قراءات نقدية

أوراق (الشاعر د. نزار بريك هنيدي) إلى الهاوية في غابة الصمت.. (2-4)

مفيد خنسةالفرع الخامس: (درب جديد)

نحن ما زلنا على الدربِ،

ولكنْ

دربنا قد فرّ منا.

أين نمضي الآن؟

هل نبحث عن درب جديد

يحمل الأوزار عنا.؟!)

في هذا الفرع يبين الشاعر صورة التائه وعقدته (نحن ما زلنا على الدرب) وشعابه الرئيسة واضحة.

في المعنى:

الأسلوب في هذا الفرع يجمع بين الخبري والإنشائي، وفيه يمعن الشاعر في توضيح صورة القافلة التي مازالت على الدرب، الذي كان مفترضاً أن تسير عليه بعد أن تحدد الهدف والأدوات والنهج والمسار، فقوله: (نحن ما زلنا على الدرب،) يشير فيه الضمير (نحن) إلى من تبقى من الذين هجرتهم الأشجار، وإن كانت هذه البقية الباقية قليلة أم كثيرة، فهي ما زالت وفية للمبادئ والنهج والعقيدة والأهداف، وما زالت على عهدها لم تتلوث ولم تتغير ولم تتبدل، صادقة أمينة، مخلصة وفيّة، وما زالت تواصل السير على الدرب، وقوله: (ولكنْ/ دربنا قد فرّ منا.)، أي لم تعد ملامح الدرب التي بدؤوها وتعاهدوا على السير عليها للوصول إلى الغايات الكبيرة المرجوة واضحة المعالم، فقد فرّت وضاعت وتغيرت ملامحها، ولم تعد موجودة أصلاً، والدرب هنا ترمز إلى المنهج والإيديولوجية على اختلاف أنواعها ومستوياتها، كما ترمز إلى المسارات الفكرية والثقافية، والنظم الاجتماعية والأخلاقية والقيمية، وقوله: (أين نمضي الآن؟) يشير إلى حالة الضياع، بعد أن فر الدرب الذي تعاهدوا عليه، فالسير من دون تحديد المسار قد يقود إلى الهاوية، أو يقود إلى الضياع، فإن كانوا قد عرفوا من أين انطلقوا فلا يمكن لهم أن يعرفوا إلى أين يصلون، وقوله: (هل نبحث عن درب جديد/ يحمل الأوزار عنا.؟!) أي هل أصبح محتماً عليهم البحث عن درب أخرى، وخيار جديد آخر غير الذي كانوا عليه؟!، هل يغيرون مبادئهم ونهجهم وعقيدتهم ويتركون تبعات ما يحصل من آثام وذنوب وأوزار على غيرهم؟، إنها أسئلة يقدمها الشاعر ليبين درجة العجز الذي تعاني منه الطبقة المثقفة الباقية في واقعا الجديد، بعد أن هجرتها الأشجار ونزحت عنها، وليبين عجز النخب السياسية وشل قدرتها على إيجاد حلول، أسئلة موحية دالة على العجز، على المستويات كافة، وعدم القدرة على الفعل في هذه الظروف القاسية. وكأن الشاعر يكتب هذه القصيدة اليوم.

الفرع السادس: (رائحة الأيام)

يقول الشاعر:

(عبرت رائحةٌ شباكَ الغرفةِ،

والتفّت

حول الرأسِ القابع في عزلتهِ،

تسألهُ:

هل تذكر تربة حارتكم

حين يباغتها مطرٌ

بالحبّ؟

فتجاهلها،

وانكبّ على الأوراقِ،

يحاول أن يستنطقها شيئاً

عن أيامٍ،

لا بدّ لهُ

أن يحيا فيها

دون حواسٍ

أو ذاكرة

أو قلب.!)

يبين الشاعر في هذا الفرع صور الذكريات في الأيام الماضية وعقدته (عبرت رائحةٌ) وشعابه الرئيسة هي: (عبرت رائحةٌ شباكَ الغرفةِ،) و(والتفّتْ،/ حول الرأسِ القابع في عزلتهِ،) و(تسألهُ:) و(يحاول أن يستنطقها شيئاً/ عن أيامٍ،/ لا بدّ لهُ / أن يحيا فيها/ دون حواسٍ/ أو ذاكرة/ أو قلب.!)، أما شعابه الثانوية فهي: (هل تذكر تربة حارتكم/ حين يباغتها مطرٌ/ بالحبّ؟) و(فتجاهلها،/ وانكبّ على الأوراقِ،).

في المعنى:

الأسلوب في هذا الفرع إنشائي وخبري، وفيه يبين صورة الشاعر الذي عزل نفسه ونأى عما يحيط به من مأساة ومصائب وفجائع، كما يبين رد الفعل حين تمر به ذكريات الأيام التي مضت، فقوله: (عبرت رائحةٌ شباكَ الغرفةِ،/ والتفّتْ/ حول الرأسِ القابع في عزلتهِ،) أي استطاعت رائحة أن تتخلل شباكَ الغرفةِ حتى وصلت إليه وأحاطت رأسه ملتفّةً حوله في تلك الغرفة التي عزل نفسه بها، وقوله: (تسألهُ:/ هل تذكر تربة حارتكم/ حين يباغتها مطرٌ/ بالحبّ؟) يشير إلى أن ذكرى أيام خلت، كانت قد خطرت على باله وسألته بعد عزلته الطويلة، عما إذا كان ما زال يتذكر رائحة التربة حين كان يهطل عليها الماء فجأة، وقوله: (فتجاهلها،/ وانكبّ على الأوراقِ،/ يحاول أن يستنطقها شيئاً/ عن أيامٍ،/ لا بدّ لهُ/ أن يحيا فيها/ دون حواسٍ/ أو ذاكرة) أي إنه تجاهل السؤال عن الماضي وما كان عليه الحال، لكنه كان مهتمّاً اهتماماً كليّاً أن يستشرف المستقبل من خلال القراءة والكتابة وكيف يمكنه العيش في الأيام القادمة المفروضة فرضاً مجرداً من الحواس والذاكرة والقلب؟!، أي إنّ الشاعر يسكنه القلق من تلك الأيام القادمة التي يمكن أن تفرض عليه في العيش المجرد من المشاعر الإنسانية.

الفرع السابع: (وجه في الزحام)

يقول الشاعر:

(هل رأيتَ الوجوهَ التي

تتوالى

خلال الزحامْ؟

وجوهٌ من الشمعِ

كالحةٌ

تتدافع في غابة الصمتِ

ذاهلةً

تترنّحُ

مثل تماثيلَ

تسبحُ وسطَ الهلامْ.

وجوهٌ مكسّرةٌ

أدمنت يأسها

وتلاشت ملامحُها

فكأنّ العيون التي تحتويها

ثقوبٌ

بداخلها كرةٌ تتحركُ

دون انتظامْ.

والشفاهُ التي التصقت فوقها

كالحلازينِ

راقدةٌ

في سلامْ .

وجوهٌ ضبابيّةٌ

أعلنت موتَها

واستكانت

إلى ملكوت الظلامْ .

هل رأيت الوجوهَ .. ؟

ووجهك ..

هل ضاعَ

وسط الزحامْ.؟!)

يبين الشاعر هنيدي صورة اليأس على وجوه العامة وعقدته (هل رأيت؟) وشعابه الرئيسة هي: (هل رأيتَ الوجوهَ التي/ تتوالى/ خلال الزحامْ؟) و(فكأنّ العيون التي تحتويها/ ثقوبٌ/ بداخلها كرةٌ تتحركُ/ دون انتظامْ.) و(والشفاهُ التي التصقت فوقها / كالحلازينِ/ راقدةٌ في سلامْ) و(هل رأيت الوجوهَ .. ؟) و(ووجهك ../ هل ضاعَ/ وسط الزحامْ.؟!)، أما شعابه الثانوية فهي: (وجوهٌ من الشمعِ/ كالحةٌ) و(تتدافع في غابة الصمتِ/ ذاهلةً) و(تترنّحُ/ مثل تماثيلَ/ تسبحُ وسطَ الهلامْ.) و(وجوهٌ مكسّرةٌ/ أدمنت يأسها/ وتلاشت ملامحُها) و(وجوهٌ ضبابيّةٌ/ أعلنت موتَها/ واستكانت/ إلى ملكوت الظلامْ).

في المعنى:

الأسلوب في هذا الفرع يجمع بين الأسلوبين الإنشائي والخبري، وفيه يبين الشاعر صور وجوه العامة التي تعبر خلال الزحام، ومن بينها صورة وجه الشاعر بين تلك الوجوه، فقوله: (هل رأيتَ الوجوهَ التي/ تتوالى/ خلال الزحامْ؟) أي هل تأملت وجوه الناس التي تعبر خلال الزحام في المرافق العامة للحصول على الحاجات اليومية؟!، أو خلال الزحام أمام حافلات النقل في الساحات وعلى الأرصفة، وقوله: (وجوهٌ من الشمعِ/ كالحةٌ / تتدافع في غابة الصمتِ/ ذاهلةً/ تترنّحُ / مثل تماثيلَ/ تسبحُ وسطَ الهلامْ.) أي إنها وجوه كأنها من الشمع عابسة عبوساً مفرطاً وهي تتدافع بذهول وصمتٍ، ثم تتمايل وكأنها في حالة من السكر، أو في حالة من المرض، وتسقط كتماثيل تسبح في أوساط هلاميّة، أو إنها وجوهٌ مقلصة الشفاهِ عن الأسنان وهي تتدافع ذاهلةً بصمت وهي تتمايل كأنها مرضانة أو سكرانة ثم تسقط كما تسقط التماثيل في الهلامْ، وقوله: (وجوهٌ مكسّرةٌ/ أدمنت يأسها/ وتلاشت ملامحُها) أي تلك الوجوه تعكس أخاديدُها حالات الانكسار التي يعاني منها أصحابها، وقد اعتادت على اليأس حتى أدمنته ولم تعد تستطيع التخلص منه، وقوله: (فكأنّ العيون التي تحتويها/ ثقوبٌ/ بداخلها كرةٌ تتحركُ/ دون انتظامْ.) أي إن تلك الوجوه التي بدت جلداً على عظم، أشبه بدمى، العيون فيه كالكرات في التي تتحرك في ثقوبها المجوفة بحركات لا إرادية و من دون انتظام، وقوله: (والشفاهُ التي/ التصقت فوقها/ كالحلازينِ/ راقدةٌ في سلامْ .)، أي والشفاه متقلصة عن الأسنان جامدة لا حياة فيها كالحلزون الراقد في قوقعته في سلام، وقوله: (وجوهٌ ضبابيّةٌ / أعلنت موتَها/ واستكانت/ إلى ملكوت الظلامْ.) تلك الوجوه غير واضحة التقاسيم والمعالم وهي ضبابيّة ووصل اليأس بأصحابها إلى إعلان الموت والاستسلام لمن بيده مقاليد الظلام، وقوله: (هل رأيت الوجوهَ .. ؟/ ووجهك ../ هل ضاعَ/ وسط الزحامْ.؟!) فيه إعادة للسؤال: هل رأيت الوجوه..؟ للتأكيد على ضرورة التأمل في الوجوه، ثم يسأل: هل كان وجهه مثل كل الوجوه التي أعلنت موتها؟ فضاع بينها في الزحام؟، والسؤال لا يخلو من التنبيه إلى خطر العزلة والانطواء والنأي بالنفس، ولا يخلو من إدانة صريحة إلى الطبقة المثقفة المبدعة، وخاصة للشعراء منهم، فالعزلة تعني الموت البطيء للشاعر مثله مثل كل فرد من الأفراد العاديين في المجتمع الذي تنتفي فيه قدرة المبدع على التأثير كما هو الحال في البلاد العربية. ويمكننا أن نستنتج أن المخاطِب هو الأنا العليا للشاعر، وأن المخاطَب هو الشاعر الحقيقي الذي يعيش التجربة المريرة، في العزلة والانكسار واليأس.

الفرع الثامن: (السرداب)

يقول الشاعر:

(باهتٌ حبرُكَ،

والليلُ الذي تدفعه بالحبرِ

ما زال طويلا.

قاتلٌ صمتُكَ،

والصوت الذي تحبسهُ

في صدرك المغلقِ

ما زال يسميكَ القتيلا.

ها هو الدفترُ يصفرّ ويذوي

مثل روحكْ.

ورياح اليأسِ ما زالت تدوّي

في جروحكْ.

ها هو المقعد مكسورٌ

كأحلام هواكْ.

ها هو الحائط منخورٌ

كأفكار صباكْ.

ها هو السرداب يمتدّ

ويمتدّ

وما فيه سواكْ.

أنت وحدكْ

تمضغ الآلام وحدكْ.

وتعيش الحلم وحدك

واهمٌ أنت،

وحان الوقتُ كي تخرجَ

من سرداب وهمكْ.

واهمٌ أنت

متى تصحو

وتمحو

عن دروب العمرِ

آثار خطا أشباحِ حلمكْ. ؟!.)

يبين الشاعر في هذا الفرع صورة الشاعر الحالم الواهم وعقدته (باهتٌ حبرك) وشعابه الرئيسة هي: (والليلُ الذي تدفعه بالحبرِ/ ما زال طويلا.) و(قاتلٌ صمتُكَ، والصوت الذي تحبسهُ/ في صدرك المغلقِ/ ما زال يسميكَ القتيلا.) و(أنت وحدكْ) و(تمضغ الآلام وحدكْ.) (وتعيش الحلم وحدك) و(واهمٌ أنت،/ وحان الوقتُ كي تخرجَ/ من سرداب وهمكْ.) و(واهمٌ أنت/ متى تصحو/ وتمحو/ عن دروب العمرِ/ آثار خطا أشباحِ حلمكْ. ؟!.). أما شعابه الثانوية فهي: (ها هو الدفترُ يصفرّ ويذوي/ مثل روحكْ.) و(ورياح اليأسِ ما زالت تدوّي/ في جروحكْ.) و(ها هو المقعد مكسورٌ/ كأحلام هواكْ.) و(ها هو الحائط منخورٌ/ كأفكار صباكْ.) و(ها هو السرداب يمتدّ/ ويمتدّ/ وما فيه سواكْ.).

في المعنى:

الأسلوب في هذا الفرع خبري، وفيه يكشف الشاعر هنيدي عن الحقائق المرّة التي يستخلصها من خلال تجربته الذاتية التي ألقت بظلالها على القول الشعري الذي يعني الشاعر كمفهوم، بحيث يعني كل شاعر لا بل يعني كل كاتب أيضاً، فقوله: (باهتٌ حبرُكَ،/ والليلُ الذي تدفعه بالحبرِ/ ما زال طويلا.) أي إن الشاعر هنيدي يرى أن ما يكتبه الشاعر في عزلته ليس له أثر أو فاعلية، وإن حبره باهت ومهدد بالمحو والزوال، والليل الذي يحاول أن يشغل نفسه بالكتابة خلاله من أجل أن يخفف من الإحساس بطوله، أومن أجل أن يخفف من معاناته فيه ما زال طويلاً أكثر مما يظن ويتوقع، وقوله: (قاتلٌ صمتُكَ،/ والصوت الذي تحبسهُ/ في صدرك المغلقِ / ما زال يسميكَ القتيلا.) أي صمت الشاعر يكاد أن يكون قاتلاً من ثقل الهموم وهول المعاناة، والصوت المكتوم في الصدر الذي يحكم الإغلاق عليه، هو الذي يستوجب تسميته بالقتيل، وقوله: (ها هو الدفترُ يصفرّ ويذوي/ مثل روحكْ.) أي يقول للشاعر: انظر إلى أوراق دفترك الذي أمضيت ما مر من العمر تكتب عليه في لياليك المظلمة، كيف أن أوراقه غدت صفراء كروحك التي أخذت تذبل رويداً رويداً، وقوله: (ورياح اليأسِ ما زالت تدوّي/ في جروحكْ.) ويضيف للشاعر أيضاً كيف أن اليأس ما زال يهيمن على كيانه، وينفي أي أمل لديه بالشفاء من جروحه العميقة، وقوله: (ها هو المقعد مكسورٌ/ كأحلام هواكْ.) ويضيف للشاعر أن انظر إلى مقعدك كيف غدا مكسوراً من طول جلوسك عليه، إنه كأحلام حبك التي تحطمت بسبب طول انتظارك من غير فائدة، وقوله: (ها هو الحائط منخورٌ/ كأفكار صباكْ.) أي حتى الجدران التي تحيط به ليصبح معزولاً عن محيطه الخارجي،  يظهر فيها العطب والضعف وتكاد تتفتت وتبلى من طول بقائه داخلها، حالها كحال أفكار الصبا التي غدت قديمة بالية غير ملائمة، وقوله: (ها هو السرداب يمتدّ/ ويمتدّ / وما فيه سواكْ.) أي النفق يمتد ويمتد وليس فيه سوى الشاعر المبدع، وقوله: (تمضغ الآلام وحدكْ.) أي إن الشاعر هو الأكثر إحساساً بآلام الناس ومعاناتهم، ولعله الوحيد الذي يمتلك حساسية الشعور بآلام الآخرين، وأحزانهم، وقوله: (وتعيش الحلم وحدك) أي ولأنه الحالم أبداً بمستقبل أفضل لحياة البشر، فإنه الوحيد الذي يعيش الحلم كأنه واقع، فيبدو في حالة انفصام مع محيطه وواقعه، وقوله: (واهمٌ أنت، / وحان الوقتُ كي تخرجَ/ من سرداب وهمكْ.) أي إن أحلام الشاعر في محيطه ضرب من الوهم، وبعد أن أمضى ما مرّ من العمر حالماً فقد آن له أن يخرج من سرداب الوهم، وقوله: (واهمٌ أنت/ متى تصحو/ وتمحو/ عن دروب العمرِ/ آثار خطا أشباحِ حلمكْ...؟!.) أي الشاعر واهمٌ بأحلامه، فمتى يصحو من الحلم ويزيل عن الدروب التي درج عليها آثار خطا أشباحه الواهمة؟.

***

مفيد خنسه

في المثقف اليوم