قراءات نقدية

ضمير المتكلم للروائي الجزائري فيصل الأحمر.. رواية الأصوات المتعددة

طارق بوحالةيحاول الروائي الجزائري فيصل الأحمر في عمله الروائي الجديد "ضمير المتكلم" الصادرة عن دار ميم للنشر بالجزائر (2021)، أن يتخذ مسلكا سرديا مغايرا لما كتبه سابقا وذلك انطلاقا من فكرة الاشتغال على الراهن الجزائري وما يواجهه من تحديات مختلفة، منطلقا من لحظات تاريخية مفصلية مرت بها الجزائر.

وفيصل الأحمر روائي وشاعر ومترجم وأكاديمي جزائري تمهر كثيرا في مجال الكتابة والترجمة، له نشاط نقدي وثقافي متميز، يزخر رصيده بكثير من العناوين الموزعة بين االشعر والرواية والمقال الفلسفي والدراسات النقدية.

تجمع رواية ضمير المتكلم بين حكايات كل من المصور والسينمائي والمخبر والمؤرخ وغيرهم، وعليه يرتبط محكي الرواية أساسا بقصص هذه الشخصيات التي تحمل على عاتقها تجسيد مبدأ أن ...المهم هو حكاية الحكاية لا الحكاية نفسها، وحكاية حكايتهم هي عسيرة عجيبة، خطيرة غريبة ... الرواية ص 188

ولتحقيق هذه الوضعيات السردية العسيرة، يلجأ فيصل الأحمر إلى توظيف ضمير المتكلم باعتباره الضمير المهيمن في بناء الرواية، والذي يمثل شخصياتها المحورية، "فضمير المتكلم هو الضمير المهيمن، حينما ينام الضمير، أو حينما يتعذب ضمير المتكلم سيد الضمائر، لأنه يفعل دوما ما يشاء بلا أي ضمير أو أكثر من أيّ ضمير" ص64.

ولكن هذه الخاصية لا تعني أن هذه الرواية هي رواية الصوت الواحد الذي يتكلم ولا يسمع غيره، بل إنها رواية الأصوات المتعددة، وهي ميزة من المميزات الفنية التي تم توظيفها بشكل محترف، إذ يأخذ البرنامج السردي من هذه الفكرة أطروحة أساسية تنبني عليها جميع الأحداث. هذه الأصوات السردية التي تغطي ست ليال، اختارها الروائي كعناوين لفصول عمله.

إن ضمير المتكلم هو الضمير الأقدر على وضعنا كقراء في مواجهة مباشرة مع شخصيات تعاني قلقا وجوديّا، وذوات متشظية تتأرجح بين واقع مسيج بالخوف والفقد، ومستقبل، الأحلام فيه مؤجلة. هذه الذوات التي تجد في حكاياتها المختلفة والمتداخلة في الوقت نفسه نوعا من التنفيس والتعويض عن واقعها الصعب.

لهذا فإن شخصيات الفايح المخبر والمصور والسينمائي وزهور ودلال ومحمد المؤرخ وأبي بن سلالة و"ذو الكأسين" وغيرها، شخصيات تعيش على حافة عالم واقعي مأزوم، سرعان ما يرشح إلى الداخل مخلفا جراحا عميقة، كانت سببا في ممارستها للحكي، مما يجعل كل حكاية من هذه الحكايات بمثابة جرعات مهدئة يستعان بها في سبيل التخفيف من هذا الوضع، أملا في الشفاء النهائي. هي حكايات الذاكرة، ليس ضد النسيان، بل هي كذلك من أجل النسيان.

كما توظف رواية ضمير المتكلم مرجعيات تاريخية ذات علاقة عضوية بجزائر ما بعد الاستقلال، حيث يتم الربط بينها وبين الشخصيّات الفاعلة في رسم البناء السردي، فهي تشتغل على فضاء زمني يجمع بين لحظات مفصلية في تاريخ الجزائر، لتصل إلى مرحلة "العنف" الذي ساد البلاد فيما يعرف بالعشرية الحمراء، عندما رفع شعار الإخوة الأعداء الذي خلف بدوره إنسانا مجروحا يحتاج إلى سنوات طويلة للشفاء .

وتعدّ هذه المرحلة من تاريخ الجزائر المعاصر موضوعا أساسيا في هذه الرواية، ويتجسد ذلك من خلال إعادة تشكيل الخطاب حول ظاهرة العنف. بيد إن الرواية لا تنخرط بقوة في هذه السردية، كما هو حال الروايات الجزائرية التي اشتغلت على تيمة العنف؛ بل إن فيصل الأحمر قد تحمل مسؤولية الحفر السوسيو- ثقافي في مختلف السياقات التي مهدت لمرحلة التسعينيات. كما سعى إلى التنويع في النماذج البشرية التي عاشت الوضع دون الانتصار لنموذج بعينه، بل نلاحظ أنه يكتفي بتشكيل المعالم المحورية التي تحد سرديات هذه النماذج.

وتسجل الرواية مواقف معينة من هذه اللحظات التاريخية مستندة في ذلك إلى مخزون معرفي ثري كان له دور أساسي في تشكيل عوالمها الخاصة، فبواسطة اللجوء إلى فكرة التمثيل (représentation) تم خلق وضعيّات سرديّة مرتبطة بمصير الفرد والإنسان الجزائري ضمن مسار زمني متسلسل ومرتبط تاريخيا، رغم أن الرواية تستعمل تقنيات مختلفة في عملية عرض الأحداث، هذه الأحداث التي لا تتشكل خطيّا، بلّ يلجأ الروائي إلى ممارسة تقنية تشتيت السرد، مما يجعل الأصوات متداخلة رغم الفصل الموجود بينها.

تقوم رواية ضمير المتكلم بالتعامل مع التاريخ الجزائري المعاصر المنسحب على حوالي خمسة عقود باعتبارها حلقات تشد بعضها البعض، غير إن عمليّة السرد تفك هذا الارتباط العضوي بين هذه اللحظات تماشيّا مع محكي الشخصيّات. فخمسة عقود تظهر بنية تاريخية متراصة ومنسجمة، ولكن الروائي يلجأ إلى تشتيتها لتصبح محطات متفرقة.

يلجأ المتخيل الروائي لضمير المتكلم إلى ممارسة عمليّة تفكيك الحكاية الكبرى للجزائر المستقلة، ثم توزيعها عبر محكيات الشخصيات المذكورة آنفا، غير إن هناك تجاوزا للتصوير الخارجي الصادم لتمظهرات "متخيل العنف"، إذ نجد بعض الإشارات لبعض الأحداث التي وقعت في جلّ مناطق الجزائر في عشرية الدم، ولكن دون الإغراق في التفاصيل التي تأخذ في بعض الروايات صورا هستيرية.

رغم أن رواية ضمير المتكلم قد اشتغلت -كما قلنا- على تمثيلات العنف سواء كان حقيقيا أو رمزيا إلا أنها لم تغرق كثيرا في هذه الموضوعة، إذ فتحت مجالا واسعا للحديث عن أحلام وآمال شخصياتها الأساسية، التي تعبر عن أحلام وطموحات الجزائريين الذين كانوا يعيشون في تلك الفترات التي اشتغلت عليها الرواية، السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات. وصولا إلى الألفية الثالثة، وقد تبلور هذا المجال الواسع من الأحلام في الحب والسينما والفن وغيرها.

لهذا يلاحظ قارئ رواية ضمير المتكلم وجودا كثيفا لعالم السينما العربية والعالمية، وذلك من خلال ورود قائمة طويلة بأسماء الممثلين العالميين وعناوين الأفلام العالمية المعروفة التي حصد أغلبها جوائز مرموقة. وهو ما تجسده شخصية السينمائي، عز الدين هذا الرجل العاشق للسينما، الذي كان يردد " أن السينما هي فرحه الكبير"، وهو يروي حكايته معبرا عن محطات مفصلية في حياته التي بدأها في القرية مولعا بمشاهدة الأفلام، وكيف أنه اشترى علبا كثيرة من الأفلام من أجل الاحتفاظ بها. هذه الأفلام التي تمثل بالنسبة إليه ذاكرة للتخزين.

ومن مسحات الأمل قصص الحب التي تستحضرها الرواية، قصص تحظر فيها دلال وفضيلة وزهور، هذا الحب المعلق والمؤجل، المرتبط بالتطورات الرهيبة التي كانت تشهدها البلاد إن الحب في ضمير المتكلم بمثابة المساحة الفسيحة للأمل وللحلم، حتى وإن كانت مصائر المحبين يكتنفها الغموض، مصائر ترسم لها حدود ضمن فضاء المجهول والخوف والترقب.

يحضر عالم الهامش الاجتماعي بشكل لافت في رواية ضمير المتكلم، هذا العالم الذي يتمظهر من خلال شخصيات وأمكنة ووقائع تحيل على تمثيلات واقع المقهورين والمحرومين والمنبوذين، ويبدو أن استحضار هذا العالم وهذه النماذج هو بمثابة فضاء يمثل انشطار هذه الذوات القابعة في الهامش.

يتجلى هذا العالم أولا من خلال محكي القرية التي تحضر في مقابل المدينة "العاصمة" باعتبارها مركز كل شيء، القرية أو باقي مناطق الوطن هي مكان "ألف حكاية صغيرة تافهة تبدو متفرقة بلا رابط" ص188. بينما " تحولت النخبة المعول عليها في البلد كلها إلى النخبة التي تعيش في العاصمة" ص 120.

وما يبين أيضا تمثيلات عالم الهامش في رواية ضمير المتكلم هو "محكي الزطلة" وهو محكي مرتبط بمغامرة مجنونة نحو النسيان، فهي كما جاء في الرواية "تداوي جروح الحياة، عندما يصيبك القرف من كل شيء تغادر العالم ولا يفيدك إلا صديق أو صديقة أو حبيبة..." ص118

هل تنتهي رواية ضمير المتكلم مع انتهاء الحكايات المذكورة سابقا في الليلة السادسة؟ تتطلب الإجابة عن هذا السؤال استحضار ما جاء في نهاية الرواية من قول أن " السعيد بلحيمر تاجر صاحب مطعم، محمد بوشبرين مدرس متقاعد، نصر الدين مهنا شرطي، مالك خليفي كاتب سيناريو أو منتج في التلفزيون أو مستشار إعلامي أو لست أدري بالضبط، ثم خالد بن عواد رجل أعمال، حسين بلعمري مدرس، عز الدين بوساكور منشط ثقافي، وسيناريست هؤلاء هم ضحايا التاريخ الجزائري الحديث، لهم قلب أوسع مما يجب ماتوا عدة مرات وحرقوا أخيرا لكي يتغلبوا على الموت." ص 323.

إن احتراق هذه الشخصيات السبعة هو احتراق رمزي لحكاياتهم، إنه عبارة عن موت لضمير نحن، ضمير الجماعة، وبقاء لضمير "أنا" ضمير المتكلم، ضمير الصوت الواحد، ولا غيره.

وتمارس رواية ضمير المتكلم لفيصل الأحمر كثيرا من النقد اللاذع لتاريخ وواقع الجزائر المعاصرة، وميزة هذا النقد أنه متخفف إلى حد بعيد من الثقل الإيديولوجي الذي يقف عادة مع صف ضد صف آخر. ولعل أبرز ما ساعدها في ذلك هو توظيفها لفكرة الحوارية وتعدد الأصوات داخل المتخيل الروائي الذي يقتات من مخزون التاريخ والواقع الجزائري.

إن ضمير المتكلم هي بحق رواية الأصوات المتعددة التي تجتمع معا لتروي حكاياتها حسب حالة كل صوت منها، هذه الحكايات التي تعبر عن حكاية نماذج من الجزائريين الذي عاشوا حقيقة. رغم أن النهاية تعبر عن طغيان الحكاية الواحدة والوحيدة.

كما تحيل هذه الرواية على القدرة العجيبة التي يتمتع بها الروائي في الجمع بين وقائع وأسماء كثيرة تتوزع بين الفن والسينما والتاريخ والثقافة والسياسة في بوتقة فنية واحدة، تم بعد ذلك تذويبها ضمن الفضاء الرحب للمتخيل الروائي، كما إن اهتماماته الفلسفية والمعرفية قد جعلت الرواية ذات طبقات مختلفة تجمع بين الجمالي والتخييلي والمعرفي.

***

طارق بوحالة

 

في المثقف اليوم