قراءات نقدية

بحار أوكار بغاء.. قراءة للقصة القصيرة "بيوت البحر" للكاتب شريف أنور

الحسين بوخرطةالقصة تطرقت لموضوع شائك وظاهرة مقلقة في العالمين العربي والمغاربي، وجمالية القصة تبتدئ هذه المرة بعنوان يثير الفضول الفكري، عنوان غير فاضح مكون من كلمتين، الأولى نكرة مضافة "بيوت" (كثرة هذا النوع من البيوت على المستوى العربي والمغاربي الإسلامي ظاهرة مقلقة)، والثانية مضاف إلى الأولى ومعرفة "البحر" (عالم شاسع ومخيف بتياراته الجارفة والقاتلة وبأسراره العلمية التي لم يكتشف منها الإنسان إلا القليل).

 فبعد انتهائي من قراءة القصة بتمعن لثلاث مرات، كنت أعود بعد كل قراءة للتأمل في عنوانها المثير. اهتديت في نهاية المطاف إلى أن التشبيه المعبر عنه في هذا التكثيف المبهر في منتهى الدقة والعمق والإبداع برسائله وعبره المفيدة. لقد شبه الكاتب البحر بتياراته وأمواجه وكائناته الجارفة والفتاكة ببحر البغاء والفساد الجنسي. فبيوت البحر وهي أوكار تياراته وكائناته الحية، الشبيهة ببيوت أو عالم الفساد الجنسي، لا تُؤْتمن نظرا لشدة غدرها، ويتطلب التحرك والتفاعل فيها درابة ودراية تقنية وخبرة معرفية كبيرة (نموذج هذه الخبرة يمتلكها مثلا عالم البحار الطبيعية جاك إيف كوستو).

الدخول بدون سلاح الخبرة في عمق البحرين، أي الفضاءين، يعرض صاحبه للضياع، وقد لا تتاح له فرصة معرفة طريق العودة. قد يحاول المرء في مراحل قبل ضياعه ترويض الأسماك البريئة بمختلف أحجامها، وقد تؤنسه ويسلى بها في غمار ضيق الحياة التي كبلت قواه وآماله، لكنه، كلما زاد تشبثه بالتقدم إلى العمق زادت مخاطر تعرضه لأنياب القروش الضارية. ينتقل من فضاء آمن ويتلذذ متعة عابرة، يدمن على هذا الجو المخمور ويتعلق به، فيزداد لديه انجذاب اللاإرادي بالغوص أكثر. يصل إلى أعماق البحر أفقيا وعموديا دون أن يعبأ بالمخاطر المحدقة به، ثم يجد نفسه في نهاية المطاف مستسلما لوضع الهلع، فيُفرَض عليه مصير الأفق المنتظر، أفق "الضحية"، أفق الاندثار. بالدخول إلى عالم الفساد الجنسي بدون تجربة أو خبرة، يتفاقم عدد الضحايا من الجنسين. قد يطغى الهاجس المادي لذوي الخبرة والتجربة، فيتتالى صدور عبارات الشرعية في الأوساط الشعبية ك "كم من مواقع للنفايات تحولت إلى مساجد مقدسة".

البداية مأساة وظروف قاسية أو تغرير ثم غدر، وتطور مجتمع تقاومه غرائزه الطبيعية. ترتبط قسرا رغبة الرجال لمساعدة النساء بإشباع النزوات والرغبات الجنسية التي تكون في الغالب شاذة لا يحتملها بيت الزوجية المقدس. إنها فئة تنعزل في خندق الشتم والاحتقار ونزعات انتقام نسائي. تبدأ المعاناة وتتفاقم مع التقدم في السن. فخصوبة الجسد النيئ الجذاب بدون أنفاس يباع بمقابل، فتنتهك حرمته، ويصيبه الترهل مع مرور الأيام.

بداية القصة تَصَدَّرَها حدث زواج أب من حرية البحر، أي من بنات البحر، أنجب سلالة بنات كثيرات من نفس الفصيلة، خرج إلى البحر مجددا ولم يعد. إن خروج الزوجة من بيئتها لم يكن طبيعيا، وعودة الأب إلى البحر إدمان. تعددت البيوت والأوكار بتيارات الفساد والمجون والمخاطر المختلفة والمتنوعة.

كذلك، بعد التأمل في عبارات القصة المتتالية، لا يمكن للقارئ أن لا يفكر في عالم الفضيلة، سيضطر لاستحضار واجب الإنسان، كيف ما كانت ثقافته وأمة انتمائه، في خلق خلف واع وعقلاني. إنه واجب تحويل فضاء الطفولة إلى منابت أشجار تزداد اخضرارا، بحيث يمكنها الأمن والأمان والتربة الصالحة من تفرع وتعدد أغصانها وثمارها باسمرار. إنها الأشجار التي يزهى رعاتها افتخارا بالنظر إليها. يتمتعون بثمارها ومناظرها الخلابة وهي تكبر وتترعرع. أما منطق اقتسام خيرات هذه المنابت والبساتين فلا يمكن أن يتم إلا على أساس مبدأي الكفاءة والاستحقاق والقدرة على تنمية مشاريع مستقبلية أكثر حجما ومردودية. إن الطفل، الذي شبهته في هذه القراءة النقدية بالشجرة، ينشأ بشكل طبيعي في فضاء أولياء أموره متعودا منذ صباه على نحت جسمه والعناية به وتغذيته بمعرفة معيارية، ومؤمنا بحقيقة الارتباط الوثيق بين تغذية العقول في الجماجم والتقرب من حقائق أسرار الوجود.

الجنس حاجة طبيعية خلقها الله فينا جميعا، وربط إنتاج الأجيال والمشاريع الفكرية والعلمية واكتشاف أسرار الكون بجودة خدمات الأسرة ومؤسسات التنشئة، وربط المبادرة بالمشاركة بين الجنسين لتكريس قوة النجاعة والمردودية في الفعل الإنساني. فرفيقة الدرب (أو رفيق الدرب) هي مؤسسة راقية بطبيعتها، تغمر الدنيا حنانا ومعرفة ومودة وحبا. لا تستخدم أعضاءها التناسلية إلا للتعبير عن هذا الهدف بأمانة ومسؤولية. فتاة الأسرة نظريا هي تلك الذات المتعلمة والجميلة التي لا تؤمن بالعبث، ولا تترك أي فرصة للطامع في قطف ثمارها ويندثر، ولا لجائر أن يقطع أغصانها ليتدفأ بها عند الحاجة فقط.

إن اختلال هذه التوازنات هو السبب الرئيس الذي يحول الزواج التقليدي إلى ملاذ للفاشلين ويفرض معادلة "واجب الإنفاق مقابل الطاعة". فالأم المسكينة، عندما تكون شجيراتها (بناتها) جسد وجمال وعقل فارغ لا تجد أمامها من حل إلا تزينهن كل يوم والخروج معهن للتجول في الشوارع، وكأنها تعرض سلعة، طامعة في إثارة عزيمة طالب. أما عدد كبير من الذكور من نفس الطينة، فيكدح في رياضة كمال الأجسام، وكلما توفر لديه مبلغ مالي يشتري حلة عصرية، ويؤجل لبسها لفصل الصيف لإغراء فتيات الجالية المقيمة بالخارج الغربي على الخصوص.

وختاما أقول أن لا سبيل لتجاوز وضعيات المصير المظلم إلا بخلق منابت برعاة مؤهلين (الأسر). علينا، نحن، كمجتمعات عربية إسلامية، أن لا ندخر جهدا من أجل استدراك الهذر الزمني الثقافي والمعرفي بمساعدة كل من يرى الأشباح والضلال للتأمل في الصور الطبيعية برؤية معرفية عالمة. فالاستثمار في تنمية العقول بالعناية بالأجساد أمانة ومسؤولية لكي لا يتعب أي بشر أمام مقومات الحياة وقدر الموت. وهنا أستحضر القولة الحكيمة لسقراط لحظة محاكمته الشهيرة (399 ق.م)"...الموت عطيةٌ، فهو أمر من اثنين: إما أن الميت سيفنى ولن يشعر بأى شىء، أو كما يُقال فإن الموت يعد انتقالاً للروح من مكان لآخر، فلو كان الموت هو موت كل الأحاسيس مثل النوم الذي لا حلم فيه، فسيصبح الموت مكسبًا كبيرًا.. ولكن لو كان الموت انتقال الروح إلى عالم آخر يعيش فيه الأموات كما يُقال، فما هي الهبة الأفضل من ذلك أيها القضاة؟! أيها القضاة، لا بد أن تسموا بآمالكم حول طبيعة الموت، ... وهى أنه لا شرّ يقع على الرجل الصالح بمماته أو بمحياه.... لقد حان الوقت.. الرحيل بالنسبة لى ووقت الحياة بالنسبة لكم، ولكن من منا سيذهب إلى ما هو أفضل يُعد أمرًا مجهولاً لا يعرفه إلا الله" (قولة مقتبسة من مقال "هل كان سقراط الحكيم فيلسوفا نبياً؟" للكاتب ا. د. محمود محمد علي بجريدة المثقف الإلكترونية).

بهذه القولة المعبرة عن تسلط الجهالة على المعارف، لا يمكن لقارئ أن ينكر حاجة مجتمعاتنا إلى ارتقاء علاقة الرجل بالمرأة. إنها الحاجة إلى ثورة وعي ثقافي وتعليمي عارمة. تلذذ متعة الجنس الآمن له حرمته ومقوماته ومشروط بزرع الغيرة في النفوس على استمرار الجنس البشري العربي. صِدْق الارتباط بين الرجل والمرأة غربيا (في ظروف مادية مواتية) مرتبط بالأهلية والكفاءة والمرور بمرحلة التجربة الحميمية التي قد تطول لقياس اندماج الأرواح عبر الأعضاء التناسلية (السماح ثقافيا وحقوقيا باللجوء إلى المعاشرة والتسري). بالمقابل، في فضاء العروبة والإسلام، يتم اللجوء إلى المشورة والقبيلة والغنيمة وجاذبية الجسد. في نفس الوقت، كلما تقوى موقع المرأة المعرفي والثقافي والمادي في أوضاع شعوبنا، كلما وجدت نفسها أمام واقع جديد يغازلها للامتثال لمنهجية تعارف معرفية وعاطفية بمقاييس "بناء مشروع أسري" لا صلة لها بظاهرة التملك التقليدي المتبادل.

***

يوت البحر

قصة قصيرة / بقلم: شريف أنور

بعد أن تمرّ فوق الكوبري، وتقطع شريط التّرام الأصفر، هناك على الشّاطئ الصّغير القريب من الميناء؛ تجدها متراصّةً بجوار بعضها بأبوابٍ خشبيّةٍ صغيرةٍ و شرفاتٍ واسعةٍ، كلّها تطلّ على البحر.

يقال أن آخر (عروسة بحرٍ) عشقت إنسيّاً، ولأجله خرجت من البحر. عاشت معه على الشّاطئ، وأنجبت له نسلاً كثيراً كلّه من النّساء.

بعد زمنٍ، تركها على الشّاطئ وخرج للبحر ولم يعد. بكت كثيراً هي وبناتها حتى وسمت وجوههم بطابع حزنٍ دائم.

بنت كلّ واحدةٍ منهنّ بيتاً على الشّاطئ، له شرفاتٌ واسعةٌ تطلّ على البحر.

في المساء، تمتلئ بيوت البحر بالزّائرين و معهم صخبُ ضحكاتٍ مبتذلةٍ، هرجٌ و شجاراتٌ و شتائمُ بذيئةٌ، آهاتٌ مكتومةٌ وأخرى مصطنعةٌ تمتلئ بالحياة.

وبعد أن يسحب الّليل آخر الزّائرين من فوق الأجساد المتعبة؛ تخرج النّساء للشّمس بوجوهٍ حزينةٍ وصمتٍ مؤلم، ينظرن للبحر - و بشبه اتّفاقٍ- يمشّطن شعورهنّ في الشّرفات الواسعة، و ينتظرن مجئ شىءٍ ما من البحر.

الرّجل في المقهى يحكي عن النّساء الحزينات، ويؤكّد بأغلظ الأيمان أنّه يعرف قصّة كلّ واحدةٍ من (بنات الحرام دول):

"اللي هربانة من أهلها، واللي ضحك عليها واحد من إياهم، واللي- لامؤاخذة - رماها الهوى ..."

ينتشر سيلٌ من الضحّك والبذاءة فوق المقاعد.

في المساء يختفي الرّجل ولا يعلم أحدٌ أيّ شىءٍ عنه.

تمرّ أسابيعُ و شهورٌ ليدخل المقهى من جديدٍ بلحيةٍ طويلةٍ و ملابسَ باليةٍ ووجهٍ مطبوعٍ بسمت الحزن وعيونٍ ذاهلةٍ، ليحكي لنا كيف قابلها على الشّاطئ، وكم هي جميلةٌ، كيف عشقها ونزل معها إلى البحر هائماً، وكيف غدرت به، و أمرت الأمواج أن تلقي به فوق الصّخور.

سألناه عنها:"من هي ؟!"

أشار إلى بيوت البحر ولم نسمع صوته بعدها.

***

الحسين بوخرطة

 

في المثقف اليوم