiety of Authorship) وهو إحساس ينتاب النساء عند الكتابة وذلك بالبحث عن نساء كاتبات ملهمات ولكنهن لا يلجأن إلى قتلهن (مجازيا) من اجل الابتعاد عن التقليد أو المحاكاة وإنما إلى الابتعاد عنهن والسمو فوق ذلك الإعجاب والتعلق من اجل خلق جديد وإبداع مستقل.

 وتورد الكاتبات تبريرات ذلك بالقول: إن الإحساس بالوحدة لدى الكاتبة أو الفنانة، والأحاسيس الأخرى مثل الغربة تجاه الشخصيات الأبوية المبدعة من الرجال في الإرث الثقافي والأدبي مع إحساسها بالحاجة إلى البحث عن الأسلاف من النساء والشعور بالحاجة إلى جمهور من النساء والخوف من العداء المتوقع من النقد الذكوري، وارتعابها من السلطة الأبوية للأدب، وقلقها من أحداث البذاءة في الذوق العام الرجولي التوجه، والتي غالبا ما تلصق بالإبداع الأنثوي، كل ذلك الإحساس ” بالنقص ” غذّى كفاح المرأة لتعريف ذاتها الفنية وإقرار اختلاف جهودها نحو خلق ذات مختلفة عن نظرائها من الرجال (7). وهكذا حاول النقد التحليلي النسوي مواجهة الفرويدية / اللاكانية التي نظرت إلى إبداع المرأة على انه نقص نفسي تعويضي يثبت دونية المرأة وان خيال المرأة لا يتعدى كونه شبقية تعويضية (Compensatory Eroticism) عن ذلك النقص مقارنة بالأنانية الواثقة والطموحة والشبقية كذلك عند الكاتب / الرجل.

 أما الناقدة النسوية – النفسية التحليلية نانسي جودورو فقد فنّدت ادعاءات فرويد وذلك بالعودة إلى مرحلة نفسية أخرى تسمى بمرحلة ما قبل الأدويبية (Pre-Odipal Phase) لتفسير الاختلاف النفسي – الجنسي لدى الأنثى، ففي هذه المرحلة تكون الأم هي ” الآخر ” الوحيد للطفل ذكرا كان أم أنثى، عندها يميز الذكر نفسه على انه النظير السلبي كونه يختلف جنسيا عن أمه، على عكس الأنثى التي تدرك هويتها ايجابيا بالتماثل مع هوية أمها من حيث الجنوسة (8).

وبالعودة إلى الناقدة الفرنسية هيلين سيكسوس والتي أنكرت لفظة، ” نسوية (Feminist) ”، باعتبارها تكرس الفرق بين ما هو ذكري أو أنثوي (Feminine / Masculine) فإنها تحاول تعويضَها مركّزةً على مصطلح الكتابة الأنثوية (Ecriture Feminine) وهي البحث في أثار الجسد الأنثوي والاختلاف الأنثوي في اللغة والنص، كما أنها تهاجم الثقافة الأبوية القائمة على الرمزية اللاكانية ومركزية اللوغو لدريدا (Derrida’s Logocentrism) ؛ ففي مقالتها الشهيرة ” Sorties” (1975) والتي تعني من بين أشياء أخرى بالفرنسية: ” مفترق طرق، أو الإفلات، أو النجاة، أو بمعناها العسكري هجمة المُحاصَرين ”، إذ تبدأ المقالة بالثنائيات التالية: أين هي: الفعل / اللافعل الشمس / القمر الثقافة / الحضارة الليل / النهار أم / أب رأس / قلب مفهومة / حساسة لوغوس (لغة) / إحساس (عاطفة) شكل، محدب، خطوة، تطور، بذرة، تقدم، مادة، مقعر، أرض، ماذا يدعم الخطوة، وعاء. رجـل

امرأة (9).

 إن نظرية قائمة على نموذج ثقافة المرأة تتيح معرفة الطرق التي تستخدمها الكاتبة لخلق مفاهيم حول جسدها ووظائفها الجنسانية / النصانية والحياتية ترتبط بشكل دقيق ببيئتها الثقافية، بمعنى أن النفس الأنثوية يمكن دراستها كنتاج أو تركيب متواشج من قوى ثقافية أو بيئية: مثل الأبعاد الاجتماعية، مدلولات اللغة واستخدامها، تشكيل السلوك اللغوي، والمثل الثقافية المحيطة بها. فالنظرية الثقافية تعترف بوجود اختلافات بين النساء ككاتبات من حيث: الطبقة، العرق، الجنسية والتاريخ وهذه محددات أدبية مهمة بأهمية الجنوسة.

 مع ذلك فإن ثقافة المرأة تشكل خبرة جمعية (Collective) ضمن الثقافة ككل تستوعب الكاتبات كافة في زمن ومكان واحد بآصرة تجعل مقاربة ثقافة المرأة على مفترق طرق عن نظريات عقد النقص والتعويض والتبعية وبعيدا عن المقاربة الماركسية للسلطة الثقافية (10). بهذا المنظور يقدم البحث تحليلا نصيا لقصيدة ” قصيدة العراق ” للشاعرة بشرى البستاني.

 ليس بعيدا عن الجنوسة والإحساس بها، تؤكد معظم الشاعرات الانكليزيات مثل مي سوينسون وهيلدا دوولتل ومارج بيرسي وآن سيكستون، على سبيل المثال لا الحصر. أن قصائدهن ما هي إلا تعبير عن عالمهن الداخلي أو ذواتهن التي يجب أن تتعرى ليتم فضح المسكوت عنه وان القصيدة هي الأنثى بعينها، فالقصيدة بالنسبة لهن تتلخص بأنها الجسد الأنثوي المنتهك النازف يقطر دماً تماما كما تنزف النفس الأنثوية حبرا، وتقول دوولتل ” لدي حبرٌ وليس قلما ” وبالطريقة نفسها تقول الشاعرة آن سيكستون: إن قصائدها ” ترشح كما في الإجهاض ”.

 أما الفنانة فريدة كاهلو والتي تقدم نفسها وكـأنها مشدودة بحبال– وهي أوردتها وشرايينها – ولكنها أيضا فنها في الرسم. إن إبداعها يسهم في دعم جروحها وتثخينها (11)، إذن فالإبداع عند المرأة المبدعة عملية خلق مجهدة ومؤلمة وجارحة. ففي قصيدة ” أغنية الصباح ” تصف الشاعرة سلفيا بلاث عملية كتابة القصيدة بالولادة وان الطفل الوليد هو القصيدة (12). وعليه فالقصيدة عند الشاعرة هي الجرح وهي الدم وهي الألم. إذن فالجنسانية الأنثوية (Female Sexuality) تماثل وتطابق النصانية (Textuality) التي تنتجها المبدعات.

 إن المركزية النسوية (Gynocentrism) – وهو مصطلح أوجدته الناقدة النسوية إيلين شولتر لمواجهة مركزية اللوغو (Logocentrism) الذي أعطى الذكر مركزية الكون إنما هو محاولة لخلق شعرية نسوية (Feminist Poetics) مستقلة لبناء ” إطار أنثوي لمقاربة أدب المرأة وإيجاد معايير قائمة على دراسة التجربة النسوية بعيدا عن الاعتماد على تقاليد ونظريات ونماذج ذكورية “.

 إن المركزية النسوية ” مرتبطة بالبحث النسوي في تاريخ النساء، علم الإنسان – النسوي، علم النفس النسوي، وعلم الاجتماع النسوي ” (13).

ان شعرية الجنوسة الخاصة بشاعرتنا بشرى البستاني ليست قائمة على السيرة الذاتية (Autobiography) أو الاعترافية (Confessionalism)، ولا على التعليمية (Didacticism) بمضامينها الأيديولوجية، بالرغم من تناولها مختلف القضايا السياسية بوصفه ثيمة لقصيدة ” قصيدة العراق ”. إنها تقدم ثنائيات العلاقة بين الشاعرة والإرث العربي، الشاعرة وذات الشاعرة،الشاعرة والإنسان / والحياة والمستقبل، الشاعرة والقارئ، وبين القارئ والقصيدة، كما إنها تقدم نفسها ضمن بيئتها الثقافية والتاريخية زماناً وفضاءً وارثاً.

وتتميز شعرية الجنوسة في ” قصيدة العراق ” بالنسق السردي المتناوب مع الوجداني – الغنائي المبنيين على كثافة المخزون من الإشارات الكامنة في وجدان العربي التي تستفزها الشاعرة باقتحام المحظور من الأحاسيس والوقائع الحسية التي تشكل قوام النص. إن صميمية استذكار الماضي المنتزعة من صميم الوعي بالحاضر السلبي الخامل لا يلبث أن يسفر عن بروز شفافية تتجاوز الإطار الذاتي المحدود لتلتحم بالقضية العربية التي هي قضية الملايين من البشر على أرض شاسعة وفي مرحلة معينة من هذا الزمن.

 إنها قضية الإنسان بكل عذاباتها وتشرذمها. وعليه ينصب اهتمام هذه المقاربة على إيجاد نقاط التقاء بين الشاعرة وشعرية الهوية الأنثوية وارتباطها بثيمة الوطنية (Nationalism) وبين شعريتها المأجنسة (Gendered Poetics) والتي تمتد إلى أفق خارج حدود الذات والذاتية وتقدم صوتا بعيدا عن التطرف وعن ادعاء تبني الحقيقة المجردة متخذة موفقا يتسم بالعمق السياسي العام للشاعرة كشخصية وطنية ؛ تخاطب شاعرتنا الجمهور بشكل مباشر حول قضايا تمتد من الذاتية العامة لتخرج منها نحو قضايا ذات أهمية موقفية من دون وضع نفسها خبيراً بها.

تنطلق الشاعرة من جروحها، اضطهادها، رهابها، وخوفها وربما قمعها وهي سلبيات أنثوية تفعل فعل ارتكاز في النقد التحليلي النسوي وعليه تكون القصيدة هي جرح الشاعرة وهي جسدها المتألم المفروش على الورق ومرسوم بشكل قصيدة ؛ إذن فالمرأة هي القصيدة والقصيدة هي المرأة.

نبدأ بالعنوان ” قصيدة العراق ” وهي ” المفتاح التأويلي للنص ” كما يقول امبرتو ايكو (14) ؛ إذن فشعرية ” قصيدة العراق ” تكون ” امرأة العراق ”، ” جرح العراق”، ” جسد العراق ”، ” قصيدة امرأة ”، وهي ما تبكي انتهاكه ونزفه شاعرتنا الكبيرة بشرى البستاني عندما يتماهى الوطن / العراق مع الشاعرة. إذن فالشاعرة تصبح هي العراق بعينه، الوطن النازف المنتهك، ومدلولات ذلك اجتماعيا ودينيا في نظر العربي والمسلم.

تبدأ ” قصيدة العراق ” بصوت جوي سماوي وهو صوت الطيور الجمعي القادم من فوق موجعا بالظمأ من خلال مفردة ” تلوب ” بصيغة المضارع المستمر: تلوب الطيور الجبال، الجبال العراقية التي حاولوا فصلها عن جسد العراق الواحد وعزلها عن قضيته النضالية الموحدة، وهذا الصوت أنثوي الهوية من خلال حالة الجمع ” الطيور ”، يُفهمنا انه لا بد من وجود مستمع، بيد ان التركيز على الجبال وهي دلالة أنثوية أخرى تجعل المقطع الأول من القصيدة طافحا بالأنوثة المجروحة الباكية. غير أن الفعل الأنثوي بما فيه من دلال وغنج يشي بفعالية الأنوثة واستمرارها وتواصلها:

الجبال تؤرقني وتلفُّ بأغصانها جرح روحي، الجبال صبايا، تجزّ ضفائرها الطائرات فأجمع عنها شظايا القنابل امسح وجنتها.

إذن يتدخل العامل العدواني الخارجي باقتحام الطائرات والقنابل العدوانية التي تبدأ بشن هجومها الكاسح على الجبال/ الصبايا وأنوثتهن الفاتنة.

 إن الدالات ” أغصانها ”، ” صبايا ”، ” ضفائرها ”، ” وجنتها ” هي الجسد الأنثوي أو هي أجزاء من الجسد الأنثوي تهمس للقارئ بان الموضوع أنثوي؛ ولعل مفردة ” صبايا ” أكثر من غيرها إثارة لخيال المتلقي الذكر بما تحمله من التاريخ سرياً وعلنياً، وعلى أية حال فهي إرهاصات ومكابدات الذات الشاعرة؛ وهذه المراوغة الشعرية بتحويل الذكري المفرد إلى جمع أنثوي: الطيور، الجبال، تستمر في المقاطع الآتية:

 فتسيل الغيوم على مهلها … فوق ورود الصباح، والجبال حيارى الجبال التي شردتني الجبال التي هجرتني وأهجرها، وأحن إليها، فتبكي جروحي وأنسى الذي كان ما بيننا من ملام …

 وهنا تبرز هوية المتكلم الذكر وهو يصف وقع الاتحاد الجسدي بين الذكورة والأنوثة: الوطن والجبال الأنثى، ليأتي رد الفعل في مجازات تنم عن الحب بكل معانيه الرفيعة الخالدة بصوت الأنثى:

والجبال تلوب العراقُ، العراقُ، العراقُ متاحفُ نخل، مرايا، وعاج وأروقةٌ من لجين، وأزمنةٌ من دم، وأكفٌّ تدقُّ رتاج العصور فتنهض إنسا وجان وتعدو الفيالقُ،تعدو البيارقُ تعدو الخيولْ 

سمفونية حبّ أزلية تختصر شوقاً يهز ينبوعَ اللغة فتنثال جملاً رشيقة تزيدها تماسكا واو العطف التي تخلق تلاحما حميما يمنح الإيجاز بجمله القصيرة الموحية حركية شعرية مرهفة، حتى إذا شعر المقطع بكفاية التماسك تخلى عن واو العطف في الجمل الأخيرة واكتفى بمواصلة السرد. 

 وهذا الصوت الأنثوي الآن وهو يتغزل بالعراق يقدم بانوراما مجازية لتاريخ العراق وروعته الجمالية وثرائه الذي لا ينضب.

 وتستمر الصور بالتراكم الواحدة فوق الأخرى بأنساق تصويرية متسلسلة رائعة ابتدأت في المقطع السابق من واقع حال العراق المادي والطافح بالكنوز الثرية، إلى تاريخه الحضاري المتألق، ثم إلى صور تجريدية تضيف المزيد من الثراء الفكري لهذا الوطن العظيم كما تراه الشاعرة وكما يعرفه جمهور القراء، قائلة:

والعراق الرؤى، والأمان، العراق الأماني العراق حديقةُ روحي والعراق هنا عندما يتحول إلى حديقة يتخذ هوية أنثوية ليستمر مسلسل التأنيث في القصيدة، وهنا تتخذ الحديقة صورة الأم الحانية / الأرض، ذلك الكيان الجغرافي:

العراق حديقة روحي تضم إليها غيوما، وبرقا، وأزمنةً من لظى وجداولَ شهدٍ تشق أكفَّ التراب.

 إن هذه الجملة الاسمية “( العراق حديقة روحي )” التي تحمل دلالة الثبوت والاستقرار والوثوقية، وكثيرا من الحميمية والحب لا تفصح عن خصب العراق حسب، بل هي تفصح عن خصب أنوثتها كذلك إذ يتحول الوطن في داخلها إلى حديقة والحديقة من الرياض: كل أرض استدارت وأحدق بها حاجز، والحديقة كل أرض ذات شجر مثمر ونخيل، وقيل هي البستان وكل بستان كان عليه حائط فهو حديقة (15)، والحائط من الحرز والمنعة وتحقيق الأمان والحماية، وفي الحديقة معنى الاستدارة. إنها في هذا النص تعني استدارة الحياة وتكاملها وخصبها وتوفر عوامل الإيجاب فيها … إنه اعتراف بعيد الفوز بحب يسمو ويتسع ويثرى ويتلون بغنى وشمول، والحديقة من الحدق والحدق: السواد المستدير وسط العين ظاهرا، وفي الباطن هي خرزتها وجوهر الإبصار فيها.

هكذا يكتسب الاعتراف بالحب أبعاده الجوهرية ليشكل ركائز الحياة الأساسية: الخصب، الإبصار، الرؤية، وبمباهج الحيوية وحركية الجذب: شجر ملتف وثمر وألوان وغيوم حبلى بكل ما هو جميل ومعطاء، اعتراف لا يصدر إلا عن الأنثى. فقد تعودنا من الشعر الذكوري أن نخاطب الأوطان خطاب القوة والعنف والسلاح، لكن ما تبوح به المرأة يبدو خطابا وطنيا دلاليا صميميا جديدا، خطابا يحركه حب جمالي من نوع جديد: والعراق حديقة روحي، حيث يتوفر لهذا الحب كل عوامل الديمومة والاستمرار والتواصل ماديا ومعنويا: من الثراء إلى المسرة والانشراح حيث يتحقق الانسجام النفسي من خلال حلول الوطن – الحديقة – في روح الشاعرة التي تتسم بالانفتاح والشمولية واللا حدود. ثم يستمر التأكيد على أنوثة العراق من اجل تحطيم ذلك الحد الفاصل بين الذكورة والأنوثة كما يراها التحليل التقويضي / التفكيكي.

 وتلجأ الشاعرة إلى أسلوب الاختزال، إذ تكون أكثر الأشياء حميمية وشفافية ومحدودية في الخبر المكاني (عباءة أمي + ثوب العذارى) وطنا مسكونا بشعرية الأنوثة، حيث تؤكد الشاعرة بلسان الجبال / الأنثى قائلة: والعراق عباءة أمي، وثوب العذارى اللواتي يمتن على السفح، من ظمأ واغتراب فهي لا تنسى قضيتها، قضية الأنثى المغدورة عبر التاريخ الإنساني، وبهذا المقطع تلخص الشاعرة كل تاريخ الاضطهاد الذي عانته المرأة ومازالت في المجتمع الأبوي، لتحيل العراق / الملاذ من كل ذلك، بل إنها تُسِقط مشاكل الأنثى على العراق.

 ثم تأتي مساحة من الورق البيضاء لتدل على المسكوت عنه عند هذه النقطة، وبذلك تقول الكثير من خلال ذلك الصمت البليغ، وهو من تقاليد الكتابة الأنثوية ؛ فالمسكوت عنه هنا يبدأ بمفردتين تختصران مكابدات المرأة ” ظمأ واغتراب ” وأية مرأة ” العذارى / اللواتي يمتن على السفح ” ؛ والسفح هنا جزء من الكل وهو الجبال، والسفح منحدر الجبل مما يلي القمة إلى الأسفل وإشارته هنا حيزا للصبايا إنما يعني التهميش الموقعي ماديا ومعنويا مما يؤدي بهن إلى الظمأ والاغتراب فالموت، وموت الأنوثة هنا متحقق إذن بعوامل خارجية قمعية هي (الظمأ …) ينتج عنها عوامل داخلية تتمثل بـ (الاغتراب) وموت الصبايا يتشظى ليشمل كل أنواع التغييب والإزاحة والإعاقة بما يبعد الأنوثة عن القمة موطن الذكور وحدهم، وفعل الموت بصيغة المضارع المستمر دليل على استمرار عوامل إزاحة الأنوثة عن موقع صنع القرار وفاعلية الاختيار وهذا تأكيد على ملاذ المرأة المتمثل بالوطن.

والجبال هي عنوان التوازن في الأرض إذا فقدت فاعليتها في هذه المنطقة من العالم إذا فقدت فاعليتها فإن ذلك الفقدان  يشيع الإرباك والاضطراب ويجعلها عرضة لاقتحام الآخر، لذلك ففي فاعلية الجبال تماسك وأمان ونعيم وفي غيابها سياط وجحيم ولوعة.

 يمكن اعتبار ما تقدم مقدمة لكل ما تحتويه مقاطع القصيدة التالية حيث يمكن تقسيم الجزء المتن الذي يبدأ بانتهاء المقطع أعلاه إلى سبعة أقسام قائمة على استخدام ” يـا ” النداء للعودة كل حين إلى التأكيد على العراق بمجازات تصويرية ممتدة، فثمة حميّة خاصة بصوت الأنثى تتقمصها وهي تهتف مستصرخة مستنهضة وهي تخلق ذاك التوازي بين هذه المقاطع السبعة التي تبدأ كل منها بياء النداء، والنداء هنا ليس هتافا إنه نزف داخلي يتسم بالهدوء، إنه ضراعة ونجوى وابتهالات، والمقاطع هنا تشكل عنصرا هارمونيا في موسيقى القصيدة لأنها تعد وقفات وانتقالات في آن واحد، من تفعيلة لأخرى ومن بحر عروضي لآخر، وما يتبع ذلك من انعطافات دلالية، إذ تقول:

 ” يا قمر الجبال ” ” يا قمر المنفى ” ” فيا شجرا لا يهادن ” ” يا قمر البستان ” ” يا قمر الجبال ” ” يا قمر المنفى ” ” يا قمر الصحراء ”

 في المقطع التالي من القصيدة تؤكد الشاعرة ثانية على البلسم الذي يقدمه العراق لجروح الأنثى، لجروح العذارى، وهي تقدم له دعوه للحياة ببهاء قائلة:

 يا قمر الجبال عرج على السفوح فوجهك الأبهى يطلع في الجروح

إن مفردة ” القمر ” في تاريخ الشعر الإنساني هي رمز الإلهام وهو بالنسبة للشاعرة هنا ” قمر الجبال ” هو الوطن الملهم المداوي للجروح والمساعد على خصوبة العملية الإبداعية التي هي ولادة بدليل ذكر ” البذور ” و الطّلع، والقمر في الشعر العربي رمز للرجل الفارس، الرجل الكامل الرجولة نبلا وكرما وشجاعة وفروسية، وفي إضافة (قمر) إلى (الجبال) بعد حرف النداء تصميم على التحام الأنوثة برمز حبها (الوطن).

 ويكتمل المشهد الشعري الخصب الذي تغرسه بالتكرار في ذهن المتلقي، فمعجم الشاعرة حافل بما يشير إلى الولادة والتبشير بالآتي المحمل بالعلامات الايجابية، كما في المقطع اللاحق:

يا قمر المنفى عرّج على الحقول فوجهك الأبهى يولد في البذور..

إن التحولات التي تجري على القمر هي تحولات تتم من خلال تحولات المضاف إليه من جبل إلى منفى إلى بستان إلى صحراء وكلها استبدالات تحفظ للقمر بهاءه وضرورة حضوره.. تقول بشرى البستاني: (إن المرأة الواعية لا تقارع الرجل في حركة الحياة، فالرجل ليس عدوها وانما عدوها الأول والأخير هو التخلف، والرجل الواعي يؤازرها ويعاضدها في هذه المعركة الشرسة )(16).

وتنهي هذا المقطع بنقطتين وهي تحوّل المسكوت عنه إلى ولادة تجري في الحقول ؛ وتؤكد ان العراق – حتى لو كان بعيدا جغرافيا – فهو يبقى قمرا للمغتربين وللمنفيين بعيدا عنه، يبقى الملهم الخصب، وتصبح مخاطبته أكثر قربا عندما تستخدم الجزء للدلالة على الكل وهو ” شجر ” العراق مؤكدة على تميّزه الطبيعي بانه هو من يستفز الرياح كما أراد بفعاليته وليس العكس، فتحقق بذلك بلاغة المفارقة مستوى آخر من بلاغة الخطاب الشعري بمؤازرة بنيتين أسلوبيتين: النداء والاستفهام فضلا عن تداخل السردي في الشعري، فتقول معاتبة:

 فيا شجراً لا يهادن، يا شجراً يستفز الرياح لماذا فتحت النوافذ، والشمس داكنة والعيون قميئة لماذا توضأت بالدم. بالأمنيات، ودهرك أعجز من باقل والعدو يهدهد صبيانه والرياح تسير بما يشتهي القتلة.. أنت علمتني أن أموت كما ينبغي وألبي الحياة إذا انبلجت قنبلة فلماذا ذهبت وخليتني ولماذا عبرت إلى جهة أنا أجهلها

وفي هذا المقطع تورد الشاعرة في تعنيفها المرّ للمنحرفين عن الهدف الكثير من الأحداث الوطنية التي مرت بالعراق برغم اللوم الذي توجهه إلى ملوم مسكوت عنه وهم الحكام عندما انحرفوا إلى جهة غير الجهة المتوقعة منهم وحين اختاروا مكانا للحرب غير المكان الذي يجب وفي الوقت غير المناسب حيث صمت صغار الحكام ” الصبيان ” والتحذير واللوم الذي انهال عليهم من العدو ومن وقوف الحكام ضدهم بالسكوت، وهنا تذكرهم بما مضى من المفاهيم الوطنية التي تربت عليها ومنها الوحدة العربية التي تحولت إلى تشرذم وتشتت لم يسبق لهما مثيل:

في الطريق إلى مكة عيرتني القوافل أن سأموت بلا كفن أو سدور. وفي المغرب العربيِّ وجدت ثيابي معلقة فوق صارية، وثيابي على جبل الشيخ في الشام منشورة فوق حبل يخطُّ حدودَ هوية أهلي

 وبتقديم هذه الصور الشعرية المتوالية والتي تشي بثقافة قومية مختمرة في وجدان الشاعرة كونها مستمدة من الإرث العربي ومن وعي وطني وحس تاريخي عميقين، فهي تعبر عن العار الذي جلبه، فالثياب هنا تعطي دلالة أنثوية سلبية وهي تمثل الشرف العربي المنتهك، وهذا العار منشور من أقصى الوطن إلى أقصاه من ” المغرب العربي ” حتى ” الشام ” وتسترسل الشاعرة في استعراض آلام الوطن وآلامها وهنا بعد هذه الإطالة في الكلام تتماهى في أذهاننا أصوات: الجبال / أصوات الذات الشاعرة، الجبال / الوطن، وهذه الإطالة إنما هي تعبير عن التوتر الذي يشوب الجملة الشعرية والمتكلمة على حد سواء، قائلة:

 بين البنفسج والنار، بين المدى والقتيل. هناك وجدتك تبتاع خبزا لورد العراق وتنحت صخرا لأحلامه

 إن البنفسج تقليديا ونفسيا رمز للهدوء والتفكير، فبين هذه الحالة وحالة الانفعال المتمثلة بالنار، وبين عقد النيّة المتمثلة بـ ” المدى ” و ” القتيل ” وهي أكثر انفعالا وتوتراً فإن الذات المتكلمة تؤكد مراقبتها للمشهد ووعيها التام وقدرتها على تحليل الموقف، إنها تعبر عن استغرابها من تصرف من بيدهم القرار، إذ إن ورود اسم ” العراق ” حين دخل حالة الحصار التام والشامل وتحول من موقع القائد الثائر إلى باحث عن لقمة العيش كما أرادت له قوى الشر العالمي والمتعاونون معها من العرب، إنما تؤشر انعطافة في السرد للفعل الذي قام به أولئك عندما رسموا عظمة الحلم العربي، لكنها لا تنسى وضع اللوم على الآخرين فالوسطية التي يتخذها الوطن الكبير بين السلم ” البنفسج ” و الحرب ” النار ”، بين ” المدى والقتيل ” تفضي إلى انكسارات ومكابدات وصمت وألم مسكوت عنه:

 نسي النيل ما كان، آفة هذا الزمان التذكر آفته الموتُ فوق حجارة أمس تبلّد .

 وهنا يظهر تماهي صوت الشاعرة بصوت الوطن الذي ما انفك يعبر عن حيويته عندما تبث الشاعرة الحياة فيه لتعطيه صوتها تتكلم من خلاله: تلك الجبال، الجبال طيورٌ تكابد. إن الجبال هي عنوان التوازن في الأرض، وبهذه العودة إلى بداية القصيدة: ” تلوب الطيورُ! / الجبالُ، الجبال ” حيث التأكيد على نوع آخر من التماهي الآن بين الوطن المتكلم بصوت الشاعرة وبالجبال والجبال بالطيور لينهض المسكوت عنه من خلال الحذف المقصود لتترك القارئ يملأ فراغ هذه المكابدة: انها مكابدة الشاعرة / الوطن / الجبال / الطيور.

 ويستمر تراكم الصور المنتزعة من الطبيعة في تشكيل فني لهوية النص وانفتاحه على مستويين: الأرضي (حقول) والسماوي (قمر): مناف حصونٌ، حقولٌ من الزعتر المر نعناعها كرم الأرض شحّتها، قمر الأرض، لوعتها والجبال الجحيمُ، الجبال النعيمُ، الجبال سياطٌ تغالبْ. تهادنني، لا أهادنْ والجبال المناراتُ: خضراءُ، حمراءُ، سود.. وهذه تبتعث ألوان العلم العراقي في مخيلتنا: خضراء الروابي، حمراء المواضي، وسود المواقع وذلك ما يملأه الفراغ المسكوت عنه هنا ؛ وتستمر الشاعرة في رسم اللوحة التشكيلية: والجبال: القبابُ، الوعولُ، المرايا.. مراكبُ تسرحُ في الغيم، تبحث عن لوعةٍ، ولظىً يسعان هواها.. إن القرآن الكريم يشبه المراكب بالجبال والتناص هنا يقلب التشبيه بما يلائم السياق (وله الجواري المنشأت في البحر كالأعلام) (سورة الرحمن، الآية24).

 ان هذا الامتداد يذكرنا بامتداد نفس الشاعر الأمريكي وولت ويتمان في قصيدته ” أغنية ذاتي ” أو “Song of Myself” عندما تتوسع لتشمل الأرض والزرع والفصول والولايات والشعوب والحاضر والمستقبل وكل شيء أمريكي يتحول إلى عالمي – كوني (Universal) وهو جزء من الحلم الأمريكي الذي ما يلبث أن يتهاوى أمام فساد حكامهم المفسدين ؛ هكذا رأت الشاعرة وطنها المعتدى عليه، رأته يتسع ويمتد ويثرى ويتلون حتى أن كل جزء في العراق وكل حبة رمل وعشب وشجيرة يتحول إلى عالمي – كوني في الخارج، يتحول إلى أثيري – روحي – وجدي – عبيري في الداخل.

 وإذا كانوا قد اقتطفوا جباله واقتطعوها عن بقية أجزائه فإن شعرها قادر على توحيده مرة أخرى، إذ يبدو العراق في نص القصيدة موحدا بجراحه ومكابداته، وبالرغم من دمه النازف فانه يعدو نحو الغد ؛ وبالرغم من عدم وجود أي دليل على إلمام شاعرتنا بهذه الثيمة إلا أن امتداد نفس المتكلمة تقع ضمن الدائرة نفسها، ولكن مع اختلاف الجنوسة، فهنا يكون بتوسع الذات الأنثوية وامتلائها بكل ما يرمز إليه الوطن / الأنوثة ؛ إنها حالة صوفية راقية من التوحد بذات الوطن / الرجل.ولكن ما تلبث أن تعود إلى أرض الواقع المرير:

تؤرجحني.. أتهاوى إلى القاع، أصعد عبر الجذوعِ، أرى ذمما تُشترى وشعوبا تُباعُ وأبصر تاريخ حبي على السنديان ممالكَ أهلي وتيجانهم ونضار خطاهم وأزمانهم

 وتتخذ موقعا راصدا ومغذيا ورافدا ” عبر الجذوع ” إذ ترقب الخونة وترسم ما ترى من احباطات مُذكّرة بتيجان الأفعال والأزمان العربية المجيدة؛ وتأتي إشارة تاريخية في رؤى الشاعرة محذرة من عودة أبرهة الذي يتربص بالأمة / الأنثى الدوائر مقتربا من سفوح الجبال والتي عرّفتها منذ بداية القصيدة على أنها مكان ” العذارى ” حيث ” يمتن ”، وحيث تصير العذراء – مكة واحدة من قتيلات الاستلاب وضحايا العصر: فتلوب الكهوف وتشعل أنيابَ فيلٍ تمرد.. أبرهةٌ لا ينام، يفتش عن باب مكة بين السفوح والجبال ملاعب أهلي.. أحس دبيب سواهم على قمةٍ، هي وردة روحي على ربوة هي جرح الضفاف التي طهرتني.

 ان (الياء) وهي ضمير المتكلم الأنثى – الأمة تعاود فعاليتها في الحضور والتأثير معلنة هيمنتها برغم ضراوة حالة السلب. ثم تسترسل الذات الشاعرة / الجبال في استعراض بانوراما تاريخ العرب والعراق بتحول تناصي سلبي يطغى على حاضر الوطن الكبير من ” تاريخ آشور ” و ” كلكامش ” و ” الحداة ” ؛ والحداة مفردتها الحادي وهو الذي يقود القوافل ويقرأ لهم شعراً نحو هذف الوصول؛ ولكنهم في حاضر الأمة:  يصيحون بالمدلجين الذين يجزّون شعر الغزال، الغزالُ مسجى على قاع رمل الخليج ولا يجدي تحذير الحداة للمجرمين الذين يقودون الشعوب إلى التهلكة والدمار، إنهم يتآمرون على ” الغزال ” وهو هنا ” العراق ” بدلالة موقعه الجغرافي ” الخليج ” ؛ إلا أن الوطن يأبى إلا أن ينهض من موته الذي يصبح ولادة بتشجيع من المرأة:

 يا قمر البستان عرج على الشرفةْ فوجهك الفتّان يموت في سعفةْ يا قمر الجبال عرج على السفوح فوجهك الفتّان يولد في الجروح....

 إن الإشارة البارزة المتكررة مرتين في المقطع نفسه هي ” القمر ” مصدر الإلهام، ورمز الرجولة النبيلة وليس ذكورة القمع وبربط ذلك بـ ” حديقة روحي ” المتكررة سابقا، وهي تحيل هذا المقطع إلى تجربة صوفية جديدة ؛ وهنا دعوة مستمرة لاستنهاض الوطن فالظاهرة الشعرية هي التوازي الواضح بين ” الشرفة ” و ” السعفة ” و ” السفوح ” و ” الجروح ” مع تكرار ” فوجهك الفتّان ” مرتين بالتوازي مع ” يا قمر ” تتيح للوطن الولوج من الشرفة، من السعفة نحو ” السفوح ” لأجل  شفاء الجروح، ” جروح العذارى ” ” اللواتي يمتن ” هناك من ” ظمأ وجوع ” ؛ أما الوجه الذي تتصوره الشاعرة هو صورة ” تجسيمية ” نابعة من ” تصور وبلاغة وحشو ” حيث ” تجسّد قداستها في التصوير ” (17) ؛ إذن فقضية الوطن هي قضية الأنثى / العذارى.

وهكذا عندما تصل القصيدة إلى قمة الشعور بالحزن ينهض الفن والشعر ليعوض عن عذاب الواقع وليلتفت إلى رمز الحياة والحب والتواصل والخصوبة وتقوم ياء النداء بفعل مهم وهو بصوت الأنثى الذي يدعو إلى الاندماج، فالموت في سعفة نخيل العراق بالنسبة للعراقيين على وجه الخصوص هو رمز للأمومة فهي تشبه الأم بتكاثرها البايولوجي بالفسائل، لذا فهي رمز لاستمرار الحياة فضلا عن كونها ملجأ أمينا للعراقي الذي يلوذ بها من وطأة حر الشمس وهي شجرة الصمود ورمز الخلود، لذلك فالموت في سعفها إنما هو ولادة، وهذا ما يتأكد في الصورة التالية من ولادة وجه العراق في الجروح.

 في المقطع التالي تخلق الشاعرة تناصا بنيويا بالإشارة إلى التلميح التاريخي (Historical Allusion) إلى هجوم التتر – هولاكو وتواطؤ العلقمي معهم ذلك الذي سلمهم مفاتيح بغداد لتتبعه بمقطع آخر من الحاضر العربي المليء بالخيانة والخونة في تركيب تصويري(Imagist )بمونتاج سينمائي – أو تشكيلي بكولاج، صورة فوق صورة ((Superposition وبتداخل نصي وتعالق حواري على رأي باختين (Dialoguic) ويسري المقطعان كالآتي:

وشريفهم في الليل، يضرب كفه ماذا سنفعل دونما تترٍ همو وعدوا سيأتون العشية والعلقميُّ إذا تأخر، من سنعطيه مفاتيح القضية يختضّ تاريخ الرماح على ظهور علوجهم ترتج أحذية التتار، على سفوح جباههم يا ويل ماضيهم من الآتي. وآتيهم من الأصنام والأزلام، والزمن المضرج بالأسى، ومجازر التفاح هذا البحر غربانٌ، وأوحالٌ، ودمْ.

 في هذه الصور الممنتجة المركبة الواحدة فوق الأخرى لغرض المقارنة حيث تبتكر الشاعرة تناصا سلبيا لإضافة الرهبة المشحونة بالاشمئزاز من (شرفاء القادة) الحاليين لتبرز المسكوت عنه بشعرية مفعمة بهواجس الأنثى من الخونة الذين هم كثر من بين من يمتلكون مفاتيح قضايا الأمة ليعطوها كما فعل العلقميُّ لأعداء الأمة عن سابق إصرار وترصد، إنها العمالة المسكوت عنها المتواطئة مع الأعداء لاغتيال الأمة بالمجازر المعلنة وغير المعلنة حتى صار كل بحر تضمه خارطة العرب مملوءاً بالغربان وهم عدة وعتاد وطائرات وقادة العدو ممرغون بالخزي والأوحال ودماء الشعب العربي.

 وتسترسل الشاعرة في استعراض صور لخيانة الحكام باستضافة العدو في مياهنا وخلجاننا وفوق أراضينا، لكن فجر العرب يأبى إلا أن يبحث عن متنفس موحيا بأنه لم يختنق بها:

ومراكبٌ تهوي، وأخرى تحتدمْ.. والبحر أهدى الفجر قبعةً، وراح. لم يستبح ورد الطفولة، بانبلاج الأفق كان البحر يؤمنٌ بالخطيئة، بالرياح باللعنة الكبرى، وبالوطن المباح.

 إن الزمن إذن بحاجة إلى الانحراف عن السكونية والخنوع وما عليه إلا أن يؤمن بالخطيئة إن كانت الصورة خطيئة كما صورها الآخرون. إن دعوة البحر هنا هي دعوة إلى المستقبل المنفتح على الحياة، دعوة إلى الإيمان بكل ما يقلق المستبد: إن تستبيح الثورة – الخطيئة الرياح، اللعنة الكبرى – الوطن لتنهض به نحو طرق الخلاص.

 وتقف القصيدة طويلا مع البحر: البحر العربي، الأحمر، المتوسط وهي ما تحيط خارطة العرب وكلها تلوذ بالأمل المتمثل بـ ” ورد الطفولة ” وبالتغيير الذي ترمز له الرياح، وتستعرض الشاعرة جوانب من الخطايا , الحقيقة المسكوت عنها بسيميائيات وتناصات متوالية، قائلة:

 أبوابُ حيفا مذ خرجنا.. ظلت مفتحة لأسراب النميمة. سفر الجريمة أينعت أغصانه، وعناكب الديجور، تحجب في الربى ورد الصباح. ماذا ستعطيك الحياة.. النار أشعلت السنابل في الحقولِ ونارهم غرّاءُ، لا تؤذي القتيلَ، حضارةٌ زهراءُ من دمنا أكفهمو تسيلُ، فلا تمت في القيظ لا ماءٌ ولا خبزٌ ولا قمرٌ ظليل

 ثم تعود لتذكر الوطن بكل عوامل الحياة المتوفرة فيه، وعوامل الولادة الكثيرة: السنديانة، العرش، الطفولة، الرمان وزهرهُ، ماءٌ ويمامٌ وأجنحة إذ تطرح القصيدة تواصلا ناتجا عن الدعوة إلى تلاحم السنديانة (الأنوثة) بالمخاطب والتحذير من اللعب على المبادئ والتواصل الإنساني (تاج الطفولة):

أعطتك هذي السنديانةُ ذاتَها، وهبتك عرشاً يستريحُ، ولا يرُيحُ، فلا تبع تاج الطفولة، فالجبال هي الجبال، هي الجبال.. وشجيرة الرمان ألقت زهرها فوق الرمال.. ماءٌ يسيل من الغصون، إلى يمام الروح، أجنحةٌ تحطُ على ذرى القلبِ، الجبالُ منافذٌ للبحر، ذاك البحر كان أذايَ، كان مظلةً سوداءَ، كان البحر مرسالي إلى قيظ الجزيرة.

 وهنا تبرز شعرية استخدام الفعل المضارع والماضي. وفي المقطع الأخير حيث يختفي الفعل الماضي لتطغى صيغة الفعل المضارع ؛ تعود إلى التوازي والتكرار لإضفاء الغنائية العالية عندما تخاطب الوطن بياء النداء مستنهضة بشوقها وإحساسها العالي بالجمال:

 – يا قمر المنفى، عرّج على البيوت. فوجهك الأبهى ياقوتة تموت – يا قمر الصحراءْ عرج على الواحاتْ. فوجهك الوضاءْ يذبل في الفلاةْ. أهذا زمان الرجوع إذن..؟ أنت تكتبه، ونهادن سرا يمزقنا، لا نبوح به.. نكتوي، لا نبوح به، ونسير إلى حيث نهوى المسير، إلى حيث ريح الصبا غضة والمناديلُ آمنة، والمنايا نذور …

 وهنا تنادي الشاعرة بإلحاح الوطن الذي يتماهى مع الحبيب المغترب للعودة من المنفى ؛ فهي ترى فيه لون الحياة الياقوتي وتحذره أن يُجبر على الموت رغم كل العدوانات، تدعوه للعودة من صحراء الحياة إلى الواحات وتحذره من البقاء في يد القتلة في الفلاة، ثم تتساءل إن كان هذا هو زمان الرجوع، ذلك الرجوع إلى الأمجاد إلى حيث عوامل الحياة الفاعلة، فهي تتساءل تساؤلا بلاغيا حيث قناعتها بان كل عوامل الرجوع متوفرة في وجود زمام المبادرة بين يديه ” أنت تكتبه ” إذن فهو إعادة كتابة، والكتابة يقين ووثوق وتاريخ وعبور نحو المستقبل، وهنا تذكر من جديد السر الذي ” يمزقنا ”، كل ما هو مسكوت عنه من خيانة عرب اللسان والجنسية وكذب العالم المتقدم وادعاءاته في حماية حقوق الانسان، ثم تؤكد المسير إلى حيث تهوى هي والحبيب / الوطن، إلى حيث الريح التي ينتظرها العربي كي تنقذه من سكونية الواقع، تلك الأمجاد تستعيد نضارتها غضة بلا انقطاع عن الجذور، حيث المناديل الملوحة للوداع تصبح أمنة، أما المنايا التي كانت مجانية فتتحول إلى نذور.

 إن المرأة في القصيدة تتحرك وتعبر وتفصح وتبوح بحرية ووعي بعيدا عن استلاب النظريات وعقد المنظرين، إنها صاحبة قرار لا تقف في الظل ولا تتبع الآخر، بل تصنع رأيا وتؤشر سلبيات، وتدرك معنى أن تكون، وكينونتها تفصح عن نفسها بالقدرة على الانجاز والاختيار حتى في ميدان التضحية، فجملة ” لا أهادن ” قد تعني في النهاية طريق المواجهة والتعبير عن الذات المستقلة المتحررة الناهضة لتصفية جسدية وموتٍ بالمعنى الذي يريدون … إن أي خطاب لا يخلو من عقد الاضطهاد إلا إذا اتسعت الرؤيا، ولا تتسع الرؤيا إلا إذا تجاوزت الهموم حيزها الذاتي إلى الهم الإنساني الجماعي وحينها يكبر الجرح الأنثوي ليصير جرح أمة ووطن، إن التنبؤات التي طرحتها بشرى البستاني في هذه القصيدة التي كتبت عام 1991 وفي غيرها من قصائد ديوان مكابدات الشجر والتي تحققت فعلا عام 2003 تستحق دراسة خاصة في محاولة للكشف عن الوشائج الكامنة بين النبوءة والشعر.. مرة أخرى.

إن ” قصيدة العراق ” لوحة فنية اقرب إلى الكولاج منها إلى التصوير الوصفي، حيث تكون الإشارات الفضائية إلى عوالم نفسية موغلة في الغموض أكثر من كونها وثيقة جغرافية للوطن العنوان الذي تحمله القصيدة ؛ أضف إلى ذلك غياب أي إشارة واضحة إلى موقع الذات الشاعرة في الفضاء الجغرافي للقصيدة، بالفعل فإن الرؤية غير الموجهة في القصيدة تحيل إلى الكثير من التأويلات مما يؤدي إلى تمثيل عراء يستحيل تصوره واقعيا، يربط الحي بالجامد، المرن بالساكن، البرود بالانفعال، اليابسة بالمياه ومن ثم انصهار هذه الثنائيات ببعضها مما يوسع أفق حركية دلالتها.

 وبتوالي القصيدة سطرا بعد سطر لا تصبح الرؤيا الجغرافية لجبال الوطن أكثر وضوحا بل أنها توغل في الغور في سبر المشاهد والأصوات التي تنقلها لنا الذات الشاعرة؛ لذلك ففي مثل هذه القصائد الكولاجية / الممنتجة تصبح الرؤيا البانورامية إشكالية وخاصة في غياب وجهة النظر والحسمية في المعنى أو الثيمة.

 إن التأمل في مثل هذا الفن يشبه المكوث في مكان واحد والتجوال إلى عوالم أخرى في الوقت نفسه. ذلك أن الأشكال والصور والأشياء مألوفة بحد ذاتها إلا أن انضمامها إلى بعضها هو الغريب حيث يسيل بعضها فوق بعض كأمواج النهر وعواصف البحر، بذلك تكون عملية اكتمال دائرة الرؤيا عملا مزعوما تعتقد خطأً انك توصلت إليه. فبشكل مراوغ تكّثفُ الشاعرة الصور في تركيبات نحوية كثيفة ومضنية كي تشبك الرؤية بين الشكل والأرض، الخطوط والانسياب، ففي المقطع الأول من القصيدة، مثلا، يبدو كل عنصر يقف بذاته حيث ينساب في الجملة اللاحقة أو شبه الجملة التي تليه.

 ان كل شيء في القصيدة يكتسب حركية بالسحر الجمالي الذي يضفيه تكرار الفعل المضارع السردي وتكرار مفردة الجبال التي وقع عليها الفصلُ عن العراق حديقة روح الشاعرة وموطنها التاريخي والجمالي ابتدءً من ” تلوبُ الطيور / الجبال، الجبال / الجبال تؤرّقني / وتلفُّ بأغصانها جرحَ روحي / الجبال صبايا / تجزُّ ضفائرها الطائرات / فأجمع عنها شظايا القنابل / أمسحُ وجنتها ”. وحتى المقطع الأخير:

 ” ونسير إلى حيث تهوى المسير، / إلى حيث ريحُ الصبا غضةٌ / والمناديلُ أمنة، / والمنايا نذور … ”. إن الجبال نفسها تكتسب حركية خاصة بتحريكها كل الأشياء من حولها فهي ” تؤرّق ”، ” تلفّ بأغصانها وظلالها بما في الظلال من دلالات الحنو والوقاية ” و ” تجز ضفائرها الطائرات ”، وهي ” تسيل كالغيوم “… الخ.

إذن فهي تسيل خلسة ” تعدو ” وما زالت الجبال تتحرك تنفعل تنتقل وتجسد حركية المسكون في مكان واحد والتجوال إلى أماكن أخرى في الوقت نفسه. ان ” قصيدة العراق ” تتوجه نحو الحركية والانفعال أكثر من الوصف الجميل الثابت. إن ” العراق ” وهو عنوان القصيدة يشبه الجبال بكل الأفعال والصفات التي أعطيت للجبال، وهكذا تتفادى القصيدة الاستجابات العاطفية من خلال فضاء الجبال غير المستقر ومن خلال الصور الممنتجة التي تتيح الانفصال عن العاطفة الكامنة في ما وراء السطور، فلغة القصيدة هي لغة اقرب إلى لغة العلم حيث تكون التجربة والسياق الجغرافي منفصلين ويصبح الفضاء مجرد مكان للأشياء والأحداث. إن أول ما تبدأ به القصيدة ” تلوب الطيور! / الجبال، الجبال ” إنما هي محاولة للذات الشاعرة للانفصال عن عاطفتها بإسقاط فعل ” تلوب ” على الطيور وليس على الشاعرة وهكذا يتم إخفاء جنس المتكلمة ” المرأة ” وزمنها ثم الاختباء وراء علاقات مع عالم الأشياء، ثم إعطاء صبغة الكونية على النص ماعدا العنوان الذي حرصت الشاعرة على تشكيله إشارة حقيقية لنزوع روحها وجماليات شعرها معاً.

إن فعل التسمية، تسمية الأشياء وإحالة الأفعال غير المألوفة إليها إنما هي محاولة من الشاعرة الأنثى لخلق تسمية جديدة لهوية الأشياء؛ وبخلاف ما عهدنا عليه في الرؤيا الذكورية للمرأة على انه الآخر أو الملهم، تقوم الشاعرة بشرى البستاني بالتخلص من الصفات المعلقة تقليديا بالأنثى من اجل السيطرة عليها مثل العاطفة، الشخصنة، المحلي أو البيتي والخاص، إضافة إلى محو الجسد صوفياً ومن ثم تفاعله مع بقية العالم.

إنها تحول التمركز حول الأنثى – وهو الدارج في تقاليد الكتابة الذكورية – إلى ما هو بعيد تماما عن البشر، وهو الجبال أو العراق ككيان معنوي، كتجريد ترتسمه بدلالات تشكيلية حسية تخلقها في مخيلة المتلقي من خلال التوتر الذي يثيره تصويرها ؛ إنها تمنح ذلك الآخر الحرية في التعبير عن نفسه في لغة الجسد ككيان ؛ فالعراق يمتد جسديا في الجبال والطيور والأوراق وصبايا العراق وغيومه وورود صباه ومتاحفه ونخله وعاجه وأروقته، وتاريخه وأزمنته وفيالقه وخيوله ورؤاه وأمانه وجداوله وأقماره ووجهه وشجره وخارطت في الوطن العربي: من مكة والمغرب العربي والشام وحتى جبل الشيخ، والألوان: البنفسج والأحمر والأخضر والأسود … الخ.

إن مسالة التحرر قضية ليست شخصية ًحسب وإنما هي قضية الآخر غير البشري في قصيدتها. إن من المهم أن نعرف أن ما تقصده الشاعرة ليست المقابلة أو الثنائية بين الفن والحياة، الثقافة والطبيعة، وإنما بين طرق الوجود في هذا العالم ضمن فضاء المسكوت عنه.

 إن مجموعة الثيمات الوطنية والسياسية والنسوية والإنسانية وغيرها مما تقدمه لنا قصائد بشرى البستاني تؤكد أن القصيدة بالنسبة لها لم تكن لغرض جمالي أو فني بحت، لذلك فإن لقصائدها رنيناً يفوق رنينها الجمالي بالانغماس في القضايا العامة والتأكيد على العلاقة الوشيجة بين النص والسياق الثقافي، وذلك نابع ربما ليس فقط من اهتمامها بذلك السياق وإنما لكونه وسيلة لكبح الخاص أو دمجه بالعام يجعل من العام والخاص في تواشج حيوي فني وجمالي ؛ وعلى الرغم من أن الشعر الوجداني (Lyric) نوع أدبي يقدم متكلما واحدا أو شخصية واحدة تكون مصدرا أوحدا للرسالة التي تود القصيدة بثها، إلا أن ” قصيدة العراق ” تمزج السرد بالوجداني لتقدم روعة إبداعية لبانوراما كيانات متواشجة: المرأة / الشعر، المرأة / الوطن، الشعر / العراق، الجسد الأنثوي / القصيدة.

 الشاعرة بشرى البستاني تمدُّ بمهارة جسراً واثقا للقارئ تساجله وتناوشه، تحجب المسكوت عنه مرة وتظهره أخرى في كلمات حبلى وأوصاف بعيدة عن التمويه والتغييب لتجسيد الحالة التصويرية التي تمنتج الماضي المجيد والحاضر القاتم والمستقبل الواعد الأكيد. وهي إذ تمعن في استثارة القارئ واستفزازه فإنها تجهد في خلق ذلك النسق التعبيري الكامن خلف الثقافة العريضة المنخرطة في جنوسة الشاعرة بشرى البستاني ودلالاتها الشعرية التي تنهض من الواقع والحلم معا، إذ هي لا تسلم حلمها بالإنسان لليأس وعوامل الإحباط رغم مرارة الواقع. إنها شعرية الجنوسة، شعرية جغرافية العراق وناسه الصابرين وتراثه الخالد وثرواته وكنوزه، شعرية الألم والأمل، وشعرية الثقة بالنفس الأنثوية الخصبة الخالدة.

 ***

أ. د. وفاء عبد اللطيف زين العابدين

..............................

للاطلاع:

قصيدة العراق / بشرى البستاني

الهوامش

1- Quoted in Patricia Meyer Spacks, The Female imagination (NY: Aron Books, 1975), P. 355.

 2- Quoted in Verena Andermatt Helen Cixous and the Uncovery of feminine language”, Women and literature 7 )Winter), 42.

3- Christine Battersby, Gender and Genius: Towards A Feminist Aesthetics (Indiana: Up, 1991), P. 57.

4- Elaine Showalter, “Feminist Criticism in Wilderness, in Writing and Sexual Difference, ed. Elizabeth Up, Abe(Chicagol   1985), P. 17.

5- Showalter, P. 24.

6- Sandra Gilbert and Susanne Gubar, The Madwoman in the Attic: The Women Writer and the Nineteenth-Century Literary Imagination (Connecticut: New Haven, 1979), PP. 6-18.

 7- وتناقش كلبرت وكوبار المجاز الأبوي في تفسير العملية الإبداعية عند الكاتبات إذ إن ” كاتب النص هو أب وهو الجد والمنجب الجمالي له قلم بقوة توليدية قاذفة ”

8- Nancy Chodorrow, Gender. Gilbert and Gubar, P. 50 Relation and Difference in Psychoanalytic Perspective in Future of Difference .

9. Helen Cixous, “Sorties” in Modern Criticism and Theory, ed. David Lodge (NY: Longman, 1988), PP. 287-293.

10. Showalter, P. 27

11- انظر قصيدة ” الجرح ” لمي سوينسون ” ومازلت أشعر بك ” لمارج بيرسي و “هيلينا تروي ” لدوولتل

See Susan Gubar, “The Blank Page’ and the Issues of female Creativity”, in Writing and Sexual Difference, P. 87.

12. Quated in Gubar, “The Blank Page…”, P. 88.

13. See Showalter, “Towards feminist poetics”, The New Feminist Criticism: Essays on Women’s Literature and Theory, ed. Showalter (NY Pantheon Books, 1985), PP. 125-143.:

 14. نقلا عن محمد الهادي المطوي,” شعرية عنوان الساق على الساق فيما هو الفارياق ” مجلة عالم الفكر,ص 458.

15. لسان العرب مادة حدّقَ.

16. في مقابلة مع الشاعرة في كلية الآداب – جامعة الموصل 12 تشرين الأول 2004.

 17 . فريد الزاهي، الجسد والصورة والمقدس في الإسلام (المغرب: أفريقيا الشرق، 1999)،

ص 138.

في المثقف اليوم