قراءات نقدية

الأسطورة بين الاستلهام والواقع في ديوان "فراديس إينانا" ليحيى السماويّ

عبد الستار نورعليفي ديوانه الجديد الصادر في دمشق (فراديس إينانا) مايس 2022 يواصل الشاعر الكبير يحيى السماوي رحلته في سماء الأسطورة السومرية؛ ليقدم لنا على طبق الشعر الساحر تاريخ وادي الرافدين الروحي والحسّي شعرياً والممتزج بفنّ الأساطير، التي هي ديوان بلاد ما بين النهرين تدويناً مخيالياً، وتفسيراً طفوليَ الوعي لبروز الملوك (الآلهة المقدسة)، ليُضفوا عليهم آيات التقديس، من خلال إبراز بطولاتهم، وملاحمهم القتالية، وانجازاتهم البنائية الحضارية، وبحثهم الدائب عن الخلود (جلجامش)، اضافةً الى تفسير الظواهر الطبيعية، والخَلْق والولادة تفسيراً اسطورياً ميتافيزيقياً، فيه من الخيال الجامح بعيداً عن العلل المنطقية العقلية؛ فقد كانت المُخيَّلة الحُلُمية اللاعقلانية هي السائدة في النظر الى الظواهر والمسببات، وما وراءها. لذا فإنَ الأساطير هي الوعي الطفولي الأول للإنسان مُسجَّلاً في نصوص أدبية في عصور بدايات تكوين الوعي، والتجمعات البشرية، والتأمل في الكون والواقع الذي كانت تعيش فيه، والطبيعة المحاطة بها. مع تسجيل الطقوس المواكبة للإحتفالات الدينية، والبحث عما خلف الظواهر الغامضة عندهم، لاستكشاف الكون، وماوراء تكوين الانسان والحيوان، وتقلبات الطبيعة والفصول وما كانوا يرونه فيما حولهم، وما في السماء من شمس وقمر ونجوم وكواكب، وسحاب ومطر، وحين لم يتمكنوا منْ العثور على التفسير المنطقي الطبيعي، اتجهوا نحو الخيال والأسطورة، فاختلقوا آلهةً على شاكلة البشر في ممالك ومدن، ولها رعية يحكمونهم ويوجهونهم حسب أهوائهم، وهم الذين يسيّرون هذا العالم الأرضي. ونسجوا حولهم قصصاً وأحداثاً ووقائع، وتخيّلوا أنها تمتلك مصائر كل ما في الكون ومنها الإنسان، فوضعوا لها أسماء، وتخيلوا أنْ لها ممالك في السماء، فعبدوها وتقرّبوا إليها.

هذه الأساطير، ومنها أساطير بلاد ما بين النهرين، المصاغة على شكل ملاحم، هي التي بقيت حيةً حتى اليوم، ومادامت الحياة نابضةً على الأرض، وهي التي تبين لنا مستوى التفكير والإدراك البشري في تلك العصور السحيقة في القدم.كان وسيبقى لها الأثرُ العظيم على الشعر، عربياً وعالمياً. وقد أخذت مكانها في الشعر المعاصر بشكل طاغٍ أحياناً، منذ ولادة حركات التجديد في شكل ومضمون القصيدة العربية تفعيلياً (الشعر الحرّ) ونثرياً (قصيدة النثر). فأخذت أشكالاً متباينة في أثرها المتسلل في النصّ الشعري:

1. هناك من الشعراء منْ يُقحم الأسطورة ضمن القصيدة إقحاماً، دون وجود ترابط أو صلة ضمن سياقها مضموناً وشكلاً، وهذا لمجرد التظاهر بامتلاك ثقافة واسعة ومعرفة، والتصوّر بأنّ ذلك يضيف غنىً وعمقاً على القصيدة.

2.  الفئة الثانية من الشعراء هم الذين تأتي الأسطورة أو شخصياتها في سياق التناصّ والتماهي بينها وبين مضمون القصيدة. وتكون من غير إقحامٍ أو صنعة ميكانيكية فنية، بل عفويةً ضمن التدرج البنائي أثناء ولادة القصيدة، وبدون وعيٍّ وقصد من الشاعر، وإنما تنبعث من خزين المحفوظ في ذاكرته مما قرأ من الأساطير، وإدراك ما تكتنزه من صور وايماءاتٍ ودلالات ومعانٍ، لذا عند نزول وحي الشعر؛ بعد تجربة واقعيةٍ أم روحية مُستلهَمة مما عاشه ويعيشه، وأحسّه ويحسّه، وعاناه ويعانيه، وفكّر ويفكّر فيه، ولوجود حلقة من الترابط والتلاقي بين ذلك وبين معاني وتجليات وارهاصات الأسطورة؛ فعند كتابة القصيدة تتسلل الأسطورة بمضمونها وشخصياتها وأحداثها الى النصّ دون قصد، وإنما بعفوية مخفية في إحساس ووعي الشاعر.

3.  أما القسم الثالث من الشعراء، فهم الذين يستوحون ويستلهمون الأسطورة وينظمون على إيقاعها مضموناً ومخيلةً، وحتى شكلاً، ليخرجوا علينا بقصيدة فيها الأسطورة القديمة تتحرك بصياغة معاصرة روحاً وشكلاً وصوراً وخيالاً.

4.  وهناك فئة رابعة من الشعراء، وهم الذين يتقمصون شخصيات من الأساطير، ويتوحّدون روحياً ونفسياً ومخيالاً معها، ليصبحا واحداً لا انفصام بينهما. لكنّ ذلك يتحقّق في إطار إمكانية الشاعر العالية، وثقافته الأسطورية الكبيرة، ووعيه وإدراكه التام لكل تجليات وارهاصات وفكر وروح الأسطورة وملاحمها العظيمة. ولا يأتى هذا إلا بالموهبة الشعرية الكبيرة، والشاعرية الفذّة الخارقة، والإمكانية الفنية الراقية، والخيال المترامي الجامح، والمقدرة اللغوية الواسعة. وبذا يقدر على خلق نصٍّ يوازي نصوص الأساطير الكبرى، وبإمكانياتها الفسيحة، وصورها، وأحداثها، وأوصافها، وتجلياتها الروحية والحسية، وصراعاتها المتلاطمة بين الشخصيات والحوادث، وبين الشخصيات وأنفسها، وحواراتها، ومنولوجاتها الداخلية.  ومن هذه الفئة شاعرنا الكبير يحيى السماويّ، إنْ لم يكن هو خالق هذه الإتجاه الأسطوري. وأمامنا هذا الديوان السفر (فراديس إينانا).3758 فرتيس اينانا

يبدأ الديوان بقصيدة "هبوط اينانا من عالمها العلوي"، حيث يكشف لنا فيها الشاعرُ الهدفَ من هبوطها، ماضياً في التعداد  شعرياً، وبلغته السحرية، وبلاغته الخلّاقة التي خرجت على عباءة الكلاسيكي التقليدي المنهجية الصارمة، مما وصل إلينا من البلاغة أيام ازدهارها كفن أدبيّ نقدي، بما حوته من مناهج من البيان والبديع، ونظريات البلاغيين، وتفرعاتها. يقول السماويّ في علّة هبوط إينانا من برجها العالي:

هَبَطتْ من بُرجِها العلويِّ إينانا*

احتِجاجاً

ضدَّ أنليلَ وما يكنزُ من تِبرٍ

ومالٍ وقِيانْ

*

ورياشٍ في رِحابِ " المعبدِ الأخضرِ "

في وادي اليَتامى ..

والمُرائينَ المُصَلِّينَ أمامَ الناسِ

جَهراً ..

**

إذن، في نظر شاعرنا أن السبب في الهبوط هو الاحتجاج على طغيان الإله إنليل ـ إله الرياح والعواصف والهواء والأرض، وكنزه للذهب والمال، وامتلاكه الجواري الحسان. لكنّ السؤال هو: ما علاقته بالأرض البشرية التي على ضوئها استلهم شاعرنا هذه القصيدة المستوحاة من الأسطورة؟

في المقطع أعلاه تورية يلجأ اليها الشاعر، من غير مباشرة ، في كشف عورات وكوارث النظام السائد في وادينا المقدسِ الرافدين. فقد استلهم الأسطورة وتماهى معها في ادانة ما يجري على أرض العراق. فإنليل هنا ترميز لحكام العراق، فانليل بما أنه إله الرياح والعواصف والهواء والأرض، يلتقي حكامَنا برمزيته، حيث يثيرون العواصف والرياح في وادي الرافدين، فتقلع الشجر ، وتعصفُ بالبيوت والحواضر، وتقضي على الزرع والضرع، والحرث والنسل، كما يملؤون خزائنهم بالمال المسروق من خيرات البلد. لذا غضبت الأم إينانا، رمز الخصب والحبّ والعدالة، مثلما أمهات العراق، في حبّهن وحنانهن وخصبهن وعدالتهن، وحدبهن على أبنائهن، ودعائهن بالخير والعافية والسعادة لكلّ الناس.

كما نقرأ كذلك علة هبوطها الى الأرض في قصيدة (فقدت معانيها المعاني) إذ يقول فيها:

صَغُرَ الرَّغيفُ

وأصبحَ التنُّورُ في أوروكَ يستجدي الدُّخانَ

وشاصَ في النخلِ النضيدُ

وأقفَرتْ سُوحُ البلادِ من السُّعاةْ

*

إلآ من المُتَلثِّمينَ

وحاملي الساطورِ والزُّورِ التقاةْ

*

وإلهةُ الأمطارِ والعشقِ / الجمالِ / الطهرِ /

إينانا

اسْتعاذتْ من أُلوهَتِها

فآثَرَتِ الحياةَ كأيِّ عاشقةٍ فتاةْ

*

هَبَطتْ بمشحوفٍ من البرديِّ من عليائها للأرضِ

لكنْ

لم تجدْ أوروكَ في أوروكَ

فاتجهتْ الى اللا أينَ

هاربةً بِتِبْرِ عفافِها نحو القصِيِّ

من الجهاتْ

**

فما يحدث في أوروك (العراق) اليوم من فقر ونقصٍ في الخيرات والثمرات، وتسلّط القتلة والفاسدين والمارقين والمافيات، جعل إينانا تستعيذ من عرشها وتاجها وألوهيتها، وتقرّر أن تهبط من عليائها الى  أوروك (الواقع الأرضي الإنساني)؛ لتعيشَ كأيّ فتاة حالمة عاشقة بسيطة ولتكونَ فرداً في مجتمعها، تتحرك، تعشق، تعيش آدميةً بسيطة.

يحيى السماويّ بهذا الاستلهام الأسطوري يضفي العصرنة والأنسنة على إينانا والآلهة ، بمعنى الأسطورة المعصرنة (المعاصرة). وهو ما نستقرئه في الديوان، ونستنبطه مما يقوله الشاعر ويبوح به، وكذلك من مجمل قصائده الأسطورية الإستلهام والمعايشة الحسية والمخاض، والتي تتضمن شخصياتٍ ومعاني وتناصّاً مع الأساطير الرافدينية، إذ يجرّدها من المخيال البدائي الطفولي وعياً وإدراكاً لصائغيها الأوائل، في عصور الطفولة الإنسانية. وهو خلقٌ فنيٌّ يمتاز به يحيى السماويّ، وهو رائدها:

هَبَطَتْ من بُرجها العلويّ

أنثى

مثلَ باقي الأنثَياتِ الغِيدِ

إلآ أنها

لم تكُ من طينٍ

فقد كانتْ من الإبريزِ والماءِ**

وزَهرِ الزّعْفُرانْ

*

ترتدي ثوباً من البرديِّ والنورِ

وقد أبدَلَتِ القُبَّعةَ القطنَ

بِتاجِ المُلكِ ..

والمشحوفَ بالهودجِ ..

واسْتغنتْ عن القزِّ

فأضحت ترتدي العُشبَ وزهرَ الأقحوانْ

*

لم تقُلْ شُكراً لِياقوتٍ

ولا أفٍ لفقرٍ

رمَتِ المِكحلةَ الفِضَّةَ

والعِقدَ المُوشَّى بعقيقٍ

ورمَتْ بالصَّوْلَجانْ

**

يؤنسنُ شاعرنا الإلهة إينانا، ويمنحها صفات البشر:

فهي أنثى مثل باقي الأنثيات، اللائي لا يرتدين القزّ (الحرير) ولا يتحلّين بالياقوت والذهب، ولا عِقدٍ من العقيق، ولا يتكحّلْنَ بمِكحلةٍ من الفضة. كما أنها ألقتْ الصولجان جانباً، لتعود امرأةً عاديةً بسيطةً في ملبسها، رداؤها الأرض بعشبها وزهرها، لا تتأفّف ولا تتذمر من فقرها، مثلما نساء سومر وبابل البسيطات في وادي الرافدين.

هذه الإلهة الأم، الملكة ذات الصولجان، رمز الحبّ والخصب والعدالة، التي كانت كلمتها العليا، نزلت من عرشها الى الواقع اليومي للبسطاء من الناس في أوروك (العراق) تتفقد احوالهم على الأرض، لتفاجأ بحياتين نقيضتين لطبقتين في المجتمع:

طبقة تسكن القصور والقلاع، وطبقة في أكواخ الطين والقصب في أهوار سومر القديمة العامرة بالخير والجمال والبساطة، واليوم جفافٌ وجدبٌ وفقرٌ، وتسلّط اللصوص والفاسدين والقتلة واختلال القيم:

جابَتِ الأحياءَ

تَستقرئُ حالَ الناسِ في أوروكَ

في عهدِ السلاطين السِّمانْ

*

فرأتْ ما لمْ يَرَ الآلهةُ الأعلونَ

أكواخاً من البرديِّ والطينِ ..

قصوراً .. وقلاعاً ومَغانْ

**

يستوحي الشاعر هنا الأسطورة ليوظفّها لغرضه الشعري، وهو تعرية الواقع الحاضر لبلاد ما بين النهرين، وما تتعرض له من عواصف وكوارث وفقر، مع نهبٍ وسلبٍ لكنوزه أرضاً وزرعاً وضرعا وبترولاً.

فكما استلهم إينانا، استوحى من الأسطورة في ملحمة جلجامش شخصيات أخرى ليصوّر من خلالها، وبما تحمل منْ سماتٍ وإشارات وصفات، ليصوّر الواقع الراهن المخيّم في بلاد سومر. يقول في قصيدة "فقدتْ معانيها المعاني":

هَبَطتْ بمشحوفٍ من البرديِّ من عليائها للأرضِ

لكنْ

لم تجدْ أوروكَ في أوروكَ

فاتجهتْ الى اللا أينَ

هاربةً بِتِبْرِ عفافِها  نحوَ القصِيِّ

من الجهاتْ

*

واختارَ خمبابا الإقامةَ في المدينةِ

صارَ رَبّاً حاكماً مُتحكّماً في "القلعةِ الخضراءِ"

يحرسُ قصرَهُ جيشٌ

ويسجدُ تحت قُبَّتِهِ الولاةْ

**

بعد أنْ هبطتْ إينانا في أوروك اليوم لم تجدْها أوروك التي تعرفها، بل وجدتْ أنّ خمبابا الوحش في الملحمة هو الملك والمالك الآمر الناهي في قلعته الخضراء، فاستخدم التورية في شخصية خمبابا الأسطورية رمزاً لحكام العراق اليوم، كما ورّى توريةً بـ(القلعة الخضراء) الى (المنطقة الخضراء)، حيث مقرّ المؤسسات والهيئات الرسمية للدولة العراقية، ورئاساتها الثلاث. ولم يعدْ خمبابا الوحش واحداً، بل تناسلَ الى خمبابات كثيرة أبناءً وأصهاراً، يفتون ويبيعون ويشترون، ويرون، وخلفهم سرايا من المنتفعين واللصوص:

ما عاد خمبابا بأوروكَ الجديدةِ واحداً

فبَنوهُ والأصهارُ

باتوا كلُّهم في المعبدِ الوثنيِّ خمبابا..

وكلٌّ مِثلُه يُفتي .. يبيعُ .. ويشتري ..

وله السَرايا والمنافعُ

والجُباةْ

**

حتى أنكيدو البطل ابن البراري، والمدافع عن أوروك بجانب جلجامش، وهو هنا رمز عن المناضلين الأبطال الحريصين على وطنهم، لكنهم لعِظمِ ما يرون ويعيشون في ظلاله، وقسوة ما يجري تحت حكم خمبابا (الحكام) الى درجة اليأس، آثر أن يرحلَ عن أوروك (العراق)، مثلما اختفت (سيدوري) صاحبة الحانة في ملحمة جلجامش، ورمز الحكمة:

أوروكُ ما عادتْ كما في الأمس

سيدوري اختفت

واختارَ " أنكيدو " الرجوعَ

الى ظلالِ الغابةِ الحجريةِ الأشجارِ

فانحسَرَ الرُّعاةْ

*

صَغُرَ الرَّغيفُ

وأصبحَ التنُّورُ في أوروكَ يستجدي الدُّخانَ

وشاصَ في النخلِ النضيدُ

وأقفَرتْ سُوحُ البلادِ من السُّعاةْ

*

إلآ من المُتَلثِّمينَ

وحاملي الساطورِ والزُّورِ التقاةْ

**

الأسطورة والاغتراب في الديوان:

الاغتراب غربتان: مكانية وروحية.

فالاغتراب المكاني: هو البعد عن الوطن، لسبب أو آخر. ومن أهم أسبابه حين يشعر الفرد بخطرٍ داهم عليه وعلى عائلته؛ بسبب فكره ونشاطه السياسي، ووقوفه في وجه نظامٍ جائر جاثم على أنفاس الناس.

والاغتراب الروحيّ: هو الإحساس بانقطاع خيط الوصل الروحي في العلاقة بين المغترب والمكان. وقد يكون هذا بين المواطن وأرضه، حين تخيّم على الوطن غيومٌ سودٌ قاتمة، وعواصف قاصفة، من نظام وحكم يخنق الحريات، وأنفاس الناس، بالنار والحديد، فتُسلبُ الحقوق، وتُخنَقُ الأنفاس الى حدٍّ يشعرُ الفردُ أنّه غريبٌ عن الوطن. وحينها يكون وقعُ هذا الإحساس مثل طعنات سكينٍ، حتى يُضطرَ على التفكير بالانعتاق من خلال النضال الميداني، أو الهرب بحثاً عن ملاذٍ آمن. لكن يظلّ مشدوداً الى أرضه الأم بحنين جارفٍ من خلال الذكريات التي تجرّ معها الغربتين. وما أشدّهما على نفسه حينها!

يحيى السماويّ الشاعر المناضل المغترب؛ لا اختياراً بل اضطراراً؛ هو المناضل الصلبٌ النشطٌ، الذي واجه السلطة الباغية بكلّ ما يحملُ في ذاته من مشاعر وطنية، وأفكار تقدمية إنسانية أممية، فعانى المطاردة والاعتقال والسجن، وآخر المشوار شارك في انتفاضة آذار 1991 ضد السلطة الفاشية الحاكمة في العراق. ثم وجد نفسه لاجئاً في معسكر رفحاء في المملكة العربية السعودية، ثم مغترباً في استراليا.

بقي السماويّ مشدوداً الى وطنه، وفياً لأرضه، يلهبه الحنين بسياطه الى أوروك، حيث منبته وولادته وجذوره. فكانت القصيدة خير مستقرّ روحيّ وحسّيّ للتعبير عن هذه العلاقة غير المنقطعة. فكانت القصائد تترى، وتنهمر زكائبَ زكائبَ في دواوين، لا يخلو واحدٌ منها من النشيد الحميمي في الوطن أناشيدَ تحملُ كمّاً  كبيراً من أواصر العلاقة بينه وبين وطنه، سواءً بالتغني بتاريخه وحضارته، وناسه البسطاء الطيبين الكرماء، ونخيله وأنهاره، ومدنه وقصباته، أو بتعرية الحكام السابقين واللاحقين، الذين أثخنوه وشعبه بالطعنات والتخريب والفساد واللصوصية والتخلف والفقر، يقول عن عمق اللحمة بينه وبين أرضه الأم في قصيدة "موت مؤجّل":

بيني وأوروكَ الذي

بينَ الفراشةِ والزهورِ

وبينَ فاختةِ السماوةِ

والشجَرْ

*

فأنا وأوروكُ

الوفاءُ من السَّمَوْألِ

والوُضُوءُ من الصلاةِ

و " ميمُ " آصِرةِ المروءةِ من " مُضَرْ "

كما يبين في القصيدة أسباب اغترابه الإضطراري معبّراً من خلال استلهام الأسطورة السومرية وشخصياتها، إذ يقول:

لكنَّ إنليلَ الجديدَ أقامَ ما بيني وأوروكَ

الذي بينَ الغزالةِ والسهامِ

وبين أنكيدو وخمبابا

فعَزَّ المُسْتَقَرْ

*

أطلِقْ سَراحَكَ منكَ

أنتَ أسيرُ نفسِكَ  قلتُ ليْ

فاخترْ لخيمتِكَ القصِيَّ من البلادِ ..

الأرضُ واسعةٌ ..

فَدَعْكَ من الوقوفِ على تِلالِ

اللامَفَرْ

**

فـ(إنليل) هنا تضمين لشخصية كبير الآلهة ترميزاً لحكام العراق، وانكيدو هو الشاعر، وخمبابا هو الوحش الذي يحرس الغابة ترميزاً لذيول الحاكم من وحوش بشرية مفترسة تحرسه وتأتمر بأمره. فقد أقام إنليل بينه وبين اوروك (الوطن) السيوفَ والسهامَ والوحوشَ الكاسرة، لذا ما كان عليه إلّا أن يغترب بعيداً.

وفي إدانة ما يجري على أرض الوطن من اختلال وفساد يقول في قصيدة (تهديد):

هدَّدَتني بجحيمِ العالمِ السفليِّ إينانا

ولا أعرفُ

هلْ أنَّ الجحيمْ

غيرُهُ في صُبحِ "أوروكَ" البهيمْ؟

*

كُلُّهمْ في "المعبدِ الأخضرِ"

دجّالٌ ولصٌّ أسودُ القلبِ وشيطانٌ رجيمْ

*

منذ جاؤوا والفراتانِ دموعٌ ..

والبساتينُ هشيمْ

**

"المعبد الأخضر" تورية عن المنطقة الخضراء في بغداد. كما استلهم شخصيات الأساطير لإيصال ما يصوره ويعبّر عنه الى المتلقي بعيداً عن المباشرة والخطابية المُستهلَكة.

في استلهامه للأسطورة، كما ذكرنا، يشتغل يحيى السماويّ على التقاط شخصياتٍ منها، بينها وبينه آصرة المعاناة (أنكيدو) أو العشق (إينانا)، فيتقمّصُ منها ما يمكنه؛ شعرياً وتصويرياً وإشاراتٍ ودلالات؛ من أنْ يرسم من خلالها ما يعيشه ويعايشه روحياً ومكانياً وزمانياً، ومسكناً (أوروك)، لتكونَ الصورة معبّرةً بصدقٍ، وفنيةٍ عالية الأداء، حقيقية المشاعر والارتباط، مؤثرة في المتلقي، وبجمالية بلاغية خارج المألوف البلاغي المُستهلَك مثل رداءٍ مهلهل، لم يعدْ صالحاً للاستعمال، بل بتجديدٍ ساحرٍ مغرٍ للمتلقي، يمنحه طاقةً جماليةً روحية وذوقاً رفيعاً بالتدريب شعرياً من خلال قصائد راقية. ومن هنا تقمّص السماويُّ شخصية أنكيدو، فهما من أوروك، وتربيا في بريتها، فارتبطا بأرضها المعطاء الغنّاء، منطلقين في آفاقها الرحبة، يتنفسون من هوائها الممتزج برائحة أنهارها، وأشجارها، وأهوارها أيام عزّها وغَنائها، وحين اختلطوا بحواضرها وولاة أمرها، فعايشوا عواصفهم وطغيانهم وفسادهم، عانيا وجُرحا وتحمّلا أوجاعاً كان أثرها النفسي والروحي أعظم من جراح الجسد، فآثر أنكيدو العصر (يحيى السماوي)  العودة الى البراري يتحمل الحرّ والقرّ والصراع مع الطبيعة (المكان) وسكانها من الوحوش (الوحوش البشرية) ليتحملا ثقل الاغترابين المكاني والروحي. يقول انكيدو العصر في قصيدة "جفاف بعد سبعة أنهار وسبع سواقٍ):

نادِماً عادَ الى الغابةِ أنكيدو

فلا أوروكُ في أوروكَ

لا شاماتُ في الخِدرِ

و إينانا إلهٌ من حَجَرْ ..

*

والفراديسُ

التي حَجَّ إليها هائماً في سُفُنِ الأحلامِ

في اليقظةِ ألفاها

سَقَرْ

*

لا أتانُوبشْتمُ العَارفُ

يدري أين عشبُ العشقِ

والعشاقُ في أوروكَ عنقاءٌ

ولكنْ لا أثرْ

*

بعد سبعٍ

ربما بعدَ ثمانٍ  ليس يدري  فهوَ الساهي

إذا أصْبحَ

فالوحشةُ والحزنُ

وإنْ أمسى

فصهباءُ القوافي والسَّهَرْ

**

لقد استوحى واستلهم شاعرنا الكبير الأسطورة السومرية، وبخاصة في ملحمة جلجامش ومضامينها وأحداثها وشخصياتها، التي تقمّص بعضها، ليصوغ منها قصائد فيها روح الأساطير شكلاً ومضموناً، وأجوائها، ودلالاتها وإشاراتها، مع عصرنةِ الأغراض والخلفيات من ولاداتها الشعرية، والتعبير عن الأحاسيس والمشاعر الكامنة خلف انطلاقها، أو الظواهر السياسية والإجتماعية التي فجّرتها، والقصد من الكتابة الشعرية، مثلما ذكر السماويّ في قصيدة "هبوط إينانا منْ عالمها العلوي"، وهو تعبير عن موقفه من مضمون الشعر والغرض من كتابته، على نظرية (الأدب للحياة) ، وعلى لسان إينانا:

رفعتْ سُبّابةَ اليُمنى

وقالتْ

قبلَ أنْ تدنوَ من بحرِ قصيدٍ

حَدِّدِ القصدَ

فشِعرٌ دونَ قصدٍ طاهرِ النِّيَّةِ

ضَربٌ

من ضروبِ الهَذَيانْ

**

قصيدة منْ قصائد الديوان قصيدة "موت مؤجّل" (ص 135) والتي يقول في مطلعها:

هيّأتُ قصدي

للقصيدةِ

غيرَ أنَّ الأبجديةَ غادرتْ قلمي ..

وهيّأتُ الحقيبةَ

للسفَرْ

*

أوروكُ بعدَ ربيعِ إينانا خريفٌ

فالضفافُ الى جفافٍ

والغيومُ بلا مَطَر

*

وأنا الظميءُ السومريُّ الصَّبُّ ..

والموتُ المؤجَّلُ ..

والقتيلُ المُنتَظَرْ

*

أمضَيتُ نصفَ العمرِ

مُبتَدَءاً

أُفَتِّشُ في المنافي عن خَبَرْ

*

لِأُتِمَّ معنى جُملتي العذراءِ

في بحثي عن الفردوسِ

والخوفِ الموبَّدِ من

سَقَرْ

**

في قصيدته البهيّة هذه يذكر لنا ايضاً سبباً من أسباب غربته وما يثقل قلبه ونفسه من أحاسيس مُغترِبةٍ ومشاعر مضطربة.  كما في القصيدة أحاسيس متنوعةً: بين الانتظار، والموت والحياة متمثلةً بإلهة الخصب والحبّ والحياة (اينانا)، التي توحّد الشاعر الكبير معها روحاً وإلهاماً، ورمزاً واحداً للعشق، ومناجاةً وغناءً فريدَ الأنغام والإيقاع والشجو، والبلاغة المصاغة بجمالٍ مدهش، وحبّاً للحياة والخصب والجمال. (الموت المؤجّل) هنا هو البعثُ، حين يدخلُ الجسدُ في التراب، ليعودَ ذراتٍ ممتزجةً بالأرض لتكونَ خصوبةً تغذّي الروح الهائمة في السماء العليا حيث النجومُ والأقمارُ والشمسُ الساطعةُ، والغيابُ في عشقٍ ولذاذةٍ ممتزجةٍ بنبيذ الخلق؛ من أجل أنْ تساهمَ في بعثِ الحياة ثانيةً في جسدٍ آخرَ، وروحٍ مبدعةٍ أخرى، وشعرٍ ساحرٍ آخر، وكنزٍ من كنوزٍ ممتلئةٍ بجواهر البلاغة والكلام السماويّ الساحر.

الموت هنا هو الحياة، كالعنقاء تولَدُ من رمادها مجدّداً.

هذا الاتحاد الروحيّ بين الشاعر واينانا الأم/ الخصب/ الحياة/ الحبّ)، هو أسطورةُ أوروكَ الجديدة، التي ستخلّدُها الأجيالُ القادمة، لتكونَ رقيماً جديداً من الرُقُم الخالدةِ في تاريخ سومر الحديثة، من خلال هذه النجوى الروحية بين الشاعر والأسطورة وشخصياتها وتجلياتها، وخلق علاقة جديدة معاصرة بين الماضي الفنيّ الروحي (الأسطورة) والحاضر الواقعي المعاش، بين المعاناة والهجرة والمنافي، وانتظار القادم  على حصانِ التلاشي الجسدي، مع الانبعاث الروحي، في فلسفة الأسطورة. والخروج من ثوب المخيال الإسطوري غير الواقعي، وارتداء رداء الواقع الذي نعيشُه، مؤطَّراً بالتجليات الروحية في الارتقاء إلى سماء الإشراق، والعشق الإلهي الإنساني الأبديّ الخالد.

هذه هي من أبرز سمات إينانا السماويّة (نسبةً الى السماويّ يحيى) ـ كما وردت متجسّدةً في ديوانه هذا قيد القراءة ـ والتي تدخل تاريخَ الفنّ الشعريّ السومريّ الرافدينيّ الروحي، والشرقيّ والعالمي عموماً، بأوسع أبوابهِ وفنونه التعبيرية، والشعرية خاصةً.

ولا يفوتنا أخيراً أنْ نشير الى الكمّ الكبير من التضمينات لأسماء آلهة من الأساطير السومرية التي مرّ ذكر بعضها، والإغريقية (نرسيس). اضافة الى أسماء شعراء عرب: الضليل (أمرؤ القيس)، عروة بن الورد، ديك الجنّ... وهو ما أضاف غنىً على غنى شعر السماويّ الكبير.

***

عبد الستار نورعلي

فجر الخميس 2 حزيران 2022

في المثقف اليوم