قراءات نقدية

دراسة في عوالم أحمد سعداوي الروائية (7)

حيدر عبدالرضارواية (مذكرات دي) أنموذجا

الإنتاجية الروائية بين أختبارية الواقعة النصية ومتعلقات الواقع المتخيل - الفصل الرابع ـ المبحث (3)

توطئة:

إن القارىء إلى جملة مستويات الأدلة الإنتاجية في مشغل المؤشرات السردية في رواية (مذكرات دي) لعله يواجه تلك المدارات المحايثة لأفعال الصوغ المغاير في محمولات النتيجة الموضوعية المتعلقة في تلك الصياغات الخاصة بـ (مجلس الأطياف) والمساحات التكوينية من حياة شخوص الرواية في وحداتها السردية المتوالية خطيا.ولو دققنا فيها غورا، لوجدناها للوهلة الأولى ـ إي مجلس الأطياف ـ بعض من دلائل فرضية في اختبارية الواقعة النصية المنجدلة في حدود معادلات كبرى من مستوى التخييل المتعلق بالواقع المتخيل، وما نجده واضحا إزاء ذلك المقابل الأرضي هو العلاقة المضافة من الواقع المتعين في حيوات الشخوص النابضة بممكنات السرد ما بين العالمين.كل ما وجدنا في مؤثثات هذا النص، قد يمكننا التعامل وإياه على إنه (علامة ـ معادلة ـ قيمة سردية تجريبية) لأن فكرة الرواية بموجب هذه المحاور قائمة أساسا على حقائق مجردة وتجريبية ومفترضة إلى حد النخاع، من شأنها خلق وابتداع لنفسها، ذلك النموذج (الميتاخيالي) الذي راح منه سعداوي، محاولا إقامة تجربة في هذا الشكل من موضوعته الروائية وتوظيف مداليلها في وحدات خاصة من الوقائع النصية الضاربة في المثال أو النموذج المتخيل الذي راح يتكفل في صنع المقادير المستقاة من مواصفات القدرة الملكوتية العليا.لكننا رغم قناعتنا الكاملة بهذه التجربة المحاكية للملكوت الأعلى، غير أن هناك ما شدنا إليها في الوقت نفسه، كونها مرآة لتجليات مساحة نمطية من أفق الواقع المعيش، وذلك فيما يتعلق وحيوات الشخصية دي ومذكراتها المؤرخة عبر تواريخ المسار الزمكاني والأفعال الشخوصية المحددة بوحدات ظروفها الأحوالية، إذا بقينا إزاء هذه التجربة الروائية، أمام أوجه من الانغمار في فحوى معادلات أشكال كائنات متخيلة، تسعى جدلا لذاتها لجعل نموذجا الأشد اختبارا في دينامية العلامة التجريبية المرهونة بأبعاد منظورة من ثنائية المماثلة والاختلاف في فضاءات مؤولات النص.

ـ العلاقة الإظهارية بين التأثير الزمني والأدلة الساردة

لعل الترجيعات في خطوط السرد المتقدمة عبر نمو أحداث وأفعال النص الشخوصية تبقى مرهونة في ذاتها داخل ذلك الانموذج المحدد بـ (مجلس الأطياف) امتدادا نحو واقع الخلفية السياقية في حكاية الرواية، إذ ترشدنا تتابعا نحو التصديق والأخذ بذلك الفضاء المتمثل بعالم الأطياف وطبيعة مكوناتهم المقتنصة لأفعال ومقادير ملكوتية مستقاة من حدود مرجعية مستعارة من الرمز الملكوتي الأعلى، غير إن الروائي وعبر موضوعته راح يشغل من صورة هذه الكائنات عبر هيئة تماثلات تنويعية مقاربة لصفتي (طيف ـ ملاك) أو تقريبا من صفة عملية الخلق والقدرة المخصوصة بالله عز وجل.غير إن كل هذه الواردات في مجال الرواية هي من الإستحالة التخييلية، خصوصا وإن الامتداد الإمكاني بين الطيف وتلك الشخصية، هي من المفارقة واللاقبول لها وإلى قوالبها اللاممكنة في براهين التأويل والتدليل والسلامة التخييلية، إذ إنها من ناحية الذوق والذائقة بدت مرفوضة تماما، نظرا لكونها حلت في حدود علاقة غير حوارية ومن جهة أخرى جاءتنا على هيئة المقادير العليا من رسم الملكوت الغيبي.ولكننا من جهتنا سوف نعاين حسية الأبعاد في العلاقة المطروحة بين ذلك (الديفالون) الموكل بشخصية ديالى أو دي، أو ذلك الطيف الخائن (أودو حديم) الذي حل ملازما لشخص ذلك الملك نندا شيرمانو، الطيف حديم الذي خالف الأعراف وقيم الناموس المنصوصة من قبل المجلس الأعلى الذي يقوم برئاسته آمو كاني: (لم يكن الصوت سوى الديفالون نفسه كان يضرب في الإذن الوسطى لديالى بنقرات بدت غامضة في البداية بالنسبة لها، ثم تعودت عليها وفهمتها لاحقا، وصارت مرتبطة بها كإشارات تشبه شفرة مورس داخلية تحذرها من خطر محدق .حدث هذا بداية 2006 ثم تعزز في السنوات اللاحقة على نحو مكثف، حتى انقطاعه النهائي والحاسم في ربيع 2013 .ففي هذا الوقت افتضحت الأطياف تدخلات الديفالون في حياة ديالى، وصار من اللازم أن يتوقف ./ص73 الرواية) تبرز لنا عدة مبررات مفترضة من قبل السارد في إن هذا الديفالون، كان معززا من قبل هيئة حكماء وحكام مجلس الأطياف العليا، إلى جانب كونه مرشحا لنيل منصب نصف إله متخيل، إي بما يعادل الأخذ بكل مقاليد مهام المجلس العلوي لهذه الكائنات، كما يظهر إن له منافسا أيضا في الأخذ بزمام هذا المنصب من قبل ذلك الطيف الملقب بـ (الدامستا) الذي قد حاز أعلى رصيدا من الديكالات.وقد يختزل مفهوم الديكالات على أنه (الديكالات، ومفردها ديكالا وهي عند عالم الأطياف الوحدة القياسية للأنفعالات البشرية الست الأساسية ومزيجها المتنوع: الغضب، الاشمئزاز، الخوف، السعادة، الحزن، الدهشة./ص57 الرواية) والسارد إزاء هذه التنويعات من الأفعال الصفاتية تراه يضعنا إزاء جملة ارتباطات أحوالية مستقلة لكل واحدة من هذه الصفات على حدة، ما يجعلها وكأنها مجموعة سنن شرطية في سياقات دالة في وقائع محاورها الوظيفية في ذلك العالم من الأطياف، لعل ما نحصده من وراء كل هذه التفاصيل، هو ذلك النزوع التقاربي بين كبير هيئة المجلس وذلك الديفالون المعاقب بكذا من الزمن في حديقة الأحلام، لأنه على ما يظهر بأنه قد تمادى بأفعاله المتدخلة في حياة الشخصية دي، وقد بدا هذا الأمر في حقيقته مخالفا لقواعد وأعراف مملكة هذه الكائنات الشبحية.

1ـ فرضية الحسابات الطيفية و وقائع الإظهار الشخوصي:

من اللوازم الضرورية لقارىء رواية (مذكرات دي) معرفته لآفاق ومكونات الزمن المنصوص في حياة سلوكيات هذه الكائنات المخيالية، ومن جهة أخرى يجب الحساب لها على إنها لها ذلك الحجم من التدخلات المحددة في زمن الكائن البشري. هكذا سعداوي أراد خلق لنا عبر نصه هذه المشاغل من فرضيات إمكانية خارج حدود المعقول والمستوعب، أراد لروايته أن تكون المنعطف التشديدي من جهته التأليفية المفترضة أولا وأخيرا، لذا وضع لها ـ أي لتلك الأطياف ـ قوانين وأحكام وأعراف وأعراق وتقاليد وعادات.فكل تصور من تصورات هذا العالم، ما هو إلا مرآة محاكية من ترجيحات هيئة عالم الملكوت الأعظم ليس إلا، وقد أراد لها سعداوي في محاور روايتها أن تكون هذه الأطياف بمثابة القدرة والمشيئة على قدرات العامل البشري، وكأنها خالقيات تضمينية ممهدة لزمن الملكوت الإلهي، وكيفية قدرته عز وجل على المخلوق البشري وكافة الكائنات الأخرى.عند التمعن في مسار تمفصلات الأحداث الروائية الخاصة بحياة دي وأوراق مذكراتها التي كتبتها على هيئة وقائع زمكانية تشتمل في أغلبها على مجموعة أفعال شخوص الرواية مع فارق متعلقات زمن الأطياف.إذ نواجه في النتيجة عالمان متماهيان في بعضهما البعض، رغم تفاوت شروط الدلالة والفاصلة الإطارية في مسارات المعنى الروائي: (كانت الشكوك تراود آمو كاني منذ عدة سنوات، منذ سماعه لإفادة أحد الأطياف المرافقين لبائع متجول في سوق شعبي في الكاظمية ببغداد، حين كانت ديالى عبد الواحد مع عائلتها واقفة، بجوار هذا البائع، ثم جمدت مثل تمثال لعدة لحظات، تكررت هذه التدخلات أكثر من مرة، وهناك وشايات عن خرق الديفالون لألتزاماته الأساسية وخيانته لوصايا عالم الأطياف./ص79 الرواية) ونقرأ نماذجا أخرى مشابهة عن حياة هذه المحكيات من متخيل الأطياف نفسه، وكأنها الحاضنة الأمومية المخلصة والمكلفة برعاية الجنس البشري، ولكن لمّ لا نفترض من جهة غاية في الأهمية من أن هذه الكائنات محض حكايا تصورتها النواظم الشخوصية لذاتها المعزولة عن دائرة الرحلة الخارجية للعالم، إي إنها جملة استيهامات خلقتها الاحاسيس والعاطفة البشرية، لدى ديالة وهي في أشد لحظاتها مأزومية وتأزما؟وقد نرجح أمام كل هذا بأن صوت السار، ما هو إلا ذلك الضمير المسوغ بالعودة إلى الشخصية المحور، وبالنتيجة القصوى تصبح كل هذه العوالم الأطيافية إلا متنفسا حلميا من داخل شقوق تواريخ حياة المذكرات للشخصية ديالى ذاتها.

ـ إمكانية التمثيل الواقعي

سنتناول في الفرع من مبحثنا المركزي هذا القسم الذي يسلط المزيد من الضوء حول القيمة الإجرائية المتشكلة في حيوات المحاور الشخوصية، التي تتمثل بعائلة ديالى وشقيقتها نينا و والدها عبد الواحد: (خلال التنقلات في الكلام، بين موضوع وآخر من دون خطة مسبقة، كان هناك سؤال تكرهه نينا كثيرا أحاول تجاهله، فهو سؤال سخيف فعلا يمثل تدخلا في حياة الآخرين، ولكني أبنة البيئة التي أعيش فيها وينتقل ألي مثل هذا السؤال بالعدوى.كنت أريد أن أسألها عن الحمل والولادة وهذه القضايا، ثم قمعت نفسي بحزم، ومع استغراقي بقمع هذه الهواجس باغتتني نينا بالكلام عن الزواج: ـ أنت الآن في الرابعة والعشرين من عمرك..فمتى تتزوجين؟./ص84 الرواية) .

1ـ الشخصية المركبة وتأثيرات الحيز العاطفي مع الآخر:

تواجهنا الشخصية دي ضمن مواصفات مكثفة من مظاهر العلاقة المتوحدة مع الأشياء في ذاتها في جل أحوالها وتفاعلاتها العاطفية والحسية والنفسانية، فهي من جهة خاصة تعد من الذوات الكظيمة التي تتحسس الأشياء من حولها عبر مجسات حنكة ذكية وفطنة متفرسة في فهم ما يدور حولها من اشارات وهمسات وسكنات، لذا فإن وضعها الذاتي كفتاة لا يشاطر قريناتها من الفتيات، وحتى أختها نينا غالبا ما تكون مجحفة بحقها كشقيقة من صلة الأب دون ذات الأم.لقد أثر فيها كلام شقيقتها نهار ذلك اليوم بعد الانتهاء من وجبة الغداء، وقد ساورها التفكير في حكاية الزواج ومدى إيجابيته في حيز حياتها المتكتمة على علاقات غامضة مثل ذلك الشعور بذلك الشاعر أو إنها فعلا تحتاج إلى ذلك الزمن التمحيصي الكاف لمراجعة فكرة كونها رافضة للزواج: (انطرحت على سريري وحضر في ذهني الجواب المناسب على إلحاح نينا، هو مناسب كما أراه أنا..سأقول لها أنني أخاف إلى درجة لا تتصورينها يا نينا من فكرة الاتباط مع شخص، وأن أكون في عهدته وأربط حياتي مع حياته، وأفقد عزلتي الأليفة المريحة ./ص89 الرواية) يتبين لنا إن ردود الشخصية دي أكثر إلحاحا في أحلام وحدتها، إذ إنها لا تتعدى جملة أسطر على صفحة في دفتر مذكراتها الذي هو في المحصلة الأخيرة المادة السردية للرواية ذاتها.

2ـ صورة النوازع الداخلية وتمثيلات الأهواء الشخوصية:

لعل زمن تداعيات الأبعاد الذاتية لدى الشخصية المحور دي، شبيها بمن يحاور ذاته على امتداد الصفحات الأكثر قربا من واقعها النفسي والعاطفي ولواعجها الخاصة إليها، إذ إن حالة الإنفراد بشخصها هي من حفزت فكرة الأطياف وعوالمها الهلامية إليها أيضا، فهي من جهة خاصة تحتاج في كل محاوراتها مع أحلامها إلى الخلوة بذاتها أو إلى واقعة خاصة من التدوين في دفتر مذكراتها اليومية، امتدادا نحو هذه الاعترافات الخاصة: (قلت لك أنني انسانة طبيعية، أحب أن أتخيل نفسي أحيانا مع رجل ما، ولكن ما ثمن ذلك؟ثم لأنني لم أجرب الاحتكاك الجسدي مع جسد رجل، ولو حتى بملامسات خارجية طفيفة، فأنا لا أعرف صراحة ما يفوتني من هذه التجربة.. أغطس أحيانا في خيالات جنسية يكون فيها الطرف الآخر رجلا من المحيطين بي، أو مما أشاهده على النت، و قد أتمادى في هذه الخيالات إلى أقصى حد يمكن أن تتخيلينه ./ص89 ص90 الرواية) في هذه الوحدات تتم حضور السمات الأكثر ارهاصا بعالم الشخصية، فهي من جهة ما انسانة ملغومة بحفاوة التوق إلى العلاقة الجسدية بصورتها الحلمية، ومن جهة أخرى تأتلف مع الخواء الذي يبادرها من عدم وجود ذلك الرجل المناسب في محيط عملها، لذا فإنها تعاود حمل انكساراتها في مركب نقصها الكامن في موضع ساقها اليمنى المعطوبة، وفي ذلك الشعور المحفز لها في ارتياد وظيفة التخييل وفي حقل ملاذاتها السرية الأليفة بأدق الصور لوضعها العضوي المخمول.

ـ تعليق القراءة:

ستكون مهمة تحديد الجنس الروائي في تجربة رواية (مذكرات دي) ضمن مفهوم الرواية ذات الحساسية المتخيلة بإفراط في واقعها المكرس من جملة يوميات شخصية ذات منازع مركبة في محتواها العاطفي والحسي والنفساني، وهذه الأواصر الخاصة التي تحف بها الشخصية هي ذاتها من منحها الأحساس التصوري بوجود عالم الأطياف والشعور بضرورة وجود المخلص الذي يدفع عنها الأذى في حال تعرضها إلى ضررا ما.أقول أن حكاية رواية (مذكرات دي) هي من التجارب الروائية التي يقع جل ثقلها في وجهة النظر التأليفية، التي غدت تؤسس لبنى الواقع في النص معادلات بديلة كحقيقة ناجمة عن تصورات محتملة ومصاحبة بالتحقيق الإمكاني حول إنشاء حياة يومية موصوفة وسردية وحوارية، بدت بطريقة استثنائية في مدون دفاتر معاينة الخواص الشكلانية للنص وعبر الملائمة القصدية المتوافرة مع مستويات محايثة ومتعددة من هواجس المكتوب الذاكراتي المتتابع والمتقاطع في وجهات ومواقع الخطاب والبنى السردية الروائية.

***

حيدر عبد الرضا

في المثقف اليوم