قراءات نقدية

قراءة في قصيدة (ورقات الغيم) للشاعر التونسي البشير عبيد

نبيل جميل بالمفهوم العام يقال ان الشاعر هو الناقد الأول لقصيدته، طيّب هذا كلام سليم، وبما ان الشعر تغلب عليه الخصّيصة الذاتية النابعة من الوجدان والأحاسيس والآلام تجاه الآخر، لذا فأنه ارتبط بقارئ أول وناقد أول. ولولا اقتناع الشاعر بقصيدته لما تجرّأ ونشرها، اذن سلطة القارئ تولد مع القصيدة، فسلطة القراءة لا يمكن نكرانها ودحضها أبداً. وان تلقف القصيدة قارئ ما ولم يتمكن من فك رموزها، فهذا خلل يولّد شرخاً ما بين الشاعر والقارئ، والسبب فقر أدوات الشاعر الذي لم يستطع ايصال قصيدته. أردت أن أصل الى مفهوم هل ان الشاعر يكتب لنفسه؟ وحسب المقولة الشهيرة المعنى بقلب الشاعر، أم اننا تجاوزنا تلك المقولة ونجحنا باشراك القارئ في فهم المعنى.

من المقدمة أعلاه افتتح قراءتي لقصيدة الشاعر البشير عبيد من تونس (ورقات الغيم) التي وجدتها تسمو مع القارئ وتحيله الى مشارك مع خلجات الشاعر الذي أراد من قصيدته أن تحلّق في أفق الشعر العالمي، لما حملته من حقائق جوهرية يطيل فيها التأمل من قبل قارئ حسّاس لا يمر عليها مرور الكرام، لأن ما يطرحه الشاعر من أسئلة يعد مسلكاً أراده للوصول الى مبتغاه، وهو كيف تتفرد قصيدة دون غيرها في بحر الشعر الذي فاض في زمننا الحالي بفضل الفيس بوك ودكاكين النشر التي لا تراجع ما ينشر. نعم هكذا هي حياتنا اليوم، صورة غير واضحة بسبب الدخلاء على الشعر، وهنا يأتي القارئ الواعي الذي يفرز الجيد من الرديء ليصطدم بأن الجيد يكاد يضيع بين آلاف القصائد التي تنشر يومياً في مواقع الانترنت، لكن بالتأكيد سيبقى الجيد يشع كالنور وسط كل هذا الظلام، وها هي قصيدة الشاعر البشير عبيد (ورقات الغيم) تضع بصمتها وبقوة في عالم الشعر وبحضور متميز لتصنع تاريخاً مشرفاً لشاعر حقيقي يرصد وبدقة ما يراه أمامه، لأنه يؤمن بأن الشعر حياة تعطي دروساً تنويرية ولا تهتم بما فاض من زبد. فحينما نستخدم الشعر كوسيلة للتعبير عن مشاعرنا يصبح بمثابة المنقذ لذواتنا الانسانية الغارقة بالهموم، فها هو البشير عبيد يجذبنا بالحب والأحاسيس لينقلنا الى عالمه المليء بالمسرات والأوجاع عبر ما سطّره من خلجات نابعة من قدرته على مسك زمام النص والمسير به نحو البحث عن حقيقة الاختلاف في واقعنا وما نعيشه من أزمات.

هكذا يدعونا الشاعر لنتأمل معه رؤيته في منطقة يتداخل فيها الشعر بالنقد، فنراه الشاعر والناقد معاً، وهذا أتى من حرصه في انجاز قصيدته، فعملية الابداع تشتغل لديه، لأنه يعرف سر ما يخفيه النص فقام بوعي وقدرة على تقويم القصيدة ليقدمها للقارئ ويشركه معه، ليكون التفاعل مع تجربته الابداعية بمستوى عال يتمثل في سحب القارئ الى منطقته التي تمثل بعداً انسانياً ومعرفياً يجعل من القصيدة مساحة تأويلة خصبة لعدة قرّاء، وطبعاً كل هذا نابع من تجربة غنية ووعي لحركة الشعر، فالبشير عبيد لا يريد لشعلة قصيدته أن تنطفئ ويخف وميضها في بستان الشعر. وبهذا يؤكد قدرته في بناء قصيدة مشحونة بفيض دلالي متماسك لا يمكن اهمال أي مقطع منها.

...........................

ورقات الغيم

بقلم البشير عبيد

ربما غاب عن العيون صهيل الخيول

و نام الرجل الشريد على رصيف

الحكاية

لم تكن البلاد التي اسمها الخضراء

تبحث عن الينابيع في عز الظهيرة

بل كانت القوافل الآتية من أقاصي

الشمال...

ترمم أخر ما تبقى من القلاع

أسراب من حمام حضرموت

يحلق بعيداً

و الأجنحة لا تخاف من رايات الجنوب

المتاخم للأنين

هذا بريق المعركة أم لهيب الحساب

الأخير؟

هذا طريق الفاتحين باتجاه الغروب

أم درب الخارجين عن حياض

القبيلة؟

واقفاً على أرض ثابتة

وعيناه باتجاه الأقاليم البعيدة

يباغت خصوم الوردة قبل اعلان

الرحيل

وانفتاح المرء على مرايا الكلام الفصيح

ها هنا جدار قديم

وولد جريح

وارتماء الجسد العليل في المياه

أصوات العنادل غابت عن المشهد

و صار بإمكان الأصابع أن ترفع الرايات

قريباً من التخوم

بعيداً عن صمت القرى

وانحناء الجباه

هنا كيان وسيرورة حذو الغياب

وأولاد لا يخافون من ديمومة

الأشياء

ربما لم يكن في الحسبان هروب الفتى

من صدى الأمنيات

وانفتاح الرؤى على المكان القصي

اقلام تكتب النشيد المشاكس

وأصوات الغرباء تباغت الأجساد

ليس في السفينة ربان ولا مسافرون

ليس في المدينة الهاربة من الأضواء

عشاق للزمن القديم

بل مازال في الوقت متسع لإغراق

المراكب

واقتراب الضفاف من الينابيع

الأنهار هي البوصلة

والأقمار هي المفاتيح

والأزهار هي الروح المسافرة إلى الدهاليز

سماء القرى تضيء الدروب

وزفرات الجريح الأخير

تربك ورقات الغيم

حين تكون وحيداً جالساً على رصيف

المتاهة

يباغتك الفتى بالصراخ

أنت الآن خارج الاسوار

ولا أحد يسألك عن جراح البلاد

التي سافرت إلى ملكوت الغياب

هنا يداي تسأل العالم

عن خطاي كيف أخذتني إلى السراب.

***

الأستاذ نبيل جميل/ العراق

 

في المثقف اليوم