قراءات نقدية

الشاعر السوري صقر عليشي في (عواقب الحرير) وَالحديث الشعري المثير (2-4)

مفيد خنسةالصورة والبيان:

سأكتفي في هذا الجانب بدراسة التركيب الشعري التالي:

(تحاول أن تتقصى غموضي

وتبحث في ما وراء الضبابْ

وتفتح زراً يُطل

على باحة الوجدِ

تفتح آخرَ

يفضي إلى جهة في السحابْ)

تقديري أن النقد الكلاسيكي لا يمكنه الغوص عميقاً في الكشف عن المكنونات البلاغية في مثل هذا التركيب الشعري المركب، وسأحاول أن أبين آلية إعادة بسط التركيب الشعري وتحليله إلى مكوناته الأساسية ، ثم البحث عن المعاني والدلالات الواردة والمحتملة للجمل الشعرية التي يتضمنها هذا التركيب، باختصار سأحاول أن أبين كيف أحدث الشاعر تلك المعاني؟، وما هي الأساليب الفنية الجمالية التي استخدمها؟، وما هي المضامين التي يريد أن يقدمها؟، وما هي المعاني المحتملة للتركيب،

جمل التركيب: (القضايا)

الجملة الأولى: (تحاول أن تتقصى غموضي)

الجملة الثانية: (تبحث ما وراء الضباب)

الجملة الثالثة: (تفتح زرّاً)

الجملة الرابعة: (يطلّ...على باحة الوجد)

الجملة الخامسة: (تفتح آخرَ)

الجملة السادسة: (يفضي إلى جهة في السحابْ)

في الجملة الأولى: (تحاول أن تتقصى غموضي)

أولاً: المرادفات وتعدد المعاني:

نلاحظ أنها تتألف من (تحاول، أن تتقصى، غموضي) فالفعل (تحاول): يشير إلى اعتراف ضمنيّ منها أولاً، ومن الشاعر ثانياً بالعجز عن القيام بالتقصي، كما يشير إلى أن الشاعر على درجة من الغموض الذي لا يمكن لها أن تكشفه، مما يثير لديها الإصرار على الاستمرار في محاولاتها، وأصل الفعل: (حاول، يحاول، محاولةً، فهو مُحاوِل، والمفعولُ: مُحاوَل) أما معانيه، فقولنا: (حاول الشيء: أي أراد إدراكه وإنجازه)، وقولنا: (وجدناه يحاول الغش: أي يريد أن يغشّ بحيلة)، وقولنا: (حاول جاهداً: أي بذل جهداً) وقولنا: (حاول الأمرَ: أي طلبه بالحيل، أي بوسائل بارعة ابتغاء الوصول إلى المقصود)، وقولنا: (حاول المستحيل: أي بذل كل ما في الإمكان)، وإذا اكتفينا بهذه المعاني الخمسة للفعل حاول، ونظرنا إلى قوله: (أن تتقصى)، نجد أن أصل الفعل (تقصى، تقصّياً فهو متقصٍّ، والمفعول، متقصّى)، فقولنا: (تقصى مكان سُكناه: أي تباعد عنه)، وقولنا: (تقصى الجبل: أي صارفي أقصاه)، وقولنا: (تقصى الموضوع: أي بحث فيه بحثاً مستفيضاً)، وقولنا: (جاء يتقصى الحقائق: أي يبحث في تفاصيلها عن قرب وبدقة)، وقولنا: (تقصى الأمير جنوده: أي طلبهم واحداً واحداً)، وقولنا: (تقصى خطاه: أي تابعه، أو اقتدى به) فإذا اكتفينا بهذه المعاني السته، ثم لاحظنا أن (أن تتقصى) تؤول بمفرد وهو(تقصّي)

أي: تحاول تقصي غموضي، ووجدنا أن الغموض ضد الوضوح، يمكننا أن نقول: إن المعنى المراد من الجملة الأولى هو: (إنها تريد أن تبذل كل ما في إمكانها للبحث عن تفاصيل غموضه عن قرب وبدقة حتى تدركه)، ولا بد لنا من أن نلاحظ أن للجملة الشعرية معاني أخرى مستمدة من المعاني المتعددة لمرادفات كل كلمة.

ثانياً: الإمكانات الدلالية والاحتمالية:

قد يكون المعنى المراد ما ذكرناه في الفقرة السابقة، ولكن لا بد لنا من ملاحظة تعدد الإمكانات الدلالية للجملة الشعرية الأولى (تحاول أن تتقصى غموضي)، وإن كان من وجهة النظر الافتراضية، فإذا أردنا إيجاد عدد الإمكانات لاختيار ثلاثة معاني من المرادفات للمفردات التي تتألف منها الجملة الأولى، يمكن أن نطبق المبدأ الأساسي في العد، وعليه فيمكن اختيار معنى كلمة (تحاول) بخمس طرق، وكذلك يمكن اختيار معاني (أن تتقصى) بست طرق، ويمكن اختيار معنى (غموضي) بطريقتين على الأقل هما: الإبهام وعدم الوضوح، أي أننا نحصل على خمسة ضرب سته ضرب اثنين ويساوي ستين إمكانية، أي هناك ستون معنى ممكناً لهذه الجملة غير أننا نكتفي بالمعنى العام، فنقول: معنى الجملة مثلاً، هو كما ذكرنا (إنها تريد أن تبذل كل ما في إمكانها للبحث عن تفاصيل غموضه عن قرب وبدقة حتى تدركه)، وبهذا القول نكون قد تجاوزنا الإمكانات، أي المعاني الممكنة (الواقعية)، واكتفينا بالمعنى العام الأقرب، أي المعنى (الواقع)، وبكل أسف فإن العقل العربي يفسر الواقعية بأنها الواقع، وليس ذلك وحسب، بل يغرق بالماضي بما هو منقول، ويتجاهل الآلة القانونية التي يجب أن يراعيها كي تعصمه من الخطأ في الفكر، فيتناسى الحاضر، ويتناسى الإمكانات المتاحة أمامه من أجل أن يكون فاعلاً لا منفعلاً، منتجاً لا مستهلكاً، وإذا سأل سائلٌ، هل معقولٌ أن هذه الجملة التي تتألف من ثلاث كلمات يمكن أن تولد ستين معنى؟!، نقول له: من حقك أن تندهش، ومن واجبنا أن نوضح هذه الحقيقة العلمية البسيطة، وإذا قال: هل ذلك يعني أنني لا يمكن أن أفهم معنى هذه الجملة إلاّ إذا كنت أعرف هذه الإمكانات الستين؟، نقول له: يمكنك معرفة المعنى العام ولكن ستبقى جاهلاً معرفة أن معنى الجملة شيء، وأن إمكانات معنى الجملة شيء آخر، وإذا قال: وكيف لي أن أذكر هذه الحالات جميعها؟ نقول ليس المهم ذكرها كلها، المهم كيف نبني تفكيرنا بناء معرفياً يعتمد على العلم والمنطق. وسيكون ضرباً من العبث أن نذكر الحالات الممكنة لكل جملة، وفي الوقت نفسه سيكون ضرباً من التقصير أن نكتفي بالمعاني القريبة ونتجاهل الإمكانات الأخرى للمعاني. وسأضرب مثالاً وأعتذر لبساطته، لو قلنا في صندوق عشر كرات، بكم طريقة يمكن أن أخرج منه ست كرات على مرحلتين، فلو أن أحدنا أجاب، في المرحلة الأولى أخرج ثلاث كرات، وفي المرة الثانية أخرج ثلاث كرات، نقول الجواب صحيح، ولكن هل نكون قد أجبنا عن المطلوب؟ بالطبع لا، لماذا؟ لأننا نكون قد أغفلنا الإمكانات، إذن نحن أمام سؤال معرفي بسيط، وكل جواب صحيح لهذا السؤال هو إمكانية من مجموعة إمكانات النتائج الصحيحة، وهي مكونات العدد سته، وهنا لا بد أن نسأل قبل الإجابة: هل يشترط في كل من المرحلتين أن نسحب كرات من الصندوق، فإذا كان الجواب نعم يتطلب منا استبعاد حالة (سته، صفر)، و (صفر، سته)، وإذا كان الجواب لا، عندئذٍ نذكر حالة (صفر، سته) و(سته، صفر). أي في إحدى المرحلتين لا نسحب أي كره وفي المرحلة الأخرى نسحب ست كرات دفعة واحدة.

 إن هذه المحاكمة تمثل فلسفة الحل، وهي الكيفية التي يمكننا فيها تحديد الإمكانات المتاحة ومن ثم توظيف هذه الإمكانات المتاحة من أجل الوصول إلى معرفة، وفي تقديري فإن فلسفة الحل لا تقل أهمية عن الحل نفسه. لأن فلسفة الحل تقودنا إلى معرفة القوانين العامة الناظمة.

ثالثاً: التعدد الاحتمالي للجملة: (الجملة الممكنة) 

نعود إلى الجملة الأولى: (تحاول أن تتقصى غموضي)، وهي تتألف من ((تحاول)(1)، (أن تتقصى)(2)، (غموضي)(3)) على الترتيب، ونلاحظ أنه يمكن إعادة ترتيب الجملة بست طرق، وسأذكرها كلها وإن أسهبت قليلاً، (تحاول)(1)، (غموضي)(3)، (أن تتقصى)(2)) و ((غموضي)(3)، (تحاول)(1)، (أن تتقصى)(2)) و((غموضي)(3)، (أن تتقصى)(2)، تحاول)(1)) و((أن تتقصى)(2)، (تحاول)(1)، (غموضي)(3)) و(أن تتقصى)(2)، (غموضي)(3)، (تحاول)(1))، ولا بد أن نلاحظ ركاكة في بعض الحالات المفترضة، ومن الطبيعي أن تستبعدها فعليّا على الرغم من وجودها كإمكانية افتراضية، وهكذا يمكن أن نحصل على ست جمل إذا كانت الجملة الأصل مؤلفة من ثلاث كلمات، وإذا كانت الجملة مؤلفة من أربع كلمات فيمكن أن نحصل على أربعٍ وعشرين جملة، وإذا كانت الجملة مؤلفة من خمس كلمات فيمكن أن نحصل على مئة وعشرين جملة، وهكذا نجد كيف تتعدد إمكانات الحصول على جمل افتراضية ناتجة عن إعادة ترتيب المفردات في الجملة الواحدة، إن كل جملة من هذه الجمل تعتبر جملة ممكنة، ومعناها هو معنى احتمالي، وهذا مؤكد نظريّاً وإن كان افتراضيّاً، وليست الجملة الأصلية للشاعر إلا إمكانية متحققة من هذه الإمكانات المتاحة.

إن ما ذكرناه عن الجملة الأولى يمكن تطبيقه على كل جملة من جمل التركيب الشعري وتجاوزنا ذكره خشية الإطالة والتكرار.

رابعاً: المنطق الجمالي:

(1) تحديد القضايا

يصادف في هذا التركيب أن كل جملة من جمله هي جملة خبرية، وبالتالي يمكن اعتبارها قضية، فالقضايا هي:

القضية الأولى: (تحاول أن تتقصى غموضي (1)) هي قضية حملية موجبة الموضوع فيها هو الضمير الغائب (هي) والمحمول هو (تحاول)، والمعنى مجازي، والقضية الثانية: (تبحث ما وراء الضباب (2)) هي قضية حملية موجبة، الموضوع فيها هو الضمير الغائب (هي) والمحمول هو (تبحث)، والمعنى مجازي، والقضية الثالثة: (تفتح زرّاً (3)) هي قضية حملية موجبة الموضوع فيها هي الضمير الغائب، والمحمول هو(تفتح)، والمعنى حقيقي ويمكن أن يكون مجازي، والجملة الرابعة: (يطلّ...على باحة الوجد (4)) هي جملة حملية موجبة الموضوع فيها هو الضمير الغائب العائد إلى الزر، والمحمول فيها هو (يطل)، القضية

الخامسة: (تفتح آخرَ (5)) هي قضية حملية موجبة الموضوع هو الضمير الغائب (هي) والمحمول هو (تفتح) والمعنى حقيقي ويمكن أن يكون مجازي، والقضية السادسة: (يفضي إلى جهة في السحابْ (6)) هي جملة حملية موجبة الموضوع فيها الضمير الغائب (هو) الذي يعود إلى الزر، والمعنى مجازي.

(2) القضايا المركبة وأدوات الربط:

القضية المركبة هي كل قضية مكونة من قضيتين أو أكثر تربط بينها أدوات الربط،(وَ، أو، فرق، نفي)، من وجهة نظر المنطق، ويقابل القضية المركبة الحدث المركب، الذي يمثل مجموعة جزئية من فضاء احتمالي ناتج عن تجربة عشوائية مركبة، أي تتألف من تجربتين عشوائيتين أو أكثر، أو تتألف من تجربة واحدة مكررة عدداً من المرات، وهنا يمكننا أن نطبق خواص جبر المجموعات فنحصل على جبر الأحداث مع اعتبار الحدث هو مجموعة جزئية من فضاء العينة للتجربة العشوائية التي نجريها، مستخدمين العلاقات بين المجموعات (تقاطع، اجتماع، فرق، متمم) ولولا خشية الملل والإطالة لفصلت كثيراً في الأمر هنا، ولكن ما يهمني بصورة أساسية كيف يمكن توظيف المنطق والرياضيات وبالتالي الفلسفة في النقد الإبداعي ومنه نقد الشعر.

بالعودة إلى القضايا التي حددناها نجدها مرتبة على النحو، وسأستخدم الرموز للاختصار،

[ (1)، (2)، (3)، (4)، (5)، (6)]، ويمكننا إعادة ترتيب هذه القضايا ب(720)، أي يمكننا أن نحصل على سبعمئة وعشرين قضية، كما يمكننا أن نحصل على العدد نفسه من الجمل، وذلك بعدد إمكانات إعادة الترتيب للجمل الست، وإذا أخذنا بعين الاعتبار إمكانات إعادة الترتيب في كل جملة من الجمل كما فعلنا في الجملة الأولى سنجد عددا كبيراً جداً جدّاً من الجمل أو القضايا أو المجموعات أو الأحداث، ولنا أن نقدر كيف أن اللغة العربية توفر إمكانات لا متناهية من إحداث المعاني، ولنا أن نلاحظ أن لكل مبدع أسلوبه في إحداث المعاني باستخدام اللغة بحيث يتعذر أن يتطابق تركيبان بين مبدعين على مر التاريخ، لأن احتمال ذلك يكون قريباً جدّاً جدّاً من الصفر.

وبما أن ترتيب القضايا في المنطق على درجة بالغة في الأهمية، فلا يمكننا النظر إلى أي ترتيب آخر من منطلق أنه مكافئُ للترتيب الذي وردت به هذه القضايا في المقطع الشعري الذي ندرسه، ولكن مع الاحتفاظ في الترتيب للقضايا التي يتم الربط فيما بينها بأداة الربط (وَ) صراحة أو تقديراً، وإذا عرفنا أن التقاطع تجميعي، فيمكن تجميع القضايا الست بالطرق التالية: [(1)] وَ [(1) وَ (3) وَ (4) وَ (5) وَ (6)]، [(1) وَ (2)] وَ [(3) وَ(4) وَ (5) وَ (6)] وَ [(1) وَ(2)] وَ [(3)، (4)، (5)، (6)]، وَ ...... الخ، وهذا يذكرنا بالمثال الذي يتعلق بمكونات العدد(6) التي ذكرناها في مسألة سحب ست كرات من صندوق على مرحلتين، وفي كل حالة من الحالات نحصل على قضية مركبة.

خامساً: الصورة والبيان:

قبل البحث في الصور البيانية في هذا المقطع، لنتأمل التقابل بين مركبتي كلّ من الثنائيات، (تحاول، تفتح)، (الغموض، الضباب)، (يطل، يفضي)، (تبحث، تتقصى)، (جهة، باحة)، (الوجد، السحاب)، سنجد أنها متآلفة من حيث الدلالة والمعنى، وإذا تأملنا العلاقة بين الثنائيات، يمكننا أن نلاحظ أنها تشكل عناصر في عينة متجانسه، لا شذوذ فيها ولا نشاز، وهنا بالضبط سنحاول أن نوضح الكيفية التي أحدث الشاعر بها المعاني، حيث سنستقرئ المشهد من خلال مكوناته الأساسية:

أوّلاً: المفردات، ف(الزر)، يوحي ويدل على قميص الشاعر أو المعشوق الذي يغطي الجسد، فيبدو محجوباً متخفياً، وهو يقابل الضباب الذي يحجب الرؤية ويغطي الأشياء فتبدو متخفية غير واضحة، ولذلك هي تبحث ما وراء الضباب لكي تتقصى ذلك الغموض، والفعل (تفتح)، يوحي بالقرين له من المفردات وهو البابُ أو النافذة، والفعل (يطلُّ)، يدل على المكان، الشرفة أو السفح، أو القمة، والفعل يفضي: يدل على شيءٍ يؤدي إلى، أو (ينتهي ب)، أو (يوصل إلى). (والسحاب) يشير الخير والعطاء، ويمكن أن يوحي إلى الكثافة والغموض.

 ثانياً: الجمل، فجملة (تفتح زراً)، تقودنا إلى الباب الذي يفتح، أو النافذة التي تُفتح، وجملة (يطل على باحة الوجد)، توحي بإطلالة الرائي على الباحة، فيكون المعنى حقيقيّاً، ولكن قوله: (باحة الوجد) تجعل المعنى مجازياً، ومعنى الجملة يصبح مجازيّاً، لنلاحظ أن الزر يقابل (النافذة)، والمعنى هنا يمكن أن يكون حقيقياً حين

يعني به الشاعر زر القميص، ومجازيّاً حين يعني به الشاعر، نافذة للجسد الذي يغلف النفس والروح، فيبقى الشوق متخفّياً غامضاً،

وجملة (يفضي إلى جهة في السحاب) توحي بأن للسحاب جهات، وأن السحاب يحيط به من الجهات كلها،

والآن هل استطعنا أن نقترب من حدس الشاعر وهو يحدث المعاني والصور البيانيّة ؟!، إذن الجسدُ هو الذي يحجب النفس والروح، ومكنونات النفس والروح غامضة غير مكشوفة ومن الصعب جدّاً أن تدرك لأنها بطون، ولما كان الأمرُ كذلك، فلا يمكن العاشقة أن تصل إلى البطون إلاّ من خلال ما يظهر، وهو الجسد، لكن الجسد مغطى أو مغلف بالقميص المزرر، كما يغلف الضباب البيت فلا تبدو صورته واضحة، وهي تحاول أن تبحث في ما وراء الضباب لتعرف حقيقة مكونات هذا البيت، لذلك تفك زراً من قميص المعشوق لينكشف الصدر الذي يحتضن القلب واحة للوجد، ثم تستمرّ في فتح الأزرار إلى جهة السحاب الذي يمطرها بالعطاء وماء الحياة.

ثالثاً: البيان، قوله: (تحاول أن تتقصى غموضي) استعارة، وقوله: (تبحث في ما وراء الضباب) استعارة، وقوله: (تفتح زرّاً يطلّ/ على باحة الوجد) صورة بيانية ثنائيّة البعد، وقوله: (تفتح آخر/ يفضي إلى جهة في السحابْ) استعارة. ويغدو التركيب صورة حرة، لأنه يتضمن أكثر من ثلاث استعارات بآن واحد.

إن ما تقدم من التطبيق يمكن إجراؤه عل كلّ فرع من فروع القصيدة، وسأكتفي بالمعنى خشية الإطالة والتكرار. 

 الفرع الثالث:

يقول الشاعر:

(تحاول أن تطمئن عليَّ،

وتعرف أني على ما يرامْ

وتنظر فـيّ عميقاً

لتقرأ فوق غيومي اسمها

تحاول أن تتأكد

أني حفظت دروس الغرامْ

فتسأل:

بين الرصافة والجسر

ماذا جلبنَ

عيونُ المها ؟

**

تقول:

الشراشف تلمعُ ناصعةً،

أنت لي كنتَ هيأتَها ؟

تعثــَّر بالشرشف الوجدُ

لم أدْرِ ماذا أقول لها

وقتها

**

تقول:

يحيرني الصمتُ عندكَ.

من أي باب سأدخلُ!

صمتُكَ يتركُ لي وفرةً

في السديمِ ....

فقلتُ:

أعندكِ شيء

وما فيه حرتُ؟)

يبين الشاعر في هذا الفرع صورة العاشقة التي تحرص على تفقد أحوال العاشق من خلال الحوار وعقدته (تحاول أن تطمئن) وشعابه الرئيسة هي: (وتعرف أني على ما يرامْ) و(وتنظر فـيّ عميقاً) و(لتقرأ فوق غيومي اسمها) و(تحاول أن تتأكد/ أني حفظت دروس الغرامْ) و(تقول:/ الشراشف تلمعُ ناصعةً،/ أنت لي كنتَ هيأتَها ؟) و(تقول:/ ليحيرني الصمتُ عندكَ. ) و(من أي باب سأدخلُ! )، اما شعابه الثانوية فهي: (فتسأل: / بين الرصافة والجسر/ ماذا جلبنَ/ عيونُ المها ؟) و(تعثــَّر بالشرشف الوجدُ/ لم أدْرِ ماذا أقول لها/ وقتها) و(صمتُكَ يتركُ لي وفرةً/ في السديم.) و(فقلت:/ أعندكِ شيء/ وما فيه حرتُ؟).

في المعنى:

الأسلوب في هذا الفرع خبري، إضافة إلى بعض الجمل الإنشائية، وفيه يتابع الشاعر بناء القصيدة بالأسلوب المتبع في الفرعين السابقين، فقوله: (تحاول أن تطمئن عليَّ،/ وتعرف أني على ما يرامْ) أي إنها تحرص على أن تطمئن عليه لتعرف ما إذا كان في الحالة التي يروق لها أن تكون، وقوله: (وتنظر فـيّ عميقاً لتقرأ فوق غيومي اسمها) أي تنظر إليه بتأمل وثبات كما لو أنها تريد أن تتأكد أن عيونها قد أسرنه وأصبح اسمها وحيداً في سماء غيومه، وقوله: (تحاول أن تتأكد أني حفظت دروس الغرامْ/ فتسأل: / بين الرصافة والجسر/ ماذا جلبنَ/ عيونُ المها ؟) أي ثم تريد أن تطمئن إن كانت قد جعلته عيونها يدخل إلى مدرسة الهوى، وتتأكد إن كان قد حفظ دروس الغرام بسببهما، فتسأل بدلالٍ وغنجٍ عما أجاب عنه علي ابن الجهم في قصيدته المشهورة التي مطلعها:

عيون المها بين الرصافة والجسر  جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري

أي هل جلبت عيناها اللتان تشبهان عيون المها إليه الهوى من حيث يدري أو من حيث لا يدري!، وقوله: (تقول/: الشراشف تلمعُ ناصعةً،/ أنت لي كنتَ هيأتَها ؟) أي تلاحظ أن شراشف السرير ناصعة البياض على غير العادة، فتسأله إذا كان قد فعل ذلك من أجلها؟، وقوله: (تعثــَّر بالشرشف الوجدُ/ لم أدْرِ ماذا أقول لها/ وقتها) أي في تلك اللحظة الحرجة المفاجئة، حين أدرك أنها لاحظت حقيقة ما فعل من أجلها، كان سؤالها مباغتاً وحال موضوع بياض الشراشف بينه وبين شدة شوقه لها، حتى بدا مرتبكاً لا يدري في تلك اللحظة بماذا يجيب!، وقوله: (تقول: / يحيرني الصمتُ عندكَ. / من أي باب سأدخلُ! / صمتُكَ يتركُ لي وفرةً/ في السديمِ .... فقلتُ: / أعندكِ شيء/ وما فيه حرتُ؟) أي يحيرها صمته الذي يشكل بينها وبينه حاجزاً ضبابايًّ كثيفاً، فلا تعرف من أي باب يمكنها أن تدخل إلى عالمه الغامض، أما هو ليس الصمتُ وحدهُ الذي يحيره فيها، إنما ليس فيها من شيء لم يحتر به.

***

مفيد خنسه

 

 

في المثقف اليوم