قراءات نقدية

الرواية الإطارية بين التبئير الحاف والدلالة السكونية

حيدر عبدالرضامباحث قرائية في رواية (أغنية هادئة) للكاتبة ليلى سليماني

المبحث (11)

توطئة: تندرج مواصفات العوامل والعناصر البنائية والأسلوبية والدلالية في رواية (أغنية هادئة) ضمن كيفيات مضمرة وغير مكشوفة إذا أردنا مقارنتها بمسار الحبكة الروائية عبر زمنها ومكانها.إذ أننا نواجه من خلال استراتيجية أفعالها السردية، ذلك الفاعل الإطاري المشيد بموجب ملامح استباقية عند بداية الرواية مع تجاوز قيمة الرقعة المضمونية التي راحت تنمو عبر موجهات دلالية سكونية، في احتواء مراحل المرسومات الشخوصية وتأصيلها بمهمة فرز الشفرات الخاصة في زمن الحكاية الإطارية في الرواية، وعلى هذا النحو وجدنا فاعلية وآلية منطقة التبئير بدت وكأنها حافة في الأطراف الدلالية، لا تحقق منها أي دلالات سوى صور تأخذ لها درجات غامضة من إجرائية الكشف والانفراج الحدثي العامل على إقصاء العلاقة الذروية إلى مواضع كامنة في التحول والتحويل اللانفراجي.

ـ الاكتئاب الهذياني وفجوة الفواعل المركزية

تواجهنا في الفصول والوقفات الأخيرة من الرواية، ثمة حالات أكثر سوءا واحباطا في مواطن حياة المربية لويز جراء جملة المتعارضات والمنغصات الشرطية في تقدم سلامة حضورها وسط عائلة مشغليها.مؤخرا ودون تجليات واضحة بدت لويز أكثر مرضا وقد أنهك قدراتها الجسمانية والنفسية عوارض خاصة تتعلق بالحمى والإكتئاب الهذياني.فضلا عن ما راودها في مناماتها من الكوابيس والاضطربات الداخلية في ذاتها الكظيمة: (يلازمها صراخ داخلي يمزق أحشاءها، ويلتصق القميص بجسدها من شدة التعرق، وتصطك أسنانها، فتتكوم في السرير، ويتهيأ لها أن وجهها ينسحق تحت كعب حذاء من الأحذية. / ص154 الرواية) يعد هذا العامل من مظاهر مرضية المربية، شأنه شأن حالات (الاكتئاب ـ الهذيان) وهذا العارض ليس بدوره جديدا على الشخصية، بالأخص وأنها العنصر المعلن عن مدى متروكيته وإهماله من قبل وجه الحياة الهانئة..فالويز تعد الركيزة التحفيزية في قدرات الرواية المتخفية بطابع مبئراتها الحافة نحو محاولة تجاوز عوائق وجودها في صعلكة الحياة العابثة بملامح وأحلام تلك المربية الخابية.

1ـ الكراهية تتعاظم برائحة المكان العفنة:

أن الحدود التي تتهيأ للمربية لا تتجاوز غرفة ضيقة ذات صالة متصلة بنافذة وسخة الزجاج، على حين غرة غدا شعور المربية في سكنها هذا، وكأنها ممارسة في مرحلة عمرية تتصل بسرعة غريبة بتفاصيل الشيخوخة ، أو عدم قدرتها نحو تحريك أجزاء من جسدها التي باتت تؤلمها.فضلا عن مترتبات قاهرة من تكاليف العقاقير التي تواظب عليها، كل هذا يشعرها بمدى وقوعها في عتبة مبكرة من الشيخوخة السقيمة.فليس هناك في حياتها في شقتها من وازع خدمي وترفيهي ما يجعل منها امرأة ذات آمال طالعة، وكم تضيق عليها أنفاسها مرارا وهي في الاستحمام، حيث تنشق روائح عفنة مبعثة من قمرة حوض الاستحمام: (فهي تشمها، بل تشعر بها في فمها عبر كل واصلات الشقوق التي تكسوها الطحالب الخضراء..ورغم إصرارها على تنظيفها كل يوم، تعود لتنمو في الليل على نحو أكثف مما كانت عليه سابقا./ص155 الرواية) هكذا تعاظمت في دواخل الشخصية جرعات مريرة من مشاعر الكراهية.أحقاد وشرور لم تعهد لمثلها في قلبها سابقا.

2ـ المربية وشغفها في حفظ فضلات الأطعمة:

صار مؤخرا من أنجع هوايات المربية لويز، حفظها إلى ما تبقى من موائد طعام العائلة في الثلاجة، وهذا الأمر بدوره ما جعل من الزوجة مريم تثور ثائرتها حول مدى صحة هذه التصرفات الغبية من قبل المربية.قد تكون هذه العملية من المربية ذات أبعاد تستغرق في مدى حرمان هذه الانسانة وتارة قد تكون بسبب قصدية خاصة من كونها أصبحت مهملة ولا تكترث بسلامة مشغليها من مغبة تناولهم أطعمة منتهية في صلاحيتها احتمالا.الأمر الذي جعل الزوجة مريم هي من يقوم بإخراج القمامة ليلا، القمامة التي عبأت في كيس يحتوي بقايا من الأطعمة أو لعب من ألعاب الطفلين، فما كان زوجها إلا أن يراقبها بنظرات ضاحكة، محدثها بسخرية: (ألا تخشين عتاب لويز، هيا اعترفي! ./ص157 الرواية)

3ـ وقائع هيكل عظمي ورمزية التحقق في الرؤية:

نلاحظ في الوحدات اللاحقة من المشاهد السردية في الرواية، ثمة خروجات فاضحة في تصرفات المربية، خصوصا ما حث في إطار ممارستها الغرائبية حول الاحتفاظ بذلك الهيكل العظمي من أصل دجاجة.قد تكون من محتملات رمزية هذا الهيكل، ما يعود علينا بالتأويل، بأن المربية قد قصدته لغاية إحالية تعكس من خلاله جل خلاصات حياتها التي مرت بها في بيوت المشغلين في الخدمة، وهذا الأمر ما يعكس إنها أصبحت الآن مجرد هيكلا عظميا مسلوخا عنه كل طبقات اللحم التي تغذى عليها أصحاب البيوت منذ الماضي والحاضر، فهي الآن لا تعبر عن ذاتها المقهورة سوى بحدوث هذا النوع من الترميز، المتعلق بالهيكل العظمي: (مريم متأكدة من أنها رمت بالدجاجة في القمامة هذا الصباح؟مضت تتفرس في الهيكل البني، بعموده الفقري المستدير الأملس وعظامه الحادة..نزع منه الفخذان، بينما تدلي الجناحان بحيث تكاد مفاصلهما تنقطع..أما الغضروف المصفر اللامع فأشبه بصديد متيبس..ورأت مريم من خلال الثقوب، وبين العظام الصغيرة تجويف القفص الصدري الفارغ الأسود./ص159 الرواية).

ـ الجريمة على إيقاع أغنية هادئة

إذا تأملنا سير عملية الخطاب الوقائعي في سرد الرواية، فلربما لاحظنا كيفية وصول مسافة الأحداث إلى هذا المستوى من مجريات التحقيق التي قامت بها الشرطة مع عائلة (هيكتور روفيي) ذلك إنطلاقا من جريمة قامت بها المربية لويز تتمثل بقتل الطفلين (ميلا ـ آدم) في حوض الاستحمام: (طبعت النقيبة أوراقا مدتها إلى آن وهي تقول: ـ وقعي هنا من فضلك ـ أحنت على الورقة، ومن دون أن ترفع عينيها، سألت بصوت مرتبك:ماذا فعلت لويز؟ ماذا جرى؟ ـ متهمة بقتل طفلين؟ . كانت تحيط بعيني النقيبة هالتان سوداوان، ويثقل نظرتها جبينان أرجوانيان./ ص165 الرواية).

1ـ مستويات التبئير الحاف:

حاولت الروائية ليلى سليماني البحث في مراحل تمفصلات أحداث سردها، كي تقدم قيمة تبئيرية ذا دلالات حافة، أي إنها لا تشكل تقديم العلاقات دفعة واحدة نحو مواقع الكشف، بل إنها أخذت تتعامل مع سردها الشخوصي، بمعادلات الملمح أو الدخول في تفاصيل الأطراف من السرد.أما فيما يخص مطاف الفعل الشخوصي وما الذي جعله يقدم على فعل القتل، فتترشح منه عدة أسباب دالة وغير متوقعة في نقطة ما من مظاهر السرد.قلنا سابقا وفي كل مباحث كتابنا السابقة الخاصة في دراسة هذه الرواية، بأن الشخصية لويز إنسانة تصبو إلى حياة أكثر التصاقا بهذه العائلة المتكونة من الزوجة مريم والزوج بول إلى جانب طفليهما آدم وميلا.أصبحت لويز في أيامها التي عقبة حادثة الهيكل العظمي، أكثر قلقا على مصيرها المنكفىء في أواصر هذه العائلة.ولأنها كانت تشعر بعدم رضا مشغليها عليها وإنها أصبحت دون أدنى ثقلا في ميزان العائلة، خطر في بالها موضوع ضرورة أن تنجب مريم مولودا جديدا، حينذاك سوف تكون مريم بحاجتها إلى جانب تعدد متطلبات المولود الجديد.فما كان من لويز سوى البحث عن أشد الوسائل مكرا في جعل الزوجان يقومان بعمل هذا الطفل.حتى يتاح للويز البقاء طويلا وسط هذه العائلة: (في اليوم الموالي، رتبت سرير بول ومريم بعناية أكثر من المعتاد.مررت يديها على الغطاء، فتشت عن دليل يثبت جماعهما، وعن أثر الطفل الذي غدت واثقة من قدومه./ص182 الرواية).

2ـ الوظيفة المؤجلة أو تحول البنيات للحبكة:

هناك مقاطع ووحدات في جملة مشاهد الرواية الختامية، تظهر شخصية المربية وهي في أشد أوضاعها نفادا للصبر، من أجل توفير الزمن الكاف للزوجين لأجل إتمام عملية الجماع بينهما، ولكن يبقى الحائل هو وجود الطفلين. فالزوجان قد لا تتهيأ لهما فرصة الخلوة حتى يندمجا في علاقة حميمية تسهل عملية الإخصاب في مبايض الزوجة.حاولت المربية الخروج باصطحاب آدم وميلا إلى أحدى المطاعم الليلية، وعندما استبد بهم الوقت، أخذت تصطحب الطفلين نحو شوارع مهجورة إلا من وجود الشواذ ومدمني المخدرات.وعندما عادت المربية بالطفلين في ساعة متأخرة من الليل، وجدت حال الزوجان كما هو عليه وقت خروجها.أي ليس هناك علامة ما تبشر المربية بأن الزوجان قد قاما بعلاقة حميمة من النوع الذي كان مرجوا من قبلها.هكذا صار الفعل الانتقامي من الواجب فعله من قبل نوازع المربية ذاتها: (توفي الرضيع. لم يستغرق موته سوى بضع ثوان.وأكد الطبيب أنه لم يتألم.وضعوا جثته المفككة الأوصال، التي كانت تطفو فوق الماء مع اللعب، في كيس رمادي وأغلقوه.أما الطفلة الصغيرة، فكانت لا تزال حية عند وصول النجدة.دافعت عن نفسها بشراسة، وقد عثروا على ما يدل على مقاومتها:قطعا من البشرة تحت أظافرها الطرية.كانت وهي في سيارة الإسعاف التي نقلتها إلى المشفى متشنجة وشديدة الاضطراب / صوروا مسرح الجريمة، وأخذوا البصمات وقاسوا مساحة الحمام وغرفة الطفلين، كان السجاد على الأرض مبتلا بالدم/كانت الأم مصدومة، هذا ما قاله رجال المطافىء، ورددته الشرطة وكتبته الصحافة.حين دخلت إلى الغرفة التي كان يرقد فيها طفلاها بلا حراك ندت عنها صرخة آتية من الأعماق، أشبه بعواء ذئبة./ ص9 .ص10 الرواية) الكاتبة سليماني قد جعلت من بداية روايتها كشفا لحكاية رواية إطارية يحكمها الاستباق ووظائف أكثر سكونية في نمو السياق الروائي، ولو دققنا في نهاية الرواية لوجدنا ذات الدلالة من وقوع التحقيقات في شأن إعادة تمثيل مسرح الجريمة من قبل كوادر الشرطة في منزل العائلة المنكوبة ذاتها.

ـ تعليق القراءة:

حاولنا طيلة زمن دراسة مباحثنا للرواية التأشير حول قيمة آليات السرد في ممكنات الدلالة الروائية ضمن روح خلفياتها المكينة بسياق (الرواية الإطارية) ودليلها المحكوم بهواجس فاعلية (التبئير الحاف) في سمات مؤشرة من سكونية اللانتاج النصي الروائي الأكثر تماسكا وانشغالا في ذروة المحمول الخارجي والداخلي من حياة الرواية الإطارية .

***

حيدر عبد الرضا

 

في المثقف اليوم