قراءات نقدية

كافكا: نحو أدب ثانوي (4): مكونات التعبير

2755 ديلوزبقلم: جيل دولوز وفيليكس غوتاري

ترجمة وإعداد: د. صالح الرزوق

***

بدأنا بتعارضات شكلية بسيطة: رأس محني -رأس مرفوع ليدل على شكل المحتوى، وهو صورة - صوتية لشكل التعبير. وتلك هي حالات أو صور الرغبة. ولكن يبدو أن ذلك الصوت لا يقوم بدور يشبه عنصرا شكليا، إنما يقود الى تنشيط فوضى التعبير، وبالتالي كنتيجة محتمة، يقود إلى تنشيط فوضى المحتوى نفسه.  وعليه من خلال "القيام بالفرار"، يفرض الصوت ضم صورة جديدة إلى اللعبة و هي صورة الرأس المرفوع والذي يتقدم "بسرعة ليبتعد". وبعيدا عن أن الحيوان هو بجانب الرأس المحني فقط (أو له علاقة بالفم المغذي)، هذا الصوت ذاته، وهذه النبرة نفسها، تفرض صيرورة حيوانية وتربطها برأس يعاد رفعه. وهكذا نجد أنفسنا ليس أمام تقابل بنيوي بين نوعين من الأشكال، أشكال المحتوى وأشكال التعبير، ولكن أمام ماكينة تعبير قادرة على إلحاق الفوضى بأشكالها، وإلحاق الفوضى بأشكال محتوياتها، كي تحرر المحتويات النقية من التعابير الممزوجة بمادة كثيفة مفردة. والأدب الأساسي، أو المعروف، يتبع خطا يمضي من المحتوى إلى التعبير. وبما أن المحتوى متمثل بشكل محتوى محدد، على المرء أن يجد، ويكتشف، أو يرى شكل التعبير الذي يرافقه. وما يصنع مفهوما conceptualizes بشكل مقبول هو الذي يعبر عن نفسه. ولكن الأدب الثانوي، أو الثوري، يبدأ بالتعبير عن نفسه ولا يصنع مفهوما حتى وقت لاحق ("أنا لا أرى الكلمة أبدا، أنا أخترعها")1. وعلى التعبير أن يحطم الأشكال، وأن يشجع القطيعة والبراعم الجديدة. وحينما ينكسر الشكل، على المرء أن يعيد تشكيل المحتوى الذي سيكون بالضرورة جزءا من قطيعة في نظام الأشياء. ولتسيطر على المادة وتتوقعها. "الفن مرآة، ويتقدم ب 'سرعة' ، مثل ساعة -أحيانا"2.

ما هي مكونات هذه الآلة الأدبية، في كتابات كافكا، أو تعابيره، أو آليته؟.

أحد المكونات هي الرسائل؟. بأي طريقة تنتمي للإبداع الأدبي؟ بالحقيقة أعمال كافكا غير مكتوبة بقصد نشرها. فكافكا كما هو واضح لم يفكر بنشر رسائله. والعكس صحيح لقد فكر بإتلاف كل شيء كتبه كما لو أن كل كتاباته مثل الرسائل. لو أن الرسائل جزء من العمل حقا، فهذا لأنها عدة ثقيلة لا غنى عنها، وجزء محرك يتحكم بالآلة الأدبية حينما كان كافكا مهموما بها حتى لو أنه من المقدر على هذه الآلة أن تختفي أو تنفجر لدرجة يمكن مقارنتها بآلة "مستعمرة العقوبات". إنه من المستحيل استيعاب آلة كافكا دون أن تكون متضمنة الخطابات (الرسائل).  وربما هذه هي وظيفة الرسائل، وضرورتها، وإمكانياتها وقلة كفاءتها، فالمقطوعات الأخرى سوف يتم تجميعها. انظر افتتان كافكا برسائل سابقيه (فلوبير، كلايست، هيبيل).  ولكن ما يراه كافكا وما يقوم به حتى نهاية حياته الشخصية كان يحدوه استعمال للرسائل بشكل شاذ وغريب، وشيطاني. بتعبير كافكا "شيطاني رغم كل براءته". تظهر الرسائل مباشرة وببراءة القوة الشيطانية للآلة الأدبية.  وإنتاج الرسائل ليس مسألة لها علاقة بالصدق ولكن بالأداء.  فهي رسائل إلى امرأة ما، رسائل إلى أصدقاء، رسالة إلى الأب. مع ذلك دائما توجد امرأة وراء هذه الرسائل وهي من يتوجه الخطاب الحقيقي لها (المستهدفة) - المرأة التي افترض الأب أنه دفعه لفقدانها، والمرأة التي أمل أصدقاؤه أن يهجرها، وهكذا. هل كانت كتابة الرسائل الغرامية تعويضا عن الحب؟. لإلغاء تضاريس وأرض المحبة. للتعويض عن عقد الزواج المرهوب بعقد اتفاقية مع الشيطان. فالرسائل متصلة بمثل هذه الاتفاقية؛ وهي هذه الاتفاقية ذاتها. أن "ترتبط بفتيات بواسطة الكتابة"؟3.

فقد صادق كافكا ابنة حارس بيت غوتة في فيمار، والتقطا صورا معا، وتبادلا البطاقات البريدية. وشعر كافكا بالدهشة حينما كاتبته هذه البنت "كما كان يرغب" لكنها لم تتعامل معه بجدية، و عاملته "كأنه مجرد إنسان ما".

ومع أن الرسائل ليست بدرجة الكمال فكل شيء موجود فيها الرسالة. والإشارة لغوتة - لو أن كافكا معجب بغوتة فعلا، فهل هو بصورة "معلم" أو كاتب الاتفاقية التي عقدها فاوست مع الشيطان. و هذا يحدد قدر مارغريت؟. إن عناصر الآلة الأدبية موجودة في هذه الرسائل، حتى لو أنها لم تستعمل بكفاءة و بقيت غير مؤثرة: كالصورة النمطية الموجودة على بطاقة البريد، والكتابة على قفاها، والصوت الهارب والذي نقرأ شدته وكثافته بصوت خفيض، وبنغمة واحدة. سيعرض كافكا على فيليس، في أول لقاء بينهما، هذه الصور، بطاقات بريد فيمار، كما لو أنها كانت دارة جديدة تأخذ فيها الأشياء منحى أكثر جدية وخطورة. الرسائل جذامير (رايزومات)، شبكة، بيت عنكبوت. وفي الرسائل تستشري ظاهرة مص الدم، مص دماء خطابية على نحو خاص. فدراكولا نباتي، لكن الفنان الجائع يشرب دم الكائنات البشرية المفترسة، و قلعته بجواره. هناك شيء من دراكولا في كافكا، دراكولا الذي يعمل بالتراسل، فالرسائل هي مثل الخفافيش. وهي تحبو في الظلام، وفي النهار تكون محجوزة في تابوته - طاولته:"الليل ليس مظلما بما فيه الكفاية". وحينما يتخيل قبلة، فهذا من صفات غريغور الذي يتمسك بعنق أخته العاري، أو هي من صفات كاف حين يكون برفقة السيدة بورستنير، وقبلة من ذلك النوع تذكرنا ب "حيوان ظمآن يشرب بنهم من نبع مياه عذبة طال التفتيش عنها". يقدم كافكا نفسه إلى فيليس  دون خجل أو تهكم على أنه شديد النحافة، وبحاجة للدم (قلبي 'شديد الضعف ولا يمكنه ضخ الدم لمسافة طويلة حتى نهاية ساقي"). لدى كافكا - دراكولا خط  هروب داخل غرفته، في سريره، وتأتي قوته البعيدة من ذلك الذي يتخقق حضوره بالرسائل. وهو لا يخشى إلا شيئين: صليب العائلة، وثوم الزواج. تستحضر الرسائل  الدم من أجله، والدم يمنحه القوة للخلق. وهو لا يبحث عن إلهام أنثوي أو حماية أمومية، لكنه يسعى وراء القوة البدنية التي ستسخر له الكتابة وإمكانياتها. وبهذا المعنى يقول إن الإبداع الأدبي "ثمن مستحق لقاء خدمات الشيطان". وكافكا لا يعيش نحولة جسمه المصاب بالأنوريكسيا (*اضطراب غذائي) ولا ينظر له كمصدر للعار، ولكنه يتجمل. وهو يدرك أن جسمه مجرد وسيلة يعبر بواسطتها، حين يكون في السرير، العتبات وأفعال الصيرورة، وكل عضو "يكون تحت ملاحظة خاصة". وكل ما هو يلزمه بالضرورة ضخ القليل من الدم. وتيار الرسائل هو تيار الدم. ومنذ أول لقاء مع فيليكس، كان كافكا النباتي، منجذبا لذراعيها القويين، المفعمين بالدم، ومذهولا من أسنانها العظيمة المفترسة. وكان لدى فيليس شعور بالمخاطر، وكانت تؤكد له إنها قليلة الطعام light eater. ولكن كلما فكر بها كافكا كان يقرر أن يكتب لها، أن يكتب كثيرا إلى فيليس4.

أما رسائله إلى ميلينا فهي حكاية أخرى.

ذلك أنها حب من نوع منضبط، فالزواج يلوح بالأفق. وقد تعلم كافكا الكثير، وجرب أكثر. هناك في ميلينا ملاك للموت كما ذكر كافكا نفسه. وهي شريكة أكثر من كونها متلقية للرسائل. وقد أوضح لها كافكا لعنة الرسائل، وضرورة ارتباطها بشبح يشرب كل القبلات الممنوحة له طيلة رحلته. إنه "تهجير للروح". ويميز هنا كافكا سلسلتين من الاختراعات التقنية: تلك التي تسهل التواصل الطبيعي بالانتصار على المسافات و تقريب البشر (القطار، السيارة، الطائرة)، وتلك التي تمثل انتقام الأشباح بطريقة مصاص الدماء حيث يتم إعادة تمكين "الجانب الشبحي بين الناس" (البريد، البرقيات، الهاتف، البرقيات اللاسلكية)5.

ولكن كيف تعمل الرسائل؟. دون شك بسبب طبيعتها الفنية تحتفظ بثنائية ذاتين متقابلتين: لنميز الآن بين ذات التلفظ على أنه شكل التعبير الذي نكتب به الرسالة، وذات القول الذي هو شكل المحتوى الذي تتطرق له الرسالة (حتى لو / أنها تتطرق لي). هذه الثنائية هي التي أراد كافكا أن يستعملها بطريقة غير معهودة أو شيطانية. وعوضا عن أن يستعمل ذات التلفظ كرسالة ينظر فيها بوضعه، تتحرك ذات العبارة (ذات القول) حركة شاملة تكون معبرة أو سطحية وحسب. وإرسال الرسالة، مسار الرسالة، و حركات ساعي البريد هي التي تحل محل ذات اللفظ المعبرة (وعليه إن أهمية ساعي البريد أو المراسل سيتضاعف، مثل مراسلين في "القلعة"، لأنه يرتدي ثيابا تلتصق به كأنها قرطاس ورق).

ومن الأمثلة عن الحب الكافكاوي الحقيقي: رجل يسقط بغرام امرأة رآها مرة واحدة، يكاتبها عدة أطنان من الرسائل، ولا يمكنه زيارتها، ويحتفظ بالرسائل قريبة منه في الخزانة، وبعد يوم من القطيعة، وبوصول آخر رسالة، يقتل ساعي البريد. والمراسلات مع فيليس حافلة باستحالة الزيارة هذه. لكن تيار الرسائل يعوض عن الرؤية، والوصول، لذلك لم يتوقف كافكا عن مكاتبة فيليس مع أنه التقى بها مرة واحدة. كان بكل قواه، يريد أن يفرض ظروف الاتفاق. وتوجب عليها أن تكتب مرتين في اليوم. وهذا هو الاتفاق مع الشيطان. اتفاقية فاوستية مع الشيطان تجد مصدرها في قوة بعيدة تعارض اقتراب عقد الزواج. إنها أشياء تلفظها في البداية ثم لا تراها لاحقا إلا ضمن - أو في حلم. كافكا يرى في حلمه: "كل بئر السلم ملوث من أعلاه إلى أسفله بكومة صفحات ممزقة كنت قرأتها، وتلك كانت أمنية في حلم حقيقي" 6. فهو يعاني من رغبة مجنونة بالكتابة وتمزيق الرسائل قبل وصولها إلى المرسل إليه. وبالنظر لطبيعتها التكوينية، إن الرغبة بالرسائل تتضمن ما يلي: تنقل الحركة إلى ذات القول، وتمنح ذات القول حركة واضحة، ولكنها حركة غير حقيقية، وتعفي ذات اللفظ من الحاجة للحركة الحقيقية. وكما في "التحضير لحفل زفاف" يمكن لهذه الذات أن تبقى في مكمنها، مثل حشرة، لأنها أرسلت قرينها بأبهى حلة في الرسالة، ومع الرسالة. مثل هذا التبادل، أو هذا الانعكاس (الانقلاب باتجاه معاكس) في ثنائية الذاتين الاثنتين، ذات العبارة المتحركة بحركة حقيقية وهي بالعادة منطقة ذات اللفظ، تنتج القرين. وإنتاج القرين هذا هو بالفعل شيطاني. والشيطان هو إنتاج القرين ذاته. وهنا نجد أحد أصول القرين عند كافكا:"المفقود"، أول مسودة من رواية "أمريكا"، وتصور شقيقين "أحدهما (يذهب)إلى أمريكا بينما الآخر (ي)بقى في سجن أوروبي" 7. و"الحكم" الذي  كله حول موضوع الرسائل، يصور ذات اللفظ الذي يبقى في المستودع الأبوي والصديق الروسي والذي لم يكن مجرد مرسل إليه ولكنه ذات محتملة للعبارة وهو ربما غير موجود خارج الرسائل. إن الرسائل نوع فني ثانوي، والرسائل رغبة، ولرغبة الرسائل، صفة تكوينية. وهي الرعب الأعظم الذي تعاني منه ذات اللفظ وسيكون متمثلا بشكل عائق خارجي هو ذات العبارة، المعزوة للرسالة. ولكنها ستحاول بكل ثمن أن تنتصر، حتى لو هذا يعني القتل والإلغاء. وهو ما يسمى "وصف صراع". ولا شك أنه يصور رعب كافكا من كل أشكال الاقتران. وتترجم هذه العوائق بشكل واضح طبوغرافيا العوائق (إلى أين تذهب؟ كيف تصل؟ براغ، فيينا، برلين؟). والناجي. وكذلك العملية الأخرى التي يشكل بها قائمة مرقمة للظروف التي تعتقد ذات العبارة أنها ستنشر الرعب بينما، في الحقيقة، هذا الرعب نفسه الموجود في ذات اللفظ هو الذي يلهمهم (خطة حياة أو برنامج حياة، كما في طريقة كلايست). وهذا مصدر عذاب فعلي وتعبير عن المرح. وهو انعكاس (انقلاب) مزدوج وقاتم في مراحل حاسمة مثل الحب الرومنسي والزواج.  ولهذه الطريقة عدة فوائد.  فهي تسمح  لنا بتبني براءة ذات اللفظ، لأنه يمكنه أن يفعل شيئا و أن لا يفعل شيئا. وأيضا براءة ذات العبارة، باعتبار أنه قام بكل شيء ممكن، وحتى براءة الفريق الثالث، الطرف المقصود بعنوان الرسالة (حتى أنت يا فيليس، أنت بريئة)." وختاما هذه الطريقة تؤدي لتدهور الأوضاع أكثر مما يجب، حتى لو أن واحدا فقط من هذه المناسبات، أو كل عالمه، كان مذنبا. وبهذه الطريقة نلاحظ انتصارا واضحا في "رسالة إلى الوالد". فالجميع أبرياء،  وهو أسوأ الاحتمالات. ال "رسالة إلى الأب" هي طرد لأوديب وللعائلة بواسطة آلة الكتابة، مثلما هي الرسائل إلى فيليس طرد للزواج. وأن ترسم خريطة طيبة عوضا عن أداء دور سوفوكليس، أن ترسم طبوغرافيا العوائق عوضا عن أن تكافح ضد القدر (أن تستعيض بالمخاطب البعيد -بفتح الطاء- عن القدر). من غير المفيد أن تسأل إن كانت الرسائل جزءا من الإبداعية أو أنها مصدر بعض موضوعات العمل. هي جزء لا يتجزأ من آلة الكتابة أو آلة التعبير. وعليه علينا أن نفكر بالرسائل بشكل عام كما لو أنها تنتمي للكتابة، سواء من خارج العمل أو ليس من خارجه، وأن نفهم لماذا كانت أشكال أدبية معينة كالرواية قد وظفت طبيعيا شكل التراسل.

ولكن هناك صفة تكوينية ثالثة: أن عمل الرسائل هذه لا يمنع عودة فورية وسطحية للذنب. عودة ذنب أوديبية أو أسرية أو بالزواج. كالسؤال التالي: هل أنا قادر على حب أبي؟. هل أنا قادر على الزواج؟. هل أنا وحش؟. "شيطاني مندس في (براءة) شخص ما". يمكن للمرء أن يكون بريئا وشيطانيا أيضا. وهذا هو موضوع "المحاكمة" والعاطفة الدائمة التي يشعر بها كافكا في علاقاته مع نساء أحبهن. 8.

وهو يدرك أنه دراكولا ويعلم أنه مصاص دماء، وعنكبوت وشبكةةعنكبوت. ومن الضروري أكثر من أي وقت مضى أن تميز نقاطا متعددة - ثنائية وتقابل ما تحت الذاتي، تراسلهما وتضاعفهما، ويبدو أنه هناك شعور بالذنب. ولكن مجددا المذنب هو في النهاية ذات العبارة. والذنب نفسه هو حركة سطحية، حركة مخادعة، تخبئ ضحية عاطفية (كم من الأقوال السخيفة كتبت عن كافكا والذنب، كافكا والقانون، وهكذا). واليهودية مغلف من ورق: لأنه لا يمكن لداركولا أن يشعر بالذنب، ولا يمكن لكافكا الشعور بالذنب، وفاوست ليس مذنبا، وهذا ليس نوعا من النفاق. وجوهر القضية موجود في مكان آخر. ولا يمكن لأحد أن يفهم أي شيء من اتفاقية شيطانية، عهد مع الشيطان، ولو آمنا أن ذلك يلهم بذنب يقع على عاتق من وقع على الاتفاق، فهذا يعني أن المذنب هو الذي بدأه أو الذي كتب الرسالة. والذنب عبارة عن الحكم الذي يقضي من الخارج وذلك يصنع ويلتهم النفوس الضعيفة فقط. الضعف، آه يا وهني، خطأي، فالذنب لدى كافكا هو حركة على السطح كأنه ذات العبارة. بالمقابل هناك قوته وهي بشكل ذات النطق في الصحراء. ولكنه لا يحل شيئا، ولا ينجو أحد بذلك. لو أن الذنب حركة سطحية فقط،  سيكون بالضبط علامة خطر مختلف كليا - قضية أخرى. والرعب الحقيقي أن آلة الكتابة ستتوجه ضد الآلية. انظر إلى مستعمرة العقوبات. إن خطر الاتفاق الشيطاني، والبراءة الشيطانية، ليس في الذنب لكن في المصيدة. عدم نفوذ الجذمور، وإغلاق طرق الهروب، والأخدود المسدود في كل مكان. الذعر. الشيطان نفسهةوقد سقط في المصيدة. ويسمح الشخص لنفسه أن تعاد أودبته (إعادة تشكيل عقدة أوديب) ليس بالذنب ولكن بالإجهاد، وبعدم تحقيق ما بدأناه، بالصورة، بالشرطة - القوى الشيطانية من مسافة بعيدة. لذلك البراءة ليست مهمة.

وتنقذك صيغة البراءة الشيطانية من الذنب، ولكنها لا تنقذك من نسخ الاتفاقية واللعنة التي تنجم عنها. والخطر ليس في الشعور بالذنب بشكل عصاب، أو حالة، ولكن بالحكم على الذنب كما لو أنه قضية. وهذه هي الحصيلة القاتلة للرسالة؛ ال "رسالة إلى الأب" باعتبار أنها قضية تحاصر كافكا. وتتحول رسالته إلى فيليس إلى قضية ساخرة، بوجود كل الهيئة، والعائلة، والأصدقاء، والدفاع، والاتهام. كان لكافكا عاطفة استباقية منذ البداية، باعتبار أنه كتب "المحاكمة" في الوقت الذي بدأ يكاتب به فيليس. ولكن "المحاكمة" تنبع من الخوف العظيم الذي ستضع به آلة الرسالة الكاتب في المصيدة. ويبدأ الأب بإنكار أن المعنون له، الصديق الروسي، موجود. ثم إنه يتعرف على وجوده، ولكن فقط ليكشف أن الصديق كان يكتب له (الأب) كي يدين خيانة الابن (تيار الرسائل يبدل الاتجاه، ويستدير للخلف على مرسله، وهكذا). "رسائلك البشعة القصيرة...". و"رسالة" سورتيني "البشعة"، البيروقراطي، في القلعة. وليرغب بهذا الخطر الجديد، لم يتوقف كافكا عن الخلط بين المواضيع، وإرسال رسالة إضافية تعدل أو تنكر ما كان قد أرسله للتو ولذلك إن فيليس ستكون دائما متأخرة بمقدار رسالة واحدة في أجوبتها.  ولكن لا شيء يوقف عودة القدر: وبقطيعته مع فيليس، ظهر كافكا مكسورا، ولكنه ليس مذنبا. فقد كانت هذه الرسائل بنظره مكونا لا غنى عنه، استعدادا إيحابيا (غير سلبي) كي يكتب كل شيء، وأن يفقد الرغبة بالكتابة، وكل جسمه مكسور بالمصيدة التي وقع فيها تقريبا. وصيغة "شيطاني ببراءته"، لم تكن كافية. [تبرز هذه العناصر الثلاث المتشددة لماذا كان كافكا مفتونا بالرسائل. وله حساسية خاصة تجاه ذلك. وعند هذه النقطة، علينا أن نقارن رسائله الموجهة لشخصية شيطانية أخرى، بروست. يستعمل بروست أيضا رسائله ليعقد اتفاقا بعيدا مع الشيطان أو الشبح كي يكسر اقتراب عقد الزواج. وهو أيضا يعارض الكتابة والزواج. مصاصا دم اثنان نحيلان جدا ويعانيان من اضطرابات تغذوية (أنوراكسيا) ويقتاتان على الدم بإرسال خفافيشهما -رسائلهما. المبدأ الشامل هو نفسه في كلتا الحالين: كل رسالة هي رسالة غرامية، سواء كانت حقيقية أو مفتعلة. ويمكن لرسائل الحب ان تكون جذابة، ورافضة، أو ممتلئة بالتقرب والمساومة والطلب، دون أن يبدل ذلك شيئا من طبيعتها، وهو جزء من الميثاق مع الشيطان الذي  يرغب باستبعاد عقد مع الله، ومع العائلة أو مع المحبوب. لكن، الأدق، أول خصلة للرسائل - تبادل أو مزاوجة بين الذاتين - وهي واضحة كلها عند بروست: ذات العبارة تفترض الحركة الشاملة بينما ذات اللفظ يبقى في السرير، في زاوية شبكته مثل عنكبوت (صيرورة بروست وتحوله إلى عنكبوت).

وتمنح طبوغرافيا العوائق وقائمة الشروط، باعتبار أنها رسالة، أولوية عند بروست لدرجة لا يمكن للمرسل إليه (عنوان الرسالة) أن يقرر إذا كان الكاتب يريد منه أن يأتي في زيارة، أو لا يريد هذا، وهو يؤجل المرسل إليه ليغريه فقط، وهكذا.  وتفقد الرسالة هويتها كذاكرة، وحلم، أو صورة لتصبح خريطة حية للممرات التي يتوجب المسير عليها او تجنبها، مثل برنامج حياة مشروطة بصرامة (القلعة، عند بروست ممر معقد لطريق لا يضجر من الاقتراب كلما ابتعد) 9.

اخيرا، كما في كافكا، الذنب في كتابات بروست هو مظروف سطحي يرافق الجدل أو الحركة الواضحة التي تقوم بها ذات العبارة، ولكن تحت هذا الذنب اللعوب رعب أعمق في الكاتب الضمني - رعب تم الكلام عنه كثيرا، رعب ستلتفت آلة الرعب ضده وتعيده إلى ما كان يريد التخلص منه، وهو غضب سيستولي عليه مصيدة الرسائل العديدة القصيرة أو القذرة.  ورسالة الابتزاز المدهشة إلى ألبرتين التي أرسلها مع أنه يعلم أنها ميتة عادت إليه بشكل رسالة مضمونة من غيلبيرت، والتي كان يخلطها بألبيرتين، وفيها إعلان عن زواجها. وسيبرز هو أيضا مكسورا لكل هذه الأسباب. ولكن بظاهرة مص دماء مساوية، وبغيرة مساوية. والفروق بين بروست وكافكا كبيرة وتتضمن شيئا أكبر من الفرق بين النمط الواقعي والدبلوماسي للأول، ونمط التحريات والقانون عند الثاني. وكلاهما يحرص على تجنب، بواسطة الرسائل، النوع الخاص للقرب الذي تعرفه العلاقة الزواجية و يبدل الموقف كي ترى وتكون مرئيا (على سبيل المثال رعب كافكا حينما تخبره فيليس أنها تحب أن تكون قربه حينما يكون في العمل).

وليس من المهم إن كان الزواج رسميا أو غير رسمي بين جنسين أو مثليا. ولكن للتخلص من القرب، احتفظ كافكا وتمسك بمسافة مكانية، وبالموضع البعيد للمحبوب: فهو يمثل أيضا نفسه بصورة سجين (سجين في جسمه، في غرفته، في عائلته، في جوه الفني) وضاعف العوائق التي تمنعه من الرؤية أو الانضمام للمحبوبة 10.

بالمقابل في بروست يأخذ طرد التقمص نفسه طريقة معاكسة: نصل إلى ما لا يمكن استيعابه، لغير المرئي، وبتجسيم القرب، و جعله قربا أساسيا. وحل بروست هو أغرب - لتتخطى شرط الزواج وهو الحضور والرؤية. وبواسطة المبالغة بالاقتراب. فالمرء يرى أقل كلما كان أقرب. ولذلك إن بروست، وهو سجان، تكون حبيبته في سجن التلامس. وتتكون فكرة رسائل بروست من ملاحظات صغيرة مدسوسة من تحت الباب].

والقصص هي مكون آخر في آلة كتابات كافكا. وهي جوهريا حيوانية حتى لو أنه لا توجد حيوانات في كل القصص. وحسب كافكا: الحيوان هو ذات مستقلة في القصة: وتحاول العثور على منفذ، وأن تتبع خطا للهرب. والرسائل لا تكفي، لأن الشيطان، والاتفاق مع الشيطان، لا يسبب فقط انعدام خط الهروب ولكنه يخاطر بتهيئتنا للسقوط في الفخ. وكافكا كتب قصصا مثل "القضية" أو "المسخ" في الوقت الذي بدأ فيه بالمراسلة مع فيليس، إما لتقديم صورة عن الخطر أو لطرده - أن تنتهي وتهرب بالقصص أفضل من أن تستمر بتيار لانهائي من الرسائل. وربما كانت الرسائل هي قوة المحرك التي تدفع الآلة كلها للعمل، بواسطة الدم الذي تجمعه. وبالنسبة لكافكا المسألة هي كتابة شيء غير الرسائل - إنها مسألة خلق. وهذا الشيء الآخر محصور مسبقا بسياج الرسائل (الطبيعة الحيوانية للضحية، وهي فيليس، واستعمال دراكولي -مص دماء- للرسائل ذاتها). ولكن لا يمكن إدراك ذلك إلا بكتابة مستقلة حتى لو بقيت غير متحققة نهائيا. وما يفعله كافكا في غرفته أن تصبح حيوانا وهذه هي الذات الأساسية للقصص. وأول شكل للخلق يكون في التحول (الانمساخ).

لا يجب لعيني الزوجة أن ترى ذلك بالإضافة لبقية الأمور، وكذلك بالنسبة لعيني الأب أو الأم. ولكن يمكننا أن نقول ذلك بما يتعلق بكافكا، وجوهر الحيوان هو المخرج، خط الهروب، حتى لو أنه تحقق في المكان، أو في قفص. خط هروب، لا حرية. هروب حاسم وليس هجوما. في "بنات آوى وعرب" تقول بنات آوى:"نحن لا نقترح قتلهم... لماذا، لأن مجرد رؤية لحمهم الحي يدفعنا للاستدارة والفرار إلى جو أنظف، إلى الصحراء، ولهذا السبب هي موطننا". لم يكن باشلار عادلا مع كافكا حينما قارنه بلوتريامون، وهذا لأنه يفترض أن الجوهر الديناميكي للحيوان موجود في الحرية والعدوانية: صيرورة مادورو - تحوله إلى حيوان - يهاجم بشكل متوحش لأنه حر ويحفظ الجميل ويرده. وليس هذا ما تجده عند كافكا. بل العكس تماما، و علينا أن نقول إن مفهومه هو الأصح من زاوية نظر الطبيعة نفسها. وتكهنات باشلار تقوده لمعارضة سرعة لوتريامون وبطء كافكا.

'لنذكر أنفسنا بعدة عناصر في القصص الحيوانية: (1) لا يوجد احتمال للتمييز بين تلك الحالات حيث نعامل الحيوانات كحيوانات وحالاتها المتقلبة هي طور من التحول. وكل شيء في الحيوان هو تحول، والتحول هو جزء من ظاهرة فردية لصيرورة -بشرية يقوم بها الحيوان وصيرورة -حيوانية يقوم بها البشر.

(2) التحول نوع من الارتباط بين لا-مساحتين، وهي التي يفرضها البشر على الحيوان بإجبارها على الهرب، أو لخدمة البشر، وتلك أيضا التي يفرضها الحيوان على البشر بالإيحاء بطرق للنجاة أو وسائل للهروب لا يمكن للبشر التفكير بها بذواتهم (الهروب المصدوع). وكل من اللا -مساحتين لا بد منها للأخرى وتدفعها لعبور العتبة الحدية.

(3) وعليه ما يهم ليس البطء النسبي في الصيرورة الحيوانية، لأنه لا يهم كم هو بطيء، وحتى كلما زاد تباطؤه، فإنه يتضمن لا أقل من لا -مساحة مطلقة للبشر تعارض اللا -مساحة النسبية التي يتسبب بها الإنسان لنفسه بالانزياح، بالارتحال. والصيرورة الحيوانية هي رحلة ساكنة تستمر في مكان واحد. وتحيا وتكون مفهومة بشكل شدة (لتعبر عتبة الشدة)12.

ولا يوجد استعارة في الصيرورة الحيوانية ولا ترميز ولا مجاز. وهي ليست نتيجة لتدفق أو كتابة مرضية، أو أثر لنوع من أنواع الذنب.  وكما يقول ملفيل عن صيرورة الحوت وتحول الكابتن آخاب: إنها "مشهد عام" وليس "إنجيلا - *شيء غير قيامي". خريطة للشدات. وتجميع للحالات، وكل منها مختلفة عن غيرها، ومزروعة على البشر طالما هم يبحثون عن طريق للخلاص. إنه خط إبداعي للهروب ولا يعلن عن شيء عدا ما هو عليه. وبالمقارنة مع الرسائل، التحول إلى - حيوان (صيرورة الانمساخ) إنها لا تسمح لشيء بالاستمرار بازدواجية ذات التلفظ وذات العبارة. عوضا عن ذلك تتضمن سيرورة مفردة. إنها أسلوب متميز يستبدل التذويت. وحتى لو أن صيرورة الانمساخ هي موضوع القصص بحد ذاته، يجب علينا أن نفحص عدم كفاءة القصص. وعلينا أن نقول إنها سقطت في مشكلة اختيار يفرض عليها من جانبيه الهزيمة إن نظرت للموضوع من زاوية مشروع كافكا، بغض النظر عن المهارات الإبداعية. من جهة تكون القصة مثالية وناجزة، ولكنها ستقترب وتنغلق على نفسها. أو أنها ستنفتح ولكنها ستنفتح على شيء لا يمكن أن يتطور إلا في رواية هي نفسها لامتناهية. في أول حالة، تواجه القصة مخاطر مختلفة من تلك الموجودة في الرسائل، مع أنها لحد ما مشابهة. وعلى الرسائل أن تخشى نوعا من أنواع إعادة التيار الموجه ضد ذات التلفظ. والقصص من جهة مقابلة ترتطم بمشكلة عدم الاستفادة -أو الفرار من منفذ يضمن النجاة للحيوانات عادة، مشكلة يممن أن تقول عنها هي انسداد في خط الهروب (ولهذا السبب تنتهي حينما يتم نصب هذا السد).

وللتأكيد لا علاقة للانمساخ بنوع سطحي من المعنى، كما هو حال الرسائل: فمهما كانت بطيئة، يكون فك ارتباط الانمساخ بالحدود مطلقا، وخط الهروب مبرمجا بشكل جيد، والخروج متحقق بشكل جيد.  ولكن هذا طرف واحد من قطبين اثنين. بنفس الطريقة التي تتضمن بها البيضة، احتمال، قطبين، يكسب الانمساخ إمكانية توافر قطبين حقيقيين اثنين- قطب حيواني حقيقي وقطب عائلي حقيقي. ونرى كيف يتأرجح الحيوان بين صيرورته -اللابشرية والتآلف -الإنساني الذي يسبغه على كل شيء: لذلك كان الكلب في "التحريات" قد تخلى عن أرضه بسبب حلقة الكلاب الموسيقية التي تظهر منذ بداية القصة، ولكنه يستعيد أرضه، وتعاد أودبته، بالكلب المغني الذي يبرز في الخاتمة. وينتهي بالتأرجح بين "علمين" اثنين ويتم اختزاله إلى تمكين الحضور النهائي للعلم الثالث والذي يضمن الهروب من الحالة (لكن من الواضح أن هذا العلم الثالث لن يكون موضوع مجرد قصة وسيتطلب رواية كاملة).

ولنأخذ مثالا آخر: رأينا أن تحولات غريغور هي قصة إعادة أودبة قادت للموت، وأنها بدلت صيرورته الحيوانية إلى صيرورة ميت. وليس الكلب، ولكن كل الحيوانات، تتأرجح بين إيروس مشروخ وثاناتوس أوديبي. وبهذه الرؤية وحدها تهدد الاستعارة، بكل ثقلها الأنثروبوسينتري (المركزية الأنتروبولوجية)، بالعودة لاحتلال المشهد. باختصار إن القصص الحيوانية هي مكونات في آلة التعبير، ولكنها متمايزة عن الرسائل، ما دامت لم تعد فعالة ضمن الحركة السطحية أو ضمن تمايز الذاتين. وباحتواء الحقيقي، وهو يكتب نفسه ضمن الحقيقي ذاته، يسقط في التوتر الناشئ بين قطبين متعارضين أو واقعين. وتشق لنا الصيرورة الحيوانية بفعالية مخرجا، وتتحرى خط هروب من الذنب، لكنه عاجز عن اتباعه أو احتوائه ليكون له (ولهذا السبب تبقى "المحاكمة" قصة أوديبية ويقدمها كافكا بهذا المعنى، فالابن يموت دون أن يتحول إلى حيوان ودون أن يتمكن من تطوير تلامس مفتوح مع روسيا). ولذلك يتوجب علينا التفكير بالفرضية الأخرى: لا تبين قصص الحيوان مخرجا فقط، فالصيرورة الحيوانية (الانمساخ) هي بذاتها غير قادرة على المتابعة، ولكن، بالفعل، ما يمكنها من إظهار المخرج هو شيء مختلف يعمل من داخلها. ويمكن التعبير عن هذا الشيء المختلف في الروايات وحسب، من المحاولة مع الروايات، لأنه المكون الثالث في آلة التعبير. ففي اللحظة المناسبة حين يبدأ كافكا بالروايات (أو يحاول توسيع القصة لرواية) يهجر التحول إلى حيوان ويستبدله بتكوين أكثر تعقيدا. فالقصص وما تتضمنه من كائنات متحولة إلى حيوان تستلهم من هذه التكوينات السرية، ولكنها لا تكون قادرة على تنشيط هذا التكوين مباشرة - ولا هي قادرة أن تدفعه لرؤية ضوء النهار. وعليه يكون الحيوان قريبا جدا، ومحسوسا جدا، ومرئيا جدا، ومستقلا جدا، ولذلك يبدأ المتحول إلى حيوان ليكون جزيئا متحولا: فجوزفين الفأرة تكون محاطة بشعبها، "الجماهير التي لا تعد ولا تحصى من أبطال شعبنا"، والكلب المحتار في مواجهة الاهتياج الآتي من كل الاتجاهات والصادر عن الكلاب الموسيقيين السبع، والحيوان المضطرب في "الأخدود" وهو يواجه ألوف الأصوات القادمة من كل النواحي والناجمة عن حيوانات أصغر منه بكل تأكيد، وبطل "ذكريات سكة قطار كالدا"، الذي تصادف أنه صياد ذئاب ودببة، ولكنه لم يجد غير حزمة من الفئران وقد قتلها بسكين حين كان يراقبها وهي تلوح بأيديها الصغيرة (وفي "فارس الدلو"، في الثلج الغزير والمتجمد، أسير متتبعا آثار كلاب قطبية، وقد فقدت حركتي معرفة الاتجاهات كلها"). كان كافكا مفتونا بكل شيء صغير الحجم. ولو بدا أنه غير متيم بالأطفال ذلك لأنه محكوم عليهم بالنمو وزيادة الحجم دون احتمال للانكماش. وبالمقارنة تتضمن المملكة الحيوانية الأححام الصغيرة والإدراك. وفوق ذلك في أعمال كافكا تضاف الجزيئات لتكون ملتحمة مع الآلة، أو لتفسح المجال، لها، أو ربما للتجمع الميكانيكي، حيث تكون أجزاؤه مستقلة، ولكنها تعمل. وتجميع الكلاب الموسيقية يمكن عمليا وصفه على أنه نوع من أنواع تجميع الظقائق الصغيرة. وحتى لو أن الحيوان متفرد، فإن وجاره ليس كذلك. والوجار تضاعف وتجممع. تصور قصة بلومفيلد عازبا يبدأ بسؤال نفسه هل عليه امتلاك كلب صغير. ولكن وضع الكلب يتحدد بجزيء غريب أو نظام ميكانيكي، "كرتان بيضاوان صغيرتان من السلولويد وعليهما خطوط زرق وتقفزان للأعلى والأسفل وهما متجاورتان على الأرض". وفي النهاية تتم إهانة بلومفيلد على يد مساعدتين سخيفتين. وربما لدى كافكا موقف وسطي خاص، ما دام هو ساكنا بين حالة حيوانية وحالة تجميع (تكوين). عموما الحيوانات كما هي أو كما ستكون عليه في القصص، معرضة لهذه الخيارات البديلة: إما هي خاسرة، ومحاصرة بحاجز، فتنتهي القصة. أو العكس إنها تفتح وتتكاثر، وتحفر طرقا جديدة  في أرجاء المكان للهروب ولكنها تستسلم للتكاثر الجزيئي والتركيبات الميكانيكية والتي لم تعد حيوانية وهو ما يمكن معالجته بشكل مناسب في الروايات فقط.

والروايات هي المكون الثالث في آلة كافكا الأدبية.  وهي تصور القليل من الحيوانات، في الأدوار الثانوية، وعدم التحول إلى حيوان. وعليه يتم تحييد القطب السالب للحيوان. أما  القطب الموجب فيهاجر إلى مكان آخر، إلى عالم الآلة والتكوينات. ولذلك لا يكون التحول لحيوان غنيا بما فيه الكفاية بالنطق والترابط. ولنتخيل أن كافكا كتب رواية عن عالم النمل البيروقراطي أو عن قلعة النمل الأبيض: في تلك الحالة سيكون شكلا من أشكال الكابيك (*مواطن معاصر لكافكا). أو رواية خيال علمي. أو رواية سوداء، رواية واقعية، رواية أفكار مثالية، رواية تسجيلية -وهي أنواع يمكن أن تجدها في مدرسة براغ.

وكان قد وصف بشكل مباشر تقريبا، أو رمزي تقريبا، العالم الحديث، أحزان وقسوة هذا العالم، وجرائم المكننة أو البيروقراطية. ولا شيء من هذه الأشياء جزء من مشروع كافكا الكتابي. وباعتبار أنه كتب عن عدل النمل أو قلعة النمل الأبيض، نتوقع عودة كل عالم الاستعارات، الواقعي والرمزي. ولن يكون قادرا على فهم واضح لعنف الإيروس والذي هو بيروقراطي وقضائي واقتصادي أو سياسي.

ويمكن أن يزعم أحدهم أن القطيعة، التي نؤسس لها بين القصص والروايات، غير موجودة، ما دامت عدة قصص هي مسودات، وأبنية متفرقة منفصلة لروايات منسية في خاتمة المطاف، وعليه إن تلك الروايات هي قصص متعددة وغير مكتملة.

ولكن ليست هذه هي المسألة. المسألة هي: ماذا يحدو كافكا ليخطط لرواية، أو يرفضها، ويهجرها أو يحاول إغلاقها بشكل قصة، أو، من ناحية أخرى، يقول لنفسه ربما يمكن للقصة أن تكون نقطة بداية لرواية حتى لو أنه سيهجرها؟.

ويمكننا افتراض ما يلي من الأفكار (طبعا لا يمكن تطبيقها دائما، ولا تعمل إلا في بعض الحالات): (1) حينما يتعامل نص جوهريا مع الانمساخ لا يمكن تطويره لرواية. (2) نص يتعامل مع انمساخ لا يمكن الاعتقاد أنه سيتطور إلى رواية ما عدا إن تضمنت مؤشرات indexes ميكانيكية ضامنة يمكنها أن تتخطى الحيوان، وبهذه الطريقة، تكون هي بذور رواية. (3) يمكن إهمال النص الذي قد يكون بذرة رواية لو أن كافكا تصور أن هروب الحيوان يسمح له بالانتهاء معه. (4) الرواية لا تصبح رواية، حتى لو أنها لم تكتمل، حتى، وعلى وجه الخصوص، لو أنها غير نهائية، ما لم تنظم المعاملات الممكنة نفسها في تكوين حقيقي يكتفي بذاته. (5) من جهة أخرى لن يتطور النص الذي يتضمن آلة مكشوفة ما لم يفلح بالدخول في تكوين اجتماع -سياسي (ما دامت الآلة الآلية هي حبر لا يشكل قصة ولا رواية). وعليه إن لدى كافكا عدة أسباب ليهجر النص، إما لأنه يعجز عن إتمامه أو لأنه لا ينتهي. ولكن معيار كافكا من نوع جديد كليا ويمكن تطبيقه عليه فقط. وتوجد تقاطعات بين جنس نص وغيره، وإعادة استثمار، ومراسلات متبادلة، وهكذا. وكل فشل يدل على عمل أساسي، أو فرع من الجذمور.

وأول حالة يمكن تطبيقها على "المسخ".

ولهذا السبب يقول العديد من النقاد إنها أكمل أعمال كافكا. فبالاستسلام لصيرورة حيوانية، يجد غريغور نفسه قد أعيدت أودبته على يد عائلته وهو بطريقه لموته الشخصي. وتبحث العائلة عن إمكانيات الآلة البيروقراطية (مثل المستأجرين الثلاث الذين يتم طردهم). وتنتهي الرواية في حالة اكتمال إفنائي (تبديدي). ويمكن تطبيق الحالة الثانية على "تحريات كلب". ويرى كافكا أنها نسخته من "بوفار وبيكوشيه" 13. ولكن بذور التطور المتكونة هنا لا يمكن فصلها عن المعاملات الآلية التي تعطي إيقاعا لموضوع "التحريات" - المؤشرات الموسيقية في تجمع الكلاب السبع، والمؤشرات العلمية لأشكال المعرفة الثلاث. ولكن باعتبار أن هذه المؤشرات لا تزال أسيرة، في، وبالصيرورة الحيوانية، سرعان ما تجهض.  ولن ينجح كافكا هنا بكتابة نسخته من "بوفار وبيكوشيه". هذا لأن الكلاب قد وضعته على درب شيء يمكنه استيعابه فقط من خلال نوع مادة آخر.

والحالة الثالثة تمثلها "مستعمرة العقوبات".

هناك تجد بذرة رواية أيضا. وهي مرتبطة هذه المرة بآلة واضحة. ولكن هذه الآلة، وهي ميكانيكية جدا، ومع أنها لا تزال متصلة جدا بتصميم أوديبي شامل (الآمر - الضابط = الأب - الابن)، فهي لا تتطور أبدا. ويمكن كافكا أن يتخيل نهاية حيوانية لهذا النص تعود بنا إلى مستوى قصة: بنسخة من نسخ "المستعمرة"، يصبح الرحالة بالنهاية كلبا ويبدأ بالعدو بكل الاتجاهات معتمدا على أقدامه الأربعة. ويجري في كل مكان ويعود للخلف نحو مكانه (في نسخة أخرى تتدخل امرأة -حية - الحيوان الزاحف) 14.

وهذا هو عكس "تحريات كلب". عوضا عن المؤشرات الآلية الناجحة بالهرب من الانمساخ تعود الآلة بنا إلى تكرار انمساخ جديد (استعادة صيرورة حيوانية أخرى).

الحالة الرابعة، وهي الحالة الوحيدة الإيجابية فعلا، فلها علاقة برواياته الضخمة الثلاثة، أعماله الثلاث غير المنتهية: وهنا لا تكون الآلة ميكانيكية ولا مفعلة بعد الآن. عوضا عن ذلك تكون مسكونة بتكوينات اجتماعية معقدة جدا، وبتوظيف الشخصية البشرية، وباستعمال الأجزاء والكتل الإنسانية، تتفهم أثر العنف والرغبة غير البشريين فهما أقوى لحد لامتناه من ما يمكن كسبه في الحيوان أو الآليات المعزولة. ولهذا السبب من المهم أن تلاحظ كيف أنه في لحظة مفردة (على سبيل المثال، لحظة المحاكمة)، يواصل كافكا وصف الصيرورة الحيوانية بأنها غير متطورة إلى رواية ويفهم الرواية أنها لا تتوقف عن تطوير تكويناتها التركيبية (تجميع أجزائها).

خامس وآخر حالة هي برهان مضاد: لدينا "هزيمة""في الرواية وهي ليس حينما تتواصل الصيرورة الحيوانية في الهيمنة فقط، ولكن أيضا عندما لا تنجح الآلة في تقمص نفسها في التركيبات الاجتماعية والسياسية الحية التي تصنع المادة المتحركة في الرواية. في هذه الحالة تبقى الرواية مسودة تقريبية لا يمكن أن تتطور، بغض النظر عن قوتها وجمالها. وهذا صحيح في "مستعمرة العقوبات" بآلتها المتسامية جدا، والمعزولة والمفعلة جدا. والمتجردة جدا. وصحيح أيضا أن النص المدهش المتكون من ثلاث صفحات "مشاغل رجل العائلة"'، فهي تصف آلة غريبة وعديمة النفع:" مغزل بشكل نجمة ويلتف حوله أجزاء من خيط متقطع <و> هذا يتحرك بوتد خشبي... ويتصل به قضيب صغير آخر بزاوية قائمة". ومن المؤكد أنه في حالة بلومفيلد تشكل كرتا البنغ بونغ  آلة آلية، والمساعدان الغريبان والأبلهان يشكلان تكوينا بيروقراطيا، مع أن هذه الموضوعات تبقى غير مترابطة وتقفز الكتابة من فكرة لأخرى دون أن ينفذ أو يخترق أي منها غيرها.

هنا تجد العناصر الثلاث من آلة الكتابة أو التعبير وهي معرفة بمعيار داخلي، وليس بمشروع النشر. والرسائل والعهد مع الشيطان. القصص والصيرورة الحيوانية. الروايات والتكوينات -الجماعات الآلية. وبين هذه العناصر الثلاث يوجد تواصل عرضاني دائم، باتجاه أو آخر. وفيليس التي تبرز في الرسائل هي حيوان، ليس بسبب طبيعتها الدموية، ولأنها فريسة مختارة لمصاص الدماء، ولكن أيضا لأنه ضمنها كلب متحول كان يفتن كافكا. و"المحاكمة"، لأنها تركيب آلي حديث، تشير بذاتها لإعادة تفعيل مصادر أحفورية - محاكمة التحول الحيواني الذي تضمن مصير غريغور، محاكمة مصاص الدم بسبب عهده مع الشيطان، مصير عاشه كافكا حقا حينما انفصل عن فيليس، مثل المحاكمة في الفندق حيث قارن كل شيء ليكون أمام الهيئة.  وعلينا أن لا نؤمن أنه يوجد لدينا خط واحد يمتد من التجربة الحية للرسائل إلى التجربة المكتوبة للقصص والروايات. هناك أيضا طريق معكوس، وقدر مساو من التجارب الحية والمكتوبة في كلا الحالتين. إنه التكوين المركب بصورة اجتماعية وسياسية وقضائية وهو ما دفع كافكا ليفهم معنى صيرورته الحيوانية، مرحلة بعد مرحلة، على أنها مادة المحاكمة، وكي يتعامل مع علاقات المراسلة مع فيليس كما لو أنها شيء نحكم عليه من ضمن شروط المحاكمة.

والطريق لا يمر من العهد مع الشيطان في الرسائل إلى الصيرورة الحيوانية في القصص. ولكنه يذهب بمعنى مضاد، فتحمل الصيرورة الحيوانية قيمة بشروط الجماعات التي تلهمها - جماعات تنشط فيها الحيوانات مثل أجزاء من آلة موسيقية أو آلة علمية، آلة بيروقراطية، وهكذا وهكذا. والرسائل هي عمليا جزء من تجمع آلي تكون فيه التيارات متبادلة، وحيث يلعب ساعي البريد دورا إيروتيكيا لعتلة ضرورية في الآلة، وسيط بيروقراطي لا يمكن دونه لميثاق المراسلة أن يعمل (حينما يحضر ساعي البريد في الحلم رسائل فيليس، "سلمها لي، رسالة بكل يد، وذراعه تتحرك بانضباط مثالي، مثل جر عصا المكبس في محرك بخاري"15).

ويوجد تواصل دائم بين مكونات التعبير الثلاث. ومع أن التعبير مقطوع بكل الحالات لأسبابه الخاصة، يتم أيضا تجاوزه من مكون لآخر. الرسائل تتوقف بسبب العودة، وهذه آلية تمنعها من الاستمرار. والقصص تتوقف لأنه لا يمكنها التطور الى رسائل، وتتمزق بين اتجاهين تسد أي مخرج - آلية أخرى؛ والروايات يوقفها كافكا، باعتبار أنها لا تنتهي وجوهريا غير محدودة، لامتناهية - محاكمة ثالثة. فن لم يكتمل أبدا وتطور من حركات تتعرض للإجهاض باستمرار، ولكنها مرتبطة بعلاقات فيما بينها. وفي كل الحالات توجد عاطفة مفردة ومتميزة تدفعه للكتابة ولكنها ليست كتابة مكررة. وفي كل مرة تتخطى العتبة، وليس هناك عتبة أعلى أو أدنى. وتلك هي عتبات للشدة ليست أعلى ولا أدنى من الصوت الذي يجري خلالها. ولهذا السبب إنه أمر سيء وعبثي أن تعارض حياة وكتابة كافكا، و أن تفترض أنه حصل على ملجأ في الكتابة ليهرب من نوع من أنواع النقصان، والضعف، والعجز، تجاه الحياة. جذمور، وقبر، نعم - ولكنه ليس برجا عاجيا.

خط لاهروب - نعم، ولكنه ليس ملجأ.

وخط الهروب الإبداعي يفرغ بحركته المحتوى السياسي، والاقتصادي، والبيروقراطي، والقضائي: يمتصه مثل مصاص دم ليجعله يترجم الأصوات المجهولة القادمة من المستقبل القريب - السلطات الفاشية والستالينية والأمريكانية والشيطانية التي تدق على الباب. ولأن التعبير يسبق المحتوى ويجره إلى الأمام (طبعا بشرط أنه لا يظل على معنى): الحياة والكتابة، الفن والحياة، يعارضها فقط وجهات نظر الأدب الأساسي. وحتى حينما يحتضر، يدهس كافكا تيار حياة لا تقهر يأتي بالتساوي من رسائله، وقصصه، ورواياته - ومن عدم اكتمالها الفردي (لأي سبب كان) ولقدرتها على التواصل مع بعضها البعض، "لتكون قابلة للتبادل. وهي ظروف الأدب الثانوي. وشيء واحد فقط يقلق كافكا ويغضبه، ويجعله مقهورا: حينما يتعامل معه الناس ككاتب عاطفي، فهو يبحث عن ملجأ في الأدب، ككاتب عن العزلة، والذنب، وسوء الحظ الغامر. وذلك هو خطأ كافكا، باعتبار أنه أدرك ذلك المفهوم كي يتوقع المصيدة بواسطة المرح. توجد كافكا فكاهة، فكاهة مسلية جدا، ولكن لا يفهمها الناس بشكل مقبول.

ولأسباب غير مفهومة حاول القراء ان يتتبعوا أثر ملجأ معزول عن الحياة في أدب كافكا، وكذلك أن يلاحظوا القلق، وهو إشارة تدل على العجز والإدانة، إشارة عن تراجيديا داخلية. ولا يوجد غير مبدأين ضروريين لتفهم كافكا. إنه كاتب يضحك بسرور عميق، ajoie de vivre بهيج، ورغم أو بسبب عباراته التهريجية التي يقدمها كأنها فخ أو سيرك. ومن جهة معاكسة هو كاتب سياسي، نبي عالم المستقبل، وله قطبان يعلم كيف يوحدهما بتركيب جديد تماما: بغض النظر عن أنه كاتب انسحب إلى غرفته، وجد كافكا أن غرفته توفر له تيارا مزدوجا، فهو بيروقراطي له مستقبل هام ينتظره، وموصول بتجمعات حقيقية هي في طريقها للتشكل (يصبح لها صورة)، وهو بدوي متورط بالهروب من الأشياء بطريقة معاصرة ومتصل بالإشتراكية والفوضوية والحركات الاجتماعية. 16.

والكتابة عن كافكا، فحوى الكتابة، تقودنا إلى معنى واحد: ليس لشكل أدبي وحده، ألفاظ تتحد مع الرغبة، من وراء القوانين والدول والأنظمة. لكن اللفظ دائما تاريخي وسياسي واجتماعي. سياسة صغيرة، سياسة الرغبة التي تفكر بكل الأوضاع والأحوال. ولا يوجد كاتب فكاهي ومبهج من وجهة نظر الرغبة مثله، ولم يكن هناك كاتب مسيس وبهموم اجتماعية من وجهة نظر الألفاظ على شاكلته. وكل شيء عنده يقودنا لنضحك، بدءا من المحاكمة. وكل شيء سياسي ويبدأ من الرسائل إلى فيليس.

***

............................

هوامش الفصل الرابع:

1-كافكا. اليوميات. 15 كانون الأول 1910، 33.

2-جوستاف يانوش، 143 (و ص 158:"الشكل ليس هو تعبير المحتوى لكنه قوة جاذبيته").

3-رسالة إلى برود، كافكا، الرسائل، 13 تموز 1912، 80.

4-نستعمل هنا دراسة غير منشورة لكلير بارنيه عن "مصاص الدماء والرسائل" تم بها تحليل العلاقة بين كافكا -دراكولا على نحو خاص. انظر أيضا كل كتابات إلياس كانيتي  المذكورة في "المحاكمة الأخرى: رسائل كافكا إلى فيليس" (نيويورك، شوكين بوكس، 1974). ولكن رغم هذه النصوص لا يبدو أن كانيتي لاحظ نشاط مصاص الدماء، وعوضا عن ذلك يتطرق لإحساس كافكا بالعار والخجل من جسمه، ولمشاعر الذل والقلق، وحاجته للحماية.

5-انظر النص الجيد في: كافكا، رسائل إلى ميلينا، 228-31. كانت آلات الطباعة والإملاء تفتن كافكا سواء هي بيروقراطية أو تجارية أو جنسية. وكانت فيليس تعمل بتجارة تبيع البارلوغراف وأصبحت مديرة الشركة. وتمكنت من كافكا فكرة غامرة لإدخال البارلوغراف على الفنادق ومكاتب البريد والقطارات والسفن والمناطيد وأن يدمجه مع آلات الطباعة، وجهاز "براكسينوسكوب"، والهاتف. ومن الواضح أن كافكا كان مسحورا به و اعتقد أنه بهذه الطريقة يمكنه تهدئة مشاعر فيليس التي صاحت:"أنا أضحي بأيامي في سبيل عملك. رد علي بالتفصيل". كافكا، رسائل إلى فيليس، 166-68. بسبل تقنية وتجارية ضخمة رغب كافكا أن يدخل سلسلة من الاختراعات الشيطانية ضمن سلسلة مقبولة من الاختراعات المفيدة.

7- كافكا، رسائل إلى فيليس، 17 تشرين الثاني، 1912، 47.

7-كافكا، اليوميات، 19 كانون الثاني، 1911، 43.

8- "شيطانيات براءتي": انظر كافكا، اليوميات، 65. و في "القضية"، يقول الأب"الطفل البريء، نعم، الذي كنت عليه، حقا، ولكن عمليا كنت شيطانا بصورة إنسان! - وعليه ضع في ذهنك: أنا أحكم عليك الآن بالموت غرقا!".

9-رسائل بروست هي فوق كل شيء طبوغرافيا للعوائق الاجتماعية والمادية والنفسية والجغرافية. والعوائق تكون أضخم كلما كان المراسل أقرب لها. وهذا واضح في الرسائل إلى السيدة شتراوس، وهي مثل الرسائل إلى ميلينا، تحتفظ بخاصية محددة تمثل "ملاك الموت". وفي رسائل بروست إلى الشباب، يوجد المزيد من العوائق الطبوغرافية المتعلقة بالمكان والزمان، والوسائط وحالات الروح، والظروف، والمتبدلات. على سبيل المثال في رسالة إلى شاب، يبدو أن بروست لا يريد منه أن يأتي إلى كابورغ "أنت حر باتخاذ قرار ما تريد، وإن قررت المجيء، لا تكتب، ولكن أبرق لي مباشرة حالما تصل و، إن أمكن استقل القطار الذي يصل حوالي الساعة 6 مساء، أو على الأقل قرابة نهاية ما بعد الظهيرة أو بعد الغداء ولكن ليكن وصولك ليس متأخرا ولا قبل الثانية ظهرا، لأنني أريد أن أراك قبل أن تقابل أحدا غيري. وسأوضح الأسباب حينما تأتي".

10- عن السجن، انظر كافكا، اليوميات. 19 كانون الثاني 1911. 43.

11-باشلار، لوتريامون (باريس: طبعة كورتي، 1956). لمناقشة الفعل الصافي والسرعة و الهجوم باعتبار أنها من خصائص لوتريامون والبطء من خصائص كافكا، فقد نظر إليها كما لو أنها تفني "الإرادة بالحب". انظر الفصل الأول من باشلار.

12-يقارن كافكا غالبا بين نمطين من الرحلات، رحلة منظمة وموسعة، ورحلة متشددة ومجزأة، رحلة غرق أو شرذمة. والثانية تجري في موضع واحد، في "غرفة النوم"، وهي متشددة لهذا السبب: "وأنت الآن تستلقي على هذا، أو ذاك الجدار، وتدور النافذة حولك.. إنها نزهتي وهذا يكفي، والتعويض أنه لا يوجد مكان في كل العالم لا يمكنني أن أتنزه به" (كافكا، اليوميات، 19 تموز 1910، 27-28). أمريكا متشددة، خريطة للشدة.

13-كافكا، اليوميات، 9 شباط 1915. 2:115.

14-كافكا، اليوميات، 8 آب 1917، 2:179.

15-كافكا، رسائل إلى فيليس. 17 تشرين الثاني 1912. 47.

16- غضب كافكا حينما تعاملوا معه مثل كاتب عاطفي: لذلك منذ بداية رسائله إلى فيليس، كان رد فعله عنيفا على القراء أو النقاد الذين تكلموا عن حياته الشخصية. في فرنسا قام نجاح كافكا الأولي على سوء الفهم - كافكا عاطفي ورمزي بنفس الوقت، مجازي وعبثي بنفس اللحظة. وهذا ما تناقشه مارثا روبير في دراستها  عن ظروف قراءة كافكا في فرنسا "مواطن للمدينة الفاضلة: نقد لعصرنا وكافكا" (باريس: غارنيه 1973). يمكننا القول إن دراسات كافكا بدأت فعلا حينما لاحظ النقاد الألمان والتشيكيون أهمية  انتمائه لبيروقراطية قوية (شركة التأمين، الضمان الاجتماعي) وجاذبية الحركات الاجتماعية والفوضوية في براغ (شيء طالما أخفاه عن ماكس برود). وكتابا فاغينباخ اللذين ترجما إلى الفرنسية، كافكا بقلمه (باريس، طبعة دي سول 1968) والمراجع الهامة لكل هذه القضايا. مجال آخر هو دور الفكاهة و المتعة في أدب كافكا. ولكن هذا يؤكد على نفس المعنى: سياسة القول enonce ومتعة الرغبة. وحتى لو أن كافكا مريض أو يموت، وحتى لو أنه يتعامل مع الذنب كما لو أنه سيرك خاص به، ليتخلص مما يضجره. وليس  صدفة أن كل مترجم مفتون بالعصاب يصر بنفس الوقت على جانب تراجيدي و غاضب من كافكا وعلى جانب سياسي. ومرح كافكا أو مرح كتابته ليس أقل أهميه من الواقع السياسي والتوجه السياسي. وأفضل جزء من كتاب ماكس برود عن كافكا هو حينما يخبرنا كافكا كيف أن المستمعين ضحكوا خلال قراءة أول مقطع من المحاكمة "بإفراط" (ص178). وفيما يلي  معيار متميز ولا ثاني له يدل على العبقرية: السياسة التي تجري خلاله والمتعة التي تتأتى منه. وسنطلق اسم "منخفض" أو "عصابي" على أي قراءة تحول العبقرية إلى غضب، إلى تراجيديا، إلى "هم شخصي". على سبيل المثال نيتشة وكافكا وبيكيت وسواهم: من لا يقرأهم وهو يضحك طوعيا ويرتجف سياسيا يفسد كل شيء.

في هذه المكونات من أدب كافكا - الرسائل، والقصص، والروايات - تجاوزنا النظر بعنصرين: من جهة النصوص القصيرة جدا، والأمثال الحكيمة، والخرافات الدينية نسبيا. كما في القطيعة مع فيليس عام 1918 حينما كان كافكا حزينا حقا، ومرهقا، وغير قادر على الكتابة وينقصه الرغبة بالكتابة.

من جهة أخرى لم نتطرق إلى المفكرات لأسباب معاكسة. حرفيا لأن المفكرات لامست كل شيء: فهي الجذمور بحد ذاته.  وهي ليست عنصرا -بمعنى أنها ليست جانبا واحدا من عمله، لكنها العنصر (بمعنى المحيط -البيئة) التي أعلن كافكا أنه لا يريد أن يتركها أبدا، مثل سمكة في الماء. وهذا صحيح لأن هذا العنصر يتصل بكل ما هو خارج عنه ويوزع رغبة الرسائل، رغبة القصص، ورغبة الروايات.

 * هذه هي ترجمة الفصل الرابع من كتاب "كافكا: نحو أدب ثانوي" للفرنسيين جيل دولوز وفيليكس غوتاري. ترجمه إلى الإنكليزية:دانا بولان. منشورات جامعة مينيسوتا. 1986.

 

في المثقف اليوم