قراءات نقدية

قراءة حداثوية في رواية (الخيميائي) للكاتب البرازيلي باولو كويلو

حيدر عبدالرضاالرؤية الصوفية بين فرضية روح العالم وخيميائية الأسطورة الشخوصية

توطئة:

لكل نص روائي فكرة ملتهبة وجبارة تستولي على كاتبها، ضمن دلالات خطابية وبنيوية ومرجعية تكوينية، تأخذ لها حيزا ملفوظيا في مساحة مفترضة من الأفق التخييلي.لو دققنا في مسار المعنى من الموجهات الذهنية والمنظورية والإجرائية في رواية (الخيميائي) أنموذجا، لوجدنا في مبنى ومتن وعنونة هذا النص المحفوف بأنشطة رمزية ومعادلية وسيميائية وصوفية ذا إزاحة متعددة المشارب والأبعاد، قد تنتهي من جهة ما بجملة تشكلات إقناعية خاصة، وقد لا تنتهي إجمالا بغير توفر المساحة التكوينية من صفة ربحية الأفكار والتساؤلات التي تطرحها ظواهرية المتن السردي من خلال الأفعال الشخوصية والحدثية، التي راحت تندرج بذاتها المجملة وفق طبيعة مستعارة من انطباعية الظنون الفرضية المتعالقة في سمات الغيرية والسببية والتشيؤ إجمالا. باولو كويلو من أشهر كتاب المسرح إلى جانب تأليفه مقطوعات وأناشيد من الأوبرا في البرازيل عبر زمنه، وله من الأعمال الروائية التي قرأنا لبعضها ما لا يتسع لنا حصرها كرواية (إحدى عشرة دقيقة) و رواية (بريدا) ورواية (الجبل الخامس) ورواية (حاج كوميوستيلا) وروايته الرائعة (الزانية) مجموع هذه الروايات سوف نقوم بالكتابة عنها ضمن مشروعنا قيد الإنجاز حول الرواية منذ الحقبة الكلاسيكية وحتى زمن الميتاحداثوية.هناك روايات عديدة خارج حدود قراءتنا، إذ لم تتاح لنا فرصة الإطلاع عليها لظروف خاصة بالترجمة أو التوزيع.في الحقيقة قرأنا نصف روايات هذا الروائي الفذ، ولكننا لم نتوقف عند واحدة منها في ضرورة الكتابة عنها، سوى ما خلفته في ذائقتنا رواية (الخيميائي)، نظرا إلى موقعها الفني والجمالي والذهني في إثارة كوامن العديد من المعادلات الرمزية والظنون الاستشراقية التي أثرتها ذائقة المؤلف نفسه في مرايا عواطف وأفكار الأفعال الشخوصية في مشغل روايته موضع بحثنا.

ـ البنية السردية وأحياز المقاربة العقلانية

لكل قابلية سوسيولوجية للفن والفكر الرمزي، تتقبل جملة تأثيرات للحياة الواقعية ـ الاجتماعية، على محددات النص الابداعي، سواء من ناحية ارتكازية استعارية أو من جهة بنية تأويلية خاصة في تحصيل دلالات مفهومية استبدالية للمعنى الأكثر توظيفا في مضمنات النص اللسانية والبنيات الاسلوبية الرمزية.في الواقع حاول باولو كويلو في أسلوب المرسل الدلالي لروايته موضع بحثنا، انشاء جملة من العلاقات المختلفة والمتباينة منها (الرمزية ـ البنية التكوينية ـ الإحالة المرمزة ـ الواقعة المرجعية الذاتية ـ رؤية العالم ـ لغة الكون في محاول الأشياء) وعندما تشرع جملة أداة هذه المنظورات في حدود وقائع استنتاجية بالفعل الإجرائي، نتبين بأن هناك أداة غرضية مستقلة عن معنى الملفوظ الفعلي الكامن في مصادفات وتنصيصات الخطاب، وهذا الحال من التظهير (الخارجي ـ الداخلي) للوظيفة الرمزية في المهام الحكائية للنص الروائي.هذه وتلك تجعلنا نستنتج بأن كويلو كان في نصه ميالا إلى وضع حوارية كونية متواصلة بين الذات ولغة الأشياء الميتاطبيعية، وقد تمت هذه الإجرائية بموجب جملة الشروط المتضمنة في أحوال وأوجه الوقائع في النص نفسه.

1ـ العتبات تمهيدا إلى خارج وداخل النص:

نقول ثمة مقاربات عتباتية في فضاء مناصات الرواية، تقودنا نحو وظائف متماثلة في محاور ومجاورات الوجود الموضوعي للرواية، كحال عتبة (الخيميائي الذي يعرف أسرار الانجاز العظيم ويستخدمها) كما وهناك بالمرة ثمة مقدمة تشير إلى حكاية نرسيس لأوسكار وايلد: (كان الخيميائي يعرف أسطورة، ذلك الفتى الجميل، الذي كان يذهب كل يوم، ليتأمل جمال وجهه في مياه إحدى البحيرات، وكان مفتونا بصورته، إلى درجة إنه سقط ذات يوم، في البحيرة ومات غرقا.وفي المكان الذي سقط فيه، نبتت زهرة سميت نرسيس ./ص19 عتبة) ولكن على ما يبدو أن أوسكار لا ينهي حكايته على هذا النحو من التحديد، بل إنه راح يضيف إن لدى موت نرسيس قد حلت في المكان روح آلهة الغابات، وقد قامت حوارية نادرة من نوعها مع روح البحيرة.وعلى هذا النحو نستنتج من خلال شروع هذه العتبة المدخلية إلى نص الرواية (الخيميائي) بأن الروائي باولو كويلو، كان يسعى إلى الربط بين الأحوال الخاصة في حكاية أوسكار والأسباب النواتية ـ التكوينية، والمقابلة في عقد التواصل التمهيدي المؤشر نحو مسبوقية الإعلام عن ما تتجلى به حالات وعناصر روايته المتضامنة مع طبيعة اللغة الروحية المكونة من عدة ممارسات دقيقة ذات أبعاد متشاركة في مداليلها الأفعالية والصفاتية والانشغالية.

2ـ الفضاء المراوي بين فرضية رؤية العالم والتمثل الشخوصي:

تشتمل الأبعاد التخييلية في مستهل الفصل الأولي من الرواية حول مكون واقعة الفضاء (الانعكاسي ـ المراوي) الذي يضم مجموعة من التفاصيل الاستيهامية والواقعية من حكاية ذالك الراعي الدعو بـ (سانتياغو) إذ تجرى تمفصلات الخطاب، بدءا بأحوال أكثر توصيفا منها إلى السرد.بدت سمات الشخصية مع قطيع أغنامه، وكأنها واصلة ما محاكاتية بالأدب الواقعي الذي امتاز به الكاتب الفرنسي أونوريه دب بلزاك في أكثر أعماله الروائية انتشارا وسعة، وعندما تتوفر للشخصية سمات الطلوع بهاجس الرويا للأشياء في حدود ذائقة منامية قادمة من حلم قد راوده في أحدى الليالي وقد عاوده الحلم ذاته أيضا بذات التفاصيل في ليلة أخرى: (لاحظ إن غالبية ماشيته تفيق من النوم فور إفاقته..لكأن هناك طاقة غامضة توحد بين حياته وحياة هذه الأغنام التي تجوب البلاد برفقته..منذ عامين، بحثا عن العشب والماء، قال لنفسه هامسا: لقد ألفت عاداتي جيدا، حتى باتت تعرف مواعيدي، ثم فكر، بعد لحظة، إن الأمر قد يكون عكس ذلك: أنه هو بالذات من يعرف مواعيد ماشيته بدقة./ص24 الرواية) في حقيقة الأمر إن السارد هنا يسعى إلى استكمال (فضاء الانعكاس: المحكي بملفوظ إظهار فاعل ـ إقامة توازي ـ أداة محققة بين كلا الطرفين) ويكرر السرد أداة نقطة الانعكاس بين روح ولغة الراعي إلى جانب حقيقة الانطباع والغريزة في روح الأغنام.العلاقة هنا جارية في محكي تابعا للفاعل المنفذ، إذ تتحرك على صعيد مؤثراته بأداءات الفاعل نفسه، ليس للبنية المحققة في طبيعة قطيع الأغنام.تظهر لنا كذلك في جملة مرسلات جانبة إلى علاقات هذا الراعي بأغنامه، مثل تلك الواعدة من الاهتمام بأبنة تاجر الصوف، وإعدادها من قبل الشخصية كمرحلة عاطفية أولية في تفاصيل الإنشاء الأسري له، ولكن حالات رؤياه الحلمية، كانت أكثر معودة وإلحاحا عليه في جل حساباته الشخصية إلى المستقبل، فيما راح صوت أنثوي يقطع عليه خلوته مع صفحات الكتاب التي يغرق فيها بين يديه: (لم أكن أعلم بأن الرعاة يستطيعون قراءة الكتب.. إنها فتاة ذات ملامح أندلسية ولها شعر أسود طويل، وعينان تذكران على نحو غامض بالغزاة المغاربة القدامى. أجاب الراعي الشاب: إن النعاج تعلم أشياء أكثر مما تعلمه الكتب./ص25 الرواية) .

3 ـ التكيف والتمثل والاحساس بانعكاس الأحوال السردية:

يخبرنا الناقد والمنظر الروسي الكبير (توفيتان تودوروف) في فصل (قرار التأويل) من كتابه القيم ـ الرمزية والتأويل ـ مثل هذا القول المؤثر: يقال أن كل عملية نفسانية تشتمل على مرحلتين أو وجهين، هما ما سماها بياجيه بـ (التكيف) و(التمثل) .فالحياة النفسية للإنسان تحتفظ على الدوال ببعض المخططات الخاصة بها، وعندما تجد هذه الحياة نفسها في مواجهة أعمال وأوضاع مجهولة بالنسبة لها، فإنها تتحرك وتستجيب لها بتكييف المخططات القديمة مع الجديدة ./ص51 ـ أنظر كتاب ـ الرمزية والتأويل، ترجمة د. أسماعيل الفكري، دار نينوى للنشر.على هذا النحو نلاحظ بأن حياة ومخطط الفاعل المنفذ المتمثل بشخص الراعي، راحت تنطوي في قرارة نفسه عبر هاتين المرحلتين من (التكيف = الاحساس بالانعكاس / التمثل = الاتفاق العلني والضمني) أي بمعنى ما أن علاقة الانعكاس بين وعي الراعي وقطيع أغنامه، هي وليدة التكيف الإيحائي، ومع نظر الراعي إلى ذلك الحلم الذي ما برح يعاوده في كل مرة، هي نتيجة حالة تمثل مع مخططات الراعي النفسية في البحث عن ما هو أسمى من مهنة الرعي في البراري، كما إن سمة الزمن الظرفي الذي جمع الراعي بأبنة التاجر، هي بمثابة الاستباق في زمن الحادثة الموصوفة في تقديرات تلك العارفة العجوز أو ذلك الملك العجوز، الذي أيقظ بتفسيره لحلم الراعي جميع طموحاته بذلك المكنون الرمزي للكنز في صحراء الأهرامات في مصر: (وسرعان ما تذكر، إن في طريفيا امرأة عجوز تعرف تفسير الأحلام، وفي ليلته هذه، راوده الحلم ذاته الذي راوده من قبل، قالت العجوز حينئذ:لقد جئت تسألني عن الأحلام، إن الأحلام في لغة الرب، عندما يتكلم الرب بلغة العالمين، أستطيع تفسير كلامه ..ولكن عندما يتكلم بلغة روحك، فليس هناك عندئذ أحد سواك يستطيع الفهم ./ص35 الرواية) ليكن نص مداليل الرواية، ذلك الجزء من المحتوى والصياغة الطقوسية والاستشهاد بإمكانية لغة الأرواح وفيوضاتها التكافئية قدما.لذا نحن أمام مستوى مبطن وضمني من الإداء الخاص بزمن نبوءات الأحلام والعراف، ولكننا مضينا شطرا مع الأحداث الروائية، فلن تباشر أذهاننا سوى المزيد من العلامات والإشارات الأكثر عمقا من كشوفية الواقع نفسه، مرورا نحو ذلك الظهور بالعلامات المتكونة من لغة الحدوس والهواجس إلى جانب صوفية كلام الصخور والرياح الغالبة على الترجمة الذاتية والموضوعية في أشكال المحمول المرمز من دلالة المدلول .

ـ المحتوى الجوهري ومقولات الحدوس الميتافيزيائية

كلما تقدم بنا فعل التلقي لأحداث زمن السرد المصاحب، كلما عثرنا على جملة تنويعات أكثر وصولا في متاهة الحساسية الجوهرية التي تعاين بدورها قيمة تحولات صوت الراوي عبر (ضمير المتكلم ـ ضمير الغائب) وهذان الضميران هما في الآن نفسه من الصلة والتقاطع بين حدوسات الشخصية ووصايا ذلك الملك العجوز الذي رصعت على صدرية مثبتة على صدره العديد من الأحجار الكريمة المرصوفة، بما جعل أمرها يشغل مخيلة ذلك الفتى الراعي: (قال الشيخ: أنا ملك سالم .سأله الفتى، بضيق ودهشة كبيرة: ـ لمَ يتكلم ملك إلى راعٍ ؟ .هناك عدة أسباب لذلك، ولكن لنقل السبب الأكثر أهمية، وهو أنك استطعت إنجاز أسطورتك الشخصية؟ . لم يفه الفتى ما الذي تعنيه عبارة الأسطورة الشخصية ./ ص43 الرواية) .

1ـ ما وراء الحلم أو ما خلف قصدية الأسطورة الشخصية:

لو تمعنا في تجليات ما قالته تلك العجوز للفتى الراعي لوجدنا حدوث عدم الاختلاف في معنى القصدية في فحوى كلامها نحو طالع ذلك الفتى، وهو الأمر ذاته في إعلان المساومة من قبل الشيخ للراعي، بإعطائه بضع رؤوس من النعاج مقابل الإدلاء إليه بمخطط وأسرار الوصول إلى ذلك الكنز المكين بعدة خطوات من موضع هياكل الأهرامات في صحراء مصر، ولكن من الغريب إن المرأة العجوز كما يتضح في سياق النص، من إنها لم تساوم الفتى لأجل الإدلاء إليه بمخططها الخاص للعثور على كنزه إلا بنسبة ضئيلة جدا.عموما أن الروائي لم يبين لنا سر المفاضلة في اختيار الفتى لمشورة الشيخ الملك دون المرأة العجوز، رغم أن الاثنان قد أشارا بذات الفحوى من الملغز الطلسمي، لأجل بلوغ الفتى نحو أسطورته الشخصية، فما كان عليه إلا أن يتبع ما يمليه عليه قلبه من اشارات وحدوس وعلامات غريبة.قد يكون الفضاء الروائي في حقيقته، بحثا مكانيا وزمانيا ونفسانيا في لغة روح الكون وعندما نبحث بالدليل القاطع عن ماهية مرشح هذه اللغة، لنجدها هي الواصلة الروحانية التي تنبع من القلب الصافي والمطهر.لكن للأسف أن الروائي باولو لم يقم بتحديد أو لربما لم يطلع بالمرة بما يكفي حول قضايا التصوف في الموروث العربي، لذا فإنه لم يقم بتعيين التسمية عن مفعولها الجاد، الذي لا يقترب إطلاقا من عادات وعبادات العقيدة المسيحية قط .لكن النتيجة والسببية التي لازمت مخيلة باولو هي ما يترتب عليه القلب المجاف لروح التحضر والمدنية تحديدا، وهذا الأمر بدوره لا يصدق أبدا مع حكاية الشخوص في الرواية أبدا.لقد ارتبطت القيمة الرمزية في فضاء الصحراء منذ صيرورة التأريخ التصحري نحو اعتبارات خاصة في الميثولوجيا العربية، وكان أغلبها ما يشير إلى حقيقة الزهد والتصوف التديني في نطاقه التعبدي خروجا على كافة معوقات الاتصال بروح الكون التي يحددها الخالق عز وجل، فلا يمكن بمكانا ما تحقق الاتصال بروح الكون، دون مؤهلات حقيقية أسهلها الإيمان الكامل جسديا وروحانيا بالخالق جل جلاله.إذن أقول هنا مؤكدا بأن موضوعة الرواية وقعت بإشكالية كبرى، دون أن يشعر بها أحد من قراء الأدب الروائي الغربي من العرب، خصوصا وأن باولو كويلو لم يصور لنا شخوصه على أتم الاستعداد لذالك الكمال الروحي والتزكية القلبية، خاصة وأن الراعي نفسه كان يتعاطى النبيذ ويعشق النساء جهرا فكيف يكون عليه مستوى هذا التلاحم بين المرء وروح الكون، وبالتالي ما يمكنه السيطرة على روح الأشياء من حوله.أقول مجددا أن الروائي البرازيلي العزيز، لم يفهم ببساطة كيفية التعامل مع هذه التوجهات والمؤشرات الكونية الكامنة في معلول روايته، إي أن لأصحاب القلوب هالات خاصة وحالات لا يمكن التكيف والتمثل بها إطلاقا، دون توفر أدنى خلفية مسندة بدورها عن حياة المتصوفة في الصحراء للروائي نفسه، لذا وجدنا الفتى الراعي وذلك الانكليزي الذي كان قاصدا في رحلته على ظهر الإبل مكان ذلك الرجل الخيميائي الذي يسكن الصحراء منذ عقود.لكن الغريب في الأمر أيضا في الرواية، إن ذلك الخيميائي يظهر إلى الفتى بطريقة فنتازية، دون إلتفاتة حتى إلى أثر ذلك الرجل الانكليزي الذي كان يبحث عنه طيلة الفصول المتوسطة من النص: (قال الشيخ القادر على قراءة أفكاره:هذا صحيح، تماما مثلما قال لك جدك.تلك هي الاشارات ثم فتح المعطف الذي يغطي ملابسه، فدهش الفتى مما شاهد، حينذاك تذكر البريق الذي بهر يوم أمس.ذلك أن الشيخ يرتدي صدرية من الذهب الخالص، ترصعها الأحجار الكريمة، قال الشيخ وهو ينتزع درة بيضاء ودرة سوداء من وسط الصدرية، خذهما أنهما تدعيان أوريم وتوميم السوداء تعني ـ نعم ـ، والبيضاء تعني ـ لا ـ وعندما تعجز عن اكتشاف مواضع الاشارات تساعدانك، ولكن ليكن سؤالك موضوعيا باستمرار./ص51 الرواية) أن باعث التأكيد على زمن الأشارات هو الخفاء الأعظم في مبررات الرواية، تماهيا مع عدم الشيوع في استدراك خلفية تلك الاشارات القادمة من غواية معاودات الحلم ذاته إلى الفتى الراعي تحديدا، ومن خلال رؤيا ذلك الحلم المتكرر في منامات غير مستقرة نفسيا وجسديا، راح المؤلف باولو كويلو يعول على أن الفتى هو شخصا ذا مؤثرات روحانية حسب تكهنات ومزاعم العراف العجوز.

2ـ المكان الصحراوي: العلامة في الوجود اللامتناهي

استطاع الروائي كويلو من دمج الفضاءات معا داخل أمكنة الحياة الصحراوية.فالجسد مكان الروح كما نعلم، وأيضا روح العالم هي الله.التأكيد جاريا في موضوعة الرواية على أن روح العالم هي الإمكانية للمخلوقات الطبيعية مثل الريح والرمل وحركة الزمن، صحيح أن هناك أشارات حول المشيئة والمكتوب والقدر على إنها عناصر خلقية تابعة للخالق هو الله، ولكن عندما تحل الأسباب في مسار الأحداث، نلاحظ بأن هناك حالة عكسية من ذلك المراد في الأسباب، وأن الإقرار يرتبط بالأشياء ذاتها وفي ذاتها دون وجود العلة والمعلول أي الجعل والجاعل.على أية حال سوف نعود إلى مسار السرد وهو العامل المساعد لكشف عوالم المؤثر في حياة الفتى الراعي، وهو يواصل رحلته نحو أهرامات مصر صعودا لها عن طريق المسلك الصحراوي: (لا تنس:ليس الكل إلا واحدا، ولا تنس لغة الأشارات، ولا تنس خصوصا، الذهاب إلى نهاية أسطورتك الشخصية/ثمة حصن قديم، بناه المغاربة، يشرف على مدينة طريفا الصغيرة، ومن يجلس على أسواره، يمكنه مشاهدة ساحة عامة، وبائع فشار، وبقعة من أفريقيا ..جلس ملكي صادق ـ الشيخ ـ ذلك المساء على أسوار الحصن، وشعر بهبوب رياح شرقية، على وجهه، وكانت النعاج قربه، لا تكف عن التحرك، إنها قلقة ومضطربة، جراء استبدال راعيها..راقب الشيخ ملكي صادق المركب الصغير، وهو يبتعد من المرفأ، فكما استحال عليه أن يرى إبراهام ثانية، كذلك لن يرى الراعي الفتى./ص54 الرواية) هناك محاور شخوصية تسيطر على مسار إيهامات النص الروائي مثل (الشيخ العراف = الخيميائي = فاطمة = الفتى الراعي) أن هذه العوامل الشخوصية في بنية الأحداث، بمثابة البوصلة التي من خلالها تسير سفينة الرواية نحو مرادها المدلولي. ترد إلينا بعض من التساؤلات حول العلاقة المحورية ما بين (الشيخ العارف ـ الخيميائي) وكأن الاثنان واحدا في حيز مخيلة الروائي، ولكن تبقى حدود الاختلاف قائمة في نوع الحكمة وبلاغة العامل المفارق ما بين الشيخ والخيميائي، ولا يمكن لنا بحال الجزم بأن الآخر هو الأول والأول هو الآخر، ذلك لأن الدورين مزدوجين ولكن مع ذلك فلكل منهما منزلة وقدرا في أحوال الرواية.

ـ فاطمة الفاعل المحفز والمحرض في رحلة الحكاية الروائية

1ـ المستوى السيكولوجي: منظور تعدد صيغة الأصوات:

لقد أصبح منظور الروي في تحولات الراوي ـ مكانا وزمانا ـ من الأسس الصياغية التي باتت تحدد جهات ( التبئير ـ وجهة نظر) إلى ثلاث أقسام: (المنظور ـ الموضوع ـ صيغة الأصوات في الصوت الواحد) وبعبارة موجزة لاحظنا أن لشخصية الفتى الراعي منذ صعودها إلى عالم حمم الصحراء، قد بدت وكأنها عبارة نمذجة لأصوات ومعطيات الأحوال البيئية والشخوصية وصولا إلى أسلوب تداخل جهة الرؤية والحدوس لدى الشخصية إلى جانب منظورات متعددة: ( الرؤية من الخارج ـ الرؤية من الخلف ـ الرؤية مع) زمن خلال هذا التعدد في رؤيات الشخصية، غدا لنا أليفا أن نعثر على وجود ملمحا ما . من حالات الشيخ العجوز في صوت الريح أو في مطابقة غير معلنة من قبل مقولات ذلك الخيميائي أو حتى في مرأى الأواني المصنوعة من الكرستال والبلور: (سأل الفتى، حينئذ عما إذا كانت بركة الشيخ لا تزال ترافقه. / ص61 الرواية) أو في ما نواجهه في وحدة أخرى مع تاجر الأواني: (من المتوجب علينا أن نتبع الإشارات، ثم ندم على قوله هذا لأنه لم يسبق للتاجر أن التقى ملكا/ غير أن التاجر كان يدرك جيدا ما قاله مساعده، ذلك أن مجرد وجود المساعد في الحانوت يشكل إشارة / تجنب الفتى بدوره الحديث عن حلمه.لقد بات الكنز، الآن مجرد ذكرى موجعة على الدوام/ قال له التاجر: لست أعرف أحدا هنا يرغب بعبور الصحراء، لكي يذهب لمشاهدة الأهرامات فحسب، فهي ليست سوى ركام من الحجارة.وبأستطاعتك أن تبني أنت أيضا أهراما في حديقتك . / ص74 . ص75 الرواية) أن طبيعة هذا النوع من الحوارية الخارجية، هي فلسفة بالوجود الحقيقي الآخر، وبالتالي فإن تشخيص الزمن الذي عمل فيه الفتى لدى تاجر الأواني، هو بمثابة الإشارة على صحة الحياة المؤجلة في مبررات بقاء الفتى كل هذا الزمن في العمل عند التاجر.هكذا يقوم الزمن بالنسبة للتاجر على وظيفة الوجود الشاغل، لأن الفتى لم يكن هذا برمته إطلاقا، بل هو زمن ( الرؤية مع) ولأجل تقدم دلالة (الرؤية من الخلف) يتوجب علينا الحديث عن ما صادف الفتى من سرقة أمواله لحظة دخوله إلى أرض طنجة من قبل ذلك الشاب اللص، لذا صار لزاما على الفتى الراعي أن يبحث لنفسه عن عملا ما، لأجل إكمال أسطورته الشخصية والوصول إلى كنزه الموعود بوصايا العراف العجوز في أسبانيا، وعلى هذا النحو يظل الشخصية المحور سانتياغو يفكر طيلة شهور عمله في الحانوت لبيع الأواني، نحو الرجوع إلى أسبانيا مخذولا محبطا، بعد أن يسترد قطيع أغنامه بالنقود التي حصل عليها من جراء عمله في الحانوت طيلة سنة كاملة.لكن ثمة مستحدث ما جعل من سانتياغو ينظر إلى جدية رحلته نحو كنزه بأكثر من ضرورة: (ألتفت التاجر إلى الفتى وقال: ـ إنني فخورا بك، لقد أعدت الروح إلى حانوت البلور، ولكنني لن أذهب إلى مكة، تعرف ذلك جيدا، كما تعرف أيضا، أنك لن تسترجع غنمك.سأله الفتى، مذهولا:من قال لك ذلك ؟ فأجاب تاجر البلور العجوز ببساطة، كل شيء مكتوب ثم باركه./ص84الرواية) قلنا سابقا بأن طابع الحوارية في وحدات السرد، ما هي إلا إشارات نادرة، تتصل اتصالا روحيا ونفسيا بين الأقطاب الأربع (التاجر ـ الفتى ـ الخيميائي ـ العارف العجوز) وكأنها بذاتها تشكل زمنا شخوصيا موحدا في الدال والدليل، وتحفز الفتى إلى التفرس في جملة (كل شيء مكتوب؟) على إنها الواصلة الدلالية بين (المشيئة ـ القدرـ النصيب) وحالما استكملت الإشارات زمن الفتى عاد في نفسه يني الرحيل نحو عبور الصحراء حيث فرصة تعرفه على الانكليزي وفاطمة حبيبته التي سوف يتزوجها بعد حصوله على الكنز والخيميائي الرجل الحكيم.

تعليق القراءة:

في الحقيقة كنت أود الإطالة أكثر في عرض وتحليل ما ظل من فصول الرواية، وحتى الخاتمة، لكنني وجدت أن لا ينصب اهتمامي تركيزا في مجرى حكي مواقف النص تفصيلا.نحن هنا نوافق منهج غريماس الذي يوطد في شروحاته على جملة إرساليات من الدلالة على أساس علاماتي، فيظل الحديث عن حكاية النص عبارة عن عناصر فواعلية ذات ترسيمات هيكلية، ولأننا لا نتعامل بضرورات المنهج السيميائي، رحنا نتناول المعادلات الدلالية في الرواية، على أساس حكاية ذات محتوى تخييلي مفرط.الكاتب البرازيلي الكبير (باولو كويلو) أراد صنع المرموز في خطى أفعاله السردية والخطابية بأكثر من وجه ودلالة ومرجعية، حتى أنه قدم لنا الفاعل الذات كحالة معادلة في مستوى تحقيق التخييل المراد.وقد نجح فعلا من ناحية روائية، ولكنه لم يصب من ناحية توجيه أفعاله النصية إلى جهة المعادل الرمزي الذي يوفر لنصه مساحة توسطية من التأويل وعدم التسليم للمعنى بالشكل اليسر والبين.في الحقيقة كانت نهاية الرواية أضعف من شكلها المتني المحاط بأشد العلامات والتخمينات اللامتوقعة، ورغم أن الكاتب سعى إلى أن لا يجعل نصه يختتم بنهاية نمطية، إلا إنه قد قدم انفراجة لا يصح حدوثها بهذه الصورة الباهتة.مع كل هذا تبقى هذه الرواية علامة بنائية وأسلوبية ودلالية حاذقة وريادية بمعادلات برؤية صوفية روح العالم وخيميائية الحلم الأسطوري للشخصية سانتياغو: ( توغل الفتى في روح العالم، ورأى أن روح العالم، هو في روح الله، وأن روح الله فيه./ص180 الرواية) هكذا أجترحت الرواية لذاتها سمات (ميتافزيقية ـ عرفانية) بلا أدنى مستوى من الكمال الروحاني والزهدي والقلبي والمعاملاتي، في سبيل الإقتناء بروح الكون، لذا بقيت الرؤية طالما شاعت عند أرباب التصوف في الصحراء، فيما بقيت دون مكاشفة جادة، لأن أصحاب الكشف والقلوب تتاح لهم ممارسة روحانية في الاجتهاد ومصارعة رغبات الأنا والنبذ عنها ملذات الشهوات. تبعا نقول لم يصف المؤلف البرازيلي في اختيار القدرات الخاصة لنخبة شخوصه في الرواية، بل أنه أساء لها عندما جعل من شخصيته المحورية تعثر على الكنز في نهاية روايته، بل كان الأسمى به اكتشاف أن ماهية الكنز تتعلق بالعلاقة القلبية مع روح العالم والأنسراح في كنوز معرفة الجاعل الأكبر لكل كنوز الكون، ولكنه أقتصر على رؤية صوفية شاطحة نحو بلوغ خاتمة مضمونية ما لا تقوى على بلوغ الحلم الكوني الكبير.

***

حيدر عبد الرضا

 

في المثقف اليوم