قراءات نقدية

الشاعر السوري أديب حسن يراود نفسه عن الحلم في قصيدته لا أشبه نفسي (2-4)

مفيد خنسةالفرع الثالث:

يقول الشاعر:

(الصمتُ ديانتنا الآن

توحدنا في آخرةِ الأرضِ

ونلمسُ أعمقَ سرٍّ في حضرتها

فالحكمةُ في كنه الأشياءِ عماءْ

بين الوردة والشوكةِ

بين السكين ووجهتها

بين أكاذيب التاريخِ

وحنكةِ كتّابِ المجدِ

ينبتُ كالطحلب كل الحكماء

ما أدراني

أن الأسلافَ هنا مكثوا

أنّ الأشياءَ

هي الأشياءْ

في الموت يغيب التلفيقْ

تتوحد كلّ الألوانِ

يعود الشعرُ ليجري

مثل سكاكينِ النأيِ على ألسنة الموتى

ويموت التصفيقْ

كل الأشياء هنا

في قمّةِ لحظتِها

عارية تسبح في حجمِ حقيقتها

يقدر واحدُنا

أن يشتمَ دون الخشيةِ

من ساطورٍ

أو معتقلٍ

أو تهجيرْ

وننام على أريحِ جنبٍ

لن يحدث بعد الموت خرابٌ أو تعميرْ)

يبين الشاعر في هذا الفرع صورة ما بعد الموت وعقدته (الصمت ديانتنا الآن) وشعابه الرئيسة هي: (توحدنا في آخرةِ الأرضِ) و(ونلمسُ أعمقَ سرٍّ في حضرتها) و(كل الأشياء هنا/ في قمّةِ لحظتِها) و(عارية تسبح في حجمِ حقيقتها) و(يقدر واحدُنا / أن يشتمَ دون الخشيةِ/ من ساطورٍ/ أو معتقلٍ/ أو تهجيرْ)، أما شعابه الثانويّة فهي: (فالحكمةُ في كنه الأشياءِ عماءْ) و(بين الوردة والشوكةِ/ بين السكين ووجهتها/ بين أكاذيب التاريخِ/ وحنكةِ كتّابِ المجدِ/ ينبتُ كالطحلب كل الحكماء) و(ما أدراني/ أن الأسلافَ هنا مكثوا/ أنّ الأشياءَ/ هي الأشياءْ) و(في الموت يغيب التلفيقْ) و(تتوحد كلّ الألوانِ) و(يعود الشعرُ ليجري/ مثل سكاكينِ النأيِ على ألسنة الموتى) و(ويموت التصفيقٌ) و(وننام على أريحِ جنبٍ/ لن يحدث بعد الموت خرابٌ أو تعميرْ).

في المعنى:

الأسلوب في الفرع خبري، وفيه يبين الشاعر حالة الموت التي وصل إليها، إنها الصرخة والاحتجاج والرفض، فقوله: (الصمتُ ديانتنا الآن) يشير إلى كل آن من التجربة الذاتيّة للشاعر، التي تمثل خلاصة التجربة العامة لحياة مواطن في ظلّ المعاناة والقهر والعزلة، حتى أصبح في عداد الموتى، حيث يخيم الصمت في عالم الأموات، وقوله: (توحدنا في آخرةِ الأرضِ) أي أصبح الأموات شيئاً واحداً، في القبور التي مآل أهل الأرض إليها، وقوله: (ونلمسُ أعمقَ سرٍّ في حضرتها)، أي إن الموتى قد أدركوا سرّ فناء الإنسان وإنهم إلى التراب، منه كان الأصل وإليه تعود الأجساد الفانية، إنهم في قبورهم قد وصلوا إلى معرفة أكثر الأسرار كتماناً وخفيةً في حضرة الأرض، فهم في باطنها، والأقرب إلى معرفة أسرارها، وقوله: (فالحكمةُ في كنه الأشياءِ عماءْ) أي لا يحتاج الموتى إلى الحكمة، ما داموا قد عرفوا جوهر وجود الإنسان، وحقيقة وجود الأشياء حيث كلّ شيء يعود إلى أصله، وإن الحكمة تنتفي في عالم الحقائق والجواهر، وكل ضرب من ضروب الحكمة ما من شأنه إلا التعمية والجهل لتلك الحقائق، وقوله: (بين الوردة والشوكةِ/ بين السكين ووجهتها / بين أكاذيب التاريخِ/ وحنكةِ كتّابِ المجدِ/ ينبتُ كالطحلب كل الحكماء) أي إن الحكماء يكتسبون الحكمة في مناخات ملائمة، ثم ينطقون بالحكمة المستخلصة من تجارب الحياة ومظاهرها، فتجاور الوردة مع الشوكة في مكان ما يوحي بالحكمة التي تقتضي معرفة حقائق الأمور وكنهها، ومن هذا التجاور يمكن أن ندرك أن تجاور المتخالفات أو المتناقضات أو المتضادات، كتجاور الوردة مع الشوكة، لا ينفي بحالة من الأحوال حقيقة احتفاظ كل منها بصفاته الأساسيّة المميزة، كتجاور الكافر والمؤمن، الكريم والبخيل،.... الخ، وكذلك بين السكين وما يتوجه بها حاملها، يوحي بالحكمة، لأنه يمكننا استخدام السكين بما ينفع، ويمكن استخدامها بما يضر، والحكماء في مثل هذه الحالات تتجلى حكمتهم، وتزدهر تجاربهم، ويكثر عددهم، وكذلك الأمر بما ينطوي عليه التاريخ البشري من الأضاليل وتشويه الحقائق، وذلك من خلال الكتاب المحترفين في تدوين الأمجاد المزيفة بأسماء السلاطين وولاة الأمر، وهنا يبرز دور الحكماء من أهل العلم والفلسفة والمعرفة والتبصر لدحض الافتراءات التاريخيّة، وتوضيح الحقائق، وباختصار يمكننا أن نستنبط ما يريد أن يقوله الشاعر: إن الحكماء، يولدون ويترعرعون في أطوار التجربة الإنسانيّة في رحلة العلم والمعرفة مع الطبيعة والعالم، وتتجلى خبرتهم في الكشف عن العلاقة بين الوردة والشوكة مثلاً، أوبين السكين وما يتوجه بها حاملها إليه، أوبين أكاذيب التاريخ والرواة المحترفين في كتابة التاريخ بما يخدم السلاطين والحكام، كما تنبت الطحالبُ في البيئات الملائمة على ضفاف البحيرات والأنهار،  وجذوع الأشجار، وقوله: (ما أدراني/ أن الأسلافَ هنا مكثوا/ أنّ الأشياءَ/ هي الأشياءْ) أي كيف له أن يكون على يقينٍ من أن ما حمله التاريخ عن أن الأسلاف كانوا فعلاً قد سكنوا هنا أوهناك؟!، ما دام التاريخ نفسه قد كتب بأيدي الكتاب المأجورين لدى السلاطين، وكيف يتحقق من أن الأشياء التي تمّ التأريخ لها هي نفسها الأشياء التي كانت موجودة حقّاً؟!،  وقوله: (في الموت يغيب التلفيقْ/ تتوحد كلّ الألوانِ/ يعود الشعرُ ليجري/ مثل سكاكينِ النأيِ على ألسنة الموتى) أي إن الموت ذو معنى كلّي متواطئ فيه يتساوى الجميع، ولا مجال فيه للكذب والرياء، كما هو الحال في عالم الشهادة، ولا يوجد تفاوت في الألوان على اختلاف معانيها ودلالاتها، ففي الموت تصبح الألوان لوناً واحداً ويغدو اللون ذا معنىً كلّيّ متواطئ أيضاً، فلا تفاوت في اللون الواحد كما هو الحال في عالم الشهادة أيضاً، أما الشعر في الموت فإنه يعود ليجري على ألسنة الموتى جارحاً على البعد الأبدي كالسكاكين الحادة القاطعة، حيث يتكسر ويتداعى ويتلاشى من دون أن يتفاعل معه أحدٌ بالتصفيق علامة للإعجاب والتأثّر، وقوله: (كل الأشياء هنا/ في قمّةِ لحظتِها/ عارية تسبح في حجمِ حقيقتها) أي (هنا) التي تعني أي مكان من جغرافيا الحياة المستلبة حيث الموت الداهم حيث تتجلى الأشياء على حقيقتها وهي تعبر وجوده في أعلى درجات الشفافية والوضوح، وقوله: (يقدر واحدُنا/ أن يشتمَ دون الخشيةِ/ من ساطورٍ/ أو معتقلٍ/ أو تهجيرْ) أي في عالم الموت يمكن أن يشتم واحدهم أيّاً كان من دون أن يخاف من ساطورٍ يهوي على عنقه فيرديه عقوبة على شتيمته كما هو الحال في عالم الشهادة، ولا يخاف أن تقوده شتيمته إلى معتقلٍ لا يعرف أحدٌ إليه طريق، كما هو الحال في الواقع المعاش، ولا يخشى من أن ينفى خارج حدود بلاده بسبب شتيمته، وقوله: (وننام على أريحِ جنبٍ/ لن يحدث بعد الموت خرابٌ أو تعميرْ) أي في عالم الموت ينام الميتُ على جنبه الأيمن الأكثر راحة له، وهي في أمان إذ بعد الموت لا يوجد حروبٌ، ولا دمارٌ حتى ولا إعادة إعمار كما هي العادة في عالم الشهادة، كلّ ذلك يشكل صرخة احتجاج ورفض لكلّ مظاهر الحياة التي يسود فيها القتل والذبح والاعتقال والتعسف والتهجير والدمار، حتى يصبح الحيّ من الناس يفضل الموت على مثل هذه الحياة. 

 الفرع الرابع:

يقول الشاعر:

(القبح هنا

نسبيٌّ أيضاً

أقبحنا من بقيت في حوزته

ذاكرةٌ

أو وهم حياةْ

حسب الموتى

يتغاضون بنبلٍ قتّالٍ

عن أفخاخِ الماضي

ويبيتون الدهر على فطرتهم

محض عراةْ

والموتٌ...

تراهٌ الطوقُ الآمن

أم شرطيّ

ينقل خوف الكائن

نحو يقينٍ يتخوّف من طلعةِ شمسٍ

لا أشبه نفسي

لكنّ الكأسَ

على شباك الحسرةِ

كأسي

وأنا كالعادة منقسمٌ

لا أعرف وجهةَ من يسكنني

غائمةٌ

كل الأشياء برأسي.

وأنا أشربٌ

حتى أبصرَ من يشبهني

في زحمة من مروا من درب الشكّ...

وما وصلوا

أشرب هذا الليل وحيداً

حتى يشبهني

فأنا لا أشبه نفسي.

وحياتي شجرٌ فرضيّ في غابةِ شكّ

وأنا حطابٌ

يقلقني صحوُ الأشجارِ

فأُسكِرُها

والخمرة فأسي.

الآن...

وبعد جلوس الموتِ قريباً مني

أجهشُ بالمرثيّةِ

أقرأُ في قلب العتمات حروف النورِ

ومعنى الحريةِ في الحبسِ

*

قربَ الموتِ

ولا أحدٌ يشبهني

وأنا..

لا أشبه نفسي.)

يبين الشاعر في هذا الفرع صورة ذاته في البرزخ وعقدته (القبح هنا/ نسبيّ أيضاً) وشعابه الرئيسة هي: (أقبحنا من بقيت في حوزته/ ذاكرةٌ/ أو وهم حياةْ) و(حسب الموتى/ يتغاضون بنبلٍ قتّالٍ/ عن أفخاخِ الماضي) و(ويبيتون الدهر على فطرتهم/ محض عراةْ) و(لكنّ الكأسَ/ على شباك الحسرةِ/ كأسي) و(وأنا كالعادة منقسمٌ/ لا أعرف وجهةَ من يسكنني) و(غائمةٌ/ كل الأشياء برأسي.) و(وأنا أشربٌ/ حتى أبصرَ من يشبهني) و(أشرب هذا الليل وحيداً/ حتى يشبهني) و(فأنا لا أشبه نفسي) و(وحياتي شجرٌ فرضيّ في غابةِ شكّ) و(وأنا حطابٌ/ يقلقني صحوُ الأشجارِ/ فأُسكِرُها/ والخمرة فأسي.) و(الآن... وبعد جلوس الموتِ قريباً مني) و(أجهشُ بالمرثيّةِ) و(أقرأُ في قلب العتمات حروف النورِ/ ومعنى الحريةِ في الحبسِ) و(...... قربَ الموتِ/ ولا أحدٌ يشبهني/ وأنا.. لا أشبه نفسي.)، أما شعابه الثانويّة فهي: (والموتٌ... تراهٌ الطوقُ الآمن/ أم شرطيّ/ ينقل خوف الكائن/ نحو يقينٍ يتخوّف من طلعةِ شمسٍ/ لا أشبه نفسي) و(في زحمة من مروا من درب الشكّ... وما وصلوا).

في المعنى:  

الأسلوب في هذا الفرع خبريّ أيضاً، ما خلا أسلوب الإنشاء في الاستفهام، وفيه يصور الشاعر لحظات الاقتراب من الموت، وهو يتجرّع كأسه رويداً رويداً، في رغبة منه للخلاص من حياة الاستلاب والخوف من الموت نفسه، فقوله: (القبح هنا/ نسبيٌّ أيضاً/ أقبحنا من بقيت في حوزته/ ذاكرةٌ/ أو وهم حياةْ) أي القبح بعد الموت يبقى نسبيّاً، على عكس الألوان التي تتوحد، وعلى عكس الخوف من الساطور أو الاعتقال أو التهجير أو الخراب أو التعمير، ولكن نسبيّة القبح تكون بمقياسٍ مختلف، حيث الأكثر قبحاً من بقي محتفظاً بشيء من ذكرياته، أو من بقي يتوهم بأن هناك حياةٌ بعد الموت!!، وقوله: (حسب الموتى/ يتغاضون بنبلٍ قتّالٍ/ عن أفخاخِ الماضي/ ويبيتون الدهر على فطرتهم/ محض عراةْ) أي يكفي الموتى نبلاً وسماحةً وطهراً أنهم يغضون النظر بعفة وكبرياء آسر عن الكمائن والمكائد التي نصبت لهم في الماضي ويصفحون ويسامحون، حيث يعودون مثلما ولدوا على الفطرة والطهر والنقاء، وينامون عراة في أكفانهم البيضاء كقلوبهم، وقوله: (والموتٌ... تراهُ الطوقُ الآمن/ أم شرطيّ/ ينقل خوف الكائن/ نحو يقينٍ يتخوّف من طلعةِ شمسِ) أي يتساءل الشاعر بحيرة الشاك للوصول إلى اليقين بما يعرف، هل يا ترى أن الموت هو السور الذي يحصن الكائن من كل خوف وقلقٍ واضطراب؟!، أم أنه كالشرطيّ الذي يحول خوف الكائن إلى يقين يجعله يخاف من أن تسطع شمس الحرية وتتجدد الصباحات على الأمكنة، وقوله: (لا أشبه نفسي/ لكنّ الكأسَ/ على شباك الحسرةِ/ كأسي) أي إنه يعترف بأنه وصل إلى حالة من الغياب التي لا يشبه فيها نفسه الحالمة بشمسٍ ساطعةٍ تبدد الظلام، وقوله: (وأنا كالعادة منقسمٌ/ لا أعرف وجهةَ من يسكنني) أي إنه مسكونٌ  بالتشتت والانقسام والضياع ولا يعرف مَن سوف ينتصر بالنهاية في داخله ويفرض اتجاهه نحو المصير، وقوله: (غائمةٌ/ كل الأشياء برأسي.) أي لا شيء واضح لديه في حدود ذهنه وعقله وفكره، وقوله: (وأنا أشربٌ/ حتى أبصرَ من يشبهني/ في زحمة من مروا من درب الشكّ... / وما وصلوا) أي إنه يشرب ويشرب، من أجل أن يصبح في حالة يمكنه فيها أن يبصر من الذي يشبهه في زحمة الذين سلكوا طريق الشك للوصول إلى اليقين وما وصلوا إلى معرفة الحقيقة، والشك هنا يشير إلى الموقف الفلسفي الذي يعتبر مرحلة أساسيّة للوصول إلى الحقيقة، وقوله: (أشرب هذا الليل وحيداً/ حتى يشبهني) أي إنه يمارس طقسه الليلي وحيداً فيشرب حتى يتخلص من كثافته ويصبح شفافاً الى الدرجة التي يصبح الليل فيها يشبهه، وقوله: (فأنا لا أشبه نفسي.) أي وهو على هذه الكثافة التي يعيشها، لا يشبه نفسه الشفيفة، وقوله: (وحياتي شجرٌ فرضيّ في غابةِ شكّ/ وأنا حطابٌ/ يقلقني صحوُ الأشجارِ/ فأُسكِرُها/ والخمرة فأسي.) أي إن حياته أشبهُ بالشجر الافتراضي الذي يتوزع في غابة شكّه، وحين يتأملها يقلقه ذلك الصحو الذي تنعم فيه تلك الأشجار فيسكرها كي يقطعَ الشك بالخمرة التي يشربها كما يقطع أشجار الغابة بالفأس، وقوله: (الآن...) يشير إلى كلّ (آن) يكون قد وصل فيه إلى هذا الحد من ممارسة طقسه الاعتيادي وحيداً في كلّ ليل، وقوله: (وبعد جلوس الموتِ قريباً مني/ أجهشُ بالمرثيّةِ/ أقرأُ في قلب العتمات حروف النورِ/ ومعنى الحريةِ في الحبسِ) أي بعد أن يكون قد وصل إلى حالة من الغياب التي هي أقرب إلى الموت، يبدأ بكتابة القصيدة التي يرثي بها نفسه وهو يجهش بالبكاء بحرقة وقهر، محاولاً أن يشق ظلام الليل الدامس بحروف من نور تبدد تلك الظلمة المقيمة، وأن يبين كيف يمكن أن يدرك المرء معنى الحريّة وهو في سجنه الضيق، وقوله: (قربَ الموتِ/ ولا أحدٌ يشبهني/ وأنا.. لا أشبه نفسي.) أي في اللحظات التي يكون الموت قريباً من الشاعر يكون على هيئة فريدة من العزلة والتوحد واليقظة والصحو بحيث لا يشبهه أحدٌ، حتى ذاته الحقيقية في لحظات التهيّؤ للغياب لا تشبه نفسه في صورة الحضور.

***

مفيد خنسه

 

في المثقف اليوم