قراءات نقدية

تنقلات الراوي ومساحة التبئير الخارجي في رواية: أغنية هادئة للكاتبة ليلى سليماني

حيدر عبدالرضاتوطئة: يمكننا عد الإشكالية الكبرى في جملة مصوغات سؤال رواية (أغنية هادئة) في ما يتخلص عليه حال دلالات جملة (أغنية: علاقة / هادئة: وثوقية التفاصيل = مساحة التبئير ـ أفعال الذات المتعالقة) بيد أن ما تقتضيه هذه الجملة العنوانية من أزمنة وأمكنة ونواة راحت بمجموعها منصهرة في وقائع الانهيار الذواتي المكسر في جرعات حياة المربية الكامنة بين (الضوء  الظلام صراع مأزومية الفرد) وتبعا لهذا فإن مجليات الخيوط والحبك السردي،لا تظهر لنا إلا عبر سياقات مقرونة بمتعلقات حياة أسرة تعمل لديهم كمربية حنونة،تحرص على رعاية طفليهما.لكن لو دققنا في مختزلات وتفاصيل أكثر عمقا ودقة في دواخل هذه الشخصية،لوجدنا ثمة نكوصية كبيرة في عوالم ذات هذه الشخصية،وقد لا تمنحها هذه الإنكفائية المركبة والمبطنة سوى البحث عن خلاصات عاجلة الأمد،حتى وإن كانت هذه البدائل الخلاصية،سوف تكلفها نزع كل أنسانيتها وضميرها دفعة وبرمشة جفن ربما؟.

ـ تعطيل الزمن وركود المكان عبر آفاق الحرية المقيدة.

وإذا ما تفحصنا البنيات الوقائعية الأحوالية والزمكانية في مساحة شد الأبعاد التي ترتبت عليها مواقيت سفر الزوجان والطفلين إلى منزل الجدين عند موضع قرية نائية تقع بمحاذاة سلسلة جبلية شاهقة.كان الزوجين قبيل موعد سفرهما قد لاحظا علامات من السأم والكبت في نظرات المربية القاهرة،ذلك بعد ما قرر الزوجان بعدم اصطحابها معهم إلى منزل الجدين..ولما حان موعد السفر،حلت الشخصية سيليفي في أثرهم إلى شقة العائلة،الأمر الذي بهتت من أجله المربية،التي لم تكن تتوقع مجيئها أبدا: (دخلت الجدة مبتهجة إلى الشقة وهي تصيح.ألقت حقيبتها على الأرض وأرتمت على السير إلى جانب الأطفال،ووعدتهم بقضاء أسبوع بهيج حافل بالألعاب والأطباق اللذيذة..ومضت مريم تضحك من مزاح حماتها الطفولي ..وحين ألتفتت،رمقت لويز واقفة في المطبخ تحدق فيها ..كان شحوبها ملحوظا، والهالتان المحيطتان بعينيها أشد سوادا./ص124 الرواية) أن معطى الأحداث في البناء الروائي،غدا يلوح نحو فكرة متنامية ترتبط بعنصري (الراوي ـ مساحة التبئير) تعلقا بملامح أكثر معايشة في اتجاه العامل الخارجي الناتج من الفعل السردي.وقد تحدد لنا جملة تراتيب متغايرة من قبل هذا التبئير الخارجي،بما يشكل في حد ذاته ترابطا مع وقائع تجسيد الملامح بما لا تركيزفيه على واقعة صوت الراوي وحده .يستخدم هذا النوع من التبئير الخارجي شكلا من أشكال متابعة سيرورة الأحداث الشخوصية ، من ناحية لا يمكننا من الإصغاء إلى وجهة نظر الراوي فيها،إلا في حدود وقفات لا تتخطى حالة الانتقال أو التحول من مشهد إلى آخر.

1ـ الراوي وحجب دواخل الشخوص:

علمنا من ذي قبل،بأن الراوي في دلالات رواية (أغنية هادئة) كان كاشفا للأحداث الشخوصية من خلال انطباعات المنظور النفسي له وتأملاته الداخلية،التي ترتبط شرطا بمكونات الشخصية ذاتها،كونه الراوي العليم.لكننا في بعض الفصول الأخيرة من الرواية لاحظنا بأن هناك مساحة فاصلة بين(الراوي ـ الشخصية)فالراوي بدأ فيها بأسقاطات العلامات والملامح الإيحائية التي تثير ذهن القارىء.أما فيما يتعلق بمحكومية حركة وصفات الشخوص،فقد ظلت مخفية ومعتمة ومحجبة في كوامن النفس الشخوصية ذاتها، فما ظل للراوي إذن؟في الواقع هناك مساحة وجهة النظر وروح التعليق اللذان يبادر بهما الراوي في شكل موجهات إشارية صريحة وضمنية ،كما وحتى فيما يخص جملة الأصوات الشخوصية ،فكانت قائمة ضمن رؤية خارجية بلغة مستقلة عن حدود رؤية الراوي العليم: (قد يكون سبب استياء لويز هو عدم أخبارها بالسفر،إلا في آخر لحظة،أو لعلها انزعجت من غياب الطفلين لفترة سيقضيانها مع سيلفي التي تناصبها العداء..فقد لاحظت مريم أن لويز تستشيط غضبا كلما شكتها حماتها،وتروح تناصرها بحماس زائد متهمة سيلفي بالجنون والهستيريا ،محذرة من تأثيرها السلبي على الطفلين وتشرع في تحريض مريم على عدم الإذعان لها،وأبعاد الطفلين المسكينين عنها ..مريم تشعر بمساندة الخادمة ،كما كان يغامرها شيء من الضيق./ص125 الرواية) رغم اتساع الرؤية من منطقة التبئير الخارجي،إلا أننا نشعر أن الرؤية كانت مرشحة عن خوالج نفسية تتعلق بمكنون مكين في احساس مريم .أتى هذا الضيق المفاجىء من المنظور الحسي ولإسباب تأخذ أبعادا في حدوسات وحسابات الشخصية مريم والتي كانت أغلبها هواجس تخمينية واهمة.وإذا كانا نتحدث عن قيمة التبئير الخارجي،بأعتباره الطريقة التي يقدم فيها السارد الأحداث والوقائع الشخوصية ،فإن الرؤية الخاصة بعالم ذاتها وهيمنتها على لغتها الداخلية ،هي بمهنى الخلاص النفسي والحواري مع أناة الكشف المحدد من الداخل ملمحا ومختزلا.

2ـ نوبات انطفاء الزمن في المنزل العاري:

في الحقيقة تنحاز عناية الكاتبة سليماني في مسار أحداث روايتها،إلى تطعيم حالات النص ببعض من العلاقات والصور السردية،التي تعادل مستوى مفاهيم (علامة ـ مرموز ـ إيحاء ـ معادل موضوعي) وتبعا لهذه المستويات من الوظائف،عاينا ذلك المشهد الذي تبرز فيه صورة خلع الشخصية بول لساعته وهم داخل سيارة الرحلة إلى منزل الجدين ذوي الزوج نفسه.لقد أصر بول دون أنى مجال إلى نزع ساعته وطلب من زوجته أن تحملها في حقيبتها: (كان قد أقتنى هذه الساعة قبل شهرين بفضل العقد الذي وقعه مع المغنى الشهير..أنها ساعة مستعملة من نوع رولكس تدبرها له أحد الأصدقاء بثمن مناسب جدا..وقد تردد كثيرا قبل شرائها،كان معجبا  بها ومتلهفا بالحصول عليها،لكنه كان متحرجا من ارتداء الأشياء المبهرجة./ ص125 الرواية) استطاعت ليلى سليماني في حدود هذا المستوى من الوسائل الإيحائية والتأشيرية،اخبارنا بأن علامة هذه الساعة أنما تتعلق بحالات مرمزة،تحيل بمفعولها إلى علاقة مريم بزوجها،فيما وعلاقة رأي والدة بول العجوز في مريم،فهي أشبه بتلك الساعة التي كان ملهوفا عليها بادىء ذي بدأ،ثم أكتشف بعد مرور الزمن بأنها ليست هي المراد نفسه.هذا ما فهمناه من خلال زمن إقامة الزوجان مع الطفلين في منزل الجدين العاري،حيث بوغتت مريم بمنظر ذلك المنزل اللامكتمل في البناء،فضلا عن عدم توفر خطوط الاتصال وشبكة الانترنيت على ما ينبغي. على هذا ثارت ثائرة الزوجة من طيلة زمن مكوثها في ذلك البيت القديم،ولو أردنا معرفة رأي تلك العجوز بهذه الزوجة لعثرنا على ما يؤكد لنا حقيقة هذا التحليل من جهتنا: (خلال وجبة الفطور، لم تحول مريم بصرها عن هاتفها،كانت تحاول بيأس أن تطلع على بريدها الألكتروني،لكن الشبكة شديدة البطء،وفي غمرة ذلك الغضب هددت بول بالعودة إلى باريس..تجهمت سيليفي وقد بدا عليها نفاذ الصبر،كانت تحلم لأبنها بامرأة مختلفة..أهدأ وأرشق وأروق مزاجا..امرأة تحب الطبيعة والتنزه في الجبل ولا تتبرم من عدم وجود شروط الرفاهية في هذا المنزل./ ص128.ص129 الرواية) .

3ـ الجثة تطارد شبح المربية في خلوتها:

تتناسج تراكيب المقاطع المشهدية في فصول رواية (أغنية هادئة)بموجب حركة تعاقبية عكسية،من خلالها يتشخص منظور الأحداث الشخوصية بطريقة المتواليات،كمحمولات الحدث المشكل على مساحة مضافة على شريط التشغيل اللقطاتي. تتبين لنا في حكي السارد،أن المربية بعد سفر العائلة،قد عادت أدراجها إلى الشقة مجددا،لم تغادر إلى حيث يقع سكناها في ذلك الحي الشعبي،دخلت الشقة وقامت بكامل واجباتها المنزلية،جلست على الأريكة فغلبها النعاس،بعد إن كانت قد حبست نفسها داخل الشقة لمدة لا تتجاوز الأسبوع: (كثيرا ما كانت تتابع برامج التحقيقات البوليسية وقد شاهدت ذات ليلة حلقة حول رجل عثر عليه ميتا في منزله الواقع بمدخل أحدى المدن الجبلية الصغيرة..ظلت النوافذ مغلقة لمدة شهر،وامتلأت علبة البريد عن آخرها بالرسائل./ص133 الرواية) يمكن القول أن المربية قد أثارها خبر هذا الحادث المصور من على شاشة التلفاز،فظلت على أثره تتصبب عرقا في نومها،وتستيقظ مفزوعة خوفا على ذاتها من مغبة الموت في هذه الشقة على حين غفلة،ودون أن يعلم أحدا بأمرها..السارد إذن غدا هنا هو من يعكس ويضيء كلام الشخصية من خلال منظوره المدرج في وعي الشخصية ذاتها. صادف يوما أن قامت الشخصية المربية وفاء بالاتصال الهاتفي على المربية لويز،وقد أخبرتها وفاء برغبتها بالمجيء إليها،لأن أصحاب العائلة التي تعمل وفاء لديهم في إجازة أيضا،حصل إن أخذت وفاء بعد مجيئها إلى الشقة التي تسكنها لويز،والتي هي تابعة للزوجين بول ومريم،إلى مسك زمام الطهي والتنظيف، فيما كانت لويز مستريحة تشرب الخمر منتشية في موضع جلوسها على الأريكة.حكت لويز إلى وفاء،بما يلخص موعد ذهاب بول ومريم والطفلين إلى جزر اليونان إلى جانب وجودها معهم: (لم يثيرا هذا الموضوع بعد،ولكن لويز متأكدة من أنهما سيعودان إلى الجزيرة للسباحة في المياه الصافية،والعشاء في المرفأ على أضواء الشموع الخافتة: قالت لوفاء التي جلست أرضا عند قدميها أن مريم تضع قوائم تجدها مرمية في كل أرجاء البيت، في الصالون بل حتى تحت سريرها،كتب عيها أنهم سيعودون إلى هناك قريبا هناك يشربون قليلا من الخمر وستعلن لهم لويز قرارها في عدم العودة./ص136 الرواية)ينفرد هنا السرد عبر هذه المقتبسات من أحداث الرواية،بما يمكن لنا أن نسميه ـ تنويعا على وتر الأنا الحالمة ـ حيث تهيم المربية بمسراتها التخييلية عبر ذلك الحلم المتقلب،تركت في ذاتها نشوة الخمر بما جعلها تديم الاسترسال في تداعيات وهواجسها المهزوزة نفسيا،فهي لا تبغ لذاتها بعد سوى الخلود واستعادة ما تبقى من حقيقة وجودها الواهم في تلك الجزيرة المميتة.

ـ تعليق القراءة:

واجهتنا في بعض الفصول من الرواية،ثمة أحداثا هي من التعويل أكثر مما ينبغي عليه حال عرض التفاصيل.فهناك وحدات ومشاهد لا لزوم لها اطلاقا،وقد مرت علينا كمر السحاب دون أن تترك في نفوسنا وذائقتنا أدنى درجة من التأثير قطعا.أن التأويلات في رواية(أغنية هادئة) تكمن في كونها تحفظ لذاتها وقدرتها بمفهوم ومصطلح (الرواية الإطارية)نظرا لكونها تنتهي بما بدأت عليه الرواية،ولكن تبقى قيمتها كرواية،في تماثلات حبكة السرد إلى جانب توفر تقانات صوغها بطريقة الأغنية الهادئة،التي غالبا ما تكون مؤثراتها المضمونية والدلالية من الظهور بمظهر بالغ في السكونية والديمومة في الآن نفسه كما ويبقى الوجه الحقيقي للرواية واقعا ضمن ممارسة هادئة من صنيع الدلالات المزدوجة عبر الأفق الحياتي من زمن الشخوص،ولكنها في الشطر المسكوت عنه تصبح صرخة مدوية تهتز لها كل المقادير الدلالية والعاطفية الرهيفة،فيما تشيح عنها الأبصار القارئة التي غطى وجوهها هول القيمة الروائية وأهوال الفاجعة المضمونية المثيرة.

***

حيدر عبد الرضا

في المثقف اليوم