قراءات نقدية

القصيدة المرتجلة رائية الشاعر السوري المغترب: عادل ناصيف

3908 عادل ناصيفتتبدى اللغة الشعرية في هذه القصيدة بجمالية خاصة أنها جاءت في موقف لم يكن الشاعر قد هيأ نفسه فيه للشعر، وهو ما يجعل لهذه القصيدة ميزتها الأسلوبية التي أسميها بالقصيدة الموقف، نظراً لأن القصيدة ولدت نتيجة حدث خارجي غير متوقع من الشاعر، ولم يخطر في باله

لقد ولدت القصيدة إذن بفعل تحريضي، ومحفز في آن معاً، ووفق هذه الولادة تتبدى القصيدة قائمة وفق ثنائيات الأضداد التي تتصارع في مستويات مختلفة، وهو ما سيكشف عنه الغوص في هذه القصيدة على الرغم من قلة عدد أبياتها.

بنيت القصيدة وفق متواليات تضادية قائمة على وجود طرفين سواء من حيث اللغة أم الشخوص، أم الموقف:

أولاً - من حيث اللغة تبدأ القصيدة بأداة الشرط(إذا) وهو ما يقتضي وجود جواب، وهي الثنائية اللغوية الأولى التي يستهل الشاعر بها قصيدته في بيت الاستهلال:

وإذا رحلتِ فما رحيلُكِ ضائري

ما دامَ قربُكِ لا يهزّ مشاعري

ثم تتوالى تلك الثنائيات الضدية وفق خطأ المخاطبة في ظنها، وما يعتمل في مهجة الشاعر من أحاسيس مخبأة تجاه من يحب في الحقيقة:

أخطأتِ ظنّكِ في هوايَ فمهجتي

تهوى فؤداً ظلُّهُ في خاطري

كما تظهر تلك الثنائية في البيت الثالث من خلال اللغة مرة ثانية التي جمعت فيها البعد الزماني من خلال دالي (صبح، الدجى) كما يتبدى البعد المكاني من خلال قول الشاعر في البيت الرابع في قوله الذي يحدد المسافة بألف ميل كناية عن بعد المسافة بينه وبين من يحب:

ألقاهُ في صبحي وفي غسقِ الدجى

و أراه في حلمي وميضَ بشائري

بيني وبينهُ ألفُ ميلٍ تنطوي

برحابها روحي ويغفو ناظري

كما ينتقل إلى ثنائية أخرى تتمثل في اللحظة الحاضرة، إذ يعمد الشاعر إلى تناظر بين صدر البيت وعجزه بين لحظة حاضرة، وذكرى غابرة، وهو ما يشير إلى اختلاف زمنيين متباعدين في لحظة وحدت بينهما هذه القصيدة:

ما الخمرُ في كأسي سوى لهبِ الهوى

وعصارةِ الذكرى بقلب الذاكرِ

ثم تتابع تلك الثنائية من خلال فعل الاختيار الذي يضمر عن وجود أمرين هما الحانة التي ارتادها الشاعر، والزوجة التي تركها وحيدة مع ابتتها

لو خيّروني ما أتيتُ لحانةٍ

وتركتُ زوجي مع وليدي الساهرِ

كما تظهر تلك الثنائية من خلال اللغة في بيت الختام الذي يجمع بين السر، وهو علامة الكتمان والإخفاء، والفعل أبحت الذي يفيد بالكشف والإعلان عن المخبوء:

لو خيّروني ما أبحتُ بسرّه

لكنْ رحيلكِ قدْ أباح سرائري

كما تتكشف مضمرات تلك الثنائية الضدية من خلال ما ورائيات النص التي تتمثل من خلال ثنائيتي: الشخصيات المتحاورة،والمقام في الخطاب اللغوي

الثنائية الأولى تتجسد بوجود الشاعر من طرف، والمرأة التي طلبت من رفيقاتها الابتعاد عن العساكر كما وصفتهم، إذن ثمة ثنائية تتخلَّق من ثنائية أولى فالثنائية الأولى على مستوى الجنس تتمثل بطرفي:

الذكر الذي يمثله الشاعر - الأنثى التي جسدتها المدرسة

الحالة المدنية التي مثلتها المدرسات بطلب بعدهن عن الشاعر ورفاقه - الحالة العسكرية التي تتمثّل باللباس العسكري الذي كان الشاعر ورفاقه يرتدونه .

الثنائية الثالثة تبدت من خلال ما أعقب القصيدة من موقف غير متوقع يتمثل بمجىء اللواء، وجلوسه معهم

فالثنائية هنا ثنائية مقام بين رتبة القائد الآمر اللواء - والشاعر برتبته، التي يمثلها طالب ضابط .

وهكذا تبدو هذه الأبيات قد اشتغلت وفق ثنائية الضدية سواء ما جاء على مستوى اللغة أم جاء على مستوى الحدث وشخوصه، أم بما أعقب القصيدة من مجريات أحداث، وبهذا فإن تحليل النص الشعري لا يعتمد فقط على اللغة وحدها،إنما ثمة ما وراء اللغة الذي قد يكون مفتاحاً من مفاتيح سبر النص على المستوى الداخلي والخارجي في الوقت ذاته، وهو ما يؤكد أن الشعر ليس مجرد كلمات معبرة عن مواقف حياتية، وحسب،بل إنه الحياة ذاتها، ومتى كانت الحياة موجودة سوى بهذه الثنائيات المتضادة في شكلها غير أن هذا التضاد يشكل لبنة من لبنات هندستها الكونية .

***

د. وليد العرفي

في المثقف اليوم