قراءات نقدية

تأمّلات في ديوان "التحليق بأجنحةٍ من حجر" ليحيى السماوي

عبد الستار نورعليالتناصّ السرديّ (القصصي):

(السرد) في أبسط معانيه هو الترتيب المتسلسل للأحداث في النصّ الأدبي، والقصة والرواية خصوصاً، لأنه أساساً متعلق بالقصة والرواية، فهو فنٌّ أدبيٌّ مبنيٌّ من عناصرَ هي: الأحداث، والشخصيات، والظرف المكاني، والزماني. وبهذا يعني أنّ هناك حكايةً تُروى (قصة)، فيها راوٍ، ومرويٍّ، ومرويٍّ له (المتلقي).

فما علاقةُ الشعر به والحالة هذه؟

هناك نوعٌ من الشعر، هو الشعرُ القصصي، بحسب المنهج المدرسي التقليدي القديم في تقسيم الشعر الى أربعة أنواعٍ هي:

الشعر الغنائي (الوجداني/العاطفي)، الشعر القصصي (الملحمي)، الشعر التمثيلي (المسرحي)، والشعر العلمي.

فالشعر القصصي هو الشعر المتضمن على: حدث، شخصيات، صراع. وترتيب الأحداث بتسلسلها الزمني، وارتباطها المكاني، وحركة الشخصيات، والعلاقة بينها وبين الأحداث، وبين الشخصيات نفسها، كما هو معروف عن السرد بمعناه الذي سبق ذكره.

أما في عصرنا الراهن؛ ومع التجديد والتحديث والتطورات التي طرأت على الشعر شكلاً ومضموناً؛ فإنّ هذه المفاهيم التقليدية والتقسيمات والنظرة الى الشعر قد تم تجاوزها، وكذلك بتأثيراتٍ من الشعر الغربي والنظريات النقدية التي صاحبت تطوره، من خلال الترجمة، واهتمام الشعراء العرب.

وما نعنيه هنا بنظرتنا الى تأثيرات السرد القصصي، أنْ نتناولَ هذا الجانب من خلال خصائص وملامح نجدها في قصيدة ما، فيها من تقنيات السرد أثرٌ واضح، مع احتفاظ القصيدة بخصائصها المتعلقة بشعرية النصّ:

الأسلوب، اللغة، البلاغة، الخيال، جماليات الصور ، تقنيات الصياغة الشعرية، وفي المقدمة الإحساس في تجسيد البناء الداخلي المنبعث منْ تجربة حسيّة ومعايشة وجدانية تقف خلف مخاض القصيدة وولادتها. ونعني بالمعايشة هنا المفهومَ الحسّي الوجداني، لا الحدثي اليومي الممتزج بالعقل والنظر والفكر، مع تسليمنا بأنّ الكثيرَ من القصائد خلفها تاُثيرات من العقل والتأمل والنظر. لكنَ بناء النصّ وصياغته جمالياً ولغويّاً هما المحدّد لما وراءه.

فكما نجدُ للسرد تسلّلاً الى نصٍّ شعري، كذلك للشعريةِ مساحةٌ من الإنسلال الى لغة النصِّ القصصي السردي. فالفنُّ الأدبي شعراً ونثراً يلتقي مبدعوه عند نقطة واحدة هي صفة (الأديب)، ووسيلة إيصالهم نصوصهم وخلقها وهي اللغة، لأنها حلقة الوصل بين صناعتيه (النثر والشعر)، فهما مُنتَجان يُصنَعان ويصاغان بآلة اللغة، فلابدّ أنْ يتبادلا التأثير والتأثر، والأخذ والعطاء فيما بينهما؛ لأنّ مصنعَهما واحد (اللغة) فهي المادة الخام لهما. كما أنّهما يتناصّان (منْ تناصَى): بمعنى يتصلان ويتقابلان؛ إذ هما من منبع ورحم واحد، فهما توأمان، مع اختلاف في بعض التفاصيل البنيوية.

يقولون أنّ السرد هو وسيلةٌ يمكن بها أنْ يقدّم السارد (الأديب) علاقةً جديدةً بنائية عوضاً عن العلاقات التقليدية المألوفة في النصّ. وهذا يعني في الشعر أنْ يكونَ السردُ كذلك، أي يخلق الشاعرُ بناءً جديداً مرصوصاً بخليط من السرد والشعر، منْ خلال استخدامه بوعيٍّ، أو دون وعي أي بعفوية ابداعية غير مرئية إدراكياً لكن تدخل في الإيقاع ولادياً طبيعياً ضمن خلق القصيدة. وهنا تبانُ مقدرةُ الشاعر وموهبته وخزينه المعرفي الثقافي الفنيّ الأدبيّ وحافظته الحادّة، حين يبني بناءً شعرياً لا يقع في فخّ النمطية السردية القصصية، بمعناها الحكائي التراتيبي التراكمي، بل بماهية شعرية صياغية، من صناعة الشعر لا النثر.3811 يحيى السماوي

في النظر الى ديوان الكبير يحيى السماويّ "التحليق بأجنحة من حجر"، وغيره من منتجه الشعري، نجد أثراً ابداعياً للسرد في نسيج العديد من قصائده، ضمن انسيابية القصيدة بإيقاعها الفني الشعري لحظة ولادتها، مما يجعلُ السردَ نسجاً شعرياً ذا أثر جماليّ حسّيّ، يأتي سلساً مثل ساقيةٍ صافيةٍ، تنسابُ بهدوء وسلاسة رقراقةً بين الصخورِ والحصى، والبساتين، لتصلَ الى غايتها، فتصبّ في ذائقةِ المتلقي، ونفسه المواكبة للقصيدة. ومن صور هذا التناصّ مع السرد قصيدة "انهماك" ص 13 ، حيثُ مدخلُها:

جُرحٌ بلا نزفٍ

وحزنٌ دونَ أسبابٍ

وأفكارٌ مُضَبَّبَةٌ مَشَتْ بيْ

نحوَ فَيءِ الصالةِ القزحيةِ الأضواءِ

في قصرِ الغديرِ الرحبِ ..

فاجأني الأذانُ ..

وكنتُ وحدي

أستحِثُ على الهطولِ سحابةً

من مبسَمِكْ

في هذا المدخل يُظهر الشاعر لنا مكان وجوده (قصر الغدير) ـ وهو المكان الذي يلتقي فيه كلّ مساء تقريباً مع أصدقائه في السماوة ـ وزمان هذا الوجود (وقت صلاة المغرب)، وتوجهه الى صالة القصر المتعددة الألوان مثل قوس قزح. ويستخدم فيه تقنية السرد في التعبير والتصوير، والترتيب المنتظم للحدث، مكاناً وزماناً: الدخول ثمّ الأذان. مع البوح عما كان في نفسه من جرح وحزن وأفكار، وهو أيضاً من تقنيات السرد، حين يذكر السارد ما في نفس الشخصية من هواجس وانفعالات ومشاعر، وهو يروي للمتلقي، متابعاً بتسلسل حدثي وشعوري الحكاية. لكنّ الفرق هي الصياغة الشعرية اللغوية البلاغية الجمالية الخارجة عن المألوف في السرد الوصفي التقليدي للوقائع والشخصيات والمكان، والتي تقول لنا: هذا شعرٌ!:

"جرحٌ بلا نزف..."

"الصالة القُزحية الأضواء": بدل من تعداد الألوان والقول مثلاً: (كانت الصالة مضاءةً بمصابيح متعددة الألوان...) فقد ترك للقارئ تخيّل جمالية تعدد الإضاءة؟

" أستحِثُ على الهطولِ سحابةً من مبسَمِكْ" تأمّلْ هذه الصورة الشعرية المدهشة!

يواصل الشاعر قصيدته سرداً شعريّاً لما حدث معه في صالة قصر الغدير، بترتيب حدثي:

أعدو وراءَ غزالةٍ

مَرَّتْ بشكلِ قصيدةٍ عذراءَ

في مرعى الخيالِ

نصبتُ أوراقي لها فخَّاً ..

ولكنَّ المؤذِنَ صاحَ

حَيَّ على الصلاةِ

فقالَ ليْ قلمي

الصلاةُ أهمُّ عندكَ

أمْ غزالُ مُتيِّمِكْ ؟

وهو يتوجه الى الصالة سمع صوت الأذان الداعي الى صلاة المغرب، بينما كان وحي الشعر وشيطانه، قبل المؤذن، قد هبطا، وبدلاً من صياغة الحالة ووصفها بالقول المباشر ذهب شاعرنا الى بلاغته الشعرية ومن طبعه الفنيّ، لا صناعةً ميكانيكية، شبّه القصيدة بغزالة عذراء تشبيهاً مقلوباً، فبدلاً من أنْ يقول:

أعدو وراءَ (قصيدةٍ)

مَرَّتْ بشكلِ (غزالةٍ) عذراءَ

قلبَ الصيغةَ بالصورة التي صاغها في قصيدته، وبذلك خلق منها دفقةً شعرية سحرية بديعة مدهشة غير مألوفة بلاغياً تقليدياً. هنا تبرز الحذاقة الشعرية الكبيرة، والقدرة الهائلة على التصوير الفنيّ، الذي لا يتأتى إلا للكبار الأفذاذ، الذين يتقنون صناعتهم بموهبتهم وتجربتهم وثقافتهم الشعرية واللغوية والعامة الواسعة المتجذرة في الحافظة واللاوعي، فيحسون تلقائياً عفوياً بما يحسنُ أنْ يقالَ.

ويواصل الشاعر رحلة قصته في قصر الغدير راوياً لنا بتسلسل سرديٍّ ما فعل بعد سماعه صوت الأذان:

مُتوَضِّئاً بنداكِ صلَّيتُ الغروبَ

مُيَمِّمَاً نحوَ الوحيدِ الواحِدِ الأحدِ الفؤادَ ..

ونحوَ خِدرِكِ مُقلتِي ..

وفمي توجَّهَ نحوَ كوثرِ زَمْزَمِكْ

وسَرَتْ بجسمي رعشةٌ فرْطَ انتشائي

بامْتِلاء صحونِ مائدتي بِنِعمةِ

مُنعِمِكْ

ويواصلُ رحلةَ روايته الشعرية، ونواصلُ معه مشغوفين بلغة روايته فائقة الشعرية، مواصلةً روحيةً ذوقيةً بكأسٍ دهاق من سحر البلاغة واللغة النقية الأنيقة الأداء، ليذكر لنا أسماء أصحابه الذين اعتاد لقاءهم كلَّ مساء تقريباً في نفس المكان:

مَرَّ الصحابُ عليَّ ..

قال " لُؤَيُّ " مرحى ..

لم أجبْهُ ..

وقال "قاسمُ" طِبْتَ شعراً .. كيف أنتَ؟

فلمْ أجبْ ..

وأتى "محمدُ" .. ثمَّ "خالدُ" .. ثمَّ "فاضلُ" .. ثم "عامرُ"

..

ثمَّ " إحسانٌ .. وماجدُ " ..

كلُّهمْ قالوا السلامُ عليكَ

لكنْ لم أُجِبْ أحداً

وأقسمُ

أنهم عندي أعَزُّ من الطريفِ لدى البخيلِ

فكيفَ أُقنِعُهُمْ بأني كنتُ منشطِراً الى نصفينِ

نصفٌ شَدَّ سَمعاً للقصيدةِ عن فَمِكْ

يواصلُ السماويّ تحليقاً، ليس بأجنحةٍ من الحجر، لكنْ بأجنحة سماويةٍ شفافةٍ رقيقةٍ أنيقة الرداء الشعريّ، ونواصلُ معه رحلته الشعرية السردية العائدة الى عالم السموّ الشاعريّ بعيداً عن الحدث الحكائيّ، منغمساً في البوح الروحيّ، الذي اعتدنا أن نحتسيه بكأسٍ منْ خمرة الشعر، ومن دنانه الصافية المُلهَمة المُلهِمة:

وأصاخَ سمعاً نصفُهُ الثاني

الى صوتِ المُؤذِنِ ؟

كيف أُقنِعُهُمْ

بأنَّ المرءَ إنْ أضحى الى نِصفينِ

صار السمعَ واللاسمعَ ..

والنورَ الظلامَ ..

وكيف أُقْنِعُني

بأنّي

لوحةٌ رُسِمَتْ بألوانِ الهيامِ

بِمرسَمِكْ

وبأنَّ آخرَ ما رأى " الحَلاّجُ "

قبلَ الصَّلبِ

بدرُ العشقِ مُكتمِلاً بوَجهِكِ ..

والسماوةَ

سوف تلبسُ بُردةً ضوئيةً من

أنجمِكْ

فتعودُ سومرُ من جديدٍ

جنَّةً أرضيةً

وأنا أعودُ فتاكِ

أرعى في مراعي خِدرِكِ المائيِّ غزلانَ القصيدِ

مُتوَّجَاً مَلِكاً

ومَمْلكتي لذائذُ مغنمِكْ

وبما أنّ (الحوارَ) إحدى وسائل السرد ورواية الأحداث من خلاله بين الشخصيات، أو بين الذات الراوية (الكاتب) حواراً داخلياً (منولوج)، نجد أنّه في القصيدة هذه وفي معظم ما أبدع يكون لهذه الوسيلة حضورٌ ملحوظ:

"فقالَ ليْ قلمي

الصلاةُ أهمُّ عندكَ

أمْ غزالُ مُتيِّمِكْ ؟"

"قال " لُؤَيُّ " مرحى ..

لم أجبْهُ" ..

"وقال "قاسمُ" طِبْتَ شعراً .. كيف أنتَ ؟"

فلمْ أجبْ ..

"كلُّهمْ قالوا السلامُ عليكَ

لكنْ لم أُجِبْ أحداً"

من المعروف أنّ عناصرَ ومرتكزات السرد القصصي هي:

الحدث، الشخصيات، المكان، الزمان، والصراع.

وبالنظر في قصيدة "انبهار" نكتشف أنّ هذه العناصر والمرتكزات حاضرةً بشكلها الفنيّ، مع اختلاف في البناء التركيبي، نحنُ أمام قصيدة فيها شيءٌ من هذه ، لكنّها من قبل ومن بعدُ هي نصٌّ شعريّ بامتياز لا قصصيّ سرديّ.

إنّ وجود هذه المرتكزات السردية لا يعني بالمرة أنها أساس بنائها وخلقها، إنما جاءت تناصّاً سرديّاً، كما ذكرنا سابقاً:

الحدث: حضور الشاعر الى المكان، والتقائه بأصدقائه، وما حصل معه ومعهم أثناء ذلك.

الشخصيات: الشاعر وأصدقاؤه

المكان: قصر الغدير

الزمان: المغرب مع وقت الصلاة

الصراع: داخليّ بين الشاعر ونفسه لحظة هبوط الإلهام الشعري عليه دافعاً لولادة قصيدة، وليس صراعاً بين الأحداث والشخصيات، أو بين الشخصيات.

أما عناصر حبكة البناء الشكلي القصصي (السردي) في تطور الأحداث وتشابكها فهي:

البداية (المدخل)، الوسط (الصراع)، النهاية (الخاتمة) والنتيجة.

وبالنظر في القصيدة المذكورة نلمح هذه العناصر من خلال انسيابها وتسلسل أحداثها وارهاصاتها الحسية:

البداية: المقطع الأول، والمدخل الى مضمونها

الوسط: صلاة الشاعر، والتقاؤه بأصدقائه

الخاتمة: هي المقاطع الأخيرة من القصيدة، حيث تستقرُّ إرهاصاتها التي كانت وراء تفجّرها، واضطراب روحه، وألم مخاض ولادتها في نفسه الشاعرية الشفافة، فكانت النتيجة هي الخاتمة التي بعثت الطمأنينة والهدوء في قلبه بعد أن اكتمل بناؤها:

وبأنَّ آخرَ ما رأى " الحَلاّجُ "

قبلَ الصَّلبِ

بدرُ العشقِ مُكتمِلاً بوَجهِكِ ..

والسماوةَ

سوف تلبسُ بُردةً ضوئيةً من

أنجمِكْ

فتعود سومرُ من جديدٍ

جنَّةً أرضيةً

وأنا أعودُ فتاكِ

أرعى في مراعي خِدرِكِ المائيِّ غزلانَ القصيدِ

مُتوَّجَاً مَلِكاً

ومَمْلكتي لذائذُ مغنمِكْ

وفي قصيدة "التحليق بين أربعة جدران" ص 5 نقرأ ملامح السرد ايضاً، وهي القصيدة الأولى في الديوان، إذ يبدأها بالمقدمة (البداية) السردية التي يصفُ لنا فيها المكانَ، وهو بالتأكيد غرفة، إذ بمقدورنا التخمين من خلال وصفه بأربعة جدران، والنافذةِ المطلة على الحديقة، وما موجود من حاجات: حقيبة فيها كتبٌ كثيرة، ألبسة مغلّفَة، هدايا، عطور، وشمعدان بابلي، فيساورنا السؤالُ: ترى هل هو على سفرٍ، أم عاد من رحلةٍ، فيأخذنا السماويُّ بيد الشعر لندخل عالم القصيدة الى وسط مكانها الحسّي، ونحلّقُ معه في أجوائها، وزمانها اللامحدود، فالشاعر يسردُ لينقلنا معه خارج الزمان والمكان؛ نهيمُ معه في عالمه السحريّ اللازوردي، غائبين في لجّةٍ سامية من الهُيام الروحي، فنسكرُ من غير خمرٍ إلّا خمرة الشعر:

وحدي وظِلّي

بين أربعةٍ ونافذةٍ تُطِلُّ على الحديقةِ

حيثُ لا شَجَرٌ ولا وردٌ سوى

شوكِ القلقْ

وحقيبةٍ فيها من الكُتُبِ الكثيرُ

وبعضُ ألبسةٍ مُغَلَّفةٍ هدايا والقليلُ من العطورِ

وشَمْعَدانٌ بابليٌّ ليسَ أصليَّاً

ولكنَّ النقوشَ البابليةَ لا أدَقْ

وفي أخذه بيد ذائقتنا وتبتُّـلنا في محراب قصيدته، يلقينا في (وسطها) المضطرب بالأحاسيس والمشاعر، فيثير ذهولنا:

شقَّ الخيالُ طريقهُ

فوجَدْتُني مُتفَيِّئاً أفياءَ بستانِ الحبيبةِ ..

جاءني ظبيُ القصيدةِ

فافترَشتُ لهُ سريراً من وَرَقْ

ونصَبتُ مائدتي ..

شربتُ من الندى كأساً

وأخرى صَبَّها ليْ من سُلافتِهِ الشفَقْ

فثَملتُ ..

وابتدأ النعاسُ يُشاكِسُ الأجفانَ

نمنا عاريَينِ أنا ومولاتي التي دكّتْ جدارَ الليلِ

فارتحَلَ الأرَقْ

لنتأمّل الصورَ الشعرية الباهرة من استعارة ومجاز بعيداً عن السرد التقليدي الوصفي للأشياء:

"جاءني ظبيُ القصيدةِ

فافترَشتُ لهُ سريراً من وَرَقْ"

و..

" شربتُ من الندى كأساً

وأخرى صَبَّها ليْ من سُلافتِهِ الشفَقْ"

وفي نهاية وخاتمة القصيدة يجيب على تساؤلاتنا في بدايتها:

أكان على سفرٍ أم عائداً من رحلةٍ؟ وذلك نتيجة لمخاض القصيدة:

وحدي وظِلي بين أربعةٍ ونافذةٍ تُطِلُّ على الحديقةِ

حيثُ لا شَجَرٌ ولا وردٌ

سوى زِقٍّ من الشوقِ المُعَتَّقِ فهْوَ

مُصطبحي

ودَنٍّ

من هديلِ حمامةِ القلبِ المُخَضَّبِ بالتبتُّلِ

مُغتَبَقْ

وحقيبةٍ أكملتُ من شهرَينِ شَدَّ حِزامِها ..

ما إنْ أراها

أستعيذُ من الرَّهَقْ

القلق الوجودي

يقول إيليا أبو ماضي (1889 ـ 1957) في قصيدة "الطلاسم":

جئْتُ، لا أعلمُ مِنْ أينَ، ولكنّي أتيتُ

ولقد أبصرْتُ قدّامي طريقاً فمشيتُ

وسأبقى ماشياً إنْ شئتُ هذا أم أبيتُ

كيف جئْتُ؟ كيفَ أبصرْتُ طريقي؟

لسْتُ أدري!

هذه الأسئلة الفلسفية الوجودية التي طرحها الشاعر، أطلقها من مشاعر القلق الوجودي الباحث عن أجوبة تدور في رأسه وروحه الهائمة في رحلة التأمل الإنساني في ماهية الحقيقة، حقيقة الخَلْقِ والحياة. لكنَها بعيدة عن الإجابة النهائية القاطعة فلسفياً. فظلّ الإنسانُ واقعاً في موجة القلق هذه. وبقيت الأسئلة نفسها تدور. ومع ظهور الفلسفة الوجودية طرحت مجموعة من النظريات والرؤى لتفسير القلق الوجودي. فالقلق مصطلح يعني عند الوجودية مشاعرَ عدم الارتياح تجاه الاختيار، والحرية في الحياة. ويرى الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر (1905 ـ 1980) أنّ الانسان بوجوده في الحياة يحيا في قلق ويكابده. وهو يعني أنّ الانسان يلزم نفسه في الاختيار، وأنّ اختياره يحدد له حياته ومستقبله ومستقبل الانسانية كلها. فيتساءل مع نفسه: هل من حقّه أنْ يتصرف بهذه الطريقة؟ لأن تصرفه سيكون مثلاً للآخرين. فالقلق هنا هو غيرُ مرضِ الإكتئاب، هو الوقوع بين اليقين في الاختيار واللايقين.

وبالعودة الى شاعرنا، نقرأ له حالاتٍ في بعض قصائده يعبّرُ فيها عن القلق، ويبقى تساؤلنا عن ماهية هذا القلق عنده. يقول في قصيدة "التحليق بين أربعة جدران":

وحدي وظِلّي

بين أربعةٍ ونافذةٍ تُطِلُّ على الحديقةِ

حيثُ لا شَجَرٌ ولا وردٌ سوى

شوكِ القلقْ

أيُّ قلقٍ هذا الذي يساورهُ يا ترى؟

ويقول في ص 32 ومن قصيدة "ميراث العاشق السومريّ":

يُسري كذوباً كانَ ..

والفرَحُ المسافِرُ بيْ الى جُزُرِ الحقيقةِ

مُختَلقْ

كنتُ المُحَنَّطَ

غيرَ أني أرتدي ثوبَ الحياةْ

أدمَنتُ منذُ يفاعتي

خمرَ القلقْ

مُتنسِّكاً قد كنتُ

لكنْ

لستُ أعرفُ ما الصلاةْ

قلقه هو صراع ذاته بين اليقين واللايقين (الشكّ)، وفي قصيدة "موعظة الفراشة" يبيّنُ بوضوحٍ حالة القلق والاختيار في البحث عن الحقيقة، لكنّه يصوغ هذا وينسبها شعرياً الى الفراشة، وهو به يرمز الى حالة نفسه، في عدم امتلاكه القرار بسبب حيرته القلقة، فإمّا أنه سيحتسي رحيق وردة الحقيقة (اليقين)، أو يقع في براثن نار الحيرة التي لا تهدأ (الجحيم الروحي)، يقول:

قالتْ

سأرجعُ لارتشافِ رحيقِ وردتيَ الحقيقةِ

غيرَ أنَّ جناحَها

ما عادَ يمتلكُ القرارْ

أهيَ الضحيَّةُ ؟

أمْ عدوةُ نفسِها ؟

مَرَّ الضحى ..

ومضى الغروبُ ..

ونامَ ليلٌ ..

واستفاقَ الفجرُ وانتصَفَ النهارْ

وتساؤله عما كانتْ هي (هو) الضحية، أم هي (هو) عدوة نفسها، بوقوعها في نار القلق، والبحث الذي لا يستقرّ عند شاطئ اليقين. لكنّه في نهاية المطاف يهتدي الى اليقين، ليضع رأسَ طمأنينته على وسادة الأمان النفسي، والراحة الروحية، فينطلق في فضاء السموّ بين ورد الحقيقة التي اهتدى اليها بنفسه، وهو أسيرٌ مشدود الخطى بين الورد والنار. يقول في نفس القصيدة ص 25:

مُتوضِّئاً بهدى الفؤادِ

مُخَضَّباً بتبتُّلي والإقحوانِ

مُيَمِّماً روحي الى ربِّ الفراشةِ والورودِ

ومقلتي نحو اليقينِ ..

سَجَدتُ ..

وارتبَكتْ خيولُ هواجسي

فسقطتُ مغشياً على وردِ الحقيقةِ

أستغيثُ من الظنونِ

ومن رَحى أمسي الموزَّعِ بين أشواكٍ

وزهرِ الجُلَّنارْ

وهو في لجةِ القلق الدائر في اكتشاف اليقين (الحقيقة) يركنُ الى نفسه لوقوعه على ما يبحث عنه، فما غيرُه بقادرٍ على أنْ يأخذ بيديه نحوها، فينقذه من شرّ نفسه القلقة المفتشة عن اليقين بلا هوادة، أو تسقطه في لهيب جحيم النار. هو القادرُ إذا صمّم وأصرَّ على حمل مصباح ديوجينوس ليضيء له دربه ويقوده نحو يقين الفردوس العلويّ:

ما مُنقذي مني سوايَ ..

أنا عدوّي لو جنحتُ عن اليقينِ

وليس غيري مَنْ يقيني شرَّ نفسي

مِنْ غوايتِها

ولا غيري يقودُ خطايَ نحو جنانِ فردوسٍ ..

ونحوَ جحيمِ نارْ

حمل هموم الناس

يحيى السماويّ؛ الإنسان والشاعر المناضل الذي تربى على المبادئ الأممية الإنسانية، والذي له صولات حياتية في مقارعة الديكتاتورية والدفاع عن حقوق الناس في حياة حرّة كريمة، وله جولات شعرية في ذلك أيضاً مناضلاً بالكلمة؛ لا يحتاج منا شهادةً على حمله هموم الناس، حياةً وشعراً، فهذا تحصيل حاصل ما عاشه وما فعله وما كتبه. هو الذي حتى في صلاته يدعو بالخير والنعمة والخبز للجياع، والأمن والأمان للمدنِ المقهورة، الواقعِ أهلُها بين براثن الفقر والجوع والحرمان والقهر على أيدي حكامها وسراقها من رجالاتهم وأذنابهم.

شهادتنا مجروحة في هذا الجانب، لكنْ علينا أنْ نستقصي في شعره عن هذه اللوحة الإنسانية المشرقة، التي تؤرخه قصائدُه خالدةً جيلاً بعد جيلٍ، مذكرة بما كان يجري على أرض أوروك من معاناة وجورٍ وسلبٍ للحقوق والحريات، وتخريب وهدم.

نقرأ في هذه الخاصية السماويّة (نسبة اليه) في قصيدة "انهماك" ص 15 الدعاءَ بالخير والخبز والأمان للناس أثناء الصلاة:

فَبَسَطتُ قلبي لا يَدِي ـ أدعو بخبزٍ للجياعِ ..

وللمدائنِ بالأمانِ ..

وليْ ببشرى هُدهُدٍ

بتوَحُّمِكْ

***

عبد الستار نورعلي

الأحد 12 حزيران 2022

في المثقف اليوم